بسم الله الرحمن الرحيم
آخرصفحة في كتاب الألم- رواية
عبد الغني خلف الله الربيع
الحلقة الأولي
كنت في خضم الحشود الغفيرة التي خرجت إلي الشوارع وهي تهتف ..يسقط الاستعمار وأنا أهتف ..تسقط ( إمتثال ) ..كانت الجماهير ترفع عقيرتها بالغناء والأناشيد الثورية تردد ..الموت لأمريكا وكنت أردد ..الموت ل (إمتثال ) ..ومن بين ثنايا الجماهير انخرطت مسرعاً لأكون في الصفوف الأمامية مع القادة والزعماء وتقدمتهم بضعة خطوات وأنا أفتح صدري لكافة الأحتمالات غير عابيءٍ بالموت .. تناولني أحدهم وكان رجلاً في العقد الخامس من العمر ونحاني جانباً وقال لي ..تبدو مرهقاً جداً يا بني ووجهك شاحب ولونه أصفر ..هل أنت وطني أكثر من كل الحضور ؟ أم ماذا ؟ ..ما بك قل لي .؟ ..ترنحت من شدة الأعياء واستندت علي كتفه حتي لا أسقط ..أخذني إليه في حنو وحب ..كان من الممكن أن يكون في عمر المرحوم أبي لولا أنه رحل باكراً عن حياتنا ..بكيت علي كتفه..بكيت بشدة وكأنني أفرغ نهراً من الدموع ..طلب من أحد زملائي أخذي إلي عربتة التي تقف غير بعيدة عن المكان وأمر السائق بتوصيلي للجهة التي أرغب بها ..انطلقت بنا العربة تنهب الأرض نهباً ولم أكن متعوداً علي الركوب بالمقاعد الخلفية ولا علي الهواء الرطب الذي غمر وجهي والموسيقي الكلاسيكية التي تنبعث من جهاز التسجيل ..وعندما توقفت العربة أمام منزلنا ساعدني السائق علي الترجل منها وأنا أتعثر من شدة التعب وهو يدفعني أمامه بيسر نحو باب منزلنا ..صرخت أمي مولولة وقد كانت تراقب الموقف من النافذة .. ( ولدي مالو؟ !!!..قصي اتكلم ..الحصل ليك شنو ؟! ) ..رد عليها السائق وهي تندفع نحوي تحضنني .. يا حاجه ولدك بخير .. كان في المظاهرة وحضرة الريس قال يوصلوه البيت ..أنا بخير ..بخير يا أمي ( مافي مشكله .)..الريس ..الريس منو ..؟! هنا تذكرت الوريقة الصغيرة التي دسها ذلك الرجل في جيبي لدي تحركنا ؟!! وبها اسمه وعنوانه وأرقام هواتفه ..سالم عبيد التهامي..شركة التهامي للاستيراد والتصدير.. الخرطوم .أخرجتها بعناية فائقة ووضعتها في ثنايا مصحف صغير أحتفظ به منذ الصغر حتي لا تضيع .. من يدري فقد احتاجه يوماً ما .
* * *
لم تتركني (امتثال ) وشأني ..فهأنا أغادرالمنزل خلسة حتي لا تشعر والدتي بغيابي بعد أن صعب عليّ سماع الصخب والضجيج الذي تحدثه أصوات الغناء المنبعثة قبالة منزلنا حيث تجلس هي وعريسها وبعض الطلقات النارية تخترق الأجواء بين الحين والآخر تعقبها أصوات الزغاريد .. ركضت بكل ما لدي من قوةٍ نحو الفناء الواقع خلف المدينة والأصوات لا تزال تلاحقني ..غنيت بصوت عالٍِ ..أجهشت بالبكاء .. صرخت كالمجنون في هستيريا عارمة ولا مهرب من ضجة العرس .. تناوشتني بعض الكلاب الضالة وخفف نباحها من غلواء الموسيقي والغناء لكنها ولت هاربةً وقد أخافها جنوني ..ولدي وصولي إلي الربوة التي تطل علي المدينة خفت صوت الموسيقي ومن ثمّ توقفت .. جلست القرفصاء وأنا أكفكف دموعي ونال مني التعب كل مأخذ فغافلني النعاس ونمت ..نمت نوماً عميقاً وكأنني أنام فوق فراش من الرياش والحرير وليس الحصي والرمال ..وبينما أنا بين اليقظة والحلم التفت لأجد ( امتثال ) أمامي كملاك صغير تلفه هالة من الأضواء الباهرة ..جلست إلي قربي وكفكفت دموعي وهدهدتني حتي غلبني النعاس وهي تردد ( أنا آسفه ..أنا آسفه ) وحين استيقظت وجدت من فوقي والدتي وشقيقتي وخالي وهم يتمتمون ..الحمد لله ..الحمدلله ..قوم يا ولدي ..قوم.
***
اعتكفت في غرفتي ثلاثة أيام لا أقابل أحداً ..وكانت شقيقتي رقية هي الوحيدة التي أسمح لها بالدخول ..حتي والدتي تتهرب من رؤيتي بهذه الحالة ..رقية تأتي لي بالطعام وتعيده للمطبخ بأكمله لأنني بالكاد آخذ منه شيئا ..توقفت عن التفكير ب(امتثال ) وزملائي وزميلاتي بالجامعة ورحلت بعيداً بعيداً إلي ربوع قريتنا عند السفح الغربي المطل علي النيل ..كنا نعيش حياة ملؤها الهدوء والسعادة ..فجدي عمدة الخط ووالدي شيخ القرية ..كان جدي رجلاً مهاباً من الجميع ..داره عامرة بالضيوف والزوار وأحياناً يزوره مفتش المركز البريطاني الجنسية فتولم له الولائم ..وقد يغيب أياماً بل وأسابيع وهو يقود قوافل الصلح و( الجودية ) بين القبائل ..ذلك لأنه عرف بالشهامة والنزاهة والجميع يحتفظ له بتقدير خاص ..ثم وبعد وفاته تولي العمودية من بعده والدي بالرغم من المنافسة الشديدة التي لقيها من بقية أعمامي فقد كان كل واحد منهم يطمح في تولي منصب العمدة ..وذات يوم مرض والدي مرضاً شديداً فأخذوه إلي مستشفي( البندر )..كنت وقتها طفلاً في الرابعة من عمري وشقيقتي رقية في الثالثة من العمر طفلة مترفة تتلمس طريقها في الركض والنطق ببعض الكلمات التي يطرب لها أبي ..ثم ومن بعد شهر تقريباً أعادوه لنا وكان ثمة همس يدور بأن حالته ميئوس منها ..والدتي جزعت وخافت رحيله في تلك السن المبكرة لا سيما وأنها ليست من المنطقة وأهلها يقيمون بالخرطوم ..وعلاقتها مع أعمامي وزوجاتهم لا تخلو من الفتور وربما التوتر أحياناً وقد يسمعنها عبارة ( لا أصل ..لا فصل ) ..فيؤلمها ذلك كثيراً فتبكي وهي تردد ( صحيح الما بعرفك بجهلك )..بيد أنها كانت تحتمل شتي الإهانات والمضايقات لأجل أبي ..كانت تحبه بجنون ولكن في صمت وهي نادراً ما تتفوه بما تشعر كما تقضي العادات والتقاليد بذلك فهي بالنهاية زوجة العمدة وهذا التوصيف جعلها تبدو أكبر من عمرها الحقيقي علي الأقل من زاوية التصرفات ..لكن ما كان الجميع يخشاه قد حدث ..فقد تضايق والدي وهو علي فراش الموت ..وتحلق الجميع كباراً وصغاراً حول فراشه ..واحتشدت النسوة في البهو الخلفي يبكين في خفوت مخافة إزعاجه ..في تلك اللحظات العصيبة تلبدت السماء بالغيوم الكثيفة وأرعدت بصورة أخافت الجميع والصواعق تتلاحق وكأن السماء قد تحولت إلي مضمار للرماية ..رفع إمام المسجد كلتا يديه وهو يقرأ الفاتحة علي روحة معلناً وفاته لتنفتح أبواب العويل والبكاء ..بكي الرجال قبل النساء ..كل واحد أسند وجهه إلي الحائط ووضع طاقيته في فمه ..وسكبت النسوة حبيبات الرمل الباردة فوق روؤسهن ..وهُرع القوم بالجسد الغالي المسجي في (البرش الأحمر..) والملفوف جيداً بقماش الإحرام فقد كان والدي يحج كل سنة ويحتفظ في خزانة خاصة بأردية الأحرام تيمناً وبركة وحين يسأل عن سر اهتمامه بها يقول لمن حوله من الأصحاب أريد أن أتخذها كفناً لي حين أموت ..فيقولون له ( بعد خرف إن شاء الله يا عمدتنا )..ومع آخر طوبة في القبر بدأ المطر في الهطول وعاد الناس ركضاً لبيوتهم ..واستمرت الأمطار في الهطول طوال الليل وكأن السماء تشاركنا دموعنا وآهاتنا .. الشيء الذي أربك تدابير المأتم وإطعام المئات الذين حضروا بالدواب من القري المجاورة حين سمعوا بخبر وفاة أبي الذي تناقلته مكبرات الصوت بمآذن المساجد لتحمله الريح بعيداً في جميع الاتجاهات ..لكن حدثاً مريعاً تكشف في ساعات الصباح الأولي ومع انبلاج ضوء النهار ..فقد سال الوادي القريب وأمتلاْ حتي آخره لينفلت منه سيلاً عارماً أطاح بالجانب الشمالي من المقابر حيث دفن والدي ..وعاد الناس مرة أخري للتأكد من سلامة قبور أحبائهم ..انشلح جانباً كبيراً من قبر أبي وعكف أعمامي علي ترميمه وثبتوا اللوحة الحديدية التي تؤشر إلي وفاة والدي العمدة في مكانها ووعد أكبر اشقائه بإرسال أحدهم للمدينة القريبة لإحضار كيساً من الأسمنت وبعض الطوب الأحمر لضمان عدم تكرار ما حدث ..مضي اليوم التالي علي وفاة أبي بسلام لا تعكره سوي أصوات الثكالي وبكاء الرجال القادمين من أماكن بعيدة وكنت أقرأ الصورة بإمعان وانتباه وأشعر بشيء من الفخر والسعادة لكون أبي علي كل هذه الدرجة من المكانة والأهمية الاجتماعية بالرغم من حزني الشديد علي فراقه ..جُن الليل ونام الجميع نوماً عميقاً من شدة التعب فقد كان يوماً عصيباً ومرهقاً ..وحرصت أمي علي أن أنام بقربها أنا وشقيقتي رقية في الغرفة الوحيدة الخالية إذ يتعين عليها أن تمكث بها أربعة أشهر وعشراً كما تقضي بذلك تعاليم ديننا الحنيف ..وقبيل الفجر بقليل سمعت صوت صرير الباب الخشبي وهو يفتح وثمة شخص لم أتبين ملامحه لشدة الظلام يقترب من أمي وهو يوقظها بصوت هامس ( النعمه ..النعمه ..أصحي يا النعمه ) ..استيقظت الدتي مرتعبة وقد عقدت الدهشة لسانها وهي تهمهم ( العمده ..بسم الله الرحمن الرحيم ..بسم الله الرحمن الرحيم من الشيطان الرجيم ..ثم سقطت علي الوسادة مرة أخري وهي تصدر أنيناً خافتاً تتخلله عبارة ..أشهد أن لا إله إلا الله ..محمداً رسول الله ) بيد أن نفس الشخص الذي يشبه صوته صوت أبي عاد ليوقظها مرة أخري ..أصحي يا النعمه ..سألتك بالله تصحي ..انتزعت نفسها مرة أخري من الوسادة وهي ترتجف من شدة الخوف ..وكذلك خفت أنا بعد أن خُيل لي أن أبي عاد من الموت وكان الناس في قريتنا يقولون أن فلاناً تحول إلي شبح ويعيش فقط بروحه التي تتجول فقط أثناء الليل ..العمده .. سألتك بالرسول أرجع إلي قبرك ..مالك عاوز تجنني ..؟! ) ..أنا لم أمت يا رقيه ..أقسم بالله أنني لم أمت ..لقد كانت غيبوبة فقط ودفنت وأنا حي ..لكن الله ستر وجاء السيل ليكشف جانباً من القبر لتغمرني المياه فصحوت من غفوتي واستجمعت كل قواي ..مزقت الكفن وخرجت من القبر ثم توجهت نحو المغاره الواقعة خلف التلة وأمضيت بها بعض الوقت وهأنا أعود ..لا يا العمده لا تكذب ..أرجوك غادر وبسرعة حتي لا يراك أحد فيروج عنا القصص والحكايات ..أبوكم سحار ..وأبوكم طلع من قبرو ..طيب يا النعمه كما تشائين فقط أعطيني ملابس نظيفه وأوراق الميراث من الخزنه ..وابريقي ومسبحتي ومصحفي واحضري لي ماءاً لأستحم ..حاضر ..حاضر ..عاد يا الله وياالنبي و الأوليا الصالحين ما يشوفك زول ..إزدادت ضربات قلبي وتحولت لما يشبه دقات الطبول في يوم العيد الكبير وسال العرق غزيراً من جسمي يبلل جلبابي لا سيما بعد أن انسلت والدتي في هدوء باتجاه برميل الماء المنتصب في باحة المنزل وعادت بشيء من الماء ..وبعد أن نظف نفسه مما علق به من طين طلب منها أن تعد له شيئاً من الطعام فقامت وسكبت بعض اللبن بللته بنثار أرغفة هي ما تبقي من عشائها وقبل أن يغادر ناولته كيساً به نقود وأوراق كثيرة أخذه ثم وكأنه تذكر شيئاً ..النعمه ..الولد والبنيه وين ؟ .. ما أوصيك عليهم ..عاوز أودعم ..عليك الله ما تصحيهم يقومو يجنو علينا ..لكن برغم رفضها توجه نحو شقيقتي واحتضنها بقوة وهي غارقة في نوم عميق ومرر يده بين ثنايا شعر رأسي وهو يتمتم ..ودعتكم الله ..ودعتكم الله ..تظاهرت بأنني لم أسمع ولم أر شيئاً وظللت أحدق في سقف الغرفة حتي الصباح .
* *