التَّمييزُ اسمٌ نكرةٌ يذكرُ تفسيرًا للمُبهَم من ذاتٍ أو نِسبةٍ؛ فالأوّلُ نحو "اشتريتُ عشرينَ كتابًا"، والثاني نحو "طابَ المجتهدُ نفسًا".
والمُفسّرُ للمُبهَمِ يُسمّى تمييزًا ومُميّزًا، وتفسيرًا ومُفسّرًا، وتبيينًا ومُبيّنًا، والمُفَسّرُ يُسمّى مُميّزًا ومُفسّرًا ومُبيّنًا.
والتّمييزُ يكونُ على معنى "مِنْ" كما أنَّ الحال تكون على معنى "في". فإذا قلتَ: "اشتريتُ عشرين كتابًا"- فالمعنى أنكَ اشتريتَ عشرين من الكتُب، وإذا قلتَ: "طابَ المجتهدُ نفسًا"- فالمعنى أنهُ طابَ من جِهة نفسهِ.
والتَّمييزُ قسمانِ تمييزُ ذاتٍ (ويسمّى تمييزَ مُفرَدٍ أيضًا)، وتمييزُ نِسبةٍ (ويُسَمّى أيضًا تمييزَ جملةٍ).
وفي هذا المَبحث ثمانيةُ مَباحثَ:

1- تَمْيِيزُ الذَّاتِ وحُكْمُهُ
تمييزُ الذاتِ ما كان مُفسّرًا لاسمٍ مُبهمٍ ملفوظٍ، نحو "عندي رِطلٌ زَيتًا"، والاسمُ المُبهَمُ على خمسة أنواع:
1- العَدَدُ، نحو "اشتريتُ أحدَ عشرَ كتابًا": ولا فرقَ بينَ أن يكونَ العدَدُ صريحًا كما رأيتَ، أو مُبهَمًا نحو "كم كتابًا عندكَ؟".
والعددُ قسمانِ صريحٌ ومُبهمٌ؛ فالعدَدُ الصريحُ ما كان معروفَ الكميّةِ كالواحد والعشرةِ والأحدَ عشرَ والعشرينَ ونحوِها، والعدَدُ المُبهَمُ ما كانَ كنايةً عن عَدَدٍ مجهولٍ الكميّةِ وألفاظهُ "كَمْ وكأيِّنْ وكذا"، وسيأتي الكلام عليه.
2- ما دلَّ على مِقدارٍ (أيّ شيءٍ يُقدَّرُ بآلة): وهو إمّا مِساحةٌ نحو "عندي قَصبَةٌ أرضًا"، أو وزنٌ نحو "لك قِنطارٌ عَسَلًا، أو كيلٌ نحو "أعطِ الفقيرَ صاعًا قمحًا"، أو مِقياسٌ نحو "عندي ذراعٌ جوخًا".
3- ما دلَّ على ما يُشبهُ المقدارَ مما يَدُلُّ على غيرِ مُعيّنٍ؛ لأنهُ غيرُ مُقدَّر بالآلة الخاصّة؛ وهو إمّا إن يُشبهَ المِساحةَ نحو "عندي مَدُّ البصرِ أرضًا، وما في السماء قَدْرُ راحةٍ سَحابًا"، أو الوزن كقوله تعالى: {فمن يعمَلْ مِثقالَ ذَرَّةٍ خيرًا يَرَهُ، ومَنْ يعملْ مِثقالَ ذَرَّةٍ شرًّا يَرَهُ}، أو الكيلُ كالأوعيةِ نحو "عندي جَرَّةٌ ماءً، وكيسٌ قمحًا، وراقودٌ خَلًّا، ونِحْيٌ سَمنًا، وحُبٌّ عسلًا" وما أشبه ذلك، أو المِقياسَ، نحو "عندي مَدُّ يَدِكَ حبلًا".
4- ما أُجرِيَ مُجرَى المقادير من كل اسمٍ مُبهَمٍ مُفتقرٍ إلى التّمييز والتّفسير، نحو "لنا مِثلُ ما لَكم خيلًا، وعندنا غيرُ ذلك غَنَمًا"، ومنه قولهُ تعالى: {ولو جئْنا بِمثلهِ مَدَدًا}.
5- ما كان فرعًا للتّمييز، نحو "عندي خاتمٌ فِضّةً، وساعةٌ ذهبًا، وثوبٌ صوفًا، ومِعطفٌ جوخًا".
وحكمُ تمييز الذاتِ أنه يجوز نصبُهُ كما رأيتَ، ويجوزُ جرُّه بمن نحو "عندي رِطلٌ من زيتٍ، ومِلْءُ الصّندوقِ من كتب"، وبالإضافة، نحو "لنا قَصَبةُ أرضٍ، وقِنطارُ عَسَلٍ"، إلا إذا اقتضت إضافتُهُ إضافتْين بأن كانَ المُمَيّزُ مضافًا فتمتنعُ الإضافةُ، ويتَعيَّنُ نصبُهُ أو جَرُّهُ بِمِن، نحو "ما في السّماءِ قدَرُ راحةٍ سَحابًا، أو من سَحابٍ". ويُستثنى منه تمييزُ العدَدِ، فإن له أحكامًا ستُذكر.

2- تَمْيِيزُ النِّسْبَةِ وحُكمُهُ
تمييزُ النّسبةِ ما كان مُفسّرًا لجملةٍ مُبهَمةِ النسبةِ، نحو "حَسُنَ علي خُلُقًا، ومَلأ الله قَلبَكَ سُرورًا؛. فإنَّ نسبةَ الحُسنِ إلى عليٍّ مُبهَمةٌ تحتملُ أشياءَ كثيرة، فأزلتَ إبهامَها بقولك "خلُقًا". وكذا نسبةُ مَلْءِ اللهِ القلبَ قد زال إبهامُها بقولك "سرورًا".
ومن تمييزِ النسبةِ الاسمُ الواقعُ بعدَ ما يُفيدُ التَّعجُّبَ، نحو "ما أشجعَهُ رجلًا، أكرمْ بهِ تلميذًا، يا لهُ رجلًا، للهِ درُّهُ بَطلًا، وَيحَهُ رجلًا، حَسبُكَ بخالدٍ شُجاعًا، كفى بالشَّيبِ واعظًا، عَظُمَ عليٌّ مَقامًا، وارتفعَ رُبتةً".
وهو على قسمين مُحَوَّلٍ وغير مُحوَّل؛ فالمحوَّلُ ما كانَ أصلُهُ فاعلًا كقوله تعالى: {واشتعلَ الرأسُ شيبًا}، ونحو "ما أحسنَ خالدًا أدبًا!" أو مفعولًا كقوله سبحانهُ: {وفجَّرنا الأرضَ عُيونًا}، ونحو "زَرَعتُ الحديقةَ شجرًا"، أو مُبتدأ كقوله عزَّ وجلَّ: "أنا أكثرُ منكَ مالًا وأعزُّ نفرًا"، ونحو "خليلٌ أوفرُ علمًا وأكبرُ عقلًا".
وحُكمهُ أنهُ منصوبٌ دائمًا، ولا يجوزُ جرُّهُ بِمن أو بالإضافة كما رأيتَ.
وغيرُ المحول ما كان غير محوّل عن شيء، نحو "أكرمْ بسليم رجلًا، سَمَوتَ أديبًا، عظُمت شجاعًا، لله دَرُّهُ فارسًا, ملأتُ خزائني كُتُبًا، ما أكرَمكَ رجلًا".
وحُكمُهُ أنهُ يجوز نصبُهُ كما رأيتَ، ويجوزُ جَرهُ بِمن نحو "لله دَرُّهُ من فارس، أكرِمْ به من رجل، سَمَوتَ من أديب".
واعلم أنَّ ما بعدَ اسم التفضيل ينصَبُ وجوبًا على التَّمييزِ إن لم يكن من حنس ما قبلَهُ، نحو "أنتَ أعلى منزلًا". فإن كان من جنس ما قبلهُ وجبَ جَرُّهُ بإضافتهِ إلى "أفعل"، نحو "أنتَ أفضلُ رجلٍ"، إلاّ إذا كانَ "أفعَلُ" مضافًا لغير التَّمييز فيجبُ نصبُ التمييز حينئذٍ؛ لتعذُّرِ الإضافة مَرتينِ، نحو "أنتَ أفضلُ الناسِ رجلًا".

3- بعضُ أَحكامٍ للتَّمْيِيز
1- عاملُ النّصبِ في تمييزِ الذاتِ هو الاسمُ المُبهَمُ المميَّزُ، وفي تمييزِ الجملةِ هو ما فيها من فعل أو شِبههِ.
2- لا يَتَقدَّمُ التمييزُ على عامله إن كان ذاتًا "كرطل زيتًا"، أو فعلًا جامدًا نحو "ما أحسنَهُ رجلًا، نِعمَ زيدٌ رجلًا، بِئس عَمرٌو امرًا". ونَدَر تَقدُّمُهُ على عاملهِ المتصرّفِ، كقولهِ:
أَنَفْسًا تَطِيبُ بِنَيْلِ المُنى * وداعِي المْمَنُونِ يُنادي جِهارا
أمّا تَوسُّطُهُ بينَ العاملِ ومرفوعهِ فجائزٌ، نحو "طابَ نفسًا علي".
3- لا يكونُ التمييزُ إلاّ اسمًا صريحًا، فلا يكونُ جملةً ولا شِبهَها.
4- لا يجوز تعدُّدُهُ.
5- الأصلُ فيه أن يكونَ اسمًا جامدًا، وقد يكونُ مشتقًا إن كان وصفًا نابَ عن موصوفهِ، نحو "للهِ دَرُّهُ فارسًا! ما أحسنَهُ عالمًا! مررت بعشرينَ راكبًا"؛ (لأن الأصل "لله درّهُ رجلًا فارسًا، وما أحسنه رجلًا عالمًا، ومررت بعشرين رجلًا راكبًا". فالتمييز في الحقيقة إنما هو الموصوف المحذوف).
6- الأصلُ فيه أن يكونَ نكرةً، وقد يأتي معرفةً لفظًا وهو في المعنى نكرةٌ، كقول الشاعر:
رَأَيتُكَ لَمَّا أَنْ عَرَفْتَ وُجوهَنا * صَدَدْتَ وَطِبْتَ النَّفْسَ يَا قَيْسُ عَنْ عَمْرِو
وقول الآخر:
عَلاَمَ مُلِئْتَ الرُّعبَ وَالحَرْبُ لم تَقِدْ
فإن "أل" زائدةٌ، والأصل "طِبتَ نفسًا، ومُلِئتَ رعبًا"، كما قال تعالى: {لَوَلْيتَ منهم فرارًا،، ولُمُلئتَ منهم رُعبًا}.
وكذا قولهم: "ألِمَ فلانٌ رأسَهُ" أي "ألِمَ رأسًا". قال تعالى: {إلاّ مَنْ سَفِه نَفسَه}، وقال: {وكم أهلكنا من قرية بَطِرَتْ مَعيشَتها}، أي "سَفِهَ نفسًا، وبَطِرَت مَعيشةً". فالمعرفةُ هنا كما ترى في معنى النكرة.
(وكثير من النحاة ينصبون الاسم في نحو "ألم رأيه، وسفه نفسه، وبطرت معيشتها" على التشبيه بالمفعول به، ومنهم من لم يشترط تنكير التمييز، بل يجيز تعريفه مستشهدًا بما مرّ من الأمثلة. والحق أن المعرفة لا تكون تمييزًا إلا اذا كانت في معنى التنكير كما قدمنا).
7- قد يأتي التمييزُ مؤكّدًا خلافًا لكثير من العُلماءِ، كقوله تعالى: {إنَّ عِدَّةَ الشُّهورِ عندَ اللهِ اثنا عشرَ شهرًا} ونحو "اشتريتُ من الكتبِ عشرينَ كتابًا"، فشهرًا وكتابًا لم يذكرا للبيانِ؛ لأنَّ الذات معروفة، وإنما ذُكرا للتأكيد. ومن ذلك قول الشاعر:
وَالتَّغْلِبِيُّونَ بِئْسَ الفَحْلُ فَحْلُهُم * فَحْلًا وأُمُّهُمُ زَلاَّءُ مِنْطِيقُ