إشراقة الطين ..
( مسرحية )
بهجت الرشيد
المشهد الأول
المسرح أرض ترابية .. تنسحب منها خيوط الشمس رويداً رويداً .. أصوات رياح هادئة تُسمع بين الفينة والأخرى ..
يتوسط المسرح شخص في العشرينيات من العمر ، جالس وقد أسند ركبتيه إلى الأرض .. يبدو عليه التوتر والإرهاق ..
يمسك قبضة من تراب .. ينثرها ..
ـ من التراب إلى التراب .. وماذا بعد ؟
يقولون إن وراء هذا الجدار المنظور روعة الجمال أو اقتحام الأهوال ..
ويقول البعض أن لا شيء وراءه غير تلاشٍ لهذا الجسد الفاني ..
ويقول آخرون أن لا شيء سوى دورة متعاقبة لأرواحنا في ذوات الأشياء ..
أهي حقاً حياتنا الدنيا نحيا ونلعب ونعبث ولا شيء .. أم أن هناك وراء الجدار المنظور بعداً آخر ينتظرنا ..
قبضة أخرى من التراب ينثرها ..
ـ من التراب إلى التراب .. وماذا بعد ؟
يقوم من جلوسه بتثاقل .. يمشي وقدماه تزحفان في التراب محدثة غباراً بسيطاً .. يهمهم بصوت مرتفع ..
ـ لقد رأيته يترنح حاملاً كأسه وهو يؤكد لي أن لا شيء بعد .. لا شيء .. سوى كأس نرتشفها وغانية نراقصها .. ليالٍ حمراء أو سوداء .. لا فرق .. لأن لا شيء بعد .. المهم أن تكون ليلة مترعة بالكؤوس .. سهر طويل ونوم عميق ..
كان متأكداً .. قال وهو يقدم لي كأساً :
ـ إشرب ولا تتعب رأسك الصغير بهذا السؤال الكبير .. إشرب وستختفي عندك معالم الأشياء وتغدو في عالم آخر ..
لكنه ما برح حتى ناقض نفسه ، رأيته .. نعم رأيته وقد ابتعد عني يهمس إلى كأسه في كآبة موحشة :
ـ أي نشوة عابرة تبعثها وأي هذيان ؟
عالم آخر .. ها .. مليء بالتناقضات والأوهام .. يسلبك إرادتك وعقلك .. عالم ما إن يعطيك نشوة عابرة حتى يسرق منك طمأنينتك .. إنه ليس كهذا العالم الذي نعيشه ، بل فوهة فاغرة فاها إلى الجحيم .. إلى اللاقرار .. تخال نفسك أنك ستلامس القعر فإذا جحيم آخر أبوابه لك .. يجعلك تهرب من كأس إلى كأس ومن حضن آثم إلى حضن آثم ..
حينها ستغدو لوحة سوداء لا معالم لها ولا ألوان ..
لا معالم ولا ألوان ..
فيرجع الصدى ..
لا معالم ولا ألوان ..
ـ من التراب إلى التراب .. وماذا بعد ؟ ( يصيح ) ..
يتجه إلى الجمهور فيحدثهم ..
ـ لقد دخلت عليه في مكتبه ، فهالني ما رأيت .. رجل جاوز الخمسين ، تعلوه السكينة والهدوء .. وسط بحر من الكتب والأوراق .. لقد قال لي هو الآخر وأكد وهو يشير إلى كتبه وأوراقه وأبحاثه :
ـ أنا عالم من علماء الطبيعة ، قضيت عمري في اكتشاف مكنوناتها وأسرارها ، وأقول بكل حزم وجزم أن لا شيء بعد ..
هذه الطبيعة الجبارة .. هذه الماكنة العملاقة هي التي تصنعنا وتقذفنا في خضم الحياة ، ثم تسحقنا كفيل يسحق نملة بائسة بأرجله الغليظة .. ليس وراء هذه الطبيعة شيء .. ليس هناك بعد .. إنها عقولنا القاصرة هي التي اخترعت الميتافيزيقيا .. قوة الطبيعة القاهرة هي التي تهب وتمنع .. كل شيء يخلق كل شيء .. سلسلة من الأحداث تولد نفسها وتقضي على بعضها ..
لا شيء بعد .. كل ما يحدث أن خلايا أجسادنا تنتهي ، تستنزف كل طاقاتها ، فنموت ونصير تراباً .. ولا شيء بعد التراب .. لا شيء ..
كان متأكداً ، وأصدقكم القول لقد تأثرت به وكدت أن اقنع بما قال ، لكني رأيته .. نعم وهالني ما رأيت .. رمى بعض أوراقه ومزق بعضها ، ثم خفض رأسه يخاطبني بصوته الأجش القلق العميق ..
ـ أربعين سنة وأنا أحمل عقيدتي هذه .. أربعين سنة أريد أن أقنع نفسي بها .. أبحث عن أشلائي الممزقة هنا وهناك .. أحاول جمع ذاتي التي تناثرت يوم اخترت هذا الطريق .. إن روحي في قلق عميق ..
روحي !
وهل أنا مؤمن بها حقاً ؟
لا أدري .. لكني كلما فررت منها أراني أفرّ إليها .. شيء ما في دواخلي يريد أن ينطلق .. يسمو .. نصحوني بـ ( اليوغا ) فما نفع .. بالتأمل الصوفي فما ازددت إلا شقاءً ..
ذات يوم حطم طفل صغير عالم الطبيعة الكبير هذ ، وهو يتحدث بفطرته البريئة عن ... رب العالمين ...
أشفقت عليه أول الأمر ، قلت مسكين هذا الصبي .. كم حشروا في رأسه من خرافات ؟
ولكن بدا لي الأمر كأني أنعنى نفسي إلى نفسي ..
كيف لذلك الفم الصغير الذي ما انفك يبكي الحليب يهزّ فكر عالم متبحر إلا إذا كان وراءه ثمة قوة ما .. قوة قادرة ...
آه ..
بدأ يصيح ..
ـ فأين أذهب بمعادلاتي .. حساباتي .. منطقي .. تجاربي .. مختبراتي .. ترى هل يستطيع صبي صغير أن يهدم أربعين سنة بفطرته البريئة ؟
هل يستطيع ؟
طردني .. نعم طردني وقال إني أفسدت عليه يومه ..
ـ من التراب إلى التراب .. وماذا بعد ؟
ثم رأيته .. ذلك الفتى وحركاته الراقصة ، وكل جزء من جسمه معدل على الموضة .. يستمع إلى الأغاني عن طريق سماعة الأذن ..
لم أفهم منه شيئاً .. كان كالبرق حركاته ، لا تلتقط واحدة إلا وتفلت إلى أخرى ، كان يقول أنا أصلي وأصوم ، ثم اسمعني من ( موبايله ) مقطعاً من القرآن بصوت عبدالباسط ، ثم ما لبث أن عاد كما كان ..
لم أفهم منه شيئاً .. قال إن الوقت لا زال مبكراً ، وأنه لا يستطيع أن يستيقظ لصلاة الفجر مثل أبيه ، وأن أخته تصلي أيضاً لكنها لم تلتزم الحجاب إلى الآن ، ربما عندما تبلغ الثلاثين أو الأربعين .. لا أدري ..
لم أفهم منه شيئاً .. عاد إلى حركاته الراقصة وهو لا يزال يستمع إلى الغناء ، قال إنه يستمتع ولا زال الوقت مبكراً ، لكني فهمت منه أن أمه محجبة ، لا يمكن أن ترى شعرة من رأسها ، وأنها تقية بكل المعايير ..
آهٍ ثم آه .. ليس ثانية .. كان يقولها متحسراً متشوقاً .. لقد مزقتِ قلبي أيتها الحلوة .
ومع ذلك كان يقول إنه يصلي ، وأن ( موبايله ) يحتوي على ختمة كاملة لعبدالباسط ..
لم أفهم منه شيئاً ..
بينما رأيت الآخر في مكتبه يلعن الدنيا وهو يضغط بعصبية على أزرار ( اللاب توب ) .. ويتكلم من بين أسنانه قائلاً :
ـ اللعنة على هذه السوق التعيسة ، ألا يمكن للأسهم أن تستقر على حال .. سنة كاملة .. سنة كاملة وأرباح الشركة لا تتعدى الثلاثين بالمائة ؟ وذلك الجشع يريد أن يشتري البضاعة بربح ستة ملايين فقط .. ها .. أيظنني غبي أحمق ؟ يريد أن يصعد على أكتافي ذلك البوم ، وجه الشؤم .. كلما رآني سلم عليّ بخبث .. ألا يعلم أني أرصد له كل حركة من حركاته الخبيثة ؟ وهل أتيت بهذا المال من بيت أبيه أو أمه .. لا .. إنما أوتيته على علم عندي .. إنه من تعبي وجهدي ..
ثم رنّ هاتفه .. تكلم بعصبية ، ثم أغلقه بعنف ..
ـ أيتام .. أرامل .. ها ..
كان يقولها بانزعاج شديد .
ـ هل أنا الذي يتّمتهم أو رملّتهم ؟ ما دخلي .. هل عليّ أن ارزق الناس جميعاً .. وماذا أملك .. ملايين ؟ ليست ربع ما يملكه أبو ( الدنيا ) صاحب الشركات الستة والذي يمتلك ربع البورصة .. ماذا أملك ؟ لا شيء .. لا شيء .. فليذهب وأعماله الخيرية إلى الجحيم ..
وبدأ يتذمر من شخص ، أظن من ابنه .. ويعيب عليه أنه متعلق بأوراقه الصفراء البالية ، وأنه وجّهه إلى أن يعمل معه في البورصة بعمل مستقل وحساب جديد ، لكنه رفض ..
ثم قال :
الذي لا يملك قرشاً لا يساوي قرشاً .. جيل تعبان ..
ثم رنّ هاتفه مرة أخرى ..
بدأ يتكلم بعصبية ..
ـ تكلم .. تكلم .. بسرعة فليس لدي متسع من الوقت ..
أنصت قليلاً ..
ـ ماذا ؟ كيف ؟ مستحيل .. لا .. لا .. أبداً .. أنا الآن أتابع الأسعار وكل شيء على حاله .. كل شيء حسب ما خططنا له ..
مستحيل .. هل راجعت الحسابات .. أننا نمتلك أرصدة كافية في المصرف الثاني ..
هل .. تقول .. خسر ...
خسرنا كل شيء ..
سقط الهاتف من يده .. غطى وجهه بكفيه وهو يقول :
ـ ضاع كل شيء .. ضاع كل شيء ..
يصنع بأصابعه صورة مسدس ، يقربه من رأسه وهو يقول :
فتح درج مكتبه .. أخرج مسدساً ..
طاق ..
انتحر ..
ستار
المشهد الثاني
غرفة صغيرة ، رمادية الجدران ، ليس فيها أثاث ولا زينة سوى سجادة حمراء .. نافذة صغير يتسلل منها الضوء .. الجو هادئ وساكن ..
صفوف منظمة للصلاة .. الإمام يلبس عباءة بيضاء ، يقف تحت النافذة ..
من الجهة المقابلة للجمهور باب .. يفتحه شخص بارتباك وتهيّب .. يداه ترتجفان على قبضته .. يأخذ نفساً طويلاً .. رجلاه تكادان غير قادرتين على حمله .. يهرع إلى الخارج .. يُسمع صوته :
ـ اللهم إن كنت تريد لي الدخول فامنحني القوة ..
يفتح الباب ثانية .. يدخل ..
يقترب من الصفوف بروية .. يقف في الصف الثالث .. يسجد ..
ينهي الصلاة .. يقوم ملتفتاً إلى الجمهور يخاطبهم في حالة من الاندهاش ..
ـ إنه الحلم .. نعم والله إنه الحلم .. كنت هنا .. في نفس الموقف .. كنا جميعاً في صفوف ، وأنا في الصف الثالث ، لم أكن أعرف أحداً منهم ، كنا ننحني على نحو منتظم فتلامس جباهنا الأرض ، وكان الجو هادئاً .. إنه الحلم !
ـ أين الذي كان يسأل ( يلتفت باحثاً عنه ) أين ذهب ؟
للجمهور ثانية :
ـ كقطرات الماء الصافي انحدر في الحلق المحترق لرجل قارب الموت من الظمأ .. ظمأ الشك والحيرة .. وحلق محترق هو حلقي أنا .. أستاذ الرياضيات الكبير ، الذي جادل وناقش .. وحمل إلحاده على ظهره لعشر سنوات .. يبحث منقباً عن نفس السؤال الذي كان يطرحه ذلك الشاب ..
يظهر الشاب من جانب المسرح .. يلتفت إليه .. يخاطبه بحرقة ..
ـ تعيساً عشتُ رغم كل الرفاهية المتوفرة .. بلا هدف .. روحي مسكونة بالظلام .. تتمرغ في أوحال المادة .. لكني ما برحت أسأل نفسي وأسأل .. عشر سنوات وذاك التساؤل الكبير يؤرق عقلي وروحي في آن .. من أين وإلى أين ؟ لم أملك الإجابة حينها إلى أن وصلت تلك اللحظة الفاصلة .. الفاصلة بين حكاية طويلة على طريق الشوك والتخبط ، وبين حكاية الإزهار والانبثاق .. العتمة والنور .. القعر والقمة ..
أبداً لن أنسى تلك اللحظة .. اللحظة التي نطقت بها بالشهادة لأول مرة ، لقد كانت بالنسبة إليّ اللحظة الأصعب في حياتي ، ولكنها الأكثر قوة وتحرراً ..
هل تريد الإجابة ؟
هل كنت تسأل عن ماذا بعد ؟
خذه .. أمسك به ..
يخرج من جيبه كتاباً صغيراً ..
ـ إنه هو من يملك الإجابة .. من يعرفك أكثر من نفسك .. ولقد رأيت فيه وقرأت أعجب ما رأيت وقرأت ..
للجمهور ..
ـ قد أسرني بقوة ، وتملّك قلبي ، وجعلني أستسلم لله ، دفعني إلى اللحظة القصوى ، حيث يتبدّى للإنسان أنه يقف بمفرده أمام خالقه .. يجيب عن تساؤلاته .. يجادله .. ينتقده .. يتحداه .. كقطرات الماء الصافي انحدر كلماته في الحلق المحترق لرجل قارب الموت من الظمأ !
وماذا تظن !
أنّ عندك أسئلة حيرت من قابلت لا يستطيع هو أن يجيبك عنه ؟
كلا يا أخي .. كلا .. فذلك وهم كاذب ..
فقد كان يسبقني دوماً في تفكيري ، وكان يخاطب تساؤلاتي .. وفي كل ليلة كنت أضع أسئلتي واعتراضاتي ، أكتشف عنده الإجابة في اليوم التالي .. لقد قابلت نفسي وجهاً لوجه في صفحاته ..
إنه هو .. من يستطيع أن يجيبك ..
يناوله الكتاب .. يأخذه .. يتأمله .. تذرف عيناه ..
ـ أحقاً سأجد الإجابة هنا .. وترتاح روحي إلى الأبد ؟
ـ هو ذا أنت وهو .. أتركما .. وأمضي في دربي !
يغادر المسرح وهو يتمتم :
ـ يا رب إذا ما جنحتُ مرة ثانية نحو الكفر بك في حياتي ، اللهم أهلكني قبل ذلك وخلصني من هذه الحياة . اللهم إني لا أطيق العيش ولو ليوم واحد من غير الإيمان بك .
ـ أحقاً .. وترتاح روحي إلى الأبد ؟
صوته قادم من الخارج ..
ـ هو ذا أنت وهو !
ستار