أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 7 من 7

الموضوع: أي بُنيّ 3...

  1. #1
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : Oct 2022
    المشاركات : 26
    المواضيع : 7
    الردود : 26
    المعدل اليومي : 0.05

    افتراضي أي بُنيّ 3...

    أي بُنيّ، هأنذا عائدٌ إليك ببعضِ حديثٍ سطّرتهُ على الشيبةِ التجاربْ، وملأتْ منه الدنيا أكياساً من العجائبْ، وقد عرفتَ العَجَبَ في كلّ خلقٍ خرج من بينِ الصُّلْبِ والتّرائبْ...
    أي بنيّ، إن من مَقُولِ العرب أنّ مَنْ سابَقَ الدّهر كَبَا ألْفَ كَبْوة، وعليه نزيد أن من خَفّ لسانُه هَفَا أسوأ هفْوة،فإن أطلقته بلا عنان فهو لكَ نَجْوَة، وإن أحْكَمْتَ مَقادَتَهُ فهو لك عِزْوَة وثروة...
    وبعد، فاللسانُ جارحةٌ ذات سطوةٍ وسلطان في الاجتماع البشري، وهو إلى جانب ذلك مصدرُ رهبة ومَبعث دهشة إذا أسْمَعَكَ مُترجِمًا أسرار الخاطر وبواطن النفوس بحُسن بيان، مُجيداً انتخاب اللفظ وانتقاء العبارة، ساحرًا الأسماع، فاتنًا الألباب حتى تُسْتَمال، فتستسلم للقول صدقًا كان أو زيْفًا؛ وإن كلَّ كلامٍ أُحْكِمَتْ صَنعتُه وأُجيدَ سَبْكُه صارَ كالدّينار مُتْقَنِ التزييف، يصعُبُ رَوْزُهُ وإطلاق الحُكْم فيه !
    هذا صدر الحديث أما عجُزُهُ فدَعْوَتُكَ إلى كبح جِماح هذه الجارِحة ما وسِعَك الأمر ولم تَدْعُكَ إلى إنطاقِها ضرورة مُلِحّة؛ فإنّي لم أرَ جارحة في الإنسان كاللسان ينقُص قدْرُها كلما امتدّ عملها في الزّمن، ويكثُرُ غلطها كلما ادّعتْ لنفسها النطق بالصّواب، واللسان قليلُهُ كثيرٌ ومصلحَة، وكثيرُه قليلٌ ومَفْضَحَة، وقد أُفسدَ القول حتى اُحمد الصّممُ...
    اعلم يا بُنيّ أنّ الصّمت في موضِعه لعلّه كان أنفَعَ لك من إبداء الحكمة في غير موضعها، فتَحَيّن كلّ فرصة تجودُ عليك بالصّمت والإنصات لحواسّك وصوتِ سِرِّكَ ومخبوءِ خاطِرِك، ولا تعتبِرَنّ صمْتَك عِيًّا ولا رهبةً ولا قلّة رجاحة عقلٍ أو عجْزا عن الإعراب والإبلاغ عمّا في النفس لغةً أو رمزًا، ولكن اعتبرْهُ زُهدًا في اللّغط الطافح على الآذان صباحَ مساءَ، وفي ضجيج قلّ نفعُه وإن أُحسِن صُنعُه؛ وإنّك، يا رعاكَ الله، لو عرفتَ فضائحَ المتكلّمين في كلّ خضراء، وهذْرَ الألسنة بالخُطب البتراء، لأطبقْتَ فكّيكَ واعتصمتَ بحبل قولِ القائل :
    وجَدْتُ سُكوتي متجرًا فلزمتُهُ // إذا لم أجدْ ربحًا فلستُ بِخاسِرِ
    وما الصّمْتُ إلاّ في الرِّجالِ مُتاجِرٌ // وتاجرُهُ يعلو على كلّ تاجِرِ
    وبعد، فقد زادَ صوتُنا بكثرة الصناعة في الكلام حتى جاوزنا به ذروة السّنام، وظللنا مجرّد كائنات متكلّمة، قائلة، صارخة، منتفخة حدّ التخمة، فأغرقنا به هذا البلدْ، كالقطّ يحكي انتفاخًا صَوْلة الأسدْ، وكلُّ عبقريتنا مختصرة في "قال فلان" و"حدّث علاّن" و"خطب في الناس فلان" و " أعلن علاّن"...وهلمّ جرّا. وإننا حقا _ شئنا أو أبينا_ ظواهر صوتية في مجتمع رأسُ مالِه أقوالٌ، يجهل الفِعلَ والفاعل _ وإن احتفى بهما في علم النحو _ والصُّنعَ والصّانع، بل إن أقوامًا إذا عملوا جاهدين وأتوا بالآلة، انبرينا نحن لإعداد القصائد فيها وفوضى القيلِ والقالة، فغدونا بحكم العادة أسيادا في طحن الهواء والعلفْ، وإذا أتينا بفعلٍ ففعل الثور في مستودع الخزَفْ ! والحاصل أننا لسانٌ منفجرْ، وعقلٌ محتضَرْ، وبطنٌ مختمِرْ، ويدٌ تنتظر...
    فالصّمتَ الصّمتَ يا بُنيّ، فهو وقارٌ وإدامةٌ للتأمّل والتفكّر والنّظر، وهو شرفٌ للإنسان وجُنّةٌ واحترازٌ، إذ لا يُدْرى مِن خلفه جهلُ الجاهل، ولا يُمتحنُ به عِلمُ العالِم، فيُحسن النّاس الظن بك ما لم تتفوّه بكلام؛ ولا تتجاوزنَّ من بناتِ الشّفاه ما يزيد على حاجتك، فإنّ شدّة اهتزاز الأرض يُسقِطُ البُنيان، وفرط اهتزاز الفكّين يُسقط الأسنان...

  2. #2
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,150
    المواضيع : 318
    الردود : 21150
    المعدل اليومي : 4.94

    افتراضي

    بورك هذا القلم القافز إلى القلب قفزا
    تمتلك قلما يتفوق بمضمونه ، جديرا بتصفحه مرارا لتقديمه لمفردات صيغت بغاية الإتقان
    والبلاغة وصورا شاعرية رائعة رسمت بمداد الإبداع وروعة الفكر الحكمة والموعظة بكلمات منتقاه بعناية فائقة.
    أب فيلسوف يحمل رؤية الرجل الذي عرك الحياة وعركته يرتكز على ثوابت قيم الدين الحنيف
    ويحمل بين جنبيه قلب إنسان.
    لا حرمنا الله حرفك البارع في التعبير عن المعاني ببيان وبلاغة تحسب لك
    سلمت ودام نبض قلمك المدهش إبداعا.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

    همسة: نتمنى أن يكون لك ردا على من اهتم بالقراءة لك.
    ولك تحياتي وتقديري.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  3. #3
    الصورة الرمزية ناريمان الشريف أديبة
    تاريخ التسجيل : Mar 2009
    الدولة : في بلاد ٍ الموت فيها معجون بالحياة
    العمر : 65
    المشاركات : 1,387
    المواضيع : 61
    الردود : 1387
    المعدل اليومي : 0.25

    افتراضي

    خلتك من أحفاد مصطفى صادق الرافعي
    لغة عالية وفكرة نبيلة ووصايا بليغة
    ما أروعك !!
    يسرني أن أقرأ ما يخطه قلمك
    تحية وتقدير ... ناريمان

  4. #4
    قلم فعال
    تاريخ التسجيل : May 2016
    المشاركات : 1,108
    المواضيع : 31
    الردود : 1108
    المعدل اليومي : 0.38

    Lightbulb

    ما أجملها من وصايا ..ودررنقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    صالحة لكل زمان تلكم العبرنقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    بوركت أستاذنا الفاضل..وشيخنا الجليل هكذا خيل لي، وأنا أقرأ هذا النص المبهرنقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعيالذي لا يأت به إلا من كان مدرسةوعلم.
    لك مني كل الشكر والتقدير. نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    دمت في حفظ الرحمن.نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  5. #5
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : Oct 2022
    المشاركات : 26
    المواضيع : 7
    الردود : 26
    المعدل اليومي : 0.05

    افتراضي

    أبدأ من الهمسة معتذرا عن الغياب... وإنه لمن دواعي السرور أن نجد من يقرأ تناشيرنا...
    لكم كل التقدير مشرفتنا الفاضلة
    وشكرا لكم على الدعم الدائم

  6. #6
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : Oct 2022
    المشاركات : 26
    المواضيع : 7
    الردود : 26
    المعدل اليومي : 0.05

    افتراضي

    أما سيدي الرافعي فشمس في السماء وأنا حصاة في الأرض... ولا يجمعنا إلا هذا اللقب...
    وإني من المعجبين بهذا العظيم ثقافة وأدبا وليتني حقا من أحفاده، ولكن هيهات...
    شكرا على هذا الإطراء والدعم الدائم...

  7. #7
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : Oct 2022
    المشاركات : 26
    المواضيع : 7
    الردود : 26
    المعدل اليومي : 0.05

    افتراضي

    شكرا جزيلا على هذا الإطراء ، ولكني في الحادي والأربعين من العمر، ولكن الحياة تشيّب الناس قبل الأوان... وهذا من عجائبها...
    أحييك أديبتنا الفاضلة