الأمانة
أبو سعيد العطري ...؟
منذ نعومة أظافري وأنا أسمع بهذا الشخص, وها أنا أبلغ العقد الرابع من عمري, ولا يزال هذا الكهل يقطن في داره القديمة داخل أزقة حارتنا الطويلة والضيقة
وكان منزلنا يقع على رأس هذه الحارة .
...هذا الرجل يعيش وحيداً---تجاوز عمره المائة عام- أمده الله بالصحة والعافية- فما عرف يوماً الملل ولا الكسل, ولا أنقطع عن تأدية صلاة في
وقتها, ولا زال صدى صرير باب منزله الخشبي يقرع ذاكرتي عندما كان
يرفع المزلاج ليفتح الباب متجهاً لأداء صلاة الفجر.
وكم هي جميلة تلك العبارات التي يرددها أثناء خروجه من منزله في طريقه
إلى المسجد, وكنت اعتبرها ساعة منبه وهبنا الله إياها من أجل أن نستيقظ للصلاة.
ذات صباح استيقظت على تراتيل أبي سعيد العطري وهو يردد يا الله –يا رب ---لا إله إلا الله محمد رسول الله.
تململت في فراشي الدافئ, استمد من عزيمة هذا الكهل وعميق إيمانه
دفعاً بأن أترك متعة الاسترخاء وسط فراشي وألبي نداء المؤذن وهو يختم
الصلاة خير من النوم...الصلاة خير من النوم.
ارتديت ثياباً كثيفة وطاقية اكتسحت الثلث العلوي من رأسي عليّ أحمي جبهتي من لفحات كانون الباردة , وهرولت مسرعاً باتجاه الجامع .
كانت أشعة الضوء تتسلل ببطء علها تقتحم قتام الليل لتتلاطمان في
معركة تنجلي عن ظهور قرص الشمس المدمى والتي عبثاً جاهدت حجب الظلام منعه من الظهور ---
لكن عظمة الخالق تتجلى في هذا الدوران الكوني العجيب الذي يفرض رتابته ودقته ليتتالى الليل والنهار (وكل في فلك يسبحون)
كانت أضواء المصابيح في الأزقة تكاد تختفي وسط الضباب الكثيف الذي كان يلفها... فكنت أتعثر هنا وهناك حتى أن قدمي انزلقتا في عدة حفر
أخيراً وصلت إلى باب المسجد ودخلته لأجد أشخاصاً باتت وجوههم مألوفة
لأننا كنا نلتقي في كل فجر فإما يزيد شخص أو ينقص آخر
لكن الذي لفت نظري أن أبا سعيد كان يقبع في ركن ناء وراء أحد أعمدة الجامع بعيداً عن الأنظار وبدل أن يصلي باتجاه قبلة المسلمين انحرف
قليلاً باتجاه الشرق...فأدركت أن بصره قد خف إلى درجة كبيرة
اتجهت نحوه وصليت ركعتي تحية المسجد وانتهيت أرقب أبا سعيد
وهو يصلي بتمعن واسترسال.
وما أن انتهى من التسليم حتى وضعت يدي على يده وهمست في أذنه: يا عم أرجو أن تصحح صلاتك لأنك تصلي باتجاه الشرق بدل من الجنوب
ارتبك الرجل ارتباكاً شديداً وبدأ يتلفت حوله
وهو يقول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم --- العمر له حقه ...
العمر له حقه .
اقتدينا بعدها بالإمام نؤدي صلاة الفرض ,وعندما هممنا بالقنوت
سمعت أبا سعيد يناشد ربه أن يختم عمره بالصالحات وألا يرده إلى أرذل العمر.
انتهت الصلاة ومددت يدي له قائلاً:تقبل الله العظيم - - منا ومنكم صالح الأعمال.---تشبث يدي قائلاً أريدك يا بني بعد الصلاة
--- تأبط ساعدي مستنداً على كتفي, واتجهنا نحو حارتنا وقال:
يا بني عدم المؤاخذة ابن من..؟
بابتسامة..أنا جارك نورس --- دمدم نورس –نورس --- رددها
رحمة الله عليك يا نورس يا أبا محمد
أجبته تعيش يا حاج, نعم أنا نورس على اسم جدي رحمة الله عليه
هل كان صديقك ...؟
بعجلة التفت إلي ...! وكأنه استنكر كلامي ....صديقي..!
لم يكن لي غيره صديق,كنا أكثر من إخوة وقبل أن يتابع كلامه قال: تفضل لنشرب الشاي عندي---
بكل سرور --- وصلنا إلى منزله فأخرج مفتاحه الحديدي الذي يزيد بطوله عن الثلاثين سنتيمتراً, يربطه بزنار قد لفه على خصره وبدا كأنه مسدس حربي
دخلنا إلى المنزل فأرشدني إلى درج يوصل إلى قبو تحت مستوى الأرض, نزلت ودفعت باب القبو لأشعر بدفء غريب
كان أثاث القبو مدفأة وقودها الحطب وبعض من قطع السجاد
(تنسج هذه القطع من بقايا خرق ممزقة أو ثياب بالية تقص وتنسج على نول يدوي
قديم ).ووسادة واحدة محشوة بالقش وقليل من الخزائن الخشبية داخل الجدران الطينية
التي تغطيها طبقة من الكلس الأبيض, وكان في زاوية البيت صندوق خشبي يطلق
عليه السَبتْ لحفظ الأشياء الثمينة .
جلست بجانب المدفأة التي كانت نيرانها قد خبت بعد أن
أضرمت حين استيقاظ هذا الكهل, لكنها ما تزال تحتفظ بدفء مثير.
جلست عشر دقائق انتظر خلالها أبا سعيد وهو يعدُّ الشاي وأنا أتمعن في جدران هذا القبو أفكر في هذا الجار القريب البعيد, فكنت أراه كل يوم لكنني أجهل عنه الشيء الكثير فقد شغلتني الحياة وزخمها .
دخل ومعه الشاي, بدأ كلامه قائلاً: كان جدك نورس من أعزِّ الأصدقاء
توفي مند أربعين عاماً لكنني لا زلت أذكره وكأنه واقفاً أمامي الآن
كان صنديداً بشجاعته طيباً يحمل كل صفات الرجولة
نشأنا وسط الحكم العثماني ---فكانت القيم في الماضي تختلف عن قيم هذا العصر---
السطو والقتل من شيم الرجال؛ لأنها تعني المقاومة ضد الاحتلال (كان يروي لي وهو يسكب الشاي )
ثم أسهب النظر إلي يسترجع قليلا من مخزونه الفكري واستطرد يقول :
في إحدى المرات كنت وجدك نورس ننصب كمينا ًلدورية تركية في الجبل الغربي
كان الوقت صيفاً في تلك الليلة وبعد الثانية من منتصف الليل كنا نقبع وراء إحدى الصخور ننتظر --- كنا حينها في الأربعين من العمر
في كامل القوة ,داهمنا العسكر وقتلنا اثنين منهم وهرب البقية --- استولينا على بنادقهم وأحصنتهم ---يومها رأيت جدك نورس يتجه نحو طاقية سقطت عن رأس أحد العسكر الهاربين ,وبينما نحن عائدون قال يا أبا سعيد إن كتبت لك الحياة أكثر مني فلي عندك طلب ...؟أجبته وما هو ؟ أريدك أن تعطي هذه الطاقية لأحد أحفادي حتى يعلم أننا لم نستكن يوماً لأحد ولم نرض الهوان
وقل له: إن أجدادكم كانوا رجالاً--- فأجبته مازحاً: يا أبا محمد وهل تعتقد بأني سأعيش
لأرى أحفادك .
أجابني: بثقة مطلقة إني أراك تسلم طاقية الكبرياء لأحد أحفادي.
والآن يا بني كادت الذاكرة تخونني وكدت أنسى الأمانة--- ثم لحظت أبا سعيد يناولني كأساً من الشاي ويتجه باتجاه السَبتْ فتحه وأخرج منه طاقية خاكية اللون لها رفراف طويل وحزام جلد أسود أعطاني إياها وقال: خذ الأمانة يا بني ---
غادرت أبا سعيد العطري بروح ملؤها الفخار والاعتزاز.
وفي الصباح ---
سمعت ابنتي التي لا تزال في الخامسة من عمرها تصرخ وتقول:أمي استيقظي وانظري ماذا اشترى لي أبي, إنه جلب لي قبعة حلوة ووضعتها على رأسها ثم
استدارت إلي تعاتبني : إنها كبيرة يا أبي لما لا تبدلها بقبعة أصغر
أجبتها لا يا ابنتي إنها الأمانة ---إنها الأمانة