أستاذي لا يحمل شهادة عليا
الدكتور عثمان قدري مكانسي
دخلت بيته وأنا غلام ، سألتهم أين صاحب البيت ؟ قالوا في غرفة أمه .. كان الصبيان وأمهم يأكلون الخبز اليابس مفتتاً في شوربة العدس مع البصل اليابس . .. كان الوقت ظهراً وأنا جائع ، فجلست معهم آكل . وكل طعام لذيذ حين يكون المرء جائعاً . شبعت ،ثم شربت كأسين ماءً بارداً من ( الخابية ) ، فارتويت – والخابية : إناء فخاري كبير ذو مسامات دقيقة يرشح منها الماء فيبرد ما فيها، وحمدت الله تعالى على نعمه التي لا تُعدّ ولا تُحصى .
طرقت الباب ودخلت عليهما ، فسلمت فردّا السلام . كان وحده معها يطعمها بيده اللحم المشوي ، ويحدثها ، ويمازحها ، فتردّ عليه بما يثلج صدره فيضحك ، ثم يعود إلى إلقاء بعض الكلمات فتسبه سباً لطيفاً فيعود إلى تقبيلها من يديها ثم من خديها ورأسها . وتقول لي أسمعت ما يقول عمك يا عثمان ، فأرد : لا دخل لي بين البصلة وقشرتها ، فتسبني قائلة أنت مثله قليل الأدب ، فأضحك وأقول : قصدت التفاحة وقشرتها يا جدتي . فتبتسم وتقول داعية لنا جميعاً : اللهم ارض عنهم وعن أبنائهم ، فأنا راضية عنهم .
لم يكن عمي وقتذاك ميسوراً ، وطلبت منه جدتي اللحم المشويّ . إنه يطلب رضاها ويودّ أن يكون بها باراً ، فالجنة تحت أقدام الأمهات ، وكان يردد القول المأثور : " برّوا آباءكم تبرَّكم أبناؤكم " . فكر قليلاً ثم قال لزوجته – وهي امرأة لبيبة عاقلة – يا ابنة عمي ؛ لن أستطيع شراء ثلاث كيلات من اللحم لتاكل الأسرة كلها معاً ، ولن أشوي نصف كيل من اللحم وأضعه أمام أمي ، والأولاد ينظرون ، إنهم لا يقدّرون الظروف فهم صغار لا يعقلون . وسيتألمون إن رأوا جدتهم تأكل اللحم وحدها ، وهم يأكلون شوربة العدس المطحون . وقد يمدون أيديهم إلى اللحم ويسبقون جدتهم في أكله . أشغليهم بالأكل وسأدخل إلى أمي فأطعمها ثم أعود إليكم .
حفر عمله هذا في قلبي حباً للوالدين ، فكان لي أستاذاً ومعلماً ، ولن أنسى هذا الدرس ما حييت ، ولأحدثَنّ به كي يتأساه كل ذي قلب حي وعقل عقول .
مرت الأيام ، وشب الصبيان فصاروا آباء . وكانوا بارين بواليديهم ، يتأدبون بحضرة والدهم ويتلطفون مع أمهم .
علّموا أولادهم أن الجد والجدة مقدّسان ، وأن نيل البركة كل يوم بتقبيل يديهما وطلب الدعاء منهما والتأدب بحضرتهما . وإدخال السرور إلى قلبيهما .
عمي الحبيب له بقالة يعمل فيها ويساعده أبناؤه .. كبرت هذه البقالة ، وفتح الله باب الرزق الطيب الوافر عليهم ،
يجلس الآن بينهم فيسارعون إلى مرضاته ، ويقولون له : إذا دخلت المحل كثر الزبائن يا أبانا ، فما السبب؟!
فيقول : أدبكم يا أولادي معي ومع والدتكم ، وحسن أخلاقكم ،وطلب الرزق الحلال ، وابتسامتكم في وجوه الناس يجلب رضاء الله . ويزيد في الرزق .
يلتفت إليّ قائلاً : أنا رجل عامّي يا ولدي ، لا أعرف العربية مثلك ، ولا أتقن القراءة ، فأسمعني شيئاً من القرآن وحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم ، فهما الماء للعطشان والزاد للغرثان .
وعلمت أنه – أطال الله في عمره وحسّن عمله – يجلس بين أترابه ، فيحدثهم بما سمعه وما فقهه من علم وأدب وتفسير وسيرة ، فهو يتعلم ويعلم . ونعم المعلم المتعلّم .