أحدث المشاركات
صفحة 1 من 4 1234 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 34

الموضوع: آخر صفحة في كتاب الألم .. رواية .

  1. #1
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2010
    المشاركات : 1,149
    المواضيع : 174
    الردود : 1149
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي آخر صفحة في كتاب الألم .. رواية .

    بسم الله الرحمن الرحيم

    آخرصفحة في كتاب الألم- رواية
    عبد الغني خلف الله الربيع

    الحلقة الأولي
    كنت في خضم الحشود الغفيرة التي خرجت إلي الشوارع وهي تهتف ..يسقط الاستعمار وأنا أهتف ..تسقط ( إمتثال ) ..كانت الجماهير ترفع عقيرتها بالغناء والأناشيد الثورية تردد ..الموت لأمريكا وكنت أردد ..الموت ل (إمتثال ) ..ومن بين ثنايا الجماهير انخرطت مسرعاً لأكون في الصفوف الأمامية مع القادة والزعماء وتقدمتهم بضعة خطوات وأنا أفتح صدري لكافة الأحتمالات غير عابيءٍ بالموت .. تناولني أحدهم وكان رجلاً في العقد الخامس من العمر ونحاني جانباً وقال لي ..تبدو مرهقاً جداً يا بني ووجهك شاحب ولونه أصفر ..هل أنت وطني أكثر من كل الحضور ؟ أم ماذا ؟ ..ما بك قل لي .؟ ..ترنحت من شدة الأعياء واستندت علي كتفه حتي لا أسقط ..أخذني إليه في حنو وحب ..كان من الممكن أن يكون في عمر المرحوم أبي لولا أنه رحل باكراً عن حياتنا ..بكيت علي كتفه..بكيت بشدة وكأنني أفرغ نهراً من الدموع ..طلب من أحد زملائي أخذي إلي عربتة التي تقف غير بعيدة عن المكان وأمر السائق بتوصيلي للجهة التي أرغب بها ..انطلقت بنا العربة تنهب الأرض نهباً ولم أكن متعوداً علي الركوب بالمقاعد الخلفية ولا علي الهواء الرطب الذي غمر وجهي والموسيقي الكلاسيكية التي تنبعث من جهاز التسجيل ..وعندما توقفت العربة أمام منزلنا ساعدني السائق علي الترجل منها وأنا أتعثر من شدة التعب وهو يدفعني أمامه بيسر نحو باب منزلنا ..صرخت أمي مولولة وقد كانت تراقب الموقف من النافذة .. ( ولدي مالو؟ !!!..قصي اتكلم ..الحصل ليك شنو ؟! ) ..رد عليها السائق وهي تندفع نحوي تحضنني .. يا حاجه ولدك بخير .. كان في المظاهرة وحضرة الريس قال يوصلوه البيت ..أنا بخير ..بخير يا أمي ( مافي مشكله .)..الريس ..الريس منو ..؟! هنا تذكرت الوريقة الصغيرة التي دسها ذلك الرجل في جيبي لدي تحركنا ؟!! وبها اسمه وعنوانه وأرقام هواتفه ..سالم عبيد التهامي..شركة التهامي للاستيراد والتصدير.. الخرطوم .أخرجتها بعناية فائقة ووضعتها في ثنايا مصحف صغير أحتفظ به منذ الصغر حتي لا تضيع .. من يدري فقد احتاجه يوماً ما .
    * * *
    لم تتركني (امتثال ) وشأني ..فهأنا أغادرالمنزل خلسة حتي لا تشعر والدتي بغيابي بعد أن صعب عليّ سماع الصخب والضجيج الذي تحدثه أصوات الغناء المنبعثة قبالة منزلنا حيث تجلس هي وعريسها وبعض الطلقات النارية تخترق الأجواء بين الحين والآخر تعقبها أصوات الزغاريد .. ركضت بكل ما لدي من قوةٍ نحو الفناء الواقع خلف المدينة والأصوات لا تزال تلاحقني ..غنيت بصوت عالٍِ ..أجهشت بالبكاء .. صرخت كالمجنون في هستيريا عارمة ولا مهرب من ضجة العرس .. تناوشتني بعض الكلاب الضالة وخفف نباحها من غلواء الموسيقي والغناء لكنها ولت هاربةً وقد أخافها جنوني ..ولدي وصولي إلي الربوة التي تطل علي المدينة خفت صوت الموسيقي ومن ثمّ توقفت .. جلست القرفصاء وأنا أكفكف دموعي ونال مني التعب كل مأخذ فغافلني النعاس ونمت ..نمت نوماً عميقاً وكأنني أنام فوق فراش من الرياش والحرير وليس الحصي والرمال ..وبينما أنا بين اليقظة والحلم التفت لأجد ( امتثال ) أمامي كملاك صغير تلفه هالة من الأضواء الباهرة ..جلست إلي قربي وكفكفت دموعي وهدهدتني حتي غلبني النعاس وهي تردد ( أنا آسفه ..أنا آسفه ) وحين استيقظت وجدت من فوقي والدتي وشقيقتي وخالي وهم يتمتمون ..الحمد لله ..الحمدلله ..قوم يا ولدي ..قوم.
    ***
    اعتكفت في غرفتي ثلاثة أيام لا أقابل أحداً ..وكانت شقيقتي رقية هي الوحيدة التي أسمح لها بالدخول ..حتي والدتي تتهرب من رؤيتي بهذه الحالة ..رقية تأتي لي بالطعام وتعيده للمطبخ بأكمله لأنني بالكاد آخذ منه شيئا ..توقفت عن التفكير ب(امتثال ) وزملائي وزميلاتي بالجامعة ورحلت بعيداً بعيداً إلي ربوع قريتنا عند السفح الغربي المطل علي النيل ..كنا نعيش حياة ملؤها الهدوء والسعادة ..فجدي عمدة الخط ووالدي شيخ القرية ..كان جدي رجلاً مهاباً من الجميع ..داره عامرة بالضيوف والزوار وأحياناً يزوره مفتش المركز البريطاني الجنسية فتولم له الولائم ..وقد يغيب أياماً بل وأسابيع وهو يقود قوافل الصلح و( الجودية ) بين القبائل ..ذلك لأنه عرف بالشهامة والنزاهة والجميع يحتفظ له بتقدير خاص ..ثم وبعد وفاته تولي العمودية من بعده والدي بالرغم من المنافسة الشديدة التي لقيها من بقية أعمامي فقد كان كل واحد منهم يطمح في تولي منصب العمدة ..وذات يوم مرض والدي مرضاً شديداً فأخذوه إلي مستشفي( البندر )..كنت وقتها طفلاً في الرابعة من عمري وشقيقتي رقية في الثالثة من العمر طفلة مترفة تتلمس طريقها في الركض والنطق ببعض الكلمات التي يطرب لها أبي ..ثم ومن بعد شهر تقريباً أعادوه لنا وكان ثمة همس يدور بأن حالته ميئوس منها ..والدتي جزعت وخافت رحيله في تلك السن المبكرة لا سيما وأنها ليست من المنطقة وأهلها يقيمون بالخرطوم ..وعلاقتها مع أعمامي وزوجاتهم لا تخلو من الفتور وربما التوتر أحياناً وقد يسمعنها عبارة ( لا أصل ..لا فصل ) ..فيؤلمها ذلك كثيراً فتبكي وهي تردد ( صحيح الما بعرفك بجهلك )..بيد أنها كانت تحتمل شتي الإهانات والمضايقات لأجل أبي ..كانت تحبه بجنون ولكن في صمت وهي نادراً ما تتفوه بما تشعر كما تقضي العادات والتقاليد بذلك فهي بالنهاية زوجة العمدة وهذا التوصيف جعلها تبدو أكبر من عمرها الحقيقي علي الأقل من زاوية التصرفات ..لكن ما كان الجميع يخشاه قد حدث ..فقد تضايق والدي وهو علي فراش الموت ..وتحلق الجميع كباراً وصغاراً حول فراشه ..واحتشدت النسوة في البهو الخلفي يبكين في خفوت مخافة إزعاجه ..في تلك اللحظات العصيبة تلبدت السماء بالغيوم الكثيفة وأرعدت بصورة أخافت الجميع والصواعق تتلاحق وكأن السماء قد تحولت إلي مضمار للرماية ..رفع إمام المسجد كلتا يديه وهو يقرأ الفاتحة علي روحة معلناً وفاته لتنفتح أبواب العويل والبكاء ..بكي الرجال قبل النساء ..كل واحد أسند وجهه إلي الحائط ووضع طاقيته في فمه ..وسكبت النسوة حبيبات الرمل الباردة فوق روؤسهن ..وهُرع القوم بالجسد الغالي المسجي في (البرش الأحمر..) والملفوف جيداً بقماش الإحرام فقد كان والدي يحج كل سنة ويحتفظ في خزانة خاصة بأردية الأحرام تيمناً وبركة وحين يسأل عن سر اهتمامه بها يقول لمن حوله من الأصحاب أريد أن أتخذها كفناً لي حين أموت ..فيقولون له ( بعد خرف إن شاء الله يا عمدتنا )..ومع آخر طوبة في القبر بدأ المطر في الهطول وعاد الناس ركضاً لبيوتهم ..واستمرت الأمطار في الهطول طوال الليل وكأن السماء تشاركنا دموعنا وآهاتنا .. الشيء الذي أربك تدابير المأتم وإطعام المئات الذين حضروا بالدواب من القري المجاورة حين سمعوا بخبر وفاة أبي الذي تناقلته مكبرات الصوت بمآذن المساجد لتحمله الريح بعيداً في جميع الاتجاهات ..لكن حدثاً مريعاً تكشف في ساعات الصباح الأولي ومع انبلاج ضوء النهار ..فقد سال الوادي القريب وأمتلاْ حتي آخره لينفلت منه سيلاً عارماً أطاح بالجانب الشمالي من المقابر حيث دفن والدي ..وعاد الناس مرة أخري للتأكد من سلامة قبور أحبائهم ..انشلح جانباً كبيراً من قبر أبي وعكف أعمامي علي ترميمه وثبتوا اللوحة الحديدية التي تؤشر إلي وفاة والدي العمدة في مكانها ووعد أكبر اشقائه بإرسال أحدهم للمدينة القريبة لإحضار كيساً من الأسمنت وبعض الطوب الأحمر لضمان عدم تكرار ما حدث ..مضي اليوم التالي علي وفاة أبي بسلام لا تعكره سوي أصوات الثكالي وبكاء الرجال القادمين من أماكن بعيدة وكنت أقرأ الصورة بإمعان وانتباه وأشعر بشيء من الفخر والسعادة لكون أبي علي كل هذه الدرجة من المكانة والأهمية الاجتماعية بالرغم من حزني الشديد علي فراقه ..جُن الليل ونام الجميع نوماً عميقاً من شدة التعب فقد كان يوماً عصيباً ومرهقاً ..وحرصت أمي علي أن أنام بقربها أنا وشقيقتي رقية في الغرفة الوحيدة الخالية إذ يتعين عليها أن تمكث بها أربعة أشهر وعشراً كما تقضي بذلك تعاليم ديننا الحنيف ..وقبيل الفجر بقليل سمعت صوت صرير الباب الخشبي وهو يفتح وثمة شخص لم أتبين ملامحه لشدة الظلام يقترب من أمي وهو يوقظها بصوت هامس ( النعمه ..النعمه ..أصحي يا النعمه ) ..استيقظت الدتي مرتعبة وقد عقدت الدهشة لسانها وهي تهمهم ( العمده ..بسم الله الرحمن الرحيم ..بسم الله الرحمن الرحيم من الشيطان الرجيم ..ثم سقطت علي الوسادة مرة أخري وهي تصدر أنيناً خافتاً تتخلله عبارة ..أشهد أن لا إله إلا الله ..محمداً رسول الله ) بيد أن نفس الشخص الذي يشبه صوته صوت أبي عاد ليوقظها مرة أخري ..أصحي يا النعمه ..سألتك بالله تصحي ..انتزعت نفسها مرة أخري من الوسادة وهي ترتجف من شدة الخوف ..وكذلك خفت أنا بعد أن خُيل لي أن أبي عاد من الموت وكان الناس في قريتنا يقولون أن فلاناً تحول إلي شبح ويعيش فقط بروحه التي تتجول فقط أثناء الليل ..العمده .. سألتك بالرسول أرجع إلي قبرك ..مالك عاوز تجنني ..؟! ) ..أنا لم أمت يا رقيه ..أقسم بالله أنني لم أمت ..لقد كانت غيبوبة فقط ودفنت وأنا حي ..لكن الله ستر وجاء السيل ليكشف جانباً من القبر لتغمرني المياه فصحوت من غفوتي واستجمعت كل قواي ..مزقت الكفن وخرجت من القبر ثم توجهت نحو المغاره الواقعة خلف التلة وأمضيت بها بعض الوقت وهأنا أعود ..لا يا العمده لا تكذب ..أرجوك غادر وبسرعة حتي لا يراك أحد فيروج عنا القصص والحكايات ..أبوكم سحار ..وأبوكم طلع من قبرو ..طيب يا النعمه كما تشائين فقط أعطيني ملابس نظيفه وأوراق الميراث من الخزنه ..وابريقي ومسبحتي ومصحفي واحضري لي ماءاً لأستحم ..حاضر ..حاضر ..عاد يا الله وياالنبي و الأوليا الصالحين ما يشوفك زول ..إزدادت ضربات قلبي وتحولت لما يشبه دقات الطبول في يوم العيد الكبير وسال العرق غزيراً من جسمي يبلل جلبابي لا سيما بعد أن انسلت والدتي في هدوء باتجاه برميل الماء المنتصب في باحة المنزل وعادت بشيء من الماء ..وبعد أن نظف نفسه مما علق به من طين طلب منها أن تعد له شيئاً من الطعام فقامت وسكبت بعض اللبن بللته بنثار أرغفة هي ما تبقي من عشائها وقبل أن يغادر ناولته كيساً به نقود وأوراق كثيرة أخذه ثم وكأنه تذكر شيئاً ..النعمه ..الولد والبنيه وين ؟ .. ما أوصيك عليهم ..عاوز أودعم ..عليك الله ما تصحيهم يقومو يجنو علينا ..لكن برغم رفضها توجه نحو شقيقتي واحتضنها بقوة وهي غارقة في نوم عميق ومرر يده بين ثنايا شعر رأسي وهو يتمتم ..ودعتكم الله ..ودعتكم الله ..تظاهرت بأنني لم أسمع ولم أر شيئاً وظللت أحدق في سقف الغرفة حتي الصباح .
    * *

  2. #2
    الصورة الرمزية حسام القاضي أديب قاص
    تاريخ التسجيل : Mar 2006
    الدولة : مصر+الكويت
    العمر : 63
    المشاركات : 2,213
    المواضيع : 78
    الردود : 2213
    المعدل اليومي : 0.34

    افتراضي

    أخي الفاضل الأديب الكبير / عبد الغني خلف اله
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    كعادتك دائماً وأبدا تلقي بنا في خضم الأحداث مباشرة
    لنتابع مأسورين

    "كنت في خضم الحشود الغفيرة التي خرجت إلي الشوارع وهي تهتف ..يسقط الاستعمار وأنا أهتف ..تسقط ( إمتثال ) ..كانت الجماهير ترفع عقيرتها بالغناء والأناشيد الثورية تردد ..الموت لأمريكا وكنت أردد ..الموت ل (إمتثال )"

    رائع جداً هذا التداخل بين الخاص والعام والذي يدل على نفس مراهقة بالفعل
    نفس عدلت بين احتلال القلب واحتلال الوطن..
    تابعت حتى النهاية المشوقة والتي وقفت بنا بين طريقين ..
    هل هي حقيقة ؟ أم أضغاث أحلام؟

    ننتظر الآتي بترقب..

    تقديري واحترامي
    حسام القاضي
    أديب .. أحياناً

  3. #3
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2010
    المشاركات : 1,149
    المواضيع : 174
    الردود : 1149
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي

    ولك كل الود عزيزي حسام وصالح الدعاء ونحن نعيش 27 رجب الأغر ..وشكراً علي هذا الاستقبال المفرح لهذه الرواية .. سلمت لنا ودمت بألق .

  4. #4
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2010
    المشاركات : 1,149
    المواضيع : 174
    الردود : 1149
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي

    الحلقة الثانية
    لم تطب الحياة لوالدتي بعد رحيل أبي وبتنا نسمع باشياء أشبه بالاساطير ..فالناس في يوم السوق يتحدثون عن الشيخ الصالح الذي ظهر بمنطقتهم وأطلقوا عليه اسم ( الشيخ الضهبان ) ..والذي اتخذ من المغارة الواقعة خلف التلة سكناً له بعد أن هيأها بالبروش وريش النعام وجلود الحيوانات وأنه يداوي أمراض الحصبة و( البرجم )التي انتشرت ذاك العام بين الأطفال فذاع صيته بين الأهالي ..وكانت كل سيدة يصاب لها طفل تأخذه للشيخ الضهبان في المغارة فيقوم بمسح وجوههم وأيديهم بمسحوق من الطين جلبه من حفرة قرب النهر ويقرأ عليه بعض الآيات من القرآن الكريم ..كانت النتائج مذهلة ..فالأطفال يتعافون بنسبة مائة في المائة تقريباً ..وفي تلك الأيام أصيبت شقيقتي رقية بالحصبة ونصحتها نسوة القرية بأن تأخذها للشيخ الضهبان وقلن لها ..الشيخ الضهبان( واصل وكلو بركه ) ..لكن شيئاً ما منعها من التوجه للمغارة خوفاً من أن يكون أبي هو الشخص المقصود وعوضاً عن ذلك أخذتها للمستشفي في المدينة القريبة ..
    لن تأخذي أولاد أخونا المرحوم العمدة ليتهملوا في الخرطوم ..وإذا كان غرضك بداية حياة جديدة وتفكرين في الزواج كل واحد منا علي استعداد للزواج بك وتربية أولاد العمدة فقط إختاري بيننا الخمسة..هكذا كانت تدور النقاشات المحتدمة صباح مساء بين أمي وأعمامي ..بيد أنها صممت علي الرحيل وبصورة لم أعهدها فيها من قبل ..لقد كانت سيدة علي قدر حالها ..رزينة وصبورة ولا ترفع صوتها أمام القوم ..لكنها في تلك الأثناء تحولت إلي كائن شرس لا يخشي أحد ..وبالنهاية اقتنع الكل تحت إصرارها .. قاموا بحصر الورثة وخيرونا بين الإبقاء علي الغنم والضأن والإبل ترتع في باديتهم وبين بيعها ومن ثّم أخذ نصيبها نقداً ففضلت البيع وكأنها قد قررت أن تقطع صلتها بالمكان وأهله وبصورة نهائية .

    لم أكن أتصور في يوم من الأيام منذ أن التقيت ( امتثال ) للمرة الأولي أمام دكان الحاج عثمان في أول الحارة بأنني سأفقدها وبهذه السهولة لأصبح بلا قلب .. بلا أحلام ..وبلا مستقبل ..كان ذلك في الأسبوع الأول لانتقالنا من القرية للمدينة لنعيش مع أخوالي .. وبالرغم من الفتور والإعراض اللذين قوبلنا بهما من قبل زوجة خالي وأولادها إلا أننا شعرنا بالراحة والأمان ..فقد منحنا الغرفة الغربية بالدار والباحة التي أمامها بناءاً علي طلب من والدتي وبإلحاح شديد بالرغم من تواضعها وصغر حجمها فقد كانت غرفة جدتي قبل أن تصعد إلي بارئها ..وكانت أمي تشم فيها رائحة جدتي قالت لنا هنا كانت تعيش أحب إنسان ألي قلبي في هذه الدنيا ..أمي نفيسة ..يا لروعتها وحنانها ..كانت سيدة بمعني الكلمة ..جدتكم يا رقية ويا قصي هي التي علمتني أن يكون للحياة طعم خاص وقانون خاص ..وكان تأثيرها يتعدانا ليشمل الجميع.. فهي التي كانت تصلح فيما بين نساء الحي المتشاكسات علي الدوام ولأتفه الأسباب ..وهي من تتلقف المواليد الجدد لكل سيدات الحي إنابة عن أمهاتهن وتقوم مع القابلة بفصل الصرة وتعقيم الجرح وغسل الأطفال لتضعهم بحنو وحب بين أحضان الزوجات الصغيرات وهي تردد ( بسم الله ما شاء الله ) ..لكن معرفتي مع ( امتثال ) في ذلك الصباح الممطر الذي كان يتسربل بالرزاز بدأت بعراك سببه أنني وصلت قبلها لبقالة الحاج عثمان .. فقد أرسلتني أمي لإحضار بعض السكر والشاي ثم وصلت هي من بعدي بثوانٍ قليلة ٍ ومعها قائمة طويلة من الطلبات ..رطل زيت ورطلين سكر وكبريت ودقيق ومعجون أسنان وعندما شرع العم عثمان في تجهيز طلباتها اعترضت بطريقة بشعة علي تجاهلي فقد كنت لا أزال أتشرب روح وسطوة والدي العمده ..أنا أولاً يا عم ..لماذا تتخطاني من أجل هذه البنت الثرثاره .. ثرثاره أنا يا عربي يا جبان ..لا ..لا .. يا عزيزتي الفاضلة مثل هذا الكلام لا تقوله حرمة لابن سيد القبيلة..صفعتها بقسوة علي وجههاوتهيأت لأصفعها مرة أخري ..في البداية ألجمت لسانها المفاجأة ..لعلها لم تصفع حتي من قبل والدها وأفراد أسرتها لأجي أنا من لا شيء فأقوم بتأديبها ..استوعبت الصدمة وهي تردد ( ده شنو السويتو ده يا شافع ؟ ..) ثم وبدون مقدمات هجمت علي بقوة تنشب أظافرها في وجهي ..كانت قوية وجامحة وشعرت للحظات بأنه من العيب عليّ أن أتعارك مع امرأة ..بيد أنها طرحتني أرضاً وركبت من فوقي وكالت بيديها الصغيرتين لكمة أطارت صوابي ..هُرع العم عثمان ليفصل بيننا وكان أنفي ينزف من شدة اللكمات التي صوبتها نحو وجهي ..لكنها وعندما رأت الدماء تسيل علي ملابسي أسرعت نحو إبريق الحاج عثمان تصب منه الماء فوق يدي بل وتغسل لي فمي وأنفي وهي تردد ( أنا آسفه ..أنا آسفه ) نفس العبارة التي عادت لتعيدها علي مسامعي بعد ثمانية عشرة عاماً وهي تزف لي نبأ موعد خطبتها من الدكتور جلال .. المحاضر الذي يقوم بتدريسنا مادة الأدب الانكليزي بالكلية ..وأنا يا صباحات عيوني من تراه يأسف لحالي
    قرعُُ بالباب وكانت شقيقتي رقية هي الطارق لتخبرني بأن ثمة ضيوف بانتظاري ..من هم ..؟ سألتها في تثاقل واضح ... زملاؤك بالجامعة .. تقول البنت أنها علياء ومعها عصام وطارق ..قولي ليهم اتفضلوا ..ارتديت ملابسي علي عجل وخرجت إلي بهو الغرفة الخارجي ..أخذني عصام وطارق بالأحضان وهمست علياء في وجهي وهي تضغط علي يدي ..( افتقدناك في الجامعه ..الأساتذه بسألوا عنك ؟ ..معقول أسبوع كامل ما تجي الجامعه يا قصي ؟ ) ..علياء تسأل وكأنها لا تعرف السبب ..أسالي صديقتك وجارتك بالمدرج ( امتثال ) لتخبرك لماذا أنا متغيب عن الدراسة ولماذا أنا ضائع وبلا رغبة في الحياة ناهيك عن التعلم ..أنا بخير لدرجة أنني أتمني لو أموت الآن ..أكملت في سري.. بخير .. نعم بخير ..وتغيب عن الجامعه أسبوعاً بحاله يا قصي ..كيف يعني ؟ يما ..ديل زملائي وأصحابي في الجامعة ..الوالدة وقد أسعدتها هي الأخري تلكم الزيارة ..أقعدوا يا أولادي ..مالكم واقفين ؟ ..كان لزيارتهم صدي طيباً في نفسي إذ من النادر أن تزور طالبة منزل زميلها إلا في ظروف استثنائية للغاية .. وطارق وعصام هم شهود المأساة دون غيرهم من الطلاب ..أصدقاء وأحباء وكل واحد منهم أكثر من كونه مستودع أسراري ..والكتف التي أستند عندها في الملمات ..وهاهي الملمات قد أتت ..ملمات البسيطة دي يا قصي ؟!..ما تقول الموت الأحمر جاء يمشي علي رجلين .
    * * *

  5. #5
    الصورة الرمزية محمد ذيب سليمان مشرف عام
    شاعر

    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    المشاركات : 19,255
    المواضيع : 522
    الردود : 19255
    المعدل اليومي : 3.71

    افتراضي


    نتابعك أخي بافتخار كبير
    ونكبر فيك قدرت وبراعتك وألقك
    دمت متميزا

  6. #6
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2010
    المشاركات : 1,149
    المواضيع : 174
    الردود : 1149
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي

    أخي الغالي محمد ..هذه الرفقة الحلوة رفقة الواحة الثقافية .. تحفزني وتحرضني علي الكتابة من جديد لا أن ألوذ بأرشيفي الخاص وإصداراتي السابقة ..فالوقت موجود ..والقلم موجود بيد أن الذاكرة ظلت ولفترة طويلة عصية عليّ لكنها تبدو الآن أكثر مرونة وتقبلاً للأخذ والرد ..سلمت لنا من كل سوء .

  7. #7
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2010
    المشاركات : 1,149
    المواضيع : 174
    الردود : 1149
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي

    الحلقة الثالثة
    أحاول أن أجد معنيً جديداً لوجودي بعد أن أنهار كل شيء حولي في أسبوع واحد ..وكأن الآلام لا تجد الوقت الكافي لتتكثف من حولي ..في أسبوع واحد قررت ( امتثال) قبول عرض الدكتور جلال بالزواج منها وفي نفس الأسبوع تمت مراسم العرس وسافرا لقضاء شهر العسل بالقاهرة ..في أسبوع واحد تحولت آفاق الحياة أمامي من اللون الوردي إلي اللون الأسود القاتم..وقررت أن أخرج من هذه الدوامة المفجعة والرحيل بعيداً من كل شيء يذكرني ب( امتثال ) ..بوابة منزلهم وشجيرة ( الجهنمية ) التي تسلقت مدخل المنزل ونافذتها الصغيرة التي تفتح لي كل صباح لتقول لي ..أنا جاهزه .. دقيقه واحده ..وأظل مصلوباً أمام منزلهم لتخرج لي بعد خمس دقائق وهي تجرجر خمارها تحاول إعادته لرأسها ..وحقيبة يدها التي تنفلت منها حتي توشك أن تقع وهي تلعن الدبوس الصغير المغروز في صفحة الحقيبة فتجده بعد عناءٍ وقبل أن نصل إلي محطة الباص تكون قد أكملت ترتيب اشيائها ..وأشاعت الفوضي في ضميري .. صباح الخير ( أنا آسفه ..وقفتك كتير مش ..) ..دائماً آسفه يا امتثال وأنا ..كيف هي أحوالي من بعدك ألم تفكري بهذا وأنت تعطيه معصمك ليضع عليه دبلة الخطوبة يا ألمي ..إذن لماذا لا أسافر إلي البلد حيث ولدت وترعرت لأعود بريئاً كما كنت فقط لو أستطيع تنظيف دواخلي من غبار الأيام السبعة التي أثقلت كاهلي ..لا يا ولدي لن تذهب إلي البلد ..لكن يا أمي ..قلت لك لن تذهب وإن انطبقت السماء علي الأرض .. مع من ستنزل يا قصي ؟ ..مع عمك بشاره أم مع عمك خضير ..؟.. كل واحد منهما تحل بداره قبل الآخر سيظن بأن إبن العمده القديم ينحاز له أو ينظرون إليك باعتبارك طرف ثالث فيقتلونك ..كيف فكرت بهذا الأمر الرهيب يا بني ..خلينا نعيش في أمان بعيداً عنهم ..أرجوك يا ولدي ..قالت ذلك وهي تبكي ..أرجوك ..أنت كل ما تبقي لي بعد وفاة المرحوم أبوك ..لا تبكي يا أمي ..لا تبكي أرجوك ..خلاص ..لن أذهب ..أمي معها حق يا قصي ..رقية وهي تدلو بدلوها ..ناس عمي للأسف الشديد بينهم ثأرات رهيبه ..كيف تجازف بحياتك بهذه البساطة ..حاضر يا فيلسوفة مدرسة الحي الرابع النموذجية للبنات ..نعم ..معك حق ..فقد ساءت الأمور بصورة لا تصدق بين أعمامي بعد وفاة والدي ..وكان عمي بشارة وعمي خضير علي طرفي نقيض منذ صباهم الباكر وعندما احتدمت المنافسة بينهما علي خلافة أبي قرر كبار القوم اسناد العمودية لعمي ( الماهل ) كحل وسط ..وسارت الأمور علي ما يرام حتي توفي عمي قبل بضعة أعوام لتشتعل المنافسة من جديد وبالنهاية قرر كل واحد منهما أن ينسلخ بما يليه من أولاد وبنات عن الآخر ونسبة لأن عمي بشارة هو الأكثر عدداً باعتبار أنه تزوج زوجته الخامسة بعد أن توفيت الخالة حسنه ولديه أكثر من ثلاثين ولداً وبنت .. حمل عمي خضير وأولاده متاعهم ونصبوا خيامهم علي بعد خمسة كيلومترات من القرية ثم قاموا بهدم بيوتهم وحمل أنقاضها من طوب وأبواب ونوافذ علي اللواري وشيدو قريتهم الجديدة التي أطلقوا عليها اسم ( حلة العمده بشاره ) ..وسارت الأمور علي نحو مرضٍ ..بيد أن رقعة من الأرض في منتصف المسافة بين الفريقين أثارت معركة شرسة انتقلوا بها إلي المحاكم التي ماطلت في إصدار الحكم لهذا الطرف أو ذاك نسبة للتداخل في حيازات الأراضي قبل أن تنشطر القرية إلي نصفين ..وقبيل خريف أحد الأعوام قرر عمي خضير أخذ القانون بيده ..فخرج ومعه ثلة من أولاده وأتباعه وشرعوا في فلاحة الأرض ..سمع عمي بشارة بالأمر فأعد عدته وخرج هو في صبيحة اليوم التالي ومعه حشد كبير من أولاده وأتباعه فنشبت معركة دامية تداعي لها الجميع من القريتين وأستعملت فيها الفئوس والعصي وحتي الأسلحة النارية علي قلتها فكانت الحصيلة قتل ثلاثة من أبناء عمي العمدة بشاره وإثنين من أبناء عمي ( خضير ) واستقبلت مستشفي البندر العشرات من الجرحي والمصابين ..وتدخلت قوات البوليس لاحتواء الموقف واعتقلت كل من شارك في تلك المعمعة المؤسفة وينتظر حوالي سبعة عشر فرداً من الطرفين تنفيذ حكماً بالإعدام في حقهم .. والله وحده يعلم كيف ستحل تلكم المعضلة ..يا ألله .. ما كان ذلك ليحدث لولا وفاة جدي العمدة الكبير ووالدي برجاحة عقله وورعه ..ولكن هكذا الحياة .

    * * *

    هل أنت متضايق يا قصي بسسب زواج امتثال من الدكنور جلال أم من احتمال خروجها نهائياً من حياتك أم من الإثنين معاً ؟ ..متضايق ..ماذا تقصد بكلمة متضايق ؟ ..هذه الكلمة أصغر من توصيف حالتي ..قل هل أنا محطم ..محبط ..يائس ..ولا تقل لي هل أنت متضايق ..بالطبع أنا كذلك ..وكيف أشعر شعوراً مختلفاً و( امتثال ) تتسرب من بين يديّ كقطرات الماء ..لكمّ تحدثنا أنا وهي عن أضرار الزواج بين إثنين لديهما اختلافات في العمر ونمط التفكير والوسط الذي أنتج كل واحد منهما ..وكل هذه الفروقات موجودة بعمق بين الدكتور جلال وامتثال ..فهو في الثانية والأربعين من العمر وهي في الثانية والعشرين ..هو من أسرة أرستقراطية ثرية وهي من أسرة تستطيع أن تقول أنها من الطبقة المتوسطة طبقة الموظفين فوالدها باشكاتب المجلس البلدي .. كيف تسني لها أن تتنكر لكل تلك الأفكار التي كانت تتشبث بها لا سيما عندما يتعلق الأمر بصديقاتها ..لقد عارضت زواج علياء من مهندس يعمل في الخليج بحجة أنه يكبرها بعشرين عاماً إلي أن أقنعتها بذلك فغادر الرجل مكسور الخاطر ..وقال لعلياء في التلفون بعد أن حطت طائرته في مطار الرياض عبر الهاتف .. أسمعي يا علياء أنت أهم فرصة ضائعة في حياتي بل أكبر هزيمة يمكن أن يمني بها شخص مثلي في الحياة وبالرغم من ذلك لا أملك سوي أن أتمني لك السعادة ..أما أنا فلا أتمني لامتثال السعادة ..بل أريدها معذبة وتائهة وضائعة مدي الحياة ..لكن أنظر لنفسك يا صديقي وأنت تناقض ذلك الموقف النبيل للباشمهندس خطيب علياء ..ومالي أنا وماله ..قد يكون صبوراً وقد تكون هنالك علياء أخري تعوضه عنها ..أما أنا ..فمن يعوضني امتثال ؟ ..أنت تستحق الرثاء فعلاً يا قصي ..لذلك عليك أن تغادر هذه الغرفة وتذهب للجامعة تنغمس في المحاضرات وتقابل أصدقائك تتجاذب معهم أطراف الحديث وتناقشون كما في السابق مشكلة الجنوب والمشكلة الفلسطينية وانتقال ذاك اللاعب من المريخ للهلال في ذروة موسم التسجيلات ..لن أذهب لأي مكان .. فلأجرب سماع شيء من الموسيقي علها تخفف عني وطأة هذا الاحساس القاتل بالعجز واللاشيئية والعدم ..هيا ..هيا ..هنا لندن ..هنا مونتي كارلو ..هنا صوت أمريكا ..بالله عليكم ماذا أفعل بكم وبأخباركم ونقاشاتكم السخيفة هذه ..( في عز الليل ...ساعة النسمه ترتاح علي هدب الدغش وتنوم ..أنا مساهر..هد الحيل غرامك ..) والصوت العذب يتحدر كشلال من الفرح ..كفي يا كابلي ويا تجاني ..هل أنتما جادان فعلاً في هذا الكلام ..أنتما مساهران وأنا ميت ..مدفون وفي قلبي بقايا نبض يبكي ..لمن هذا الصوت ؟ ..إنه لصديقنا شرحبيل ..( الليل الهادي بذكرني ..حبيبي الغائب من بدري ) ..من بدري ؟ وماذا تنتظر يا عزيزي الفاضل ..فتش عنه وألحق به في آخر الدنيا لو تقدر ( أوووو ..لالالللا..) ..لن تجديك نفعاً زفراتك وآهاتك هذه ..صدقني لن تجديك شيئاً ..فلو كانتا تجديان لشعرت أنا بشيء من الراحة ..لا أريد سماع المزيد ..إذن لماذا لا تجرب الكتابة ؟ ..أكتب شيئاً في شكل خواطر أو مذكرات أو أي شيء ..فالأوراق كضمادات الجراح ..لا تجلب لك الشفاء التام ولكنها تريحك نوعاً ما ..والله فكرة لا بأس بها ..فقط أين أجد القلم ..هذه هي الأوراق ..رقية ..رقية ..أين أنت ؟ ..أنا هنا أذاكر ..لماذا تناديني بصوتٍ عالٍ هكذا وكأننا في غابة ؟ ..عفواً يا شقيقتي الغالية ..تبدو كئيباً وعصبياً منذ يوم أمس وشكلك لا يطاق ..آسف ..احتمليني بعض الوقت حتي أتعافي من هذا الوضع المزري وأعطني قلمك لنصف ساعة فقط ..قلمي ؟ ..لا يمكن ..لإ.. ليس الآن ..أنا أقوم بحل بعض المسائل الشائكة ويتعين عليّ تسليم كراستي غداً صباحاً وأريد أن أنام ..أرجوك يا رقية..سلفيني قلمك عشرة دقائق فقط.. ولو كنت أضمن وجود بقالة فاتحة في هذا الوقت لذهبت واشتريت قلماً ..طيب ..اتفضل.. بسرعة .. أكتب بسرعه ..أمسكت بالقلم وكتبت ..بسم الله الرحمن الرحيم ..التاريخ : العاشرل من مايو 1970 ..الساعة الثانية عشرة منتصف الليل .. أحتاجك يا امتثال ..أحتاجك وبصورة لا توصف ..الليل ينتصف وأنا أتجزأ لنصفين ..نصف هنا ونصف معك هنالك في فنادق القاهرة وأنديتها .. بل كلي معك يا روحي وذكرياتي ونفسي ..أنا هنا مجرد بقايا ظلال لشخص كان يعيش في هذا العالم ..شبح يروح ويجيء مثل هيكل بشري يتهدم علي رصيف الحياة ..أنا هنا ..) ..قصي ..قصي ..أرجوك قلمي ..الآن وبسرعة ..فأمامي خمسة مسائل وأستاذة الرياضيات وحش كاسر لا يرحم ..رقية وقد قطعت عليّ حبل أفكاري ..حسناً ..تفضلي أنا ذاهب لأنام ...تصبحين علي خير ..وأنت من أهله ..

    * * *

    كيف أصبحت ..؟ ..الحمد لله ..والدتي وهي تضع أمامي ( صينية) الشاي و بعض ..( الفطائر) التي صنعتها خصيصاً لي ..ولا أدري إن كان المقصود هو رفع المعنويات أم أن لديها شيئاً تود البوح به .. أمي صامتة بشكل دائم ..دائماً تستمع وتتلقي الأوامر من المرحوم أبي ..لا تشتكي ولا تتذمر ..لعلها من جيلٍ لا يعرف التمزق وأوجاع الحب والهيام ولم يسمع بحقوق المرأة وحرية التعبير ..والله ماأسعدهم ..وربما كان الوضع غير ما نتصور ..لماذا لا أسألها ؟ ..فلأسري عن نفسي قليلاً ..أمي ..نعم يا قصي ..كيف تعرفت علي أبي ..أعني كيف تزوجتما ..أقصد كيف أحببته وكيف أحبك ؟ ..أظنني أول طالب جامعي في السودان يوجه سؤالاً كهذا لأمه ..ده كلام شنو ده يا قصي ..إنت حاصل ليك شنو ..؟! شايفاك ما علي بعضك اليومين ديل .. معقول تكوني لاقيتي والدي صدفه أم ماذا ؟ ..يمكن اتعرفتي عليه بالمراسله ..أرسلت زفرة عميقة ً ..عميقةً جداً وأراحت راسها علي الكرسي وتوقفت عن صب الشاي في الكوب ..كيف يعني بالمراسله ..؟ ..أبوك كان يأتي مع جدك للخرطوم ومنزل والدي هو المكان الذي يرتاحان به ..جدك كان يملك ثروة كبيرة من الماشية .. يأتي للسوق يبيع الأبقار والخراف والإبل وبثمنها يشتري الأقمشة من دكان والدي الذي كان من أكبر تجار القماش بالخرطوم رحمهما الله ومن ثمّ يعود للبلد .. وكنت وقتها أدرس في مدرسة الأحفاد الأولية للبنات .. رآني فأعجب بي علي ما أظن أو لعل الكبار أرادا لصداقتهما وتجارتهما أن تتوطد أكثر عبر المصاهرة ..وهل حدث ذلك بسرعة ؟! ..أقصد في أسبوع ..أسبوع واحد ..لا بالطبع فقد التحق أبوك بالمعهد العلمي بأمدرمان إلي أن أنهي دراسته بالمعهد .. وأصبح جزءً من عائلتنا بالرغم من أن دائرة تحركاته داخل الحوش الكبير مقصورة فقط علي الديوان ..وكنت أحياناً أحمل له طعام الغداء بنفسي عندما يكون أخوالك خارج المنزل ..؟ معني ذلك أنك تعلمت بالمدرسة يا أمي ..طبعاً وأعرف القراءة والكتابة ..وكانت تحملني للمدرسة عربه ملاكي من ماركة ( الشيفورليه) ..يملكها والدي من بين عشرة أو خمسة عشرة تاجراً لديهم عربات ملاكي ..يااه ..كنت يعني فتاة ( مدلعه ) في حياة جدي ..والآن ها نحن محشورين في غرفة واحده ..لا يا بني ..كنت أكثر من (مدلعه) فقد كان جدك يصطحبنا في الإجازة معه لبيروت والقاهرة ودمشق لعقد صفقات القماش مع أصدقائه في الشام ..بيروت ودمشق ..وال ... والقاهره ..؟! ..القاهرة لا يا أمي ..وكنا نمشي أسكندريه ونصيف هناك ..اسكندريه لا ؟ ..الشواطيء و( البلاجات ) .. ( بلاجات .. لا يا امتثال ..أرجوك يا أمتثال ..بلاجات لا ..) ..بتقول في شنو يا قصي ؟ ..لا شيء يا أمي ..لا شيء ..ربما سأسمع بقية القصة في فرصة قادمه ..قلت ذلك وأنا أتوجه نحو الغرفة وأغلق الباب من خلفي ..دفنت وجهي في الوسادة ورحت أنشج كالأطفال ..بكيت طويلاً ..ورميت بعصبية كل شيء كان علي طاولة المذاكرة فتناثرت الكتب يمنة وشمالاً ..دواوين شعر وروايات ودراسات في الأدب الإنجليزي والتاريخ ..هرطقات وأكاذيب لعشاق عاشوا قصص الحب في الخيال فقط علي ما أظن وعادو ليضحكوا علي بلاهتنا وغبائنا ..لعل التاريخ يذكرني كأغبي وأتعس إنسان في الوجود منذ حواء وآدم .

  8. #8
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    الدولة : على أرض العروبة
    المشاركات : 34,923
    المواضيع : 293
    الردود : 34923
    المعدل اليومي : 6.72

    افتراضي

    لحرفك نكهة خاصة بجمالية المساحات التي يفتحها مسرحا لحبكة تمسك بزمام القاريء ابتداءا من الخطوة الأولى في سراديبها ...
    وفي هذه الاستدعاءات لمشاهد من الماضي، تلقي بإضاءات توضيحية على اللقطات الحدثية، جمالية أخاذة تعمق من غوص القاريء في سردية يخاف أن تفلت منه خيوطها إن فاتته مفردة أو حرف ...

    ممتعة هي القراءة في مساحات من واسع الخيال حين يكون المقروء حرفا بهذا الجمال

    أتمنى عليك فقط إيلاء هذا النص البديع بعض مراجعة لما تخلفه سرعة الأنامل على لوحة المفاتيح من سقطات إملائية تنعكس أحيانا على الضبط النحوي للنص

    بانتظار الحلقة التالية تستبقينا مرتقبين

    دمت بألق
    تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

  9. #9
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2010
    المشاركات : 1,149
    المواضيع : 174
    الردود : 1149
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي

    الإبنة الغالية ربيحة ..أسعد الله أوقاتك بكل خير ..
    بشفافيتك المفرطة تذهبين مباشرةإلي حيث مخابيء بعض عيوبي التي لا أنفيها .. فأنا واستغفر الله من أنا هذه .. أكتب مباشرة علي الكي بورد كل رواياتي ..ثانياً لا أقدم نصوصي للمراجعة بواسطة جهة متخصصة ..وأخيراً لا أطلب من مبدعين كبارالتقديم لأعمالي ..وها أنا أتعلم كل صباح منذ التحاقي بهذا المنتدي الرحب كيف تسير الأمورعلي الوجه الصحيح ..سلمت لنا من كل سوء .

  10. #10
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2010
    المشاركات : 1,149
    المواضيع : 174
    الردود : 1149
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي

    الحلقة الرابعة
    عدت للجامعة أجرجر اذيال الخيبة والندم وقد ضاع مني تؤام روحي ورفيقة صباي البكر ( امتثال ) سافرت لقضاء شهر العسل ..كنا نطمع فقط في أن نسافر معاً إلي أي مكان دون وجهة محدده ..قالت لي ذات مرة وكنا لوحدنا بالكافتيريا ..اشواقنا هذه يا قصي لا يطفؤها إلا سفر طويل ..بالطائرة ؟ .. سألتها في بلاهة لا تصدق ..أنت لم تفهم قصدي ..دائماً لا تفهمني وكأنك بلا قلب ولا احساس .. قلت لك أشتهي السفر معك إلي مكان بعيد دونما زاد .. دونما اتجاه ..فليكن بعربة تشق بنا الوهاد والوديان وفي ثنايا الغابات الاستوائية لا يرانا أحد وعلي ظهر قارب صغير تتلاعب به الأمواج ..بيد أنها حققت أمنيتها في السفر ولكن مع شخص غيري هو الدكتور جلال ..قابلني الزملاء بفرح عارم لا سيما علياء وكأنني خرجت من المستشفي بعد إجراء عملية جراحية ناجحة ..حمداً لله علي السلامه ..الله يسلمك ..لكنني كنت مشتت الخاطر وبالكاد أفهم أو حتي أتابع ما أسمع من محاضرات ..مر اليوم الأول وكل ركن وزاوية ونبتة بالجامعة تعيدني إليها ..وبعد حوالي عشرة أيام وأنا أدلف إلي المدرج لمحت فتاة تضع علي وجهها إزاراً خفيفاً لا يظهر سوي عينيها ..وعاصفة من العطر تسبقها نحونا ..تجمدت وتجمد معي بقية الزملاء عاصم وطارق وعلياء لنكتشف أن القادم ليس سوي ( امتثال ) ..غادرت المكان بسرعة البرق وعبارات ( مبروك يا عروسه ..كيفك ..فقدناك ..اشتقنا ليك ) تركض خلفي ..اتخذت مكاني المعتاد بالمدرج استعداداً للمحاضرة التي سيلقيها علي مسامعنا دكتور يوسف زميل الدكتور جلال في شعبة اللغة الانجليزية ..وكانت حول النصوص المترجمة للانجليزية ل( رباعيات عمر الخيام )..التقت نظراتنا لثوانٍ ولم استطع مواصلة التطلع في عينيها ..كانت متألقة بصورة لا تصدق ..أشحت بوجهي عنها ورجعت إلي الوراء درجاً ثم الدرج الثاني ..تراجعت هي أيضاً في محاولة منها لتقريب المسافة بيننا ..قمت من مكاني وجلست في آخر مقعد أعلي المدرج ..فهمت هي قصدي فجلست في منتصف القاعة صحبة علياء ..دخل المحاضر وكان الدكتور جلال وليس زميله الدكتور يوسف ..وقام بتغيير الموضوع من رباعيات عمر الخيام إلي (قيصروكليوباترا ) للكاتب البريطاني برنارد شو ..ومع بداية المحاضرة شعرت بألم شديد أسفل عنقي من الخلف ..وكلما تمر دقيقة أو دقيقتان يزداد الألم سوءاً وكأن شخصاً ما يغرز سكيناً في نفس المكان ..قرأت مرة أن الألم خلف الرقبة هو.. ألم معنوي وليس حسي ..لا بد إنه كذلك ..وقبيل الانتهاء من المحاضرة طلب مني الدكتور جلال بأن أقف وأقوم بتلخيص المحاضرة ..وكنت قد سبق لي ولحسن الحظ قراءة الرواية بالمركز الثقافي البريطاني ..لخصت كل جوانبها وقمت بتحليل شخصياتها ..دهش الطلاب من إلمامي بالنص وتداعياته فضجت القاعة بالتصفيق كأنها تؤازرني في مواجهته ..أما هو فقد بدا عليه الضيق والعبوس فغادر القاعة مسرعاً .. انتظرت لحين تأكدي من أن ( امتثال ) قد غادرت القاعة فأقبلت نحوي علياء وجلست بقربي ..سألتها إن كانت تحمل معها ( باندول ) في حقيبتها ..اشعر بألم فظيع في ظهري ..فهرعت نحو المبرد وأحضرت لي كوباً من الماء وأخرجت من حقيبتها قرصاً واحداً فطلبت منها أن تخرج قرصاً آخر ..ولكن هذا كثير يا قصي ..رقبتي توجعني ..والآن ألن تذهب معنا لتناول وجبة الفطور بالكافتيريا ..لا يا علياء ..أريد أن أكون لوحدي ..ممكن ..أحتاج لأن أبقي وحدي حتي موعد المحاضرة الثانية ..كما تشاء ..عموماً سأحضر لك معي ساندوتش ..لا أرجوك ..لا داعي للتعب ..لا أشعر بالرغبة في الأكل الآن ..استدارت لتغادر بيد أنها أقفلت راجعة وكأنها تذكرت شيئاً مهماً ..بالمناسبة يا قصي ..امتثال تضايقت جداً من تصرفاتك أمام المدرج ..وكانت طوال المحاضرة تسألني عن أحوالك ..أنا بخير .. قولي لها بأنني سأكون بخير ولا تقلقي بشأني .

    * * *
    أحاول جاهداً إعادة ترتيب حياتي وأولوياتي بما في ذلك ترتيب الغرفة التي تضمنا أنا والوالدة وشقيقتي رقيه ..لم يقصر خالي لدي عودتنا من البلد وعرض علي أمي أن تسكن في الشق الشرقي من الحوش وبه غرفتان وحمام ومطبخ ولكن والدتي آثرت أن تعيش في غرفة المرحومة جدتي ..قالت هنا أشعر براحة أكثر وأشم رائحة أمي في كل جزء من الغرفة ..هذا التفكير العاطفي هو الذي أضاع علينا الكثير من الحقوق ..كيف ندع المكان الأكثر راحة لنا من أجل حفنة من الذكريات لنعيش في هذا الحيز الذي لا يسمح لك حتي بالتحرك ناهيك عن وضع منضدة للمذاكرة والإطلاع ..لكنني أحترمت قرارها ..فلو أننا فكرنا في كل شيء من زاوية الربح والخسارة وبحسابات دقيقة لتحولت الأسرة إلي ما يشبه المنشأة أو المصلحة الحكومية .. وحتي هذه المواقع وبالرغم من رسمياتها المشددة فهي لا تخلو من العواطف والمشاعر .. إذن فلندع القسم الشرقي من الحوش لعفش خالي ماجد ..سافر لأمريكا للدراسة منذ عشرة أعوام وتزوج من سيدة مسلمة من الفلبين ..وهو بالكاد يتذكر أن له أسرة وأهل في السودان باستثناء أيام الأعياد ..يتصل ليقول العيد مبارك عليكم والعفش كيف ؟ ..العفش ؟ هل تسمي هذه ( الكراكيب )المتهالكة عفشاً يا خال ؟ اطمئن فقد عاثت فيها ( الأرضة ) فساداً واتخذتها الفئران غرفاً لصغارها ..ما تسأل عايشين كيف ..؟ أو حيصلكم فلان من نيويورك أو نيوجرسي لا فرق ويسلمكم مبلغ كذا دولار ..يااااخال ..يلا ..وأنت ما دخلك بالدولارات وكل شيء ميسر والحمد لله ..إذ بعد انتقالنا للعيش هنا بعدة أعوام ناضلت أمي بقوة لألحاقي بإحدي المدارس الأولية وشقيقتي بروضة الأطفال وقد كلفها ذلك الكثير من الجهد والمال واستنزف معظم ما حملناه معنا من ريع أملاك المرحوم أبي ..هل تعمل وأين ستعمل وكل رصيدها من التعليم الفصل الثاني بالمدرسة قبيل خطبتها وزواجها من أبي ..حتي أن فكرة العمل ووجهت بمعارضة شديدة من خالي وقام هو بالإنابة عنها بدفع أغلب الرسوم من حر ماله بما في ذلك الملابس والحقائب المدرسية والكتب والكراسات ..لكن حدث شيئاً لم نكن نتوقعه .. فقد طرق باب منزلنا ذات مساء شخص عّرف نفسه بأن اسمه هاشم وأنه مندوب لمنظمة خيرية تُعني بالأرامل والأيتام ..وأن المنظمة ومذ ذلك اليوم ستتكفل بمعيشتنا وتعليمي أنا وشقيقتي رقية ..انعقدت ألسنتنا من شدة الدهشة وأصابنا نوع من الذهول والارتباك هو خليط من الفرحة والاستغراب ..ثم وقبل أن يغادر سلم والدتي مظروفاً به مبلغاً محترماً من المال وطلب منا أن يكون الأمر سراً بيننا وبينه لأن مدير المنظمة يحب العمل الخيري في صمت وهدوء ..رجاءاً لا تخبروا أحداً حتي أقرب الناس إليكم بهذا الأمر وسأزوركم أول كل شهر إن شاء الله ..لم ننم ليلتها وقد أرسل الله لنا هذا الرجل بعد معاناة مع الحياة في الخرطوم ومتطلباتها الكثيرة بعكس الحياة في الريف ..والتي لا تتطلب الكثير.. بحيث يمكنك شطب أكثر من فاتورة واجبة الدفع في الخرطوم ..الغاز ..المواصلات ..الكهرباء ..الرسوم الجامعية ..وما إلي ذلك ..هل كانت ليلة القدر ..أم ماذا ؟!وفي ثاني يوم لالتحاقي بالمدرسة الأولية المكونة من قسم للأولاد وآخر للبنات يفصل بينهما حائط علي امتداد المدرسة من الشمال للجنوب تعرفت علي ( امتثال ) داخل الحافلة التي تقلنا من وإلي المدرسة وكانت هي الأخري في الصف الأول ..توطدت العلاقة بيننا لا سيما ونحن جيران ..وسمحت لها أسرتها بالمذاكرة في منزلنا أيام الامتحانات وأحياناً أنتقل أنا إلي منزلهم الفخم بعكس غرفتنا المتواضعة ..كانت أكثر مني ذكاءاً واستعداداً للفهم والاستيعاب لذلك أجد نفسي محتاجاً لها في شروحات معظم المواد .. وقد أراحتني امتثال من عبء إعداد وجبة الفطور أو تدبير ثمنها ..فقد أقنعت والدتها بأن لديها زميلة مسكينة لا تملك ( حق الفطور ) ..وبتُ أقابلها في ( الفسحة ) عند السور الفاصل بين المدرستين ..كانت أطول مني لدرجة اضطرتني لأن أضع عدداً من الطوب الأحمر فوق بعضه البعض مشكلاً بذلك منصة تجعلني في مساواة وجهها الصبوح وعينيها اللتين تشعان ذكاءاً وروعة ..تسلمني الساندوتش وتعزمني علي أخذ قضمة من الساندوتش الخاص بها ..وقضمة من هنا وقضمة من هناك ..ثم الثرثرة في شتي المواضيع والتهكم علي المعلمين والمعلمات وأحياناً صنع (المقالب ) لهم فيمر الوقت بسرعة ليأخذنا صوت ( الجرس ) بعيداً عن بعضنا البعض ..لكننا نعود بعد انتهاء اليوم الدراسي في نفس الحافلة وقد اتسخت ملابسنا من كثرة الركض واللعب في فناء المدرسة ..في البداية كانت تجلس مع زميلاتها في مؤخرة الحافلة ومع مرور الوقت صارت تجلس إلي قربي تؤانسني ونتبادل القصص والحكايات وأحياناً مجلات الأطفال التي لا تتوفر لي .. وظللنا علي هذا المنوال علي مدي تسعة أعوام وظن الكثير من الأساتذة والمعلمات والزملاء بأننا شقيقين .. وافترقنا فترة الثانوي العالي لأذهب أنا للدراسة في الداخلية بإحدي مدارس واد مدني بالجزيرة وواصلت هي تعليمها الثانوي بإحدي مدارس أم درمان ..كنت اشتاقها وأفتقدها أثناء العام وقد أضحت كالماء والهواء بالنسبة لي لنعود فنلتقي في الإجازات ..نذاكر معاً ونذهب إلي السوق معاً لشراء حاجيات والدتها التي كانت تثق بي ثقة عظيمة وتعتبرني كواحد من أفراد أسرتها وكانت تحب والدتي أيضا ونشأت بينهما مع الأيام صداقة شهدت بها جميع نسوة الحي ..كانتا تتقاسمان كل شيء ..وكنت أسعد عندما تطلب مني أمي في مرات قليلة توصيل شيء من الطعام والحلوي لمنزلها إذ باتت هذه وظيفة شقيقتي الصغري رقية وليست وظيفتي كشاب بدأ شاربه في الظهور ..استمرت علاقتنا تتعمق وتتوثق بدون أن نمنحها عنواناً محدداً ..هل هي علاقة حب ..؟ هل هي علاقة جيرة وصداقة وأخوة ؟ أم ماذا ؟ ..حقيقة لم نكن متأكدين من كنه تلك الصلة ..لكن ما ندركه تمام الإدراك أن مرور يوم واحد دون أن نري فيه بعضنا البعض يعتبر بنظرنا يوما لا يحسب لنا ..وأظل أنا وتظل هي مشوشة ومتضجرة ومتوترة عندما نغيب عن بعضنا البعض بعد انتهاء العطلة الصيفية ..فأين ذهب كل هذا يا تري ؟ ..هل يغير أسبوع واحد مجري غرام دافيءٍ كالشمس ويحولها عن مدارها ..يبدو أن هذا ما يحدث فعلاً وإلا ..إلا ماذا يا قصي؟ ..دعنا من ذلك

صفحة 1 من 4 1234 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. تركيب آخر ......رأي آخر
    بواسطة محمد محمد أبو كشك في المنتدى النَّقْدُ الأَدَبِي وَالدِّرَاسَاتُ النَّقْدِيَّةُ
    مشاركات: 11
    آخر مشاركة: 31-05-2015, 07:28 PM
  2. قراءة لرواية ( آخر صفحة في كتاب الألم ) ..
    بواسطة عبدالغني خلف الله في المنتدى النَّقْدُ الأَدَبِي وَالدِّرَاسَاتُ النَّقْدِيَّةُ
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 26-06-2010, 04:29 PM
  3. طلاب آخر زمن، لأ ونظار آخر زمن!
    بواسطة ماجدة ماجد صبّاح في المنتدى أَدَبُ العَامِيَّة العَرَبِيَّةِ
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 12-10-2007, 09:28 PM
  4. ما هو آخر كتاب قرأته ؟؟
    بواسطة محمد عصام في المنتدى الاسْترَاحَةُ
    مشاركات: 28
    آخر مشاركة: 03-03-2006, 10:47 AM