مدخل:
البدعة ..هي الخروج عن الأصل..
والفعل المزيد ابتدع..تعني في الأدب ..استقطاب الجديد..
ولكنه مهما حاول الأديب اختراق المألوف فإنه لن ينجو من تقليد..حتى سئم النقد من المصطلح ؛وحاول استبداله بـ / التناص/..
والبحث عن اللامطروق هو عينه دافع المبدعين إلى تجاوز معهود معاني اللغة ..إلى ما ورائها من احتمال انحرافية المدلول لأداء معنى جديدا ؛بتناسقيته داخل نسيج وانسجام الألفاظ وتكامل مفاهيمها ؛وتنافذها مع مثيلاتها عبر علائق السياق..لتبعث الإثارة ..وترسل المشاعر النائمة من مرقدها..فـ تنفض الخمول ..وتنعش الوجدان..
إنك أمام شعر عبد القادر..تنطلق من مجرّدات أفكاره ..إلى محسوس صوره..فترتسم أمامك المشاهد الفنية البديعة ..
وتهمنا هنا صورة لوحة بديعة كبيرة مستديرة الشكل..منطلقها..منتهاها / الفيزياء/..شكّلها أربعة مشاهدجزئية لكنها مرتبة منطقيا..لنسجل توترات فكرية وجهت وسيطرت على الأهواء العاطفية ..ونظمت شوارد الوجدان....والعجيب أن العنوان هو المشهد العام نفسه ..في قصيدته /فيزياء/..
ولم ترد العناوين اعتباطية بل لها مقصديتها المحسوبة لتنتهي إلى المرامي المتعددة المستهدفة..
نكتفي هنا بعتبة العنوان ..والعناوين الرئيسية للمقاطع..
وبعد الانطلاقة النواتية الصحيحة ..يصطدم بالزوايا..فـينكفئ على السكينة..وتلتحم نفسه في كتلة..
1ـ النواة :وهي لب الشيء ..ومنشأه..
وإذا به يحدثنا عن نفسه التي تأبى إلا تجاوز القشور والتوغل في اللب ..لكل قضية مطروحة أمامه..يتصفحها في ذهنه ويقلبها حتى يقف على كنهها ..فيدرك معطياتها ..أبعادها ..وحلول العالق منها..فـيلفتنا إلى بلوغه قمة الرشاد الفكري1..
وإذا به في إحالة مركزية ينقلنا إلى سرِّ وجودنا ..توحيد الله ..وهو نواة خلقنا..فـ الأمانة التي حملها الإنسان وخشيتها الجبال هي ..لاإله إلا الله محمد رسول الله..
/ وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون/..2
والنواة هي محور دراسة كل العلوم ـ بدون استثناء ـ إنسانية وتجريبية ..إذ لكل شيء نواة..حسيا ومعنويا..
لتتسع معاني القصيدة باتساع دلالات النواة وأهميتها في حياة كل شيء..
وكأنه ـ في النهاية ـ يريد أن يتطابق عقله الراشد مع العبادة الصادقة ليبلغ مستوى الرسالة الموكلة إلينا جميعا ..فـ يسجل سموا روحيا بالفن متوافقا مع الدين ..وهي قمة ما يبتغيه شاعر مؤمن..
وبعد الانطلاقة النواتية الصائبة الصحيحة ..يعارك الزوايا..ولكنها زوايا ..لاينفع معها إلاّ الانحراف والانزياحية..فنيا؛وسلوكيا..
2ـ الزوايا:وهي تقاطع الأضلع في الشكل الهندسي..ليصدمنا بالوقوف على عتبات الرياضيات..
ومفردها أيضا زاوية ..ومنها مكان ينزوي فيه الإنسان..يقيم مدة..أو ينقطع للعبادة..فتشاكلت مع زاوية المربع المقصود..وكأنها توقُّفُ مسار..وهنا التقى انزواء الإنسان بانزواء الأشكال الهندسية..تناغم آثره الشاعر في إطار تناسب وتماهي المعاني الوجودية في الإنسان..وهنا الذات الشاعرة..
وكأني أتحسسه يتلفظ بالعقبات التي تواجه الإنسان ..سواء في العبادة ..أو في تنفيذ المفيد من الأفكار..تقف الآلتواءات والمنعرجات والعقبات ..موانع تفرض عليه الانزواء..فيجنح إلى السكينة ..بعد محاولة وتعب وعجز..ليرفع عن نفسه اللوم ..ويثبت النية ..في يوم لاينفع المال والبنون..
/ ألم أحسب الناس أن يُتْركوا أن يقولوا آمنّا وهم لايفتنون؛ولقد فتنا الذين من قبلهم؛ فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين/3
وبعد الإصرار على مواصلة الطريق الشائك ..لاتثريب عليه ..ينطوي على نفسه بعد انفتاح على القضية ومغالبتها والانتصار عليها ولو بالمحاولة والثبات..
إنه يتنسم طعم السكينة..
3ـ السكينة :الحقيقية لايتذوق المؤمن طعمها إلاّ إذا شعر برضى الله ورسوله عنه.ولايبلغ ذلك إلا إذا اجتنب مختلف المعاصي وأدى جميع الفرائض والواجبات
والسكينة مدعاة الأمن والاستقرار..ورأس سنامها التوكل المطلق على الله دون سواه وهي قمة العبادة..والخشوع التام ..والرضى الكامل بقضائه وقدره..
وهنا يستجمع قواه ..ويلج نفسه يفتش عن موقعه من السكينة..ويرتاح..وهو في هذه القصيدة يختلف عن شخص عرفناه مضطربا منزعجا من هالات المصائب الدنيوية التي يتحملها مكان العامة ..
وإذا بالانزواء سكينة ..والسكينة تأتي بعد الاضطراب والتعب..
وننتهي إلى المشهد العام المهندس للوحدات ..نواة..زوايا..سكينة..
وحدة الكون..تعدد أجزائه..تناسقها..
4ـ الكتلة:وهي مجمع الأجزاء..
وإذا بالانطلاق من النواة المركزية ..يتجه نحو الزوايا ..باحثا عن منفذ لبلوغ هدف سطرته الأقدار ..تحقق أم لا..لايهم ـ التأمل الفلسفي ـ فيه إلا الراحة والسكينة..المهم محاولة ..اجتهاد وما يترتب عنه من جزاء..
وإذا بالروح المبعثرة ؛المنشغلة بهمِّ مغالبة التنفيذ ..تلتئم جراحاتها ..وتجتمع مشكِّلة كتلتها الواحدة..اتحاد عناصر الروح..كما تتحد عناصر الطبيعة فـ تشكل كتلة صلدة غير قابلة للتفكيك..
خلاصة:أخيرا ..العناوين الجزئية كـ عتبات لطبقات متن المقاطع..شكلت وحدات رئيسية لايمكن الاستغناء عنها لحتمية وجود كل عنصر..كما لايجوز بعثرتها..للدلالة على الوحدة العضوية للقصيدة..وتناسق أشكال الصياغة اللغوية مع المضامين..وتضمينها إيحاءات بفنية جمالية راقية..
وفضلا عن جديّة المعاني المبتكرة ..المخترقة لحدود الإطار الزمكاني..والتي ركبت لغة جديدة داخل النسق الشعري..
هناك التوظيف الأدبي للمصطلحات العلمية..نواة.. زوايا.. سكينة..كتلة..واستخدامها كـ رموز..من العلوم التجريبية التجريدية ..إلى باطن النفس ..وسلوك البشر..
للتتنافذ مع العنوان الرئيسي للقصيدة/ فيزياء/..
وإذا بالحياة الحقيقية لاتنبعث إلاّ من رحم العلم بها ..بدقة ..وحكمة..
وإذا بالإنسان لايفلح بمفهوم فلاح الدين إلا بنهج سلوكات علمية بصيرة ..دقتها من دقة الفيزياء..
رمزية زخرفها الغموض الفني..لوحة بديعة..
إحالات:1ـيراجع مراتب العقل عند العقاد/ التفكير فريضة إسلامية.
2ـ سورة الذاريات..الآيتين..56/57
3ـ سورة العنكبوت..1.