الطير المعذب
يا أيُّها الطيرُ المعذَّبُ
لا فضاء ولا جناحْ
يا أيها المطرودُ
من فرح المواويل العتيقةِ
والأهازيج الملاحْ
فى جحركَ البالى
تعيش بلا قمرْ
تقتاتُ من صبرٍ عليلْ
وتلوك أوهام الصباحْ
قلعوكَ من روض الجمالِ
وبعثروكَ
وأسلموك إلى سلاطين العدَمْ
فى هذه الحفر الذميمةِ أسكنوكْ
وتعاهدوا دوماً تظلُّ
بلا جناحٍ أو نغمْ
كى يقهروكْ
ذبحوا سلالتكَ العريقةَ
هشَّموا أعشاشكَ الحُبلى
وفى زنزانة النسيانِ
دهراً أهملوكْ
حرموك من كلِّ المفاتيحِ
المضيئةِ والطريقْ
سدُّوا عليكَ الليلَ
واستلَّوا السيوفَ
وقطعوكْ
واستبدلوك على المَدى
بالليل والغربانِ
والحدإِ العواهرْ
ناحت عليك الأرضُ والأشجارُ
وانتحبتْ عصافير البيادرْ
فى حقلك المفتونِ بالياقوتِ
والوجهِ الذَّهبْ
حطَّتْ رفوفُ البومِ
واعتلتْ المنابرْ
وتقاطرتْ زُمرُ الجرادِ
ومصمصت عَظمَ الأزاهرْ
يا أيها الطيرُ المكابرْ
فى قلبك الموجوعِ
قد سكنت بقايا الذكرياتْ
هى لم تزل عشقاً
وأحلاماً وأشجاناً وخاطرْ
هى لم تزل تحيا
وتكبر كالنخيلْ
كشقائق النعمانِ
والنهر المثابرْ
هى لم تزلْ
تحيا بهاتيكَ الربوعْ
وتخبىءُ الأفراحَ والمفتاحَ
والعرسَ السعيدْ
لم تنسَ يوماً ذلك الحلمَ
المُصفَّدَ بالجدارِ وبالحديدْ
يا أيها الطيرُ العنيدْ
ما زلتَ تصنع من رمادكَ قنبلةْ
وتُحيك من عَتمِ الكآبةِ ألفَ عيدْ
ما زلت تشدو رغم موجاتِ الأسى
لحناً فتياً لا يكلُّ ولا يبيدْ
ما زلت تنتظر الفوارسَ
تعبر الأزمانَ
تُشرق بالصوارمِ والوليدْ
يا طيرُ قد ولَّى
زمانُ الخيلِ والآسادِ
والسيفِ المجيدْ
هذى الخيولُ كما الخرافِ
بلا صهيلْ
تصبو لمرجٍ راقصٍ
وتُساقُ للغيلانِ
تسجدُ كالعبيدْ
لا خيرَ فى هذى الكراديسِ العليلةِ
تستلذُّ العيشَ فى مرعىً ذبيحْ
وتفوز بالكلأِ المُغمَّسِ
من دماء الراحلينَ
ومن عذاباتِ الجريحْ
يا أيها الطيرُ المصفَّدُ
فى بلاد الموت والظلماتِ
والوجه القبيحْ
يا صارخاً فى البيد والوديانِ
والسَّهب الفسيحْ
لن يسمعوكْ
هم فى ضجيجِ اللهوِ ما زالوا
وما زالوا
يَودُّونَ القضاءَ على محمدِ والمسيحْ
يا أيها الطيرُ الأبىُّ المُنتظرْ
باعوكَ فى سوق النخاسةِ
جَرَّدوكَ من القضية والحَجرْ
صلبوك فى كل المحافلِ
واستباحوا حُرمة التاريخ والأوطانِ
واعتنقوا مزاميرَ الغجرْ
كثعالبٍ ساروا بنعشكَ
يذرفون دموعهم
يتراقصون بوكرهم
ويُصفقونَ لربهم راعى البقرْ
يا أيها الطيرُ الجليلْ
فى بحرك الدَّوَّامِ
والليلِ الطويلْ
أنت المشاعلُ والدليلْ
أنت السفينةُ والشراعُ
وأنت نجمات السبيلْ
لمَلِمْ جراحكَ طائرى
ثم انطلقْ نحو الحنينْ
فهناك تنتظرُ المحبةُ والطُّلولْ
وانثرْ همومكَ للرياحِ
وكنْ جداول للعطاشِ
من البيادر والحقولْ
واجعلْ من الدمعاتِ
غدران الربا
ومن الجحورِ حدائقاً
تختال بالحنونِ والورد الأسيلْ
أنا واثقٌ ياطيرُ
أنك عائدٌ يوماً
على متن القدرْ
للعشِّ والأغصان والروض الجميلْ