(1)
ثمّة قصص في هذه الحياة قد تندرج تفاصيلها تحت عنوان " صدّق أو لا تصدّق " فإن كان لديك قصّة (مصيبة ) نسجت حروف وجعك من حبر يفيض دمًا و ألما و تقع تحت هذا المعنى و أكبر منك ومن قدرتك على الاحتمال ومعقّدة لدرجة أنّك لم تتخيّل حدوثها حتّى في أسوأ أحلامك فلا تبح بها للآخرين وحتّى لو أغروك لتقولها ... فربما لا يصدقونك ... فتصبح حينها أمام جملة من المصائب الأخرى ... فبالإضافة إلى مصيبتك الأصلية ستواجه مصيبة فقدك للآخرين ، وقد يكون من بينهم أعزّ النّاس على قلبك ... فثمّة أمور تحدث في حياة الإنسان قد تكون غريبة في بعض تفاصيلها لدرجة أنّك أنت نفسك لا تصدّقها ، فلا تلمْ غيرك إنْ لم يصدّقها ... ولا تبح بها لأنّك بعد ذلك لن تستطيع أنْ تتحمّل ؛ لن تستطيع .. فما أقسى النيران الصديقة حين تطلق سهامها مباشرة على قلبك بسوء ظنّها – المبرّر - رغم قناعتك بطيبة قلوب أصحابها ، وكم هو صعب على النفس في مثل هذه المواقف أنْ تبتسم لهم وتحاول أنْ تنسى وكأنّ شيئًا لم يكن .
(2)
لعلّي لم أتعلم جيّدًا من أخطائي وعثراتي وما أكثرها ... ولطالما سألت نفسي هذا السؤال : ماذا لو عاد الزمن إلى الوراء قليلًا .. قليلًا فقط ... وماذا كنت سأفعل لأتجنّب كل هذا الاحتراق ..؟
كنتُ أعرف جوابًا اعتقدته شافيًا فيما مضى ولكنّه في الحقيقة كان غير ذلك .. إذْ أنّني اكتشفت أنّه يعني - فيما يعنيه - أنْ تغيّر قلبك وعقلك في وقت لم تكن تملك فيه الخيار إلا أنْ تكون كما أنت وقت حدوثها وحتّى لو تسبّبت لك بألم لا ينسى ... وأنّ عليك - أيضًا - أنْ تكون خاليًا تماماً من كل الذنوب والجهل وأنْ تمتلك الحكمة بكل تفاصيلها .
يستحيل أنْ أكون كذلك . . مع أنّي أتمنّى لو يعود الزمن إلى الوراء قليلًا كي أعيد حساباتي فقط مع من كنت أظنّهم أصدقائي .
ففقدان الصديق – ومن كنّا نظنّه كذلك – مؤلمٌ جدًا ؛ و مع تقدمك في العمر لا يترك لك مجالًا للتعويض والبحث عن صديق حقيقي في وقت تجد فيه النفس محاصرة من كل الجهات وأنّك قاب قوسين أو أدنى من السقوط ... و العمر يمضي بك بعيدًا نحو بداية النهاية لكل شيء والزّاد قليل والوقت ضيّق جدا ... في مثل هذه المواقف يكون الندم على ما فات أشبه بزلزال مدمّر لا يرحم ...؟ غير أنّي دائمًا ما أردّد ما يخفّف من أعباء هذا الألم الكبير" ربّي إنّي مسني الضرّ وأنت أرحم الراحمين " .
(3)
أحيانًا أقول : لو لم أخطئ في تقديري لبعض المواقف لكنت من أحسن النّاس وفي كل شيء ، لكنّني أدرك تمامًا أنّني بشر- على الأقل أحاول أنْ أكون كذلك – ولا يعيبني أنّني أخطأت في حياتي - فالكل يخطئ - ما تجنبت الوقوع في أعراض النّاس وأموالهم ، لكن أكثر ما يؤلمني هو ذلك الشعور بالحزن الذي ما زال يرافقني كظلّي بعد ارتكابي لبعض الأخطاء التي ترتّبت عليها مآسي كثيرة بحق من أحببتهم ، وبعد أنْ أدركت - يقينًا - أنّني عاجزٌ عن التعويض وإدخال السرور على قلوبهم ... أمام هذه المواقف لا أدري حقيقة ماذا أفعل ...
وأحيانًا أقول "و ماذا لو استجمعت كل قواك واعتذرت لهم مرّة أخرى موضحًا في الوقت نفسه أنّنا بشر نخطئ ونصيب وأنّك لم تقصد حدوث كل ذلك " ومذكّرًا بقوله تعالى " ورحمتي وسعت كل شيء " . غير أنّ الحزن لا يرحل ؛ فثمّة أناس منهم قد رحلوا عن عالمنا ولهم في أعناقنا دين كبير وحبّهم لك كان من أسباب آلامهم ، فكيف السبيل إلى التعويض ..؟
ودائمًا ما أجدني بعد مراجعة ذكرياتي لذلك الماضي وتداعياته وكأنّي واقف على شفا منحدر سحيق أراقب من بعيد انطفاء شعلة الأمل وعلى وشك الاختناق من هول دخانها ..
وكثيرًا ما أقول " لا إله إلا أنت سبحانك إنّي كنت من الظالمين " ... ما أجمل الصبر وحسن الظنّ بالله تعالى في مثل هذه المواقف .
(4)
في الساعات التي تواكب رحيل الأحبّة يشدّك الحزن إلى الماضي بكل تفاصيله ، فيتبدّى أمامك كشريط إلكتروني يدور ويدور أمام عينيك بلا توقف وبسرعة رهيبة لا تملك أمامها القدرة على حفظ توازنك ؛ فتدوخ لتقع في دوامة الذكريات وقسوة الفراق كأنّك في وسط محيط لجّي عاصف تتقاذفك فيه الأمواج بغضب شديد ، فيما تحرقك نار الشوق والحنين من داخلك ، نار تستعرّ و تخترق الضلوع ، تتحسّسها وتسمع صوت طقطقة العظام من هول اللهب المنبعث من صدرك ، لن تراه مرّة أخرى ... لن تراها مرّة أخرى .. وبالأمس القريب كان يبتسم لك وكانت تودّعك بابتسامة ، وكنت تحزن وكانت تحزن لحزنك ، وكنت تقسو عليك وعليه وكان قلبه أكبر منك ومن غفلتك فيسامحك ويستقبلك بحنان نادر الوجود .. ثمّ تجدك فجأة في مهب ريح عقيم قذفت بك في قاع بئر عميقة من الأحزان ؛ تحاول أنْ تلملم أشلاءك جراء انفجار مفخّخ لم تكن تعلم متى يحين موعده وفي وداع فرض نفسه عليك ، فتشعر للحظات وكأنّك أنت الوحيد الذي كُتب عليه هذا الفراق .
عندما توفّي والدي رحمه الله تعالى - رابع أيام عيد الأضحى المبارك - كان حمزة – ابني البكر 9 سنوات – أوّل من اتّصل بي معزّيًا " يرحمه الله يا أبي والبقية في حياتك " لا أدري كيف مرّ الوقت بعدها ، وكيف أصبح لون الدنيا مختلفًا وبشكل لم أعهده من قبل ، تمالكت نفسي محاولًا أنْ أطرد شبح الموت من أمام ناظري ، ومتسائلًا في الوقت نفسه " هل سأعيش ليقول حفيدي لحمزة ما قاله .. ؟ " كم تمنّيت لو أنّ الله تعالى يجعل يومي قبل يومه و ناسيًا – في مثل هذه المواقف - أن الأهم من طول العمر في هذه الحياة هو الكيفية التي سنرحل بها ، و ماذا سجّل الملكان في أثناء هذه الرحلة القصيرة ، غير أنّ الحبّ والفراق ينسيانك أشياء كثيرة فلا تتذكّرها لأنّ الدموع ومعها الحزن على مقياس الألم قد سجّلت أعلى مستوى لها من الفيضان والحرارة فألهبت الأذن الوسطى وفُقد التوازن تمامًا .
ثمّ لم يمض يوم حتّى بلغني نبأ وفاة الأخ الأديب الشربيني خطاب ثمّ في اليوم التالي نبأ وفاة ابنته – رحمهما الله تعالى – لا أدري ساعتها ماذا حصل لي ، وكيف مضى يومي ذاك ، غير أنّي تذكّرت في هذا الموقف بالذات كيف أنّ المصائب عندما تحلّ عليك وعلى غيرك - في الوقت نفسه - فإنّها تخفّف من وطأة جنون الحزن وشدّته عليك ، فحين ترى مصيبة غيرك – والموت بحد ذاته مصيبة كبرى - فإنّها تدفعك دفعًا لمراجعة نفسك وحساباتك كي تهدأ قليلا ، وكيف أنّ الموت بقدر ما هو صعبٌ ومؤلم يعطي للإنسان فسحة من الوقت كي يعود إلى رشده فيتعلم ويتعظ " كفى بالموت موعظة يا عمر " نعم هنا تذكّرت أهل الأرض جميعًا ، فحمدت الله تعالى على نعمة الإسلام ، سنرحل يوما ما ، وليس كل رحيل رحيل ، وليس من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله وعمل بها أو حتّى قصّر في حقها ؛ كمن مات على ملّة أو مذهب آخر لا نصيب له من الشفاعة و المغفرة و الرحمة يوم الحساب الكبير .
غبر أنّنا نحزن ونبكي الفراق ، وأكثر ما يحزننا في مثل هذه المواقف هو عدم القدرة على الاعتذار مّمن أحببناهم ورحلوا ، كيف يكون شعورك بعد فوات الأوان - في مثل هذه المواقف - وأنت تتمنّى لو لم تغضب والديك ، أو إخوتك أو أبناءك وأصدقاءك وجيرانك وأحبّتك وكل من رحل وفي نفسه شيء عليك ... ؟ ويشتدّ الحزن أكثر فأكثر عندما تكون غير قادر ولا تملك ما يساهم في إسعادهم ويدخل البهجة على قلوبهم قبل رحيلهم . ونعم هم لم يكونوا ليحملّوك فوق طاقتك وأكثر مّما تحتمل ، لكنّك تحزن وتتمنّى لو كنت تستطيع .. لكم تمنيت لو أنّني لم أغضب والديّ في الصغر أو الكبر ، ولكم تمنّيت لو أنّي أستطيع أنْ أسعد من هم حولي ، وكم أتمنّى لو أنّنا في مثل هذه المواقف نراجع أنفسنا مرّة أخرى ، فلا نغضب من هم حولنا ؛ من نعرفه ومن لا نعرفه ، ابتداءً من صلة الرحم وإلى غير ذلك ، فالكلمة الطيبة صدقة وتبسّمك في وجه أخيك صدقة ، وليس هناك أفضل من تلك العبرة عن قصّة ذاك الرجل الذي كان يسامح كل النّاس قبل أنْ ينام وليس في قلبه شيء عليهم فحكم له الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنّة .
(5)
لا أدري لماذا أشعر بعد قراءتي لمقال أو شعر أو نثر أو أي عمل أدبي آخر يشير إلى معاناة هذه الأمّة أنّ الدنيا قد أظلمت في وجهي والضباب قد تناثر في كل مكان ، حتى الأوكسجين أعلن تمرده وهرب هو الآخر ، يحصل هذا بالطبع بعد أن نعلم أن كاتبه هو من هواة جمع الدولارات والعنصرية والنفاق وتتبّع العورات ومرتزق بامتياز ... و معه السوط و الصوت وله كلمة مسموعة كأي إنسان حر شريف ... في مثل هذه المواقف لطالما تساءلت: كيف يمكن أن تقنع أمّة لا تقرأ أنّه كذلك ..؟
(6)
من الأمور الصعبة التي قد تواجهها في حياتك أنْ تعيش بين أناس طيبون - في عالم الحلم الجميل - لا يعلمون شيئًا عن همومك ...
وأصعب من ذلك أنْ تكون مطالبًا - ومن باب الوفاء لهم - بأنْ تعيش معهم وفقًا لمتطلبات التعايش والتي تفرض عليك - من جملة ما تفرضه - أنْ تكون معهم بقلمك ونبضك قارئًا ومتابعا ...
كم من نصوص أراها ولا أقدر على تصفّحها ... وكم أفتقد نفسي في مثل هذه المواقف .
(7)
لكم تمنيت لو كان بإمكاني أنْ أعبّر عمّا يجيش في صدري - كي لا أختنق - بحرية تامة و تاركًا في الوقت نفسه باب التأويل مفتوحًا على مصراعيه والمعنى كما يقولون في بطن الشاعر ، غير أنّي لست بشاعر والكتابة النثرية – إنْ كنت حقًا من أهلها – تفضح المعنى بكل جلاء - كما أعتقد - وتضعف من قدرتك على تحمّل الألم بعد كل نزف ... فتشعر بعدها وكأنّك جالس على كرسي الاعتراف ... وأمام القضاة تنتظر الحكم من نفسك وعليها ؛ إمّا الموت حرقًا أو غرقا ..
عندما أراجع نفسي في مثل هذه المواقف أتمنّى لو أنّني لم أكتب كلمة واحدة في حياتي ... وهذا آخر نصّ لي .