انتظار المدير العام أشعل القلق . الكل يدقق في أوراقه ، ليتوارى بعيدا ، تحاشيا لسانه السليط إلا الأستاذ أحمد. لم ترقبه الأعين سألوا عنه وإذا به غائص أسفل قاع جبل الورق . لم يسمع سوى صوت يهمس :أين هي؟ أين هي؟قالوا: ماذا تريد؟ قال: ورقة مهمة.أشار عليه أحدهم: عليك بالمخزن. وعند الذهاب إليه استقبلته رائحة تزكم الأنف. تزحزح خطوتين إلي الخلف، لكن حاجته إلى الورقة زجت به داخله. العفن منشور هنا وهناك ، أجولة كثيرة ملقاه بلا نظام ،عقود من السنين تركت بصماتها عليها . لا شك أن البحث سيكون مضنيا. بدأ بالجوال الأول ورقة ورقة ، ولكن بلا فائدة .. بالثاني... بالثالث ... لا ثمرة من هذا التعب .الغبار العفن سلب دافع بحثه عن الورقة، أحس بخدر رقيق ، جلس ساندا ظهره بجوال مازال قيد البحث. تساقطت عليه الأوراق المتهالكة ، تاريخ قديم ، كلما وقع نظره على واحدة منها عادت ذاكرته إلى الوراء. شريط الذكريات يمر أمام عينيه بانفعالات مختلفة ، من حزن وفرح وضيق وانشراح وظلم وعدل . فجأة لمحت عيناه ثلاث صور صغيرة مرقت من ثقب في الجوال ، ثلاثة تلاميذ كان أستاذا لهم منذ ثلاثة عقود ، انتبه قائلا: يا لها من مفاجأة .الصورة الاولى للحسيني . في منتصف العام الدراسي الثاني انقطع عن الدراسة . سأل عنه وجده ساحبا لحمار روث الجاموسة متجها إلى الحقل ، إنه يعمل أجيرا لأحد الأغنياء. لكن ما السبب؟ كان الحسيني الأول في دروس الحساب . كان عليه أن يبحث عن السبب ، علم أن والده تضخمت بطنه. كبده الذي تليف لم يتركه إلا عظاما نخرة . باتت والدته ساهرة تفكر كيف تدبر القوت لأطفالها.فلم تجد إلا الحسيني يعمل أجيرا تاركا المدرسة إلي الشقاء المبكر ، قال لنفسه : تلميذ نابغة سيكون له شأن كيف يتحول إلي أجير سائق حمار.فاحتضن الحسيني وتكفل بتعليمه أما والدته فقد كلف زوجته تعليمها الحياكة .الصورة الثانية للسقا. كان والد أصم وأبكم. السقاية هي مهنته ، لا يعيش إلا على فضلات كسر الخبز، كان السقا يجلس في مقعده مكسور العين يواري نفسه بركن الفصل . ثيابه مزركشة برقع ملونه . تلاحقة سياط ألسنة أترابه. تغزه في خلاياه. ولم يكن أمامه إلا أن ينكب على كتبه هاربا من كل شيء.أما الصورة الثالثة ، فقد رآها تحدق في وجهه وتموج كالبحر الهائج ، تذكر صاحبها حامد وما فعله والده (سعادة البيه الكبير) عندما أعطاه خمسة من عشرة في الأملاء . انقلب نظام المدرسة وعم الرعب الجميع قال له أحدهم: ألم تخف على نفسك ؟ قال الآخر: انتظر ما سيحدث لك.قال لهم : هذا مستواه.قالوا: نعرف .. ولكن أباه "بك" كبير.قالوا له: أنت محول للتحقيق.الصور الثلاث مرصوصة واحدة تلو الأخرى عشرات السنين مرت ، ترى أين هم الآن؟الصمت يعم المكان. هدوء حذر لم يألف من قبل حفيف أقدام وأصوات متواترة ، سعادة المدير العام يقف أمام المخزن وهو يتأمله ، انتصب الأستاذ واقفا . على جبينه حبات من العرق المترب ، يمد كفه التي تحمل الصور الثلاث .قال الأستاذ أحمد : من ؟.. لا أصدق .يقول له المدير العام: هل تذكرني يا أستاذ ، أنا تلميذك السقا.يقول الأستاذ : لا أصدق .. انظر ها هي صورتك في يدي وأنت بالصف الثاني.
طلعت مصطفى العواد
مصر دمياط مدينة السرو