في قلبي تشتعل نيران الحنين إليكِ ، وفي صمتك ألم وفي حضورك عذاب وفي غيابك موت لي ، ومعضلتي معكِ كبيرة ، لذا قررت أنْ أتعلم كيف أضبط دقات قلبي على ساعة الفراق كي أمنع تمزق أوردته وانهيار غرفه بفعل الانصهار وثورة الدم على حصار لغتي للدموع ، لأنّ الرجال لا يبكون في أبجديتي و تاريخي المشبّع بكبريائي وأصالة خيلي وطهارة حبي لكِ .
لكِ زمان وضعتِ فيه حواجز أبعدني ألف ألف ميل ، ولي في كل ثانية فيه حكاية وفي كل سطر فيها ألم يشتعل له وجع مرّ ومذاق خاص ، حتّى أنّ حبيبات التذوق تمرّدت عليّ وتطلب منه المزيد وتأبى الفطام إلا بعد الرحيل الأخير . كم كنتُ أتمنى لو أنّكِ منحتني بعضًا من الوقت لأقول لكِ كيف يصنع التاريخ وكيف يعيش الحب في أفئدة الرجال .
أحتاج مزيدًا من الوقت لأتعلم كيف أفكّكِ حرفًا حرفا من شراييني لأعيد من جديد بناء نفسي بعيدًا عنكِ وعن زمان ليس لي فيه سوى حضورك وموتي الأكيد ، أريد أنْ أعود كبيرًا في العمر مرّة أخرى ، لم أعد أشتهي البدايات ، مدّي لي يد العون كي لا أموت صغيرًا على عتبة بابك الموصد في وجهي ، دعيني أخفّف عن قلبي حمّى اللهب من نار شوقي المرتدة عن نوافذك ، احترقت كثيرًا والظمأ جفّف أوردتي ، وملامحي باتت غريبة عني لم أعد أعرف نفسي كلما نظرت في وجهك و مرآة الغياب .
قال لي صديقي الجديد ذات لقاء عابر على الهواء لا تحزن ، لا تحزن فلن يستمع إليك أحد ، عدْ إليك يا أنتَ يا من جعلت من نفسك رقمَا بغير عنوان في عالم النسيان ، لا تحزن يا من اخترت السير في فضاء ليس لك فيه سوى أضغاث أحلام ستنبت شوكًا داخل الغشاء البلوري في رئتيك كي لا تنسَ حين تنساك الفصول وتتذكّر أنّ هذا من صنعك فلمَ تحزن ؟ وإلا فكيف بربك تحبّ طائرًا تعود الترحال بين السماء والسماء فلا يمكثُ في مكان وله في كل سماء هواء ؟ و كيف تنام ؟ والشرفات في قلبك مشرّعة نوافذها تصفّر فيها الريح كيف تشاء ، وعيناك مسودّتان برحيق الانتظار ورموشك مروحة لا تنطفئ لتزيد من وهج اللظى في شبكية تعامت عن رؤية السمّ في كأس التّمني المسجّى في باحة قلبك .
قلت له : ومن لا يحبّ الطيور يا صاحبي ؟ ومن يطيق رؤية السماء بغير طيور ؟ ومن قال لكَ أنّي أنام بعد أنْ أحببت في آذار وفي موسم الرحيل ؟أعترف أني أخطأت و لم أعرْ أي اهتمام لاختلاف الوقت والمناخ بين سماء وأخرى ، وبين لغة وأخرى ، فقد صدقت شاعرًا قال لي ذات لقاء عابر أنّ للحبّ لغة يشترك فيها الإنسان والحيوان ، صدّقت وأكّدت لي عرافتي ذلك ، ثمّ توقفت عند أول منعطف في الإعراب فوجدتّني أغرد خارج السرب وحدي ، وتغاضيت بإرادتي عن تصفّح دفتر يومياتي وما سطره عقلي في غابر السنون ، وحملت بدلًا من ذلك أشعار قيس و جنون تأبط شرا والشنفرى نصحني ولم أتعظ ، لأسقط في أول امتحان أجبت فيه عن كل الأسئلة ، لكن المصحّح كان مصرًا على اعتبار أنّ التزوير كان حصيلة كل الإجابات ، منْ يراجع مصحّحًا يتخذ من سطوة عقلة وطغيان ماضيه عليه قوة للبطش وعجن القلوب بمرارة قلة الحيلة وغلبة الشوق على العقول ؟ .
لم أعلم إلّا بعد فوات الأوان أنّ للمناخ فلسفته الخاصة في تركيبة قلوب البشر ولم آخذ بنصيحة الصعاليك في دروب السفر الطويل ، وعندما أصبحت وحيدًا لم أجد لي مكانًا حتّى بين الصعاليك .كم كنت تئنّ يا قلبي حين تكسرت نوافذك بريشة ناعمة أحدّ من الزجاج ! كم كنت غريبًا حين تأبطت أمنياتك بلا زاد يكفي للعودة وبلا بوصلة أو قمر يضيء لكَ غسق الدجى في دروبك الوعرة !.
لكَ ما تريد أيها الغياب ، ولي ما أريد أيها الضباب ، فأنا الصفصاف أموت واقفا فوق ربوع ترابي رغم الجفاف ، لك ما تريد ولي ما أريد أيها الشقاء ، فلا تحسبني متّ مهزوما ، ولا تظنّ أنّي سأعيش من بعدك ذليلا ، كل ما في الأمر أنّك لن تجد من يخاف عليك مثلي ويفرش لك روحه رداء ليحميك من تقلبات الهواء والزمان ، كل ما في الأمر أنّي أحبّك وحزين من أجلك أيها السحاب البعيد .