السَّاحِرَة
---------
يا الله ... كم أُحبُّ هذا المكانَ ، إنه مِن أجملِ الأماكنِ في مدينةِ دِمَشْقَ وأَحَبِّها إلى قَلبي ، بِمُجرَّدِ مروري فيهِ أشْعُرُ بارتياحٍ عجيبٍ .
كُنتُ أيامَ الجامعةِ أَجْعَلُهُ مِن طريقي أينما قَصَدْتُ ، فبَعْدَ أن أجتازَ بِناءَ جامعةِ دمشقَ القديمَ مخترِقاً أفواجَ الطَلَبةِ والمارَّةِ ، أَعْبُرُ إلى اليمينِ مُروراً بكُليةِ طِبِّ الأسنانِ والمَشْفى الوطنيِّ ، ثم أَنزِلُ مُنحدِراً بقُرب دارِ التوليدِ القديمةِ على كَتِفِ أحدِ روافدِ نهرِ بَرَدَى الذي تستندُ عليه بعضُ أشجارِ الكينا العِملاقةِ التي يُرْويها وتُظَلِّلُه ، ثُمّ أَنْعطِفُ يساراً باتِّجاه ذلك المكانِ الساحرِ بَيْنَ مُتْحَفِ دمشقَ الوطنيِّ والتَّكِيَّةِ السُّليمانيةِ بِمَسجدِها الأثريِّ العُثمانيِّ الطِّرازِ وباحَتِها البَهيَّةِ وبَحْرَتِها التي تُضْفي جوّاً نَديّاً مُنعِشاً بمائِها المتموِّجِ بحركةِ البَطِّ الجميل الذي يُرصِّعُ صَفْحَتَها ويُقاطِعُ بأَصواتِه خَريرَ الماءِ الذي ينسابُ مِنْها مؤَلِّفاً مع تغريدِ العصافيرِ مَعزوفةً تَزيدُ القلبَ بَهْجةً .
مكانٌ اتَّفَقَ فيهِ التاريخُ والجمالُ والطَّقْسُ اللطيفُ عَلى نَصْبِ شَرَكٍ يَخْلُبُ الألبابَ ويأسِرُ الأبصارَ جاعلينَ بَرَدَى طُعماً يقتادُ الفريسةَ إلى مِصْيَدَتهِم ذاهلةً بما حَوْلها .
لا أَنْسَى ذلك اليومَ الذي رأَيتُها فيه ....
كُلَّما ساقَتْني قَدَماي إلى تلك الجَنَّة ... تُعاوِدُني ذِكْراها .. كأنها ماثلةٌ أمامي بكُلِّ تفاصيلها .
كانَتْ تَقِفُ هُناكَ ... بجانبِ سور المُتحفِ بَيْن صاحباتِها ..... يا لَرَوعتِها وحُسنِها...
ما شاء الله ... تَبَارَكَ الخَلاَّقُ ... كم كانت جميلةً ... بل كم كان الجمالُ هِيَ .
عندما لَمَحْتُها ما عُدْتُ أستطيعُ تحويلَ نظري عَنْها .... تسمَّرْتُ لحَظاتٍ وحَبَسْتُ أنفاسي ... ثُمَّ أَخَذْتُ أخْطو نحوَها بخفةٍ وهدوءٍ ، وكُلما اقتَرَبْتُ منها أكثرَ مَلأَتْ عَلَيَّ نَفْسي أكثرَ فأكثرَ ... فأدنوَ أكثرَ... وأكثرَ ....
لَمْ تَكُن تَراني أو تَكترثُ بي بل بَدَتْ جَذْلَى بنَسيمِ الربيعِ الذي كان يداعِبُها فتتمايلَ مَعَه بِرِقَّةٍ في حُلَّتِها الخَضْراءِ الزاهيةِ وهِيَ تَتَفَيأُ بِدَوْحَةٍ تمَكَّنَتْ بعضُ خُيوطِ الشمسِ الذهبيةِ من التسللِ من بينِ الأوراقِ مُتَحايلةً على حَرَكةِ غُصونِها كُلَّما اعترضَتْ طَريقَها حتى ترتميَ وتذوبَ على تِلكَ الوَجَناتِ الحريريَّةِ التي انسَكَبَتْ فيها كُلُّ دِماءِ الكَوْنِ لِتُشْرقَ بَشَرَتُها الغَضَّةُ وكأَنها ياقوتةٌ تتألَّقُ في عِقْدٍ من الزُمُرُّد .
كان عِطرُها ناعِماً لَطيفاً عَبِقاً شَذِيّاًً لم يُكَدِّرْهُ شيئاً إلا رائحةُ الياسَمينةِ المتدلِّيةِ بجانبِها .. غَيْرَةً مِنها.
مِنْ أينَ لي طاقةٌ بِسِحْرِها المُحَلِّقِ بي في أَفضيةِ العِشْقِ والجَمالِ .
كيْفَ لي أنْ أُقاومَ ... وقَدْ .... سَحَرَتْني !!
وَجَدْتُني وقد بِتُّ مَسلوبَ الإرادةِ إلاّ في مَزيدٍ من الانغِماسِ في تِلكَ النَّشوةِ الغامِرةِ أَمُدُّ أصابِعي مِنْ فَوقِ السُّورِ بِبُطءٍ نَحْوَها .. وعَينايَ ترتَشِفانِ الرَّحيقَ مِنْ ثَغرِها العَذْبِ .
وأَمْسَكْتُ بِساقِها وهَمَمْتُ بقَطْفِها ... فإذا بوَخْزَةٍ مؤلِمَةٍ سَرَتْ في كُلِّ جَسَدي وأيقَظَتْني ..
بقَطْرَةِ دَمٍ .. وابتِسَامَة .