لم يزعجه شيء قط قدر ما أزعجته الرصاصات المتبقية في جيبه ..
بعدما انتهت المعارك , وأسر ما أسر ,
وأفرج عمن أفرج ليتسلموا الجباية عن رائحة دماء الأصدقاء , بعدما أصبحت لحاسة الشم وظيفة خاصة , , خاصة لمن يتقنون صنع مناخات تترتب حسب التصورات الموسمية ..
ودفنت كل الكلمات التي قيلت في الاجتماعات السرية .
أزعجته تلك الرصاصات كلما تقلب في سريره , كانت تفتح له أبوابا لكوابيس , و تنكأ جرحه الداخلي , وكان يصر على أن لا يفرغ جيوبه منها لأنها الأثرالوحيد المتبقي له من ذكرى العهد ذو الصدق .
أزعجته الرصاصات كلما جلس مع بعض الرفاق الذين أغرتهم العودةإلى الظلال وأسقف المنازل الوشيكة على الانهيار حيث إنها لم تسقط بعد على رؤوس ساكنيها ولكنها مازالت تشير إلى نهاياتها طالما هناك لم يحقق الصلح بين الفئتين أي إحراز يذكر.
لم يتحقق على أرض الواقع مايستحق تشييد المدافن وهجرة العقول إلى المنافي ..وكلما جلس على الكرسي ووضع رجلاعلى الرجل كانت الكرسي تتحسس من جيوبه المنتفخة بالرصاصات وكانت تندس في جلده حتى أعتاد على هذا بل كان يرى في الأمر شيئا من الواجب تجاه من أحبهم , تجاه من ماتواعلى عهدهم , بدأ شريط الذكريات ينقل إليه التفاصيل بدقة .
تذكر الشهيد أحمد الذي رفعه من الأرض أثناء المعركة وحمله على ظهره إلى المقر
ثم تذكرإبراهيم الذي مد يده الملطخة بالدماء قائلا ساعدني لقد أصبت يا صديقي فــ وصل به إلى منطقة آمنة يتم نقل الجرحى منها إلى منطقة أخرى ..
كم سيتذكر والى متى سيظل يتذكر .
وكل أصدقائه العائدين اغتسلوا بالنسيان وانخرطوا إلى صفوف الباحثين عن حياة تسمى الحياة المدنية ..
أحدهم ينظر إلى العالم من ثقب مفتاح سيارته الجديدة
والآخر وجد أحلامه بين ملفات مكتب تخليص الجمرك في الميناء وخاصة هذا العمل يذكره بأجواء النضال كلما نظر إلى صناديق الأسلحة حيث تفرغ السفينة الآتية من بعيد شحنتها حتى وان كان الوطن ليس له علاقة بهذه السلع العابرة إلى دولة داخلية مجاورة أغلقت الطبيعة في وجهها كل النوافذ وتفتحت لها ثقوب الهواء من وراء البحار .
لقد تغيرت الألوان وتغيرت الميول , وحيث يصنع الإنسان فضاء
تلزمه احتياجات متطابقة مع هذا الفضاء ..
وحده يعيش أجواء الكوابيس
وأجواء المعارك السابقة ليته يفيق ويعي بأن كل الذي قيل هناك سبق أصحابه إلى القبور وهو وحده هنا يصرخ بصمت الكهوف ..
ويعيش على الكفاف وعلى ذكريات قطنة الجروح
والمطهرات , والخبز الجاف ..
بيد أنه لم يكن ذاك الخبز أكثر جفافا من هذه القلوب التي أشترت أهداف الرجال بثمن قليل ..
من يقرأ دفتره الشعري يعرف خريطته تماما وأصدقاؤه كانوا يلازمونه كالظل كم كانوا يجيدون التقاط كلماته ومن ثم التأنق بها في مناسبات عدة , لا ضرر من ذلك فهو معروف بالعطاء والوفاء, فأصدقاؤه يمثلونه لما لا !!
..
ذات يوم كان يمر على مقهى قريب من منزله تناهى إلى سمعه شيء ما اختلط برائحة الشواء على أنغام لحن لم يكن غريبا , وثب إلى ذاكرته بسرعة البرق فأبطأ في خطواته وأرهف سمعه شعر بانقباض يتسلل الى أحاسيسه , ولكن لما الغرابة !!
كم مرة تسللوا منه إليك وها هو يرى الآن بأم عينه بأن في حلبة الرقص لن يبتر زوربا إصبعه مرة أخرى , لأن الزمن أختلف ..
وكم كان صعبا عليه أن يستعيروا حتى أنفاسه دون أن يستأذنوه و وجد دفتره قد أحترق مع بقية الأشياء التي احترقت وانسكبت من بين يديه , أسرع خطاه إلى البيت ليتفقد البقية من الدفتر و تفاجأ بغلافين تضربهما الهواء خواءً..
أعتدل في جلسته وتفقد تلك الرصاصات ..