حتى بعد أن تجاوز الستين وبعد أن لوّن الشيب شعر رأسه وبعد أن رسم عناء الدهر على قسمات وجهه وجبينه خطوطا وتجاعيد جعلته يبدو أكبر من عمره بكثير , وبعد أن لونت أشعة الشمس وجهه ويديه وما يظهر من جسده باللون الأسمر الداكن أثناء عمله في فلاحة وزراعة أرضه , هذه الأرض التي يعمل فيها سبعة أيام في الأسبوع ولإثني عشر شهراً في السنة . أما جسده فقد كان نحيلاً ضعيفاً ولكن تبدو عليه الصلابة وقوة البأس والإرادة .
حتى بعد هذا العمر وكل هذه السنين لم يفارقه ذلك الحلم الذي داعب خياله منذ ما يزيد على أربعين عاما , حلم إذا تحقق سوف يوفر له ولعائلته وأبنائه الراحة الجسدية ودخلاً جيداً وسرعة في إنجاز أعمال الفلاحة والزراعة .
لم ينم العم شاكر تلك الليلة وهو ينتظر الصباح التالي , حيث سيذهب لشراء جرارٍ زراعيٍ يستطيع من خلاله أن يفلح أرضه وأرض جيرانه وأن يختصر الوقت ويضاعف الإتناج ويريحه من الدواب . والأهم من ذلك يريح زوجته التي أصبحت تعاني من أوجاع التقدم في العمر وآلام الروماتزم
لم ينم تلك الليلة وهو يحلم بالغد , فقد أصبح بمساعدة ولديه يمتلك من المال ما يكفي لشراء ذلك
العملاق الأحمر الجميل بعجلاته الكبيرة وسكته التى تنغرز في الأرض بعمق أكبر وإنهاء العمل بسرعة خيالية .
نعم ... غدا صباحا سوف يذهب بصحبة أبنائه لشراء ذلك الوحش الجميل الذي سيلتهم كل ما يصل اليه ويقلب جوف الأرض لتزور وتطهر أشعة الشمس باطنها .
لم ينم تلك الليلة وهو يرسم ويخطط ويحسب ثم يعود ينقض الخطط والحسابات ليبدأ خططا جديدة وحسابات جديدة ويحلم من جديد بمستقبل أسرته القادم وما سوف تكون عليه .
نعم بمساعدة هذا الجرار الجميل سوف نبني غرفتين إضافيتين لولدنا عامر وسوف نزوجه , اما ولدنا صالح فله أن يشتري لزوجته الصابرة كل ما تريد ولأولاده كل ما يشتهون .
توالت الحسابات وطال التفكير والتخطيط ولكن هذا الليل لا يريد أن يغادر وكذلك الفجر لا يريد أن يحضر .
وأخيرا جاء الفرج . فهذا المنادي لصلاة الفجر يصدح بالأذان منادياً حي على الصلاة حي على الصلاة , الصلاة خير من النوم , وهذا العم شاكر يتحرك بكامل نشاطه وهمته الى المسجد ملبياً .
ما أطول الوقت وما أبطأ الساعة , متى ستشير الساعة الى التاسعة صباحا , حيث تفتح الشركة أبوابها ويصبح ذلك الحلم حقيقة , متى أستطيع معاينة وشراء ذلك الجرار الأحمر الجميل القابع خلف الزجاج ينتظرني ... إنه ينتظرني منذ زمن بعيد .
طوال الوقت يتحرك ذهابا وإيابا ولم تتوقف حركته إلا حين يفرك راحتيه فرحا بالغد أو حين ينظر الى السماء شاكرا لله .
لم يستطع الإنتظار أكثر من ذلك , طرق باب غرفة ولده الآكبر صالح , خرجت زوجة ولده وهي ترجوه أن يترك زوجها ينام ولو لفترة قصيرة فهو لم ينم هذه الليلة .
غادرها وهو يتمتم " كيف له أن يستطيع النوم ؟ "
عاد بعد ساعة وقد قاربت الساعة الثامنة , طرق الباب بقوة , خرج اليه ولده صالح وهويفرك عينيه ويضحك , بفم وعينين تملؤهما السعادة يقول : ما أجمل هذا الصباح يا أبي منذ اليوم سنصبح من ملاكي المحاريث الحديثة , سوف يحسدنا الناس .
هز الوالد رأسه موافقا وهو يقول : إذهب الآن وأحضر أخاك عامرا لكي نتحرك .
تحرك ثلاثتهم والغبطة بادية على وجوههم فذلك الأحمر الجميل يستحق سعيهم وفرحتهم ,
لم يتوقف ثلاثتهم طوال الطريق عن تقديم المقترحات حول صيغة العمل لدى الآخرين وعن الثمن الذي سوف يتقاضونه أجراً لكل ساعة عمل , بل تعدى ذلك الى ما يمكنهم عمله بالمبالغ الطائلة التي سوف يتحصلون عليها مقابل ذلك .
لم يمض وقت طويل حتى أصبح ثلاثتهم أمام الشركة ورأوه يقبع خلف الزجاج امامهم , ذلك الأحمر الجميل في انتظارهم , فهم يستطيعون الآن تحسسه بأيديهم ويركوبه بل وحتى أن قيادته إذا أراد ذلك .
دخل ثلاثتهم الى الشركة وقلوبهم تخفق من شدة الفرح فها هي الأمنية تتحول الى حقيقة والحلم الى واقع .
توجهوا الى الموظف في الحجرة المقابلة وأخبروه أمرهم , قدم لهم الشاي وبعد مفاوضات لم تطل اتفقوا على الثمن وعلى طريقة تقسيط الباقي وعلى القسط الشهري والمدة الزمنية اللازمة لذلك . تمت كتابة الأوراق اللازمة وتوقيع الكمبيالات على أن تستكمل المعاملة والتسليم في اليوم التالي بعد التسجيل لدى الدوائر المختصة , وفي اليوم التالي وبعد الظهر بقليل كان ثلاثتهم يمتطون ذلك العملاق الحلم ويتوحهون به الى منزلهم , طوال الطريق كان العم شاكر يهزج ويغني وهم يرددون خلفه وكأنهم في عرس , وما وصلو الى المنزل حتى علا صوت العم شاكر مناديا : يا أم صالح يا حاجة أحضري " الخرزة الزرقاء , والشبه .. لا تنسي الشبه " أحضري معك أبضا الدجاجة كي نذبحها على مقدمة التراكتور قبل أن يتحرك للعمل , فهذا فأل حسن .
تجمع كل من في البيت من نساء وأطفال وبعض المارة والجيران , كان العم شاكر أثناء ذلك بين فرح مشجع وفرح ممانع لما يصنع اطفال ولده وبعض أطفال الجيران وهو يراهم يصعدون وينزلون ويحركون المقود ويلهون .
جاء المساء واجتمع شمل الأسرة وسهر الجميع قليلاً وهم يبحثون ماذا سيكون أول عمل لهم غدا وأخيرا اقترح الوالد أن يكون أول عمل ( لله ) واستطرد أرض الحاجه " رحمه " فهي أرمله وفقيرة ولها اولاد صغار تقوم عليهم . ثم أصدر أوامره للجميع بالذهاب الى النوم "والصباح رباح" .
نام الجميع وهم يحلمون بغد مشرق جميل ومستقبل أجمل مع هذا الرائع الأحمر إلا العم شاكر لم يغمض له جفن حتى وقت متأخر من الليل . بقي يتقلب في فراشه حتى غلبه النوم في وقت متأخر جدا ,
نام نوما عميقا وهادئاً .
أثناء نومه حلم بأصوات قوية وانفجارات تتوالى وأصوات طائرات تهدر فوق رأسه , فتح عينيه ليؤكد لنفسه أن ذلك ما هو إلا حلم مزعج ولكن الأصوات ما زالت تتوالى , حملق بكلتا عينيه فلم يشاهد إلا غباراً شديداً يعلو المكان , نهض من فراشه مذعوراً , رأى الجهة الأخرى من منزله دون حواجز أو جدر , أدرك أن منزله مصاباً وبلا جدار , صرخ بأعلى صوته مناديا زوجته التي تنام بجانبه ولما لم تجبه مد يده اليها , تحسسها , أصابت يده بللاً . تفقد ذلك فكانت الدماء , جن جنونه وتوالت صرخاته , ما الذي جرى ؟ ماذا حدث ؟ من يخبرني؟ أين أنتم أيها الأبناء ؟
خرج وهو في حالة هستيرية نظر الى جراره الجميل فوجده مدمراً , مصابا بقذيفة شطرته الى نصفين . سـقط على الأرض وهو في حالة تشبه الإنهيار مردداً لاحول ولا قوة إلا بالله , إنا لله وإنا اليه راجعون .
تقدم شبح ولديه من بين الغبار المنتشر يهدآن من روعه ويقولان نحن بخير , كلنا بخير أما الوالده فلها الرحمة لقد توفاها الله انهم القتلة انهم الصهاينة .
استوعب أخيرا أن غارة همجية مجرمة قادها الصهاينة على غزة
نظر الى ولديه والى الجرار والى جسد زوجته المسجى بلا روح وهو يتمتم : الحمد لله .. الحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله .. ثم صمت طويلا ً قبل ان يقول : تنتهي سريعاً ..... هكذا هي أحلام الفقراء .
جاءه صوت ولديه من خلفه : لا يا أبي , لن ينتهي حلمك .. لن ينتهي ما بقيت الإرادة ..
لن ينتهي هكذا ... لن ينتهي ... بعد دفن الشهداء سوف نشتري جراراً جديداً ... ونعيد بناء ما دمره العدوان بإذن الله , باذن الله .