لأن لي قلبا
****************
كان ضعيفاً شاحباً خائراً وهائجاً...
يصرخ بأنين وألم وكأن صوته يخرج من بئرسحيق ..
اسقوني ماءً .. أرجوكم اسقوني ... اسقوني ماءً ...
لكن لم يكترث له أحد .
قلت لهم : بسرعة الوقت ينفد منا
فكمّمه صاحبي بشدة
وربطوا يديه كي لا يتحرك
وما هي إلا لحظات حتى انهار تماما وهمد ،
وأومأ إلىّ صاحبي ...
فوجأت بطنه بسكيني وشققته من شرسوفه إلى خثـلته
وغمست يديّ في أحشائه .
كانت الدماء تتدفق وتنبع من كل مكان
وكأنها الطوفان يكاد يغرقني ومن معي .
صرخت بأعلى صوتي ....
أعطوه المزيد من الدم ، بأسرع ما يمكن .
كان الكبد مهشّما ، والطحال ممزّقا ، والأمعاء مكدّمة وطافية فوق الطوفان .
بسرعة أمسكت بشريان الطحال وربطته وقصصته ورميته خارجا ،
كان مساعدي يزيل الدماء بآلة الشفط وأنا أبحث عن مصادر النزيف وأربطها أو أدكها بالشاش .
عَرَقي هو الشيء الوحيد الذي استطاع أن ينافس الدم في غزارته ،
وأنا أبحث عن أي عِرق نازف لأربطه أو خرق نافذ لأرتقه .
فجأة توقف النزيف ودوّى صفير مرقاب القلب وارتسم عليه الخط المستقيم الذي لا يحبه أحد ،
وكأنه يقول الآن انتهى التعرج وستمشي أيها الإنسان على الصراط المستقيم .
لم تفلح محاولات الإنعاش ...
انتهى كل شيء .. للمريض على الأقل .. إلى حين .
سبحان من يقضي ولا يقضى عليه
سبحان من إرادته لا ترد
سبحان من خلق الموت والحياة ...
شعرة بينهما ... قطرة دم واحدة.... نَفَس واحد أو نصف نَفَس ...خفقة قلب واحدة ....
نبضة عرق ...إيماءة ....خلجة ...
موجة واحدة - أو أدنى من ذلك - على مخطط القلب الكهربي ...
كانت هذه عمليتي الإسعافية الأولى كجراح في قسم الجراحة العامة .
علمت فيما بعد أن الشاب الذي دهسته سيارة مسرعة كان طالبا في الثانوية العامة ..
هكذا أخبرني والده متحسرا عليه ... ثم استرجع وانتحب ... ثم سألني :
هل قال ابني شيئا قبل أن يموت ؟
لم أستطع الإجابة ...
كنت أسمع صوت ابنه لا يزال يرن في أذني .. اسقوني ماء ... أرجوكم اسقوني ....
لكني لم أستطع الإجابة ..
ولا أدري أكان ذلك خجلا منه ... أم رفقا به .
استجمعت شيئا من الصوت وقلت : لقد كان مخدّراً يا أخي ولم يشعر بشيء ....
يرحمه الله ، ويرحمنا معه .
طلبت إجازة لبضعة أيام ، لألملم نفسي .
طلبت نقلي من قسم الجراحة إلى قسم الأمراض الباطنية .
أرسل إليّ رئيس الأطباء وسألني عن السبب وقال :
لقد فعلت ما بوسعك والحالة كانت ميؤوساً منها ، فلا تجلد نفسك.
قلت بعد زفرة : ... يا سيدي باختصار أنا لا أصلح أن أكون جراحاً ....
..لا أصلح ... لأن لي قلباً ..