أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 10 من 10

الموضوع: الجزار، الجزء الأول

  1. #1
    الصورة الرمزية عبد الحميد محمد العمري شاعر
    تاريخ التسجيل : Jul 2008
    الدولة : المغرب الأقصى (مراكش)
    العمر : 33
    المشاركات : 82
    المواضيع : 27
    الردود : 82
    المعدل اليومي : 0.01

    افتراضي الجزار، الجزء الأول

    كنا جلوسا عند أبي ياسر[1] بن أبي عمر العمري في مجلس العصر، فذكرنا أمر الشيطان ومكائده، والفرق بين شياطين الإنس والجن، ومقدار تغلب هذا على ذاك في سباقهم نحو الضلال والشر، فقال أبو ياسر: قد علا إبليس في أمره، حتى ظن أن لا أحد فوقه، ثم نظر فوقه، فإذا أستاذه الجزار فوقه بمراحل فتعجب من صنع البشر وحبهم للضلال، فتذكر قول أبي مصعب الشويعر:

    بين الورى ومناقب الأخيار
    سَدٌّ بَنتْهُ كَوَائِنُ الجَزارِ
    هذا الذي منه الشياطين انتقت
    سُم الضلال ومورد الأوزارِ
    وتعلمت منه الغواية قبلها
    ومصائد الأخيار والأشرارِ
    هذا الذي أغوى الأُبَيْلِسَ مَرَّةً
    فأبى السجود بحضرة الجبارِ
    هذا الذي أوحى، فحقر آدما
    في عين إبليسٍ على استكبارِ
    فأضله، وأضل هذان الورى
    فَعليه وِزْرُ الفَاجِر الكَفَّارِ

    قلنا: ومن يكون الجزار ؟ وما خبره؟ وما حكاية الأستاذية؟
    فاعتدل في جلسته، وأقبل إلينا بوجهه وقال:
    أما ترون فعل إبليس في بني آدم مذ أخرج آدم من الجنة؟ كم أضل من بنيه، وكم أغوى منهم وأفسد، ومهما يفعل فإن الجزار أضل منه وأفجر لأنه أستاذه؟ فمن يكن رأى رجلا في الناس، أخبث في نفسه من الفاسق المنافق، وفي ظاهره من الشيطان ، فلن يزيد على أن يكون لقي الجزار.
    وإني لأعرفه مذ عقلت، وإن صورته لفي ذهني ممسوخة مشوهة مخيفة قبل أن يعرف عنها الناس شيئا. وقد كنت أراه فأقول: ما ينبغي أن يكون الخير في جسم كهذا. وما ينبغي إلا أن يكون شرا على الأرض يمشي، وإنه لكذلك.
    كان رجلا قصيرا قصرته ذنوبه، وشدته إلى الأرض،ضخم الجثة على قصره، فجمع كل قبح وكل خبث يستقبح في الورى. فكان إذا أقبل سد عليك الأفق، و تكلم في بيته ماتت الألسنة في أفواه أهل البيت وويل لمن نطق، وإن أمر فبيده يأمر لا بلسانه، يسبق منه العقاب الأمر، ويسبق الشتم والسباب الخطأ، فكأنما خلق ليسب وخلق ليرهب الناس ويخوفهم. وإنك لترى البيت مستقرا هادئا، فإذا دخل تحرك البيت لثقل من فيه، وسمعت صخبه من بعيد، فما يزال يرعد ويزبد حتى يخرج لتعود السكينة إلى البيت من جديد، فكأنما كان لا يسلك واديا إلا سلك الخير واديا غيره، وإنما هو الشر في صورة البشر، فلا أدري كيف ولد ولا كيف نشأ بين الفتيان، ولا كيف كان مع الناس ؟ لست أعلم كل هذا. ولكني أعلم أن أمه هي التي ابتلاها الله بمولود في صورة شيطان ( بل شيطان في صورة بشر، بل هو أصل الشيطنة كلها).
    كان رجلا (أي ذكرا، أما الرجولة فما تقترن به إلا في الشر، وهي بئس المروءة) في بيته بين ثلاث طبقات من أهله واثنتين من الناس، طبقة من أهله يحكمها حكما مطلقا، لا حق لأحدهم في رفع عينيه بحضرته، يخيفهم ويهابونه إلى حد لا يتصوره عاقل،ولا يملكون أن يعارضوه في شيء، بل إنه يرغمهم على أن يحبوه، وهو يعلم أن المرء قد يؤثر السوط في جسده، ثم لا يتجاوزه إلى القلب، لأن الحب والبغض والإيمان بمعزل عن ممر الهواء والمرض والضعف. وطبقة محيطة به تستفيد من بعض امتيازاته فهو مبجل عظيم عبقري تحترمه. ولقد حكموه فيهم وملكوه عليهم، حتى إن الواحد منهم ليكاد يسبح بحمده ويقدس له، ويكادون يسجدون له من دون الله. فكان أحدهم يرى فيه الهواء الذي يتنفسه، والماء الذي يشربه، والطعام الذي يأكله، والنار التي يستدفئ بها، والظل الذي يلجأ إليه من حر الشمس، حتى كأنما أنزلت فيه آيات سورة الواقعة (أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ)، فكان في أعينهم الزرع والماء والنار، وكذا كان يراه المحكوم عليهم بالتبعية العمياء. فإذا نظرت إلى حاله تلك لم يمثل أمامك إلا قوله تعالى في فرعون: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ) ولقد أغرقهم وأعنتهم وأعماهم، فلما مدوا إليه يدا يطلبون النجدة قال إني بريء منكم إني لا أخاف الله رب العالمين. فكان أجحد من الشيطان وأكفر. وطبقة ثالثة تعرف عنه باطنه كما يعرف الناس ظاهره، لكن سلطانه يغلبها على أن تقول له: أنت فاسد، فهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، ولكنهم لا يملكون إلا أن يسكتوا، وربما كانوا ضحايا ظلمه وجبروته فما يملكون إلا أن يدعوا لأنفسهم منفذا للهواء. فإنه متى سخط عليهم سد عليهم حتى منافذ الفكر التي لا يملكها أحد إلا الشيطان وأستاذه. بل إنهم لمعارضوه دوما ، فإذا حاولوا أن يظهروا للناس ما هو فيه من الفساد، ما زادهم ذاك غير تكذيب. وما يزيدهم ذاك غير صغار في أعين الآخرين. وهم أذلاء في عيون الجزار وشيعته. فما زالوا يسقطون في أعينهم، ويذلون ويصغرون حتى أدقعوا, وألحق بهم الجزار عار الدهر، ولم يكتف بذاك. بل استمر... إذ لا بد له من شر يعيش على إتيانه، فمتى انتهى الشر انتهت مهمة الشيطان وأستاذه في هذا الوجود.
    وأما طبقتا الناس فواحدة لا تعرف عنه شيئا غير أنه جزار، وهي التي تجالسه وتحادثه ولا يظهر لها إلا ما يرى أنه يرفع قيمته في نظرهم. وهو عندهم امرؤ يقضون مصالحهم على يديه فهم محيطون به ما بقيت المصلحة. والثانية تعرفه وتعرف أخباره ولكن ليس يضيرها ما يفعل، إذا كان شره بعيدا عنهم مهما استطار. وخيره مقطوعا عنهم كما قطع عن أخص أهله. فلا خير في أن يسروا أمره أو يعلنوه.
    قال أبو ياسر: هذا باطن الرجل الكاذب، وأما ظاهره فأكذب وأغرب، كان رجلا إذا ذكر المال فكأنما ذكر حبيب له ، فكان بينهما من الحب ما لا يسمو له حب العشاق ولا أخوة المتحابين في الله. كان الدرهم في عينه أقرب إليه من أمه وأبيه و أخيه وصاحبته وبينيه وفصيلته التي تؤويه، وكان آية في الحرص ليس في بخلاء الجاحظ ولا بخلاء الخطيب من هو في درجته. ثم كان آية في الشره والطمع لا يبلغها طمع المذنب التائب في مغفرة ربه، فلو أريته في يدك درهما ثم أمسكتها ومضيت تغريه بها وأنت تتراجع، لتبعك إلى آخر الدنيا، وإلى القبر... وإلى جهنم.
    وكان فيه إلى ذلك سخاء في اتجاه واحد، سخاء في تربية بطنه، وتطوير أساليب الإسراف والتبذير في سبيل بطنه، فإنه كان الغاية من خلقه، فإنما هو امرؤ يعيش ليأكل، لا يأكل ليعيش بل ليعيث في الأرض فسادا. وكان يؤثر أن يقيم مأدبة فاخرة -حافلة بكل ألوان الإسراف، حاملة لكل صنوف الإتلاف، يُذبح فيها الشاء حتى تجري الشوارع بدماء الذبائح،فيتضاءل النيل إلى جانب سيلها. و توضع فيها الفاكهة حتى يأكل منها الجار الذي لم يحضر وجار جاره إلى ما شاء الله، ويدعى إليها من يعرف ومن لا يعرف، ومن يأكل بيده، ومن يأكل بفمه معتمدا على يديه. كان يفضل هذا كله على أن يقرضك درهما واحدا يسهره الليل كله، ويسلبه فكره حتى تعيد إليه قرضه، فكأنما هو حبيب بان محبوبه أو عشيق حيل بينه وبين عشيقه. وإنه لغريب والله وأغرب من كل غريب.
    إنما كان يفضل المأدبة لحكمة في نفسه قضاها،ذلك أنه كان أول مستفيد من ذلك العطاء، فلا تنفرد به دونه، وإنما هو مشارك فيه، ثم لأن مصاريف ذلك كله يدفعه إخوانه وأبناء إخوانه، فلا يكون له من ذلك إلا فضل جزار باع أنعامه لرجل أولم، ثم دعاه ليحضر الوليمة. ولكنه صدر المجلس فيها وصاحب الأمر والنهي. ومن لم يتعب في طلب الرزق لم يبال بإنفاقه مسرفا مترفا ليقال إنه سخي، ثم كان ملكا على كونه أصغر إخوانه فما كان يستطيع أحد أن يقول لشيء فعله : لم فعلته؟ أو لشيء لم يفعله: لم تركته؟ فكان يفعل ما يشاء وكيف شاء أينما شاء، فما يرى ممن حوله إلا ابتسامة أكرهوا عليها، وما يرى من إخوانه الذين أبعدهم الزمن عنه إلا الرضا والقبول والافتخار بصنيعه والتباهي به، وهم لا يدرون ما يخبؤه لهم القدر. ثم كان بعد ذلك كله جزارا.
    قال أبو ياسر: كنت إذا دخلت عليه محل جزارته، ألفيت لحما على النار، لا يرفع إلا ليوضع غيره، وموقدا لو استطاع لصرخ من كثرة ما تحمله، وبطنا لا يستقر بها شيء تأكله أو لا يشبعها شيء يلقى فيها. فإن قصده أحد وقت أكله أناله مما يأكل، وأشار إليه أن تفضل، ونظراته تلاحقه، وتأخذه من كل جانب، وتصعد فيه ثم تنزل، قائلة له : إن الذي سمعت من هذا لفي طرف لسانه، وإن الذي في قلبه بينه وبين ما سمعت من العداوة ما بين المسلم والصهيوني، فمتى أحب المسلم الصهاينة علمت أنه قال لك: "تفضل" بقلبه أيضا. وإنه لينظر إليه وهو يحدثه كأنما يحدث رجلا له عنده ثأر، فكأنما ينظر إليه ليرى منه موضعا يفترسه منه، ثم يطيل النظر، وينعم التفكير والتأمل، فلا يجد إلا جيبه، ثم يضحك ملء فيه، إذ ظفر بالرهان. ثم لا يقوم من عنده مجالسه حتى يدفع ثمن ما أكل وثمن ما اشترى، وهو يظن أن صاحبه تكرم عليه، وما في الأمر إلا أنه احتال عليه وأوقعه. وإنك لترى أثر الأكلة بعد الأخرى في جسمه فتراه يأكل فينتفخ، ويأكل فينتفخ، فكأنما يقطع لحوم البهائم فيجعلها قطعة من لحمه هو، حتى صار جسدا هجينا، فيه من طبائع البهائم من كل شهوة حظ وافر ليس يخفى و فيه من طبائع الناس الشر والطمع والبخل وكل خسيس مرفوض. فإذا نظرت إليه رأيت خلقا فيه شهوة البهيمة وشر الإنسان، فكان أضل من الأنعام سبيلا.
    هكذا كان يوم كان أبوه حيا. وأبوه هو الذي صنع مجده، ورفع ذكره، وأعلى مقامه، وكان حقا عليه أن يرعى ذلك كله، لكنه ... لم يفعل.
    فقاطعته وقلت له: كأن أباه كان على غير سيرته، فهل كان جزارا أيضا؟
    قال: قد كان أبوه رجلا مقداما يعمل بعقله وقلبه وجوراحه، فكان قوة موزعة على الجسم كله، فإذا رأيته فثمة قوة الساعد وقوة القلب وقوة الفكر، فكان له العز والمنعة.ثم أورث ذلك أبناءه، وأورد أصغرهم ذلك الحوض، فخاض فيه وأفسد ماءه وعاث في كل شيء، ولم يزل بالحوض حتى نضب ماؤه, وتفرق عنه الناس. وقد كان إذا أفسد ستره قول الناس: إنه ابن فلان. فيغفر له ذلك. ولكنها كانت مهلكة. فالمجد الذي بناه أبوه أفسده هو. فصار حقا أن يسلب حتى حق الانتساب لذلك المجد، وصار حقا أن يشرد وينفى ويحرم من ورود الحوض ويطلب للحوض راع غيره فيسلم ويسقى منه الناس في أمان. وكان أبوه رجلا لا يعرف شيئا اسمه التردد أو الخوف إلا من ربه، ولا يعرف شيئا اسمه الخضوع لشظف العيش ولا الضعف عن طلب الرزق. رحمه الله، فقد كان جزارا -كما الجزارة في عرف البشر- لا يصده عن طلب رزقه صاد ولا ثان. وإن أبي قد حدثني عنه أنه كان يحمل على كتفيه عجلا معدا للذبح ثم يقطع به عشر كيلومترات على ظهر دراجته بلا كلل ولا ملل، وإنه ليعيد ذاك في الأسبوع مرتين أو ثلاثا[2]. (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً ).
    مات هذا الرجل الشهم، الذي صعد إلى المجد فاقتطف من ثمره، ثم نزل فنثرها بين يدي أبنائه، وترك لهم زمام الأمور يتصرفون فيها، فما رعوها حق رعايتها. وكان يرى من أفعال خلْفه ما ينكر ثم يسكت عل الزمن يرجع به، فقد ملكه على أبنائه، وحق عليه أن ينصحه، ولكنه حق عليه أيضا أن لا يشوه سمعته.فكان كما كان يوم كان حيا ثم مات فصار شيئا آخر.
    مات الرجل وترك ابنه يحكم، وإنه لمفسد يوم كان أبوه، يعرف ذلك من يعرفه. لكن ذلك له حدود لا يمكن أن يتخطاها، لأن حياة أبيه تمنعه من ذلك، بل لو أنه فعل لسحب بساط الملك من تحت رجليه وأعطي لمن هو أكبر منه وأعقل. أما اليوم وقد تحرر من كل قيد، فإن كل شر يفكر فيه فإنه آتيه بأي ثمن. أفسد حتى ما استبقى لمفسد مكانا على وجه الأرض، وعاث حتى سار إليه ذنب كل عاث، لأنه اقتبس منه ومن علمه في ذاك حتى عرف به. لقد خلا له الجو فباض و... ثم ازداد في عتوه وكفوره وجوره وظلمه، حتى طفح الكيل وما يزيد المغرورون به إلا تشبثا. وما يزيد وجهه على أن يظهر لمن يراه من خارج دائرة الحب والعبودية أكثر سوادا وظلاما أكثر مما في قلبه. ثم صار الأمر إلى شيء من الطائفية طفا في البيت، وإذا حلت القبلية وعصبيتها في بيت فإن محلها إلى البوار. ولم يكن ذاك وليد الساعة، بل إنه كان شيئا قديما، فدفن بقوة تحكمه، وزاد من خفائه التفاف الأهل حول الأب الشيخ، فكان يمنع الطائفية من أن تنتشر، وإن كانت تطل برأسها بين الفينة والأخرى لتقول:" إني قادمة، فانتظروا"، وكانت تلك الفتنة نائمة، فأيقظها الجزار لما خلا له الجو. وكان فتنة بنفسه أي فتنة، فطغت على أي فتنة أخرى، فلما بدأ يذبل ويأفل نجمه؛ ظهرت الفتنة القديمة لتعمل في البيت معول الهدم. وكذلك كان. ولعل الخطأ الذي ارتكبه أبوهم فكان قاتلا، أنه جمع أهله عليه بقوته، وكانت فيهم بقية من الحب له والود كانت قوية ثم بدأت تتهاوى كلما تقدم في عمره حتى انتهت بموته، وذهب بكل شيء فبقيت الأم تلتمس من ذلك شيئا فلا تظفر به إلا قليلا. وإن أي شيء تجمع من قوة لا يمكن أن يستمر، ولو عمر، ثم إذا مزق الشمل كان شر ممزق.
    فقام رجل من آخر المجلس، وقال: مهلا، فإني أراك وشاعرك قد جرتما على الجزار، فإن لم يكن له في الفتنة التي قلت يد كبرى، فإنك ظالمه، وسيطالبك بحقه عليك لأنك قذفته بما ليس فيه، فأي يد كانت له في الفتنة؟
    فابتسم أبو ياسر، وأطرق قليلا وقال: إنه لما أطلت الفتنة برأسها التقطها صاحبنا الذي كان مزهوا بأيام عزه في كنف تقدير أهله لمكانة أبيه وقوته، وصار يوقد النار من تحتها حتى تأججت، فانتفضت الطبقة الثالثة من أهله تطالب بحقها في الحكم، أو تسأل عزل الحاكم، أو عزل حكمها عن سلطته. وكانت شيعة الحاكم أكثر الناس تشوقا للانفصال حتى يصفو لهم الورد، ويحلو لهم العيش، وليت ذلك كان.
    كان الحل أن يعزلوا عنهم أهل الفتنة – كما سموهم -، ليصفوا لهم المورد، وليستعدوا ليسلبوهم كل شيء أخذوه معهم، فكانت القسمة ضيزى، ظنوها عادلة، قسموا الإرث بين الأخ وأخيه، وأعطوا شيئا لأمهم التي بقيت مع الجزار، وكان لأخواتهم نصيب مفروض في دين الله ضمه إليه لأنهن معه، فأما اللواتي فرق القدر بينهن وبينهم فتركن كل ذلك تعففا. وانطفأت الفتنة. ويا ليتها سكنت؛ بل سكنت لتتفجر من جديد على نحو أسوأ وأخبث من الأول.
    فقلت له: فقد مضى كل شيء إذن بفراقهما، فكيف سيصل إليه من جديد، وليس بينهما سلطة ترغم هذا على القبول بحكم الآخر؟
    قال الراوي: وأذن لصلاة المغرب، فانصرفنا وحيل بيني وبين الجواب. وبيننا وبين تمام القصة. وإني لفي عجلة من أمري لمعرفة بقية خبر الجزار، ومبلغ غلبته على الشيطان. فوددت لو استمر المجلس بعد الصلاة، ولكنها الحياة، تأبى أن تترك لنا شيوخنا نأخذ منهم إلا بقدر ما يتزود الحبيب من محبوبه يوم البين، ولكنها نظرة تبقى في القلب ما عاش الفتى.


    [1] - نسبنا هذا الكلام لأخينا الفاضل أحمد، الذي عاش طرفا من هذه الأحداث، ونقل بعضها إلي، فأنشأت هذه القصة على لسانه.

    [2] - هذا خبر حقيقي سمعته من كثيرين ممن كانوا يعرفونه رحمه الله يوم كان قويا جلدا شابا.


    أبو مصعب عبد الحميد العمري

  2. #2
    الصورة الرمزية عبد الرحيم صادقي أديب
    تاريخ التسجيل : Jul 2010
    المشاركات : 1,300
    المواضيع : 106
    الردود : 1300
    المعدل اليومي : 0.26

    افتراضي

    الله الله يا عبد الحميد
    جميلة لغتك، فنان أنت في رسم الشخوص والمواقف والأحداث.
    لقد جعلتنا نكره هذا الجزار بحق.
    لله درك!
    لكن لم آثرت نشرَ جميلِ ما كتبت هنا؟ إنها قصة، وبالغة الجمال فوق ذلك.
    تحيتي وإعجابي

  3. #3
    الصورة الرمزية صفاء الزرقان أديبة ناقدة
    تاريخ التسجيل : Mar 2011
    المشاركات : 715
    المواضيع : 31
    الردود : 715
    المعدل اليومي : 0.15

    افتراضي

    استاذ عبد الحميد

    قصة رائعة و رمزية جميلة فالبرغم من ان الاحداث واقعية

    إلا أنها صالحة كرمز للكثير من الجزارين الذين عاثوا في الآرض فساداً ,

    تمتلك قدرة سردية رائعة و جاذبة بلغة قوية احسنت فيها رصد الأحداث و الشخصيات

    بطريقة جميلة .

    تحيتي و تقديري

  4. #4
    الصورة الرمزية وليد عارف الرشيد شاعر
    تاريخ التسجيل : Dec 2011
    الدولة : سورية
    العمر : 60
    المشاركات : 6,280
    المواضيع : 88
    الردود : 6280
    المعدل اليومي : 1.39

    افتراضي

    بوركت يا أبامصعب وبورك المداد والحرف الذي لان لك طيِّعًا
    أبدعت أخي الكريم ... قصة شامخة
    مودتي كما ينبغي

  5. #5
    الصورة الرمزية عبد الرحيم صادقي أديب
    تاريخ التسجيل : Jul 2010
    المشاركات : 1,300
    المواضيع : 106
    الردود : 1300
    المعدل اليومي : 0.26

    افتراضي

    وأين الجزء الثاني يا عبد الحميد؟ لم أجده.
    نسيت أن أشير إلى أن الموضوع نقل من قسم النثر إلى قسم القصة. ولذلك وجب التنويه.
    التعديل الأخير تم بواسطة عبد الرحيم صادقي ; 14-01-2012 الساعة 12:59 PM

  6. #6
    الصورة الرمزية كاملة بدارنه أديبة
    تاريخ التسجيل : Oct 2009
    المشاركات : 9,824
    المواضيع : 195
    الردود : 9824
    المعدل اليومي : 1.85

    افتراضي

    مقدرة على الإمساك بخيوط الحبكة إلى النّهاية

    ونفس طويل في السّرد والوصف، بلغة متينة

    قصّة رائعة رغم واقعيّتها، يمكن اعتبارها رمزيّة مثلما تفضّلت الأخت صفاء

    بوركت

    تقديري وتحيّتي

  7. #7
    الصورة الرمزية عايد راشد احمد قلم فعال
    تاريخ التسجيل : Jul 2009
    الدولة : تائه في دنيا المعاني
    المشاركات : 1,865
    المواضيع : 49
    الردود : 1865
    المعدل اليومي : 0.35

    افتراضي

    السلام عليكم ورحمة الله

    استاذنا وشاعرنا الفاضل

    رغم انها قصة حقيقية الا ان لمستك وبصمتك والقدرة علي السيطرة والتسلسل السلس اعطتها مذاقها

    تقبل مروري وتحيتي
    صاحب البسمة والنسمة
    تقيمك بمشاركة مطلوب كما انت تحتاج فلا تبخل

  8. #8
    الصورة الرمزية عبد الحميد محمد العمري شاعر
    تاريخ التسجيل : Jul 2008
    الدولة : المغرب الأقصى (مراكش)
    العمر : 33
    المشاركات : 82
    المواضيع : 27
    الردود : 82
    المعدل اليومي : 0.01

    افتراضي

    السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
    بورك فيكم إخواني وفي كلماتكم الجليلة الرائعة
    لا أملك إلا أن أقول لكم : شكرا على كلماتكم
    وسأنشر الجزء الأخير بحول الله، أخرني عن هذا الانشغال لا غير.
    حياكم الله

  9. #9
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    الدولة : على أرض العروبة
    المشاركات : 34,923
    المواضيع : 293
    الردود : 34923
    المعدل اليومي : 6.71

    افتراضي

    مهارة وإبداع في رسم الشخوص ورصد الأحداث، وسرد شائق ماتع بأداء قصّي جميل ولغة متينة ومحمول قوي

    جميل ما قرأت هنا أديبنا

    دمت بألق
    تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

  10. #10

المواضيع المتشابهه

  1. الجزار ، الجزء الأخير // أبو مصعب
    بواسطة عبد الحميد محمد العمري في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 02-05-2013, 03:28 AM
  2. الشعر الحر ( شعر التفعيلة ) الجزء الأول
    بواسطة د. مسعد زياد في المنتدى قَضَايَا أَدَبِيَّةٌ وَثَقَافِيَّةٌ
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 05-05-2008, 05:41 AM
  3. الوحدة الثالتة : الجزء الأول / حروف المد
    بواسطة د. مسعد زياد في المنتدى عُلُومٌ وَمَبَاحِثُ لُغَوِيَّةٌ
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 24-11-2004, 08:05 AM
  4. اختبر نظرك...(الجزء الأول)
    بواسطة د. محمد صنديد في المنتدى الاسْترَاحَةُ
    مشاركات: 25
    آخر مشاركة: 10-11-2003, 01:28 AM