تهيئة الأجواء المناسب للتأمل
أو : (الحجب الظلمانية والحجب النورانية )
***
عملية التأمل ليست بالعملية السهلة الهينة والتي تتم في أي أجواء .. بل تحتاج إلى توفير أجواء مناسبة كي تؤتي ثمارها ..
· وبما أننا وصفنا التأمل بأنه عبادة.. فهو يشترك مع باقي العبادة في حاجته إلى النظافة والطهارة .. وبما أنه خير عبادة فهو يحتاج إلى نظافة وطاهرة مضاعفتين ..
· وبما أن التأمل عملية عقلية أكثر منه أي شيء آخر .. فكلما كانت النظافة والطهارة راجعة إلى العقل كلما كان ذلك أجدى في التطهير ..وبالتالي أكثر ملاءمة بأجواء التأمل ..
· بدون السعي الحثيث إلى صقل لوحة العقل والباطن وإزالة كل ما علق بها من أدران .. فإن صور الحقائق التي سنتنطبع على لوحة العقل ستكون مشوهة وغير واضحة المعالم .. وكلما كانت مرآة العقل أكثر نصوعا كلما كانت الصور المنطبعة فيها أوضح .. وبالتالي تسكن إليها النفس وتطمئن إليها أكثر ..
· إذن من أحب أن يتأمل التأمل الصحيح فعليه أولا بالسعي الحثيث لتنظيف داخله من كل الأوساخ ..
· والذنوب هي الأوساخ التي تعمل على توسيخ الباطن ..
· وإذا كان الماء هو المطهر للأوساخ الظاهرية التي تعلق بأجسادنا ..
· فإن الإخلاص هو المطهر الرباني الذي يجلو الباطن ويزيح عنه كل الأدران ..
· الإخلاص هو أن تعمل العمل لله تعالى لا لشيء سواه ..
· وهنا المنزلق العظيم الذي يمكن أن تزل به أكثر الأقدام رسوخا .. إلى درجة أن يمتلك شخص اسم الله الأعظم ثم يُختم له بالتعاسة لأنه أخلد إلى للأرض كما هو الحال في بلعم بن باعورا ..
· تكمن المشكلة في الخلط بين الوسائل والغايات .. وشيئا فشيئا تتحول الوسائل إلى غايات يوقف عندها فتكون حجابا بعد أن كانت طريقا لاحبا ..
· إخواني وأخواتي الأعزاء جميعا .. الحجب التي يمكن أن توقف السالك لطريق الكمال وتصده عن التقدم تنقسم إلى قسمين :
· حجب ظلمانية و حجب نورانية ..
· الحجب الظلمانية أمرها أهون من النورانية .. لأنها مكشوفة يمكن بالعلم بمساوئها التغلب عليها ..
· والحجب الظلمانية هي الذنوب الواضحة التي يعرفها الكل .. الحسد – الكبر – العجب – الرياء – الظلم – الزنا – السرقة – الكفر – الشرك – السرقة – الغيبة – النميمة – ترك الصلاة – ترك الصيام - ... وغيرها من الذنوب التي نعرفها جميعا ..
· هذه الذنوب تحجب مرتكبها وتصده عن إكمال المسيرة التكاملية الخاصة به ..
· ورفع هذه الحجب الظلمانية عن الطريق يتم بتجنبها .. وتجنبها يتم بالمعرفة التامة والعلم اليقيني بمساوئها .. هذه المعرفة تنفر القلب منها .. أما مع الجهل بمساوئها فلن يتم الابتعاد عنها .. لأن المرء عدو ما جهل .. فما دام لم يعرف هذه المساوئ فلن يعاديها ولن يبتعد عنها .. النفور عن الشيء وحبه ناتجان عن المعرفةاليقينية والانكشاف التام .. فما عُرف خيره يحبّ وما عُرف شره يبغض ..
· ويمكن أن يقال : كثير من الناس يعرفون بأن ما يقومون به أمورا سيئة في الكثير من الأحيان ومع ذلك يقدمون عليها !!
· فالكثير يعرفون بأن الزنا محرم ومع ذلك يقدم عليه .. ويعرف أن الظلم ظلمات ويقدم عليه ..وان الحسد اعتراض على قسمة الله ويحسد .. والغيبة أكل لحم الأخوان أمواتا ولا تخلو مجالسنا منها إلا من عصم ربي ... وهكذا غيرها من الذنوب التي يعترف مرتكبوها بسوئها ؟؟!!
· الجواب : نحن قلنا المعرفة التامة بالأمور هي التي تردع عن المساوئ وتقرب للمحاسن .. أما حين تكون المعرفة ناقصة .. معرفة نص ونص .. فإن الابتعاد سيكون على قدر المعرفة سيكون أيضا نص ونص .. ولن يكون ابتعادا ونفورا تاما .. لهذا اعترافه بأن ما يقوم به من أمور سيئة هذا الاعتراف ناتج عن هذه المعرفة الناقصة .. وإقدامه عليها ناتج عن الجهل بها .. بجزء العلم يرتدع وبجزء الجهل يقدم ..
· أما لو انكشفت له المساوئ بشكل تاما فمن المستحيل أن يقدم عليها ..
· والدليل على ذلك أن هذا نفسه الذي أقدم على الحسد أو العجب أو التكبر أو الظلم أو الزنا .. لا يقدم على أكل العذرة ولا على شرب البول .. ولا على شرب السم .. ولا مواجهت السباع المفترسة ...
· لماذا يقدم على الحسد ولا يقدم على اكل العذرة ؟؟ لأن مساوئ العذرة منكشفة له تماما لهذا كان النفور تاما أيضا .. ومساوئ الحسد غير منكشفة عنده بشكل تام وإنما نص ونص .. لهذا كان الابتعاد أيضا نص ونص ..
· مع العلم بأن حقيقة الحسد أسوأ سبعين مرة من أكل العذرة .. ولو دار الأمر بين الحسد وأكل العذرة فعلى العاقل أن يقدم على أكل رطل من العذرة ولا أن يقدم على مثقال من الحسد ..
· فالجسم الملوث بالعذرة يطهر بوقت قصير وبماء قليل .. أما الحسد وأمثاله من الذنوب الباطنية فلا يطهرها إلا النار الحامية أجارنا الله وإياكم بمنـِّه وكرمه ..
· إذن كلما كنتَ بالشيء أعرف كلما كنت منه ابعد أو اقرب .. أبعد من الأمور السيئة وأقرب إلى الأمور الحسنة .. لهذا (إنما يخشى الله من عباده العلماء) لأن العلماء أعرف بالله تعالى من غيرهم .. فزيادة الخشية ناتجة عن زيادة المعرفة ..
· إذن بالعلم بالذنوب يمكن اجتنابها .. بالعلم التام بها ..
· أما كيف يتم لنا العلم التام بها ؟؟
· فالجواب : بالتأمل فيها .. أو قل : بما أن الذنوب أمور معرفية .. فيتم العلم بها بمحطات المعرفة التي تقدمت عندنا : بالانتباه أولا – بالتأمل ثانيا – بالانكشاف ثالثا ..
· إذن من أراد أن يهيئ الجو المناسب للتأمل عليه إن يتجنب الذنوب .. أو قل فعليه أن يزيح الحجب الظلمانية عن طريقه .. ويتم إزاحة هذه الحجب بالعلم التام بمساوئها .. ويتم العلم التام بمساوئها عبر طرق المعرفة الثلاث المتقدمة ..
· وبقي علينا أن نعرف كيفية إزاحة الحجب الورانية عن طريق المتأمل ..
· وهذا ما سنحاول معرفته في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى ..
· والآن أستودعكم الله تعالى الذي لا تضيع ودائعه ..
· والحمد لله رب العاملين .. وصلى الله على سيد رسله وآله ..