عَزيزُ قَوْم
... ثم لم يجد منهم ريحاً طيبة، ولم تأخذهم به شفقة ولا رأفة، فأمعنوا في إذلاله والتضييق عليه بالقول والعمل، وأجبروه بسوء معاملتهم وغلظة أفئدتهم على اعتزالهم والإمساك عن التحدث إليهم ...
لم يقدروه بعد الذي أصابه من ضعف ولحقه من افتقار حق قدره، وكان فيهم ذا قدر جليل ورأي مطاع، ولم يوقروه حق الوقار، وقد بلغ بينهم من الكبر عتياً، ومن الرحمة لم يخفظوا له جناح الذل، وقد اشتعل رأسه شيباً ...
قابلوا إحسانه بالإساءة، وجحدوا كل معروف أسداه إليهم، وكل جميل له عليهم أهالوا عليه تراب النكران، وحجارة العقوق، وما تعمدوه من النسيان، بل أوشكوا على ادعاء عدم معرفته، وكادوا يجمعون على وأده حياً والخلاص منه لو استطاعوا إلى تحقيق ما كانوا يبيتونه سبيلاً ...
ظلت رؤيتهم له تذكرهم بعدله وإنصافه، وتسقط القناع عن وجه جبروتهم وجورهم، وبقيت نظراته إليهم تذكرهم بعزته وشرفه الرفيع، وتنزع الحجاب عن حقيقة ذلتهم وخستهم، ومكثت كلماته تذكرهم بطيب سجاياه، ودماثة خلقه، وحسن سيرته، وتفضح خبث طويتهم، وشناعة طباعهم، وقبح سنتهم، ثم لم يكن قصده في مشيه بينهم إلا ليذكرهم باستقامته وسواء سبيله، وينأى به عن زيغهم الشديد إلى الضلال، وميلهم كل الميل إلى ابتغاء المنكر واتخاذه أسوة لهم وقدوة، واقتفاء أثر ذات عوج في حلهم وترحالهم ...
طرق صوت النعي أسماعهم، فنظر بعضهم إلى بعض بأعين مضطربة وأبصار زائغة، وقد أرهقت الذلة وجوههم وغشيتها الظلمة، فاستثقلوا الاسترجاع، وضاقت بهم أنفسهم التي دسوها، ثم انفضوا سريعاً واجمين صامتين ...
لم تكن الجنازة التي صلوا عليها منافقين إلا لذاك الرجل الطيب الذي آذوه كثيراً، وناصبوه العداء طويلاً، وأبوا إلا أن يكافئوه على أياديه البيضاء بما ليس أهلاً له ولا سهلاً ...
دفن الشيخ على عجل، ولم يبكه ولم يرثه إلا نسوة أرامل، وأطفال يتامى، وذلك اليوم المطير الذي قضى فيه نحبه وضيء الوجه، ناصع الجبين، وباسم المحيا ...

د. عبد الفتاح أفكوح - أبو شامة المغربي