أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 5 من 5

الموضوع: سأظلُ لأحرسَ البقرات

  1. #1
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : May 2009
    العمر : 53
    المشاركات : 57
    المواضيع : 8
    الردود : 57
    المعدل اليومي : 0.01

    افتراضي سأظلُ لأحرسَ البقرات


    سأظلُ لأحرسَ البقرات
    وائل راشد

    مع بُزوغ ِأول ِشعاع ٍللشمس، كان َيمضي للسهول ِالمجاورة. يسوقُ القطيعَ إلى المراعي، شاعراً أنهُ ملك ٌفي مملكةٍ أركانها الريحُ والشجر، الترابُ والمطر. يمضي نهارهُ في رعايةِ القطيع. وعندَ الغروب، يعود ليأوي إلى غرفتهِ الطينيةِ الصغيرة.
    تجاوزتْ به السنون الأربعين. رجل ٌبملامح ٍ قاسيةٍ، ثيابه بالية، وقدماه تعودتا أن تكونا حرتين من أي ِنوع ٍمن الأحذية. أما شعرهُ فأجعدٌ وكثيفٌ ومهمل، لدرجةِ أنك تظن لدى روُيتهِ، بأن أسنانَ المشط ِلم تزرْ هذا الرأس منذُ أمدٍ بعيد. حتى أولاد القرية بازعاجاتهم اليومية كانوا أعز أصدقائه. باختصارٍ شديد كان دراج ، على رأي أهل القرية " رجل على بركة الله" .
    عاشَ في بيتِ المختار" الشيخ صالح"، من رباه صغيراً، بعد أن ماتت أمهُ وتركهُ أبوهً أمانة ً " في رقبته ِ"، بعد أن خرجَ معَ من خرجوا مكرهينَ إلى" سفر برلك ". وعلى الرغم ِمن أنَ المختار قد خصصَ له غرفة صغيرة ليعيشَ فيها، إلا أنهُ كان يفضلُ النومَ فوق أكوام التبن, أو على سطح ِغرفتهِ الطينية.
    استلقى دراج على العشب نظر مليا ًإلى السماء، ثم أغمضَ عينيهِ فراحت تدورُ في مخيلته عدة ُتساؤلات دونَ أن يجد َلها أي جواب. فهو يسمعُ أموراً عجز عن فهمها. لابد َمن جلبِ السلاح. الانكليز يتآمرون مع اليهود... اليهود يصلون إلى حيفا...اليهود يقتلون الأطفال والنساء... مجزرة في دير ياسين..
    راح يتخيل البيوت محروقة، وأصدقاءهُ الأطفال قتلى. دماؤهم على الطرقات، وأجسادهم الصغيرة ملقاة في كل مكان. نهضَ من غفوته، جمع القطيع وعادَ إلى القرية بعد أن أدركه ُالليل. وما أن وصلَ إلى القرية حتى اتجه إلى بيتِ المختار. دخل إلى المضافة واقترب من الشيخ صالح ، وباغته بسؤال مفاجئ.
    - " مين اليهود...." ؟.
    وهنا نظر َالشيخ صالح إلى دراج نظرة اهتمام بالغة. طلب منه الجلوس. فما كان منه إلا أن فعل.
    - اليهود رجال أتوا من مكان بعيد، يريدون أخذ أراضينا و ينهبوا خيراتها. رجال ليس لهم لا دين ولا أخلاق. يقتلون النساء والأطفال ولا يكترثون لأحد. هم مجموعة من القتلة هدفهم طردنا من بلادنا. نظر دراج إلى المختار وهو بحالة من الهلع:
    - وهل سيأخذون البقرات؟.
    - ابتسم المختار وقال: نعم هم يريدون كل شيء حتى البقرات؟.
    - صرخ دراج بانفعال:" لا لن أسمح لهم بأخذ البقرات ولو على جثتي".
    في تلك الليلة لم يغمض له جفن. أخذ عصا طويلة، ووقف َأمام الزريبة بدون حراك حتى الصباح . وفي اليوم التالي وصلت أخبار سقوط القرية المجاورة، ووصلتْ أنباء المجازر التي اُرتكبت فيها. فاليهود قتلوا كل من رأوه, وبدؤوا بالزحف نحو قرية الشيخ صالح .
    اجتمع الرجال في مضافة المختار حول جهاز الراديو الذي كان يبث، وبشكل متواصل أنباءً عن الجيوش العربية، التي هبتْ لنصرة فلسطين، وتأكيدات عربية بأن الموضوع لن يستغرق أكثر من أيام ٍمعدودة. ُطلبَ من الأهالي ترك بيوتهم حفاظاً على سلامتهم، وخوفاً من بطش وتنكيل عصابات اليهود ،أما الدول العربية المجاورة فقد ارسلت آلاف الشاحنات لنقل الناس إلى بر الأمان ، خارج الحدود .
    - "سامعين يا جماعة الجيش العربي راح يحمينا".
    علق رجل أخر: " هاي فلسطين يا عمي.... العرب ما بيتركونا لحالنا ".
    اردف ثالث: " يومين ...ثلاثة مقدور عليهن يا اخوان...".
    وبعد جدل طويل أجمع الأهالي على الرحيل، على أن يبق َمن يملك السلاح ليدافع عن القرية. عاد دراج مساءً. فشاهد الأهالي حازمين أمتعتهم ومستعدين للرحيل. فاتجه إلى الشيخ صالح وسأله باستغراب:
    - "لوين يا مختار".
    - سنترك القرية لعدة أيام، سنؤمن الأطفال والنساء عند الأقارب في حيفا، ثم نعود بالسلاح. اذهب إلى غرفتك واجلب حاجياتك . شعرَ دراج بأن صاعقة ًهوتْ على رأسه، ولأول مرة يعصي أمرا للشيخ صالح.
    " لا لن أرحل معكم". قالها بلهجة الواثق .
    شعر المختار بالمفاجأة لدى سماع دراج وقال له: لماذا لا تريد الرحيل؟.
    أجاب دراج: إن رحلتْ ستجوعُ البقرات. من سيطعمها إن رحلت؟. لقد قلت لي مرارا أن علي الاعتناء بها، ورفع عصا ًكانت بيده، ثم تابع حديثه:" انظر يا شيخ إلى هذه العصا، سأحطم بها وجه من يمس البقرات بسوء". سأدافع عنها حتى لو كلفني ذلك حياتي. ثم أمسك يد الشيخ صالح وأخذ يقبلها متوسلا ً: "أبوس ايدك يا مختار ...لاتخليهم يرحلوا.."
    من بعيد صرخ رجل: "هيا نذهب يا مختار قبل فوات الأوان. دعك من هذا المجنون، ودعنا نرحل قبل أن يموت أولادنا امام أعيننا".
    مضت القافلة التي لم يتأخر عنها أحد سوى دراج و بعض الرجال. راحت تختفي رويداً رويدا في الأفق ِالبعيد. أما دراج فقد ظَّلَ لساعاتٍ طويلةٍ يهذي بصوت سمعه كل من حوله:
    - المهم أن أحرسَ البقرات...المهم أن أحرسَ البقرات لحينِ عودةِ الشيخ صالح.

    8/12/1999

  2. #2
    الصورة الرمزية هيثم السليمان قلم مشارك
    تاريخ التسجيل : Feb 2009
    الدولة : سوريا _ العشارة
    العمر : 41
    المشاركات : 199
    المواضيع : 23
    الردود : 199
    المعدل اليومي : 0.04

    افتراضي

    وما زال دراج يحرس البقرات
    ألم مستمر , ومعاناة لا تنّفك جاثية على صدور الفلسطينين
    سرد متماسك , وتصوير دقيق نجح في إيصال الفكرة بسهولة ويسر
    شكراً لك

  3. #3
    الصورة الرمزية سعيدة الهاشمي قلم فعال
    تاريخ التسجيل : Sep 2008
    المشاركات : 1,346
    المواضيع : 10
    الردود : 1346
    المعدل اليومي : 0.24

    افتراضي

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    المبدع وائل راشد،

    دامت عقودا مريرة عوض أيام، دامت بسبب ضعفنا وتشتثنا وصمتنا، دامت ولازالت آلتها القذرة

    تحصد في كل يوم أرواح الأبرياء، تأتي على الأخضر واليابس، أعجبتني طريقة سردك السلسة

    وذكرتني القصة بصورة تلك المرأة التي تتمسك بجذع شجرة وتصرخ وتبكي رافضة ترك الشجرة

    هو قرر البقاء ليحرس البقرات، فما فعلنا نحن؟

    احترامي وتقديري.

  4. #4
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : May 2009
    العمر : 53
    المشاركات : 57
    المواضيع : 8
    الردود : 57
    المعدل اليومي : 0.01

    افتراضي

    الأستاذ الجميل هيثم السليمان أشكر مرورك الكريم على قصتي
    لك مني كل التقدير

  5. #5
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : May 2009
    العمر : 53
    المشاركات : 57
    المواضيع : 8
    الردود : 57
    المعدل اليومي : 0.01

    افتراضي

    الأستاذة سعيدة الهاشمي :
    حضورك البهي سيدتي يميز هذه الصفحة شكرا لمرورك العطر مع بالغ تقديري

المواضيع المتشابهه

  1. سأظل تحت قدميك
    بواسطة دينا الكيلاني في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 8
    آخر مشاركة: 03-06-2009, 10:09 PM
  2. ^سأظل أحبك ^ لـــ نور سمحان
    بواسطة سحر الليالي في المنتدى فُنُونٌ وَتَّصَامِيمُ
    مشاركات: 7
    آخر مشاركة: 04-06-2007, 12:31 AM
  3. سأظل أحبك
    بواسطة نور سمحان في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 36
    آخر مشاركة: 15-02-2007, 08:42 PM
  4. سأظل أغني للأوطان
    بواسطة هيثم العمري في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 8
    آخر مشاركة: 11-12-2006, 03:34 PM