بيني وبين عنترة ( الجزء 2 )
هو حقيقة تتمة الجزء الأول ، حيث لم يحتمل الموقع تحميله لكبر حجمه ، وعليه أدرجناه هنا بمسمى الجزء الثاني كالتالي :
ــــــــــــــــــ
استكمالا حيث قلت : أرِني يدكِ يا مينا أنظر إليها ؟ ،،، فَفَعَلت ،،، .
فجعلتُ أنظر إليها وأتلمسها كالطبيب ،،، .
فقلت : والله إن يدكِ ترقّت على أيدِ النساء حتى أضحت لذيذة ،،، !!! فالتفتُ إلى عنترة وقلت له : هل قلتَ إنهن الفَلَوْذج بعينه ؟
قال : إي والله ،،،
قلت : أهو لذيذ يا رجل ؟
قال : وهل في ذلك ريب ؟ والله إنه لألذّ ما يدخل البطن ،،، ولكن أين هو ؟ والله لو أن دقيقه وماءه هنا لأجلبنّ حطبه ، ثم لأُعلِقنّ النار حتى تتأجّج فنطبخه .
قلت : تأجج النار يفسد الطعم لأنه على عُجالة ، ولكن إن كانت هادئه كان ألذّ في الفم وأسرى في الحلق ،،، غير أني أحبه باردا !! ونظرتُ إلى عيني مينا .
فسحبتْ يدها من يدي وحملقت وقالت وهي ملصقة مرفقيها على الجنبين : تريد أن تأكلني أنت وصاحبك هذا !!!!!!! ؟
فنظرت إليها مبتسما وقلت : إنها مداعبة ومزاحة يا مينا ، وحسبي شرفا أن مننتِ علينا بزيارة .
قالت : أعلم أنها مزاحة ، ولولا التَفْكهة لما تَمَادّ بنا العمر ، ولجفّتْ الدماء في الأوداج ،،، فحيَّتْكَ من حَيَّيْتَها يا حُسَيْن .
ثم حلّ الرضا وطال الحديث ،،، وفجأة نظرتْ مينا إلى عنترة وقالت :
يا عنترة : قرأتُ أبياتا للشاعر الفيلسوف أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي المعري ، المعروف بأبي العلاء المعري ،،، يقول فيها :
أرى العنقاء تكبر أن تصـادا **** فعاند من تطيق له عنـادا
وما نهنهت عن طلب ولكـن **** هي الأيام لا تعطى قيـادا
نلوم على تبلدها قلوبــــا **** تكابد في معيشتها جهـادا
إذا ما النار لم تطعم ضرامـا **** فأوشك أن تمر بها رمـادا
ولما أن تجهمني مـــرادي **** جريت مع الزمان كما أرادا
وهوّنت الخطوب عليّ حتـى **** كأني صرت أمنحهـا ودادا
أأنكرها ومنبتها فـــؤادي **** وكيف تُنكّر الأرض القتـادا
وكم من طالب أمدي سيلقـى **** دوين مكاني السبع الشدادا
لي الشرف الذي يطأ الثريـا **** مع الفضل الذي بهر العبـادا
ولو ملأ السهى عينيه منـي **** أبرّ على مدى زُحـل وزادا
أفلّ نوائب الأيام وحـــدي **** إذا جمعت كتائبها احتشـادا
ولي نفس تحل بي الروابـي **** وتأبى أن تحل بي الوهـادا
ـــــــــــــــ
وأنت أيها الفارس الشجاع قلت من قبل رائعتك على الوافر :
إذا كشف الزمان لك القناعــا **** ومدّ إليك صرف الدهر باعـا
فلا تخش المنية والقَيَنْهـــا **** ودافع ما استطعت لها دفاعـا
ولا تختر فراشا من حريـــر **** ولا تبكِ المنازل والبقاعـــا
وحولك نسوة يندبن حزنـــا **** ويهتكن البراقع واللّفاعـــا
يقول لك الطبيب دواك عنــدي **** إذا ما جسّ كفّك والذراعــا
ولو عرف الطبيــب دواء داء **** يرُدّ الموت ما قاسى النزاعـا
حصاني كان دلاّل المنايــــا **** فخاض غمارها وشرى وباعا
وسيفي كان في الهيجا طبيبـا **** يداوي رأس من يشكو الصداعا
أنا العبد الذي خُبّرت عنـــه **** وقد عاينتني فدع السماعــا
ملأت الأرض خوفا من حسامي **** وخصمي لم يجد فيها اتساعـا
ـــــــــــــــ
والله لكأن قصيدتك يا عنترة تمخّضت فولدت ما قاله المعري .
النظرة ذاتها نظرتك ،،، والشكوى شكواك ،،، والحكمة حكمتك ،،، فما ترى في هذا الرجل يا عنترة ؟
قال : لست أعرف هذا المعري ،،، غير أني شِمْت في قوله حبا لشخصي ورجولتي وسمو روحي ، وكأنه أحب أن يراني غير أن الزمان كان ولا زال يفرق بين الحبيب وحبيبه .
ولقد اختلس الهيئة والفكرة ، وقد غفرنا له لحسن كلامه وروعة النظم .
قالت : ما أكرمك ،،، وما أعذب قولك .
قالت مارية : أيضا هناك قول للمعري ، يُشام من خلاله العنترية المعروفة بأبي المغلس ، إذ قال :
أفوق البدر يوضع لي مهاد **** أم الجوزاء تحت يدي وسـاد
قنعت فخلت أن النجم دوني **** وسيان التقنع والجهــــاد
رويدك أيها العاوي ورائـي **** لتخبرني : متى نطق الجماد
أأخمل والنباهة فيّ لفـــظ **** وأقتر والقناعة لي عتــاد
ـــــــــــــــ
وفي المقابل قولك يا عنترة على الوافر :
إذا جحد الجميلَ بنو قـُــراد **** وجازى بالقبيح بنوا زيــاد
فهم سادات عبس أين حلــّوا **** كما زعموا ، وفرسان البلاد
ولا عيب عليّ ولا مــــلام **** إذا أصلحتُ حالي بالفســاد
فإن النار تُضرم في جمـــاد **** إذا ما الصخر كرّ على الزناد
ويرجى الوصل بعد الهجر حينا **** كما يرجى الدّنوّ من البِعـاد
ـــــــــــــــ
ورائعتك الأخرى وقد استفتحتها بالقاسية عبلة ، إذ تعاتبها ثم تفخر بقولك على الوافر :
ألا يا عبلُ ضَيَّعْتِ العهــودا **** وأمسى حبُكِ الماضي صدودا
وما زال الشباب ولا اكتهلنـا **** ولا أبلى الزمان لنا جديــدا
وما زالت صوارمنا حِــدَادا **** تقُدّ بها أناملنا الحَديـــدا
سلي عنا الفزاريين لمّـــا **** شفينا من فوارسها الكبـودا
وخلّينا نساءهم حَيَـــارى **** قبيل الصبح يلطمن الخـدودا
ملأنا سائر الأقطار خوفــا **** فأضحى العالمون لنا عبـيـدا
وجاوزنا الثريا في علاهــا **** ولم نترك لقاصدنا وفـــودا
إذا بلغ الفِطام لنا صبـــيّ **** تخرّ له أعادينا سجـــودا
فمن يقصد بداهية إلينـــا **** يرى منا جبابرة أُسُـــودا
ويوم البذل نُعطي ما ملكنـا **** ونملأ الأرض إحسانا وجودا
فهل من يبلغ النعمان عنـا **** مقالا سوف يبلغه رشيـــدا
إذا عادت بنو الأعاجم تهوي **** وقد ولّت ونكّسَت البنــودا
ــــــــــــــ
أيها الفارس ،،، ما الذي يجمع بينك وبين الرهين المعري ؟ والله لو عاد الزمان بنا إلى الفراعنة لكدنا نفسق ونؤمن بتناسخ الأرواح ،،، من منكم تفجّر من صاحبه ، كالحجر تفجّر منه الينبوع ؟
والله لكأن بعض أبياته سبقت فنطقت بها ، والبعض الآخر أُجِّلت فنطق بها ،،، أأنت هو أم هو أنت ؟
قال عنترة : بل هو تفجر مني ، إذ راعه قولي فحذا حذوي ،،، أليس كذلك يا مينا ؟
قالت : أنت يا عنترة عانيت الأمرّين ، بلونك مرة ، وبأمك أخرى ، ثم استيداعك أمر الرعي والحلب والصر .
وذاك المعري ، اعتلّ وهو طفل لم يجاوز الرابعة ، علةّ الجدري ، فما أبلّ منها حتى عمِي ،،، ثم مات والده ، فصار في حلك على حلك مهيض الجناح مكسور الخاطر ، تتشظّى من حوله الأماني وتتفسّق الرغبات والرؤى ،،، وما اخلولق له ضوء ما دام حيا ، إلى أن رقّ عظمه وبلي جلده وأسلم روحه بارئها .
فكان لا بد أن يرى نفسه فيك ويسري على منهجك ، ما دام كريم الطرفين كمثلك أيها الفارس ومثل أرومتك .
قال عنترة : حسبكِ يا فتاة ، فإني رقيق القلب ولا أريد أن أبكي فأرسل شئون[1] العين .
قالت مينا : بربك يا مسك الرجال ، أطربني وأنشدني ( إذا كان دمعي ) :
قال عنترة لبيكِ أيتها المرأة ثم أنشد على الطويل :
إذا كان دمعي شاهدي كيف أجحد **** ونار اشتياقي في الحشا تتوقـــــد
وهيهات يجفي ما أُكنّ من الهوى **** وثوب سقامي كل يوم يتجــــــدد
أُقاتل أشواقي بصبري تجلـــّدا **** وقلبي في قيد الغرام مُقيّـــــــد
إلى الله أشكو جور قومي وظلمهم **** إذا لم أجد خِلاّ على البعد يعضـــد
خليليّ أمسى حُبّ عبلـة قاتلــي **** وبأسي شديد والحسام مهنـــــّد
حرام عليّ النوم يا ابنة مالـــك **** ومَنْ فَرْشه جمر الغضا ، كيف يرقـد
سأندب حتى يعلم الطير أننـــي **** حزين ويرثي لي الحمام المغــــرّد
وألْثِمُ أرضا أنتِ فيها مقيمـــة **** لعل لهيبي من ثرى الأرض يبــــرد
رحلتِ وقلبي يا ابنة العمّ تائــه **** على أثر الأظعان للركب ينشـــــد
لئن يشمت الأعداء يا ابنة مالـك **** فإن ودادي مثلما كان يُعهــــــد
ــــــــــــــــ
هام الجميع برائعته هُيام مجنون ذاع صيته ،،،
ثم قال : من منكنّ تحفظ عني قولي ( لِمَنْ طَلَلٌ ) ؟ قالت مارية : أنا يا عنترة .
قال : إذن أنشديها نشيد متمكّن ، وترنّمي بها ترنم عاشق ندّ عنه ما ندّ ، مع إعطاء كل حرف حقوقه الكاملة من المخارج ،،، هيا يا مارية ؟
قالت على الطويل :
لِمَنْ طَلَلٌ بالرِّقْمَتَيْنِ شَجَانِـــــي **** وَعَاثَتْ بِهِ أيْدِي البِلَى فَحَكَانِي
وَقَفْتُ بِهِ والشَّوْقُ يَكْتُبُ أسْطُــراً **** بِأقْلامِ دَمْعِي في رُسُوْمِ جَنَانِي
أُسَائِلُهُ عَنْ عَبْلَةٍ ، فَأجَابَنِـــــي **** غُرَابٌ ، بِهِ مَا بِي مِنَ الهَيَمَانِ
يَنُوْحُ عَلَى إلْفٍ لَهُ ، وإذَا شَكَـــا **** شَكَا بِنَحِيْبٍ ، لا بِنُطْقِ لِسَـانِ
وَيَنْدُبُ مِنْ فَرْطِ الجَوَى فَأجَبْتُـــهُ **** بِحَسْرةِ قَلْبٍ دَائِمِ الخَفَقَــانِ
أَلاَ يا غُرَابَ البَيْنِ لَوْ كُنْتَ صَاحِبِـي **** قَطَعْنَا بِلاَدَ اللهِ بِالـــدَّوَرَانِ
عَسَى أنْ نَرَى مِنْ نَحْوِ عَبْلَةَ مَخْبَراً **** بِأيَّةِ أرْضٍ أوْ بِأيِّ مَكَـــانِ
وَقّدْ هَتَفَتْ في جُنْحِ لَيْلٍ حَمَامَــةٌ **** مُغَرِّدَةٌ تَشْكُوْ صُرُوْفَ زَمَــانِ
فَقُلْتُ لها : لَوْ كُنْتِ مِثْلِي حَزِيْنَــةً **** بَكَيْتِ بِدَمْعٍ زَائِدِ الهَمَـــلانِ
وَمَا كُنْتِ فِي دَوْحٍ تَمِيْسُ غُصُوْنُـهُ **** وَلا خُضِبَتْ رِجْلاكِ أحْمَرَ قَانِي
أيَا عَبْلَ لَوْ أنَّ الخَيَالَ يَزُوْرُنِـــي **** عَلَى كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً لَكَفَانِــي
لَئِنْ غِبْتِ عَنْ عَيْنَيَّ يا ابْنَةَ مَالِــكٍ **** فَشَخْصُكِ عِنْدِي ظَاهِرٌ لِعَيَانِي
غَدَاً تُصْبِحُ الأعْدَاءُ بَيْنَ بُيُوْتِكُـــمْ **** تَعَضَّ مِنَ الأحْزَانِ كُلَّ بَنَـانِ
فَلاَ تَحْسَبُوا أنَّ الجُيُوْشَ تَرُدُّنِــي **** إذَا جُلْتُ في أكْنَافِكُم بِحِصَانِـي
دَعُوا المَوْتَ يأتِيْنِي عَلَى أيِّ صُوَرَةٍ **** أتَى ، لأُرِيْهِ مَوْقِفِي وَطِعَانِـي
ــــــــــــــــــ
أطربت الفاتنة ورب البيت ،،، أطربت وأشجت ،،، فقلت لها : ما كل هذا النظم يا مارية ؟
قالت : أحبُّها لأني أشم فيها رائحة المرقسي ،،، .
قال عنترة : أتعنين الملك الضليل ؟
قالت : نعم ،،، قال : ذاك رجل بلغ من السمو ما بلغ ، ولن يُتَاخِم حدوده أحد .
قلت لمينا : ما قولك ؟
قالت : وهل أبقى الجاهلي لنا من مُتَرَدّم[2]ِ ؟ ،،، ولعل عنترة سمع لفظة جاهلي فلم تَرُق له. فقال : ماذا تعنين بجاهلي ؟ قلت له : إنها لا تقصد شيئاً .
قال : بل قصدت ،،، وإن النفس لتتوق لِسَبْي هذا البياض لأعود به إلى ديار بني عبس ، ثم أقول لهم : ضننتم عليّ بعبلة فدونكم هي واشبعوا بها ،،، فيكفيني هذا السبي .
قلت له والرعدة دبّت في الأوصال : السبي !!!! ما هذا يا شيخ العرب ويا سيد السادة ؟
قال : هي كلمة قُلتُها ،،، وأمر ليس من إنفاذه بُدّ .
نظرت إلى مينا بوجل وقلت لها : أرَحْتِ الآن ،،، أرحتِ ؟ كيف أدفع هذا الذي تخشاه الجنّ والإنس عن بُغيته ؟ ،،، ثم قلت لعنترة : إنها والله تقصد أن أدب الخطاب الجاهلى لا يعلوه خطاب إذ لم تبقِ لها قولا تستطيع هي قوله ،،، فقط والله .
ثم رفع سبابته كقطعة حطب فاحم ولوّح بها أن ( لا ) ،،، وقال : السبي ،،، ولا محيص عنه.
قلت : لن تفعل يا عنترة ،،، نظر إليّ نظرة ذئب تاق للحملان وقال : إمنعهن مني إن استطعت ،،، ولنتبارز بالأسياف ، فأيّنا عجّل في قتل صاحبه حاز السبي ومضى به .
قلت بتعجب : أيّنا عجّل في قتل صاحبه !!! والله إني لأعرف النتيجة ،،، ثم نظرت إلى البنتين وقلت لهن : أستحلفكنّ بالله ، إذا قُضي الأمر أن تُحْسِنّ الصلاة عليّ قبل ظعنكنّ .
قالت مينا : لا تقل هذا ،،، وكن بطلاً شجاعاً يشق غبار المعارك والحروب كَحَيْزوم[3] السفينة يمخر عباب الماء .
ثم جعلنَ يصفقن ويَهْتِفْنَ بأنشودة الحرب ( نحن الذين ، ونحن الذين ) ، وباسمي مرة أخرى !!! .
فقلت لهن : ماذا تفعلن ؟ قلن : نقوم بتشجيعك ! ،،، قلت : هِهْ ، سيّان ، فعلتن أم لا ،،،، هل تُدركنَ من هذا الأسود ؟
قلن : نعم ، عنترة !،،،،،،،، قلت : فقط عنترة وفقط !!! ؟؟؟ هذا الذي أغار على الجحافل والكتائب ، فما استطاعوا له محاصرة !!! ،،، أم أنكنّ تحسبونه كمثل الذي أجاد الرقص والغناء هذه الأيام مُدّعيا الرجولة وهي عليه أكذب من سراب ، حيث أيما امرأة تأنف من أن تُنْكحه نفسها ؟ إنه عنترة ،،، عنترة .
ثم تأهّب عنترة وقال :
أحِنّ إلى ضرب السيوف القواضب **** وأصبوا إلى طعن الرماح اللواعب
تطير رؤوس القوم تحت ظلامها **** وتنقضّ فيها كالنجوم الثواقـــب
ــــــــــــــــ
قلت : ويحنا ،،، لقد غلب عليه إرث الخئولة .
قالت مارية مشيرة إليّ :
وهذا الربيع لمن يحلّ بساحته **** أسدٌ إذا ما الحرب أبدت نابها .
ـــــــــــــــ
نظرت إليها وقلت لها زاجرا : أصمتي ،،، لا أريد أن أكون ربيعا ولا أسدا ، هل فهمتِ ؟
قال عنترة : ما هذا ؟؟؟ إنه قولي : وأنا الربيع لمن يحلّ بساحتي .
قالت مارية : أعلم ذلك ،،، غير أني تمثّلته مع بعض التبديل لدفع الحسين إلى النزال والسجال .
ثم وضعت يدي على خدي وجعلت أنظر إليهن باستغراب ، وهن يُحدقن بالمقل القواطع إليّ طورا ، وإلى عنترة مرة ، وإلى بعضهن تارة !!! وأنا لا أدري أيّهم أقتل لي ، عنترة أم المقل .
وفجأة ،،، ضحك عنترة حتى كاد أن يُغشى عليه ، وحتى ران علينا العجب العجاب .
فقلت له : علام تضحك ؟
قال : أنا رجل كريم ، شريف ، رجل أخلاق بالغة السمو ،،، كيف صَدّقت يا حسين أني أبغي السبي ، أو أخون الصحب ؟ والله ما هذه الأفعال من سجاياي أنا : عنترة بن شداد بن معاوية بن ذُهل بن قُراد المخزومي بن ربيعة بن غالب بن عبس .
وكيف يا رجل ، أقتل رجلا أحسن وأكرم وفادتي ، وأجلسني بين حِسَان كلهنّ أوانِس ؟
قلت وأنا أرسُف بأصفاد الخجل : عذراً ،،، ووالله إن لفظة ( عذرا ) لتضيق بما ينبعث من النفس ، وحسبك من النَظَرات قراءة .
قال وهو الكريم : لا بأس .
ـــــــــــــــــ
ثم تقاصر الليل وتوارت جحافل الظلام حتى بدأ بالإنسلاخ ،،، وحتى همّ كل في لَمِّ رحله لِيُقِلّ نفسه إلى أوْبته .
فقلت لعنترة : قل شيئا للحِسان قبل الرحيل ؟
قال : قلت في عبلة آنفا ، والآن هن الشاهدات ، وإذن فالتشبيب بعبلة غير أنه مُهدى لهن ، فأنشد على الطويل :
خليليّ ما أنساكما بل فداكمــا **** أبي وأبوها ، أين أين المُعرّج
فيا طالما مازحتُ فيها عبيلــة **** ومازحني فيها الغزال المُغَنَّج
أغنّ مليحُ الدّلّ أحورُ أكحــلٌ **** أزجُّ نقيّ الحدّ أبلجُ أدعـــجُ
لهُ حاجبٌ كالنُّون فوق جفونـه **** وثغر كزهر الأقحوان مُفَلّــجُ
ورِدْف لهُ ثِقْلٌ وخصر مُهَفْهَفٌ **** وخدٌّ به وردٌ ، وساقٌ خَدَلّــجُ
وبطنٌ كَطَيِّ السَّابِرِيّة ليّـــنٌ **** أقَبُّ لطيفٌ ضامر الكشحِ مُدْمَجُ
لهوتُ بها والليل أرْخى سُدُولهُ **** إلى أن بدا ضوءُ الصباح المُبلَّجُ
أراعي نجوم الليل وهي كأنهـا **** قواريرُ فيها زِئبقٌ يترجــرجُ
وتحتي منها ساعد فيه دُمْلُــجٌ **** مضيءٌ وفوقي آخرُ فيه دُمْلُجُ
ألا إنها خيرُ القصائد كلِّهـــا **** يُفَصّلُ منها كلُّ ثوب ويُنْسَـجُ
ـــــــــــــــــ
قلت : ألا إنها خير القصائد ،،، ألا إنها يفصّل منها كل ثوب وينسج ،،، ألا حق لمن قيلت فيها أن تفخر بحسنها إلى أبد الآبدين .
ثم نظرت إلى البنتين وقلت : ماذا فعلتنّ بعنترة ؟
ضحكن وقلن : لا شيء ،،، .
قال عنترة : طَلَبْتَ مني يا حسين إنشاد الحسان من شعري الكثير والكثير ، وأنتَ لم تقل شيئاً فلم لا تُسمعنا من نظمكَ ما تيسّر ؟
قلن بفم واحد : نعم ،،، هيا يا حسين .
قلتُ : وماذا أقول أمام هذا الفحل ؟
قلن : تلك التي نظمتها على الرّمّلْ ( يا زمان العشق ) .
قلت : ولكن ،،، قلن : ما من سماعها بُدّ .
قلت : لكنّ ذلك .
يا زمان العشق ( على الرَّمَل )
ــــــــــــــــ
في كَثيب جَالَ خِشْف كُلّمـــا **** بِتُّ أرثي عشق عيني للكـرى
أدعج في لَحْظه فَتْك القنـــا **** يال سُهدي من غزال قد هـوى
أحور في عينه سحر المهــا **** يرتعي في مهجتى كيف اشتهى
أحتسي لَوْعِي بليل مذ دنــا **** وَيْ كسمّ صار حُكما في الحشـا
رُبّ طرْف قد شجاني بالهوى **** بل ضَرِيْب من لماها قد هَمــى
أو رُضاب بلّل السنّ فـــلا **** من حُسَيْن يُرْتَجى رُشد النُّهــى
او نُحُور أسفَرت ، فيها البَـلا **** أستحي من نظرة منها ، أنــا
يا مُصابي قد تمادت ها هنـا **** مُقْلة في هُدْبها بَعْث الـــرّدى
أيّ ريح يا فتاتي أنتشـــي **** أم لقتلي تستري عنّي الطُلــى
تستبيحي ما يُجافي عاشقــا **** تلك بلْوى ، يال أقسى مـا أرى
قلت شعرا من لَدُنّي عندمــا **** أبْدَعَتْ سحرا فأوْهَت ما بقــى
أصْدَقَتْ نفسي حروفا ، بثّهـا **** من لساني حيث أبلى مـا روى
يال بطش أوعدتني حالمـــا **** تختلي بي ، وَيْ كَوحشٍ إذ خلا
لم يكن في وصلها حب بـدى **** يا زمان العشق ليلا يُبْتغـــى
ــــــــ حسين الطلاع ـــــــــ
أرجو أن تنال إعجاب المتذوّقة ، مع أنه تم حذف عدة أبيات منها لحاجة في نفسي .
ـــــــــــــــــــــــــ
ثم تلاشى عنترة في ذيل الليل ، حتى رجع تاريخا مسطورا ، وتلاشت البنتان مقفلات راجعات إلى حيث كنّ ، وأفقتُ وإذا بي وحيدا كعهدي بنفسي بين هذه الجدر وتحت هذا السقف ،،، فبعد هذه الحبكة الظريفة أقول ( هذا أنا ، وذاك عنترة ، وتَيْنك مينا ومارية ) .
أتمنى أن تنال الإعجاب ، فإنها رحلات بدون أجْوِزة[4] سفر .
هذا وبالله التوفيق
ــ انتهى ـــ
حسين الطلاع
2/نوفمبر/2008
المملكة العربية السعودية -الجبيل
[1] : الشئون هي الدموع .
[2] : المتردم هو إصلاح الشيء وتقويته ، وهو هنا بمعنى هل أبقى لنا كلاما نصلحه لنقوله ؟
[3] : الحيزوم مقدم السفينة الذي يشق الماء .
[4] : أجوزة جمع جواز سفر وهو الصحيح في اللفظ ، أما جوازات فمن الأخطاء الشائعة .