هي محاولة سريعة في القصة القصيرة ...
و ..
أود أن أعرف رأيكم فيها ..
===
أسبلت الشمس رموش النور على مدينة القدس العتيقة ،
فروت كل أغصان الزيتون الأسيرة بطهور نور ،
و انثنت إلى ذاك الحي الصغير شمال المدينة الرافلة بثوب حزن مخضب بالدم ،
طرقت نسائم الصبح كل الأبواب فانطلق المقدسيون يعمرون مدينتهم بجد و دأب ..
و انطلق بين هؤلاء شاب يحمل وجها وسيما قسيما ،و عقلا راجحا ، و قلبا طاهرا .
===
اتخذ العم صالح مجلسه المعتاد على باب دكانه و عيناه تتابعان الغادي و الرائح ،
يلقي التحية على هذا و يسأل عن صحة ذاك ،
مر عليه الطبيب جمال فانعطف إليه يسلم عليه ،
و بينما هما في حديث عابر تعلقت عينا العم بشاب طويل القامة حنطي البشرة هادئ النظرات يعبر الطريق بخطو سريع واسع ،
فالتفت الطبيب إلى حيث نظر الشيخ ..
و قال العم : إنه طارق .. عجبا .. قد تغيرت عادات هذا الفتى ..
هز الطبيب رأسه بهدوء و اكتفى بالصمت بينما عقله يستعيد الصورة الماضية لطارق ،
كان مثال الشاب الملتزم المتفوق أنهى دراسته الثانوية و التحق بفرع الهندسة الكيميائية في جامعة القدس ،
و ما لبث أن تغير ..
كان تغيره غريبا على كل من عرفه ؛ غدا كثير الغياب عن رفاقه كثير الغياب عن منزله ،
يخرج من الفجر و يعود بعد منتصف الليل ، ما عادوا يجدونه معهم في صلاة الجماعة في المسجد ..
كل شيء فيه تغير إلا شيئا واحدا .. حرصه على دراسته .
عاد الطبيب يهز رأسه بهدوء و هو يقول : يا للأيام !
===
عبست الشمس ففرت السحب من أمامها لتسطع بكل غضبتها على حواجز المرور الصهيونية التي تسد عرض الطريق الرئيسي ،
و وقف الفلسطينيون و الغضب يملأ أعماقهم و قد تعطلت أعمالهم و مدارسهم .. كل ذلك بفضل التعنت الصهيوني .
و بينهم و قريبا من حاجز المرور وقف النقيب أدهم و عيناه تفوران بذاك الغضب الهائل الذي يثور في أعماقه ،
فجأة استحال كل الغضب إلى ذهول ،
هز رأسه ببطء لينفض عن نفسه دهشته و يقترب من المكان الذي وقف فيه ضابط صهيوني مع ابن أخي أدهم .. أجل .. ابن أخيه طارق يتحادثان ،
أنصت ليسمع و ليته ما سمع ..
- أجل يا حاييم .. لكن الأمر ليس سهلا .. أنت تطلب مني اختراق كل حرصهم و جلب أخبار العملية التخريبية القادمة
- و هل يمكنني أن أعتمد على غيرك ؟ أحضرها و ستجد المقابل الذي اعتدت مضاعفا .. كما أننا سنحظى بسهرة ........
و تنحى العم ..
تنحى الضابط الفلسطيني و قلبه يخفق لا يريد أن يصدق ..
طارق !! طارق يخونهم ؟
===
جلست الأم تعد الثواني و ترقب عودة ابنها بينما عيناها تختلسان النظرات إلى حجرة الجلوس
حيث اختلى زوجها بشقيقه و قد تجاوزت الساعة الثانية بعد منتصف الليل ،
جلست و القلق ينهش قلبها و عقلها يبحث عن تبرير لتأخر ابنها حتى ذاك الوقت ،
أفاقت من أفكارها على صوت الباب يفتح بهدوء ، اندفعت إليه هامسة : طارق ؟؟
اتسعت عينا الشاب و همس بقلق : أماه ؟!! ماذا هنالك ؟ عمي هنا ؟
كادت تجيب لولا جاء صوت الأب من الداخل منبئا بثورة غضب : طارق .. تعال هنا
منح الفتى ابتسامة مطمئنة لأمه و تمالك القلق الهادر في أعماقه ليدلف إلى الحجرة ،
بينما مكثت الأم قلقة تتحفز للتدخل إذا كان في الأمر شيء ضد ابنها ..
و فجأة ..
شق السكون صوت صفعة هائلة و الأب يهتف بكل الغضب : و خائن ؟
و لم تعد الأم تتمالك نفسها ..
قد أعلنت هذه الصفعة الحقيقة .. حقيقة الخيانة ..
خيانة الوطن .
===
عربد الغضب في صدر أبي طارق و هو يجد مخططا لمخابئ المجاهدين في القدس في جيب ابنه ،
أدرك أن نظرات الناس إلى ابنه كانت حقيقة ،
و أنه قد غفل عنه .. هو الوحيد الذي لم يعلم إلا آخر الأمر ،
دارت كل تلك الأفكار في رأسه بينما ابنه ينهض عن الأرض و يمسح خيط الدم الذي سال من زاوية فمه ،
ثم يطرق و الأفكار تنتهبه ..
تذكر الاحتقار في عيون كل من حوله ،
تذكر تهامس الجميع و نظراتهم تلتهمه .. بكل ازدراء ،
تذكر ابتعاد رفاقه عنه ،
و هاهو أبوه آمن بخيانته ،
اجتذب نفسه ليغادر الحجرة و صوت أبيه يلاحقه :
لن تغادر هذا البيت بعد اليوم ، و إن لم تنته عما تفعل سيكون موتك على يدي .. أتفهم ؟ خائن في بيتي ؟
هرعت الأم إلى ابنها ، رفع إليها عينين حزينتين تصدع لحزنهما قلبها ،
لكن عينيه بغتة برقتا بالسخرية و اللامبالاة و هو يستدير و ييمم نحو حجرته ثم يصفع بابها وراءه ..
و في قلب الأم صرخة تدوي .. ابنها ليس خائنا .. ليس كذلك .. ذاك المحال ..
إنه لا يستطيع أن يخون .. لا ..
===
و مر أسبوع كامل منع فيه طارق من مغادرة حجرته ..
أخوته انزووا جانبا خوفا من نظرات أبيهم الغاضبة ..
و الأب عامله بكل ازدراء و حنق رغم أنه لم يكد يصدق ..
أمه وحدها كان قلبها يغالط كل ما تراه ..
و ظلت تقنع نفسها رغم كل الأدلة أن ابنها ليس بخائن .. ليس بخائن أبدا ..
و في نهاية الأسبوع تبخر طارق ..
و انطلقوا يبحثون عنه .. أبوه و عمه و أخوته الفتيان ..
و مرت أسابيع .. القلق يذيب قلب الأم و الغضب يحرق أعصاب الأب و الأخوة حائرون ..
و كل من عرف الفتى يتحدث عنه و عن خيانته ..
و كهل يمر في الحارة كل يوم يطل على باب البيت من بعيد و تكتسي عيناه بابتسامة معزية .
===
- السلام عليكم .. كيف حالك يا أبا طارق ؟ ... هل يمكنني أن ألقاك الآن في بيتنا ؟
و عاد القلق يثور أكثر و أكثر في قلب الأم ..
بينما خرج الأب ليلقى الطبيب جمال و الذي كان صوته أثناء المحادثة الهاتفية حزينا أشبه بصوت .. الناعي .
===
- أهلا يا أبا طارق .. تفضل ..
- خيرا يا جمال .. أهنالك خطب ما ؟
ران الصمت على الطبيب للحظات و اكتست عيناه بالأسف ثم همس :
أنا آسف .. إنما ابنك .. حسنا .. إنه بالداخل ..
و هرع الأب إلى حيث أشار الطبيب ..
دفع باب الحجرة لتصطدم عيناه بابنته جمان تنحني على جسد سربله الدم ..
و تحيط كف أخيها بيديها بكل حنان
اعتدلت جمان و أطرقت بحزن ،
اقترب الأب و خفق قلبه يدوي في صدره حتى يكاد يشقه ،
و فتح الفتى عينيه ليطل منهما اعتذار عابق بالدمع ،
همس طارق : أبتي .. سامحني يا أبتي .. قد آلمتكم جميعا .. لكنني ..
و جاء صوت الطبيب قائلا : لا تعتذر يا طارق .. قد كنت بطلا بحق .. إن ابنك يا أبا طارق أحد أفراد المقاومة .. خدع اليهود و غرر بهم .. قد ظلمناه .. ما كان خائنا .. و ما خابت تربيتك فيه .. بارك الله فيك يا طارق .. بارك الله فيك ..
اندفع الأب يحتضن ابنه ..
و سالت دموع طارق و هو يدفن نفسه في صدر أبيه إثر أن افتقده زمنا طويلا ..
بينما أسرعت جمان تدعو أمها و أخوتها ..
و الأنفاس الأخيرة تذوي في صدر البطل .. طارق
===
و عادت الشمس تشرق من جديد ..
حملت بين ثنايا نورها نعي بطل بذل سعادته و أمنه و حياته في سبيل تراب وطنه ..
و لم يثنه ظلم لحق به عن الدرب الذي اختاره ..
فمضى عليه راضيا مرضيا .. و شاء الله أن يبرئه ..
فعرف كل من اتهموه ببطولته ..
ثم رحل تاركا وراءه قصة .. بطل .
كل الود
أختكم في الله
غموض