أحدث المشاركات
صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 27

الموضوع: دموع لا تنتهي

  1. #1
    الصورة الرمزية محمد ذيب سليمان مشرف عام
    شاعر

    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    المشاركات : 19,255
    المواضيع : 522
    الردود : 19255
    المعدل اليومي : 3.70

    افتراضي دموع لا تنتهي

    أعتذر لطول القصة
    أحداثها حقيقية مرَّت على الشعب الفلسطيني أثناء الهجرة الأولى وقد تكون أكثر من حادثة قمت بدمجها لتكون هذه القصة
    شكرا لحسن صبركم

    دموع لا تنتهي

    في ليلة صيف فلسطينيه , حيث نسيم البحر القادم من خلف أسوار مدن الساحل الفلسطيني يحكي قصص موجه الممزوج بعطر رائحة البرتقال يغلف برفق شوارع وازقة قرية فلسطينيه , يداعب بحركاته رؤوس رجالها وفساتين نسائها , فيما أصوات الدلعونا والعتابا والميجنا تدير الرؤوس كأنها خمر معتقة من جرار عتيقة في أقبية قديمه . رجال يلوّحون ويدبكون , يتمايلون طربا بأثوابهم البيضاء التقليدية ( القمباز ) كأنهم سرب نوارس قدم من شاطيء البحر وحط على أرضها .
    نساء ملأ الطرب رؤوسهن فحرك أيديهن بالتصفيق وأرجلهن (بالدبكة خاصَّةِ النساء) (الطيارة) وأفواههن بالغناء وأعينهن بالغيرة .
    أضواء المشاعل تنير ساحة القرية حيث بدا الليل نهاراً وذابت الظلمة في الأزقة البعيده
    عريس وسيم طويل القامة قوي البنية يتوسط الرجال في حلته الجديده يطفح محياه بالفرح والحبور , يشارك الجمع دبكاتهم ويتيه دلالاً بينهم .
    عروس فائقة الجمال اجتمعت نساء القرية بكامل عقدهن ليشاهدن جمال من فضلها "محمود" على سائر بنات القرية . وأتى بها من حيفا حيث يعمل واتخذها عروسا له . يغنين ويرقصن ويفعلن الاعاجيب فرحـا بهذه المناسبة .
    كبار السن في القرية اتخذوا زاوية من الساحة يشاهدون الحفل يشاركون حينا ويتحادثون أحيانا , ومع ذلك تقرأ في عيونهم قلقا وخوفا شديدين من قادم معلوم مجهول - كما هو حال أهل فلسطين جميعا في ذلك الوقت –
    ****
    أخبار هجرة الصهاينة الى فلسطين تؤرق الشجر والحجر و تقلق البشر ,
    المستوطنات الصهيونية أضحت خلايا سرطانية تنمو وتتكاثر باستمرار على حساب القرى العربية , قرى كثيرة يًُجتث أهلها منها بدون أدنى رحمة , مدن كثيرة مثل يافا وحيفا واللد والرملة وكثير غيرها تكتوي بهجمات العصابات الصهيونية أمثال الهاجاناه وهي أولى المنظمات الصهيونيه وأكبرها وشتيرن (نسبة الى أبراهام شتيرن) وسبيلها هو العنف ولا شيء سواه لتحقيق الأهداف وبالماخ ومعناها القوات الضاربه (الصاعقة) والتي أنشأها اسحق صاده سنة 1941 والآرغون ومعناها (المنظمة العسكرية لشعب إسرائيل) . وفي نفس الوقت قوات بريطانية تسهل حركة اليهود وتلبي رغباتهم وتمدهم بالسلاح ولم يتوقف ذلك على القوات البريطانيه فقد كانت اول شحنة أسلحة من تشيكوسلوفاكيا من بنادق ومدافع هاون ومقاومة للطائرات ثم مدرعات ومصفحات كما عملت بريطانيا والولايات التحدة بتزويد اليهود بالسلاح , وفي مقابل ذلك مقاومون شرفاء يدفعون دماؤهم من أجل الأرض والعرض بأسلحتهم القليلة المتواضعة كمّا وكيفا وهممهم العالية , وقوات عربية لم تستطع عمل شيء مهم ذي معنى فأمرهم ليس بأيديهم , انقسامات وخلافات بين المقاومين وجيش الانقاذ المزعوم , خلافات بين القادة أوصلت القوم الى العجز وانتظار الأسوأ
    في مقابل ذلك عصابات صهيونية مسلحة تسليحا جيدا , دعم لا محدود من الدول الكبرى , وتواطؤ من جواسيس وخونة الثورة , وهروب قادة اكبر الفصائل التي تدعي المقاومة في وقت الحاجة اليهم.
    حالٌ ينبيءُ عن مستقبل مظلم يعم أرجاء فلسطين حتى قبل إقدام الحكومة العثمانية على الغاء القيود المفروضة على الهجرة اليهودية عام 1913 طمعا في الرأسمال اليهودي
    ****
    ولكن الأنسان الفلسطيني تعـوّد من كثرة ما لحق به أن ينتزع الفرح من رحم المأساة .
    ومع تباشير الصباح كان النعاس والتعب قد أتى على كل من في الحفل , تقدم والد العريس مبديا شكره وعظيم امتنانه وعرفانه الى كل من شاركهم حفلهم وتمنى أن يرد لهم ذلك في أفراحهم .
    تفرق الجميع وبقي الأهل والخاصة في انتظار خروج العريس – كما هي العادة في الريف – من خدر عروسه , وما أن خرج العريس حتى تعالت الزغاريد وكأن الحفل قد ابتدأ من جديد, وابتـدأ التبريك مرة اخرى بنجاح العريس في مُهمَّته الجديدة .
    ****
    عروس البحر ودرة الكرمل بل وحسناء فلسطين تُمعن النظر في مرآة البحر وتستحم بأشعة الشمس , يربض هذا البحر الواسع تحت أقدامها حيث يغسل أقدامها صباح مساء , ويلفها بعباءته من الشمال والغرب , جدائلها الجبال والأشجارالخضراء من الجنوب والسهل الأخضر ليس سوى شعرها المفرود من الشرق, عيناها تسكب دمعاً مدرارا على مجد أوشك أن يزول حتى امتلأ البحر دموعاً , عيون الغدر تراقبها , وتدرك سـرَّ موقعها وخيراتها , ولهذا اجتمعت كل ذئاب الأرض تدنسها استعدادا لسرقتها ومن ثم نهب خيراتها , تلك هي مدينة حيفا أجمل مدن الساحل الفلسطيني فيها مصفاة للنفط القادم من كركوك , ومصنع للأسمنت , ومصنع للزيوت النباتية , وللتبغ والزجاج والبلاستك , فيها أكبر محطة لسكة الحديد . ميناؤها يعتبر بحق من الموانيء العظيمة على البحر المتوسط . وهي ليست وحيدة في هذا المصاب , شأنها شأن غيرها ولكن اللصوص يريدونها قبل غيرها .
    *****
    "محمود" ابن القرية هذا الذي عشق ابنة حيفا ومن أوقع ابنتها في حبه يسمع ويرى , وهو يعمل فيها لأسبوع كامل يعود في نهايته الى عروسه ليوم واحد فقط يقضيه بصحبتها , يطارحها الأحلام والآمال يضمهما أجمل الحديث عن مستقبلهم ومستقبل هذا القادم الجديد الذي يتحرك في أحشائها . ولكنه لا يستطيع أن يخفي قلقه من كثرة هؤلاء القادمين على ظهور السفن من ذوي الشعر الاشقر والعيون الزرقاء والقلوب السوداء التي تقطر حقدا حد الموت . يقابل ذلك رحيل أهل الارض عن ديارهم ممن يتعرضون لأذى العصابات الصهيونية او يخافون من المستقبل الغامض الواقع بين مطرقة الصهاينة وسندان الانجليز .
    مرت شهور تسعة مكفهرة القسمات على كامل فلسطين فقَدَ خلالها والده وولدت لهما " فاطمة " في أيام بدت مشحونة بالخوف بل بالرعب من القادم , بدت أحلامهما كأوراق شجرة في فصل خريف قاسٍ , وازدادت مخاوف الزوجة حين صرح "محمود " بأن الأمور تزداد تأزُّما في هذا الوطن المظلوم حتى ممن يدَّعون نصرته , أخبرها بأنه سوف يلتحق بقوات المقاومة إن عاجلا أو آجلا , ومع ذلك استمرت حياتهما رغم قسوة الظروف وقلة الحيلة بسيطة هانئة يجمعهما دفء العشرة وحب الوليدة , وخوف والتفاف حول هذه الضيفة العزيزة القادمة من ظلمات جوف الأم الى ظلام وظلم المستقبل . " فاطمة " حلم تحقق وفرحة فهل تكتمل ؟؟ وحلم آخر بمولود ذكر آخر يكون ركنا لأمه وأبيه , وآمال بمستقبل أفضل .
    العيش على جمر الإنتظار أصبح ما يميز حياة أم فاطمة أثناء غياب زوجها , أسبوع كامل وهي تنتظر عودة الزوج من حيفا ليكملا حلمهما ويبدءا حلما آخر من جديد , تستمر الأيام في دورتها وتزداد الأمور قسوة وصعوبة والحالة الأمنية تنذر بالأسوا , تتشكل لجان المقاومه في القرية , خوفا من هجوم العصابات الصهيونية . بدأ القلق والخوف يجثم على صدر ام فاطمة وهي الوحيدة منذ ان قتل اليهود والد زوجها اثناء عودته من يافا , وهذا زوجها حتى الآن منذ ثلاثة اسابيع لم يعد من حيفا وهي تنتظر , واخبار القرى الفلسطينية الأخرى لا تسـر ولا تبشـر بخيـر .
    بدا حلمها مع زوجها يتبدد , واصبح رجوع زوجها ليس اكثر من حلم يلح عليها وتتمنى أن يتحقق . بعض أهل القرية آثـر الرحيل الى أماكن اكثر امناً , فقنـاع قوات الانقاذ العربية ليس بوسعه ان يقنع أحدا بأنه قـادر أو يستطيع طرد او مواجهة القوات الصهيونيه , ام فاطمة لم تغادر منزلها أملاً بعودة زوجها ووالد طفلتهـا. *****
    في احدى الليالي البائسة التي أضحت تلف ليل فلسطين وبعد منتصف الليل ساد هرج ومرج , حركة قوية متلاحقة في شوارع وأزقة القرية , زخات من الرصاص تصم الآذان آتية من بعيد , صخب وجلبة وصراخ متداخل من اناس يصرخون " العصابات اليهوديه" اليهود... اليهود قادمون , صوت قذائف المدفعية يقترب , المنازل تقع على أصحابها ويتم تدميرها , اناس يموتون قتلا أو ذبحا , والقوات المدافعه لن تستطيع الصمود لفترة طويلة , قامت أم فاطمة كمن فقد عقله ؟ القوم يهربون أما هي الى أين تذهب ؟ ومع من ؟ من سـيرافقها ؟ أين أنت يا رفيق دربي , أين أنت يا محمود , فتحت باب منزلها شـاردة العقل مشدوهة تنظر الى القوم وهي في حالة من الذهول , لا تتحرك من مكانها, ترى كل شيء ولكنها لا تستوعب ما ترى . تقدم منها بعض الفارين من الموت وهم يغـادرون هاربين : هيا امراة هيا اهربي اهربي ماذا تنتظرين اليهود قادمون ولا يحملون سوى الموت والدمار انقذي نفسك لا وقت للتفكير هيا ... هيا اسرعي .. اسرعي .
    دخلت منزلها المظلم إلا من قنديل صغير لايكاد يبدد الظلمة التي تحتوي المكان , أبنتها فاطمة , فلذة كبدها كل ما تملكه في هذه الحياة , تقدمت من مكان نومها, الخوف واللهفة يسيطران عليها ويملكانها , حملتها وخرجت مسرعة لا تلوي على شيء وانضمت الى الراكضين والمغادرين , لا تعلم وجهتها ولا تفكر فيما صنعت أو ماذا ينتظرها , الهروب من الموت الذي يحمله رصاص العصابات الصهيونية وقنابلهم وحماية فلذة كبدها هو كل ما يملك لبَّها ويسيطر عليها . لقد تفرق الاهل وتفتت الشمل وكلٌ هاجسهم وآمالهم ان يلتئم شملهم مرة اخرى , ومع الصباح بعد الابتعاد عن مواطن الخطر ونار الحقد . كان المغادرون يركضون باتجاه الشرق كقطيع يسوقه بالسوط راع ظالم ويستحثه على المسير باقصى سرعة ممكنة , بعض منهم يعرف وجهته أو يظن أنه كذلك , سنذهب الى معارفنا في القرية الفلانية , إلى اقربائنا الى كذا وكذا ... إلا ام فاطمة لم تكن تعلم وجهتها , قدماها تتحركان كآلة فقد صمام أمانها وعقلها مشلول التفكير , كان فرارهم نحو ما اصبح يدعى بالضفة الغربية. ومع إطلالة أسوأ فجر وقد أخذ الانهاك مأخذه من جموع الهاربين , ومع ابتعادهم أو ظنوا انهم كذلك عن مواطن الخطر توقفوا كي يستريحوا وقد خف هلعهم وازدادت تعاستهم اما ام فاطمة فقد كانت اكثر الفارين تعاسة , ماذا عساها تصنع لابنتها اذا أفاقت من نومها , من سـيرضعها , فهي ليست قادرة على ذلك منذ أن مرضت وجف ثديها بعد ولادتها , جارتها من كانت ترضع ابنتها لم تعد موجودة وهي من قامت بذلك منذ الشهر الاول لولادة فاطمة , خوف وقلق وحيرة ورعب ووجهة غير معروفه تفقد كل واحد من الفارين أهل بيته وصحبه وجيرانه وكانت المفاجأة القاتلة , فاطمة لم تكن فاطمة , وام فاطمة لم تحمل بين ذراعيها سوى الوسادة , يا لهول ما حدث , عيون شاخصة وذهول مميت , صمت رهيب يسبق الانفجار , مصيبة لا ينفع معها اي علاج او صمت , انفجرت كمن فقد عقله بل هي كذلك قفلت راجعة كالاعصار , أحاطت بها النساء , منعنها واقفلن عليها كل السبل , لا مجال للعودة , شـر مستطير ينتظر من يعود وحلَّ بمن تأخر أو بقي , استكانت ووقعت كجثة هامدة , ومصابها الكبير اصبح مصابا لكل من رافقها ,
    استوطنت جموع الفارين قرى الضفة الغربية المختلفة وبقيت أم فاطمة في عهدة الحاج صالح الذي تبناها كإحدى بناته إذ ما من أحد تلجأ اليه سوى هذا الرجل الفاضل الذي أوصى زوجته ومن معه بها خيرا ****
    أثناء هروب أحد الشباب المدافعين سـمع صوت طفل يبكي داخل أحد البيوت , دفعته حميَّته على احضار ذلك الطفل وانضم الشـاب الى اسرته ومعه الطفلة فاطمة , رحبت والدة الشاب بالطفلة الرضيعة وحمدوا الله انها لم تقع بأيدي اليهود , اما الشيخ عبدالله والد الشاب الذي عمل اماما لأحد المسـاجد في احدى قرى الضفة الغربية فقد كان رأيه الاحتفـاظ بمتعلقات الطفلة حتى تكبر لعلها بوساطتها تهتدي إلى اهلها
    . (خرزة زرقاء يتدلى منها بعض الاصداف الملونة الصغيرة ) . عاشت فاطمة في كنف الشيخ عبدالله واسرته يحيطونها بالحب والعطف والعناية والتربية الصالحة , وعندما بلغت الرابعة عشرة من عمرها قرر الشيخ عبد الله ان يخبرها أمرها بكل روية ويسلمها متعلقاتها حتى تستطيع ان تستوعب الامر قبل اقبالها على الزواج , كان ذلك من أصعب الامور التي واجهتها هذه الفتاة المدللة ولكن لا بد من ذلك . وما ان مرت سنوات ثلاث حتى كانت فاطمة قد استوعبت ما حصل واصبحت تحلم بلقاء والديها .
    *****
    شـاب قادم من دار تربية ورعاية الأيتام , تعلم فيها صناعة الأحذية واصلاحها
    قرر العيش بالقرب من صديقه وزميله في دار الرعاية , ذهب معه الى قريته وافتتح دكانا لصناعة الأحذية , عرفه أهل القرية وأحبوه شابا مؤدبا , ملتزما , مرحا , نظيفا , يذهب الى المسجد كل الأوقات أحبه الشيخ عبدالله وقرَبه منه , وما ان مضت مدة ليست طويلة حتى تقدم الى الشيخ بطلب يد ابنته , رحب الشيخ بذلك وبعد ان شربا الشاي وصديقه ابن هذه القرية قال الشيخ للشاب ما دمت صديق اسماعيل فانت شاب محترم والمرء على دين خليله كما قال صلى الله عليه وسلم فأهلا وسهلا بكم ولكن يا ولدي نريد ان نتعرف عليك اكثر فهذه الدنيا صغيره وربما نكون من الاقارب
    - نعم يا عم , انا قاسم ووالدي هو الحاج توفيق من القريه الفلانية من الارض المحتلة وأصبحنا من اللاجئين بعد العدوان الصهيوني على قريتنا . توفيت والدتي وأنا في الخامسة من عمري أما والدي رحمه الله فقد غادر الدنيا بعد ذلك بخمس سنوات وأنا في العـاشرة وقد تولت دار رعاية الايتام تربيتي حتى تخرجت أنا وصديقي إسماعيل والحمدلله وحده كما ترى لدي عمل أستطيع ان أعيش منه بكرامة من اي قرية قلت لي ؟ - من قرية " كذا " .
    - يا الله ألم أقل لك أن الدنيا صغيرة واننا ربما نكون من المعارف او الاقارب
    - وكيف ذلك ياعم
    - فاطمة من نفس قريتكم ولكننا للأسف لا نعلم عن أهلها شيئا , وجدها ولدي وحيدة في أحد المنازل وهي لم تبلغ السنة من عمرها وعاشت بيننا أعز من بناتنا وسوف تبقى كذلك ما دمت حياً
    تزوجت فاطمة واستقرت في حياتها الجديده مع هذا الشاب الذي آلى على نفسه ان يعوضها أهلها وغربتها التي تعيشها مع نفسها وأن يكون لها الأب والأم والأخ والزوج والصديق والحبيب ملأ حياتها بالحب والسعادة وقاسمها الإخلاص , أنجبت منه سـتا من الأولاد , ولكن شـوقها لم يفتر لحظة واحدة لمعرفة أهلها
    ****
    مع بداية كل شهر تستقبل قريتهم خيمة كبيرة تنصبها وكالة الغوث لتوزيع المؤن على اللاجئين في المنطقة , يجتمع الناس لأستلام مستحقاتهم من الأرز والطحين والزيت والسكر والبقول وغير ذلك عوضا عن بلادهم المسروقة , يجلسون في جماعات يستذكرون ماضيهم وأرضهم وما كانوا عليه وما آلوا إليه , لقد استبدلت أرضهم وخيراتهم بكيس طحين يسـافرون وينتظرون ويكابدون من أجل الحصول عليه
    فاطمة ككل الناس تذهب لاستلام " البطاقه " كما يسمونها , تجلس مع النساء صامتة , تنظر في وجوههن وعيونهن علَّها تصل الى ضالتها أو يقودها بعض الحديث إلى طريق والديها , كل ما تملكه دليلا على انتمائها "خرزة زرقاء وبعض الأصداف الملونة " ولاشيء غير ذلك.
    في إحدى الجلسات النسائية انهمرت دموع فاطمة حينما تكلمت إحداهن عن تشتت الشمل والمعاناة وتفرق الأهل والمصير الذي آلوا اليه , لفتت الأنظار لشدة بكائها
    - ماذا أصابك يا ابنتي , كلنا اصبنا بهذا . قالت إحدى النساء الكبيرات في السن
    هزت رأسها وهي تبتلع دموعها :
    - ماذا عساني أقول , لم اعرف من الدنيا أما ولا أبا , لا أهل ولا أقارب سوى الشيخ عبدالله جزاه الله خيرا فهو من قام على تربيتي ورعايتي ثم زوجني ولم يتركني وها أنذا
    - ومن هم أهلك ؟
    - لو أنني أعرف عنهم شيئا لارتاحت نفسي كل ما أملكه من أثرهم ( خرزة زرقاء في نهايتا أصداف ملونة) قالت ذلك والحيرة والدموع لاتفارق محياها
    - من اي بلدة أنت ؟
    - يقولون من قرية " كذا "
    - أعيدي يا ابنتي ماذا وجدوا معك
    - " خرزة زرقاء "
    - هل من شيء آخر . وكان الإهتمام بادٍ على العجوز
    - نعم في نهايتها بعض الأصداف الملونه .. ها هي انظري إليها إنها معي ولا تفارقني
    - حسنا يا ابنتي أسأل اله العلي القدير أن يجمعك بهم جميعاً
    قالت ذلك وهي تغادر لاستلام مستحقاتها فقد نودي عليها .
    أخبرت فاطمة (أم علي) زوجها بما حدث لها مع العجوز فدعا لها
    وبعد يومين كانت العجوز ومعها امرأة اخرى تقفان أمام دكان أبي علي
    - السلام عليكم قالت إحداهن
    - وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته أهلا وسهلا
    - هل أنت ابو علي ؟
    وكان قوي الفراسة ذكيا :
    - نعم ... وهل أنت من تحدثت مع زوجتي قبل يومين ؟
    - نعم ... لقد أرحتني من المقدمات , جلست وهي تقول : كنت قد سمعت قصة هذه المراة التى معي منذ زمن بعيد وعندما سمعت قصة زوجتك وجدت أن الأمور المشتركة هي نفسها قصتهما واحدة وهما من نفس القرية , فقررت أن أجمعهما لعل وعسى أن يكون لي الأجر والثواب من الله ...
    - جزاك الله خيرا .. أهلا وسهلا , وأم علي أيضا كانت تحس بما قلت,
    أغلق الدكان ومضوا جميعا إلى المنزل وقلب الأم يضرب بقوة لم تعهدها من قبل .
    دخل أبو علي على زوجته منشرحا مسرورا وبعدما سلم قالت له زوجته أم علي :
    - ماذا يا أبا علي ؟ ما الذي أحضرك في هذا الوقت , ليس موعدك ؟
    - نعم ولكن معي ضيوف أعزاء , خمّني من يكونون؟ تفضلوا ... تفضلوا
    أدركت أن من تراها تقف في الخارج هي نفس المرأة التي رأتها في "البطاقة" , إذن هي جاءت بخبر سار .
    خرجت راكضة الى حيث العجوز فيم تخرج الخرزة الزرقاء وتقدمها اليهما وتصيح بصوت مرتفع أمي.. .. أمي ..هل أنت أمي ..هل أنت أمي .. لا بد أنك أمي قلبي يحدثني بذلك قلبي لا يكذب .
    - نعم يا ابنتي قلبي يحدثني أيضا قبل أن أصل إلى هنا أنك ابنتي لقد منَّ الله علينا إذ جمعنا إنه على كل شيء قدير .
    كان لقاء حميميا ساخنا , الدموع المنهمرة والقبلات الحارة والنظرات الملتهبة والإحتضان الحميمي لم يخفف من حرارة اللقاء بل زاده تأججا , كل الحضور في حالة هستيرية محببة لهذا اللقاء الأُسطوري
    وبعد أن هدأت النفوس قليلا وجلس الجميع والسعادة تغلف المكان , توجهت أم فاطمة إلى زوج ابنتها شاكرة له حسن عشرته ومعاملته وسردت على مسامع الحضور قصتها المحزنه وكيف تركت طفلتها وحملت الوسادة بدلاً منها واستدعى ذلك وابلاً من الدموع مرة أخرى . فهدَّأَ أبو علي الموقف شاكراً لله منَّه وكرمه في جمعهم مرة أخرى .
    نظرت أم فاطمة لزوج ابنتها : يا زوج الحبيبة أخبرني عنك ؟
    - فاخبرها عن نفسه وكيف جمعت الصدفة بينهما وأنه من نفس قريتهم
    واستطرد موجها كلامه الى زوجته : جهزي الغداء يا فاطمة للأحبة .
    نظرت اليه أم فاطمة باستغراب :
    - ومن هو والدك يا أبا علي ؟
    - انا قاسم ابن الحاج توفيق .
    - توفيق عبد القادر الحمدان ؟ باستغراب
    - بشحمه ولحمه , الدنيا صغيرة كما يقولون
    تمعَّر وجه أم فاطمة حد الإحتقان وانقلبت أساريرها وكأنها في مأتم
    - ماذا أصابك يا عمتي ؟ ماذا بك ؟
    - لا بأس صداع يعاودني منذ زمن بعيد ... منذ الهجرة
    - كان الله في عونك يا عمتي ... لقد قاسيت الكثير .
    أرادت المغادرة , منعها زوج ابنتها , ووقف في طريقها , تدخلت ابنتها :
    - ومن سيسمح لك بالمغادرة ؟ يا علي . يا محمد .. يا .. يا .. هذه جدتكم تريد المغادرة
    الاولاد : يا جده " لم نشبع منك يا جده " . وتكرر الطلب والرجاء
    زوج ابنتها : يا بركه مستحيل ... الخروج مستحيل .
    - لا تحاولوا معي ... اليوم مساء او غدا ساْحضر مع زوجي وأولادي ليتعرفوا عليكم فانا لم اخبرهم عن حضوري .
    خرجت فوق ارادة الجميع والوجوم سيد الموقف , حتى مرافقتها لم تستطع ان تستوعب ما حدث , غادرت وسط حيرة الجميع وهي في حالة من الهم والحزن الشديدين , وتركتهم في حالة هي اسوأ من حالتها , وصلت قريتها مع المساء , لم تتوجه الى منزلها بل الى منزل شيخ المسجد , طلبت الدخول عليه لامر هام , مكثت عنده فترة قصيرة ثم غادرت الى منزلها وعليها علامات الإصرار , اختلت بزوجها, خرجا معا وغادرا الى حيث تقيم ابنتها بعد إصرارها أن الامر لا يمكن الإنتظار عليه .
    وصلت الى بيت ابنتها قبل منتصف الليل بقليل , طرقت الباب , وعندما رآها ابو علي ادرك ان في الامر سرا لا ينتظر الصباح . دخلت واجمة والحزن يكاد يقتلها , قامت فاطمة للترحيب بوالدتها ولكن الوالدة طلبت منها ومن زوجها الجلوس والإستماع لأمر في غاية الأهمية :
    - انا يا ابنتي لم يعد لدي من شك في انك ابنتي وانني امك
    - ماذا يا أمي ... انا لم اقل غير ذلك وسعادتي بك لا توصف , ويعلم الله كم تمزق قلبي من أجل هذا اللقاء
    - انتظري يا ابنتي فالامر خطير , يعلم الله أن قلبي يتمزق , ولولا مخافة الله ما قلت اي شيء .
    تدخل زوج ابنتها : لقد احسست منذ الامس
    ان في الأمر سرا خطيرا ولكنني آثرت السكوت .. ما هذا الامر؟
    - عندما كنا في قريتنا قبل الهجرة نشب خلاف بين والدك ووالدتك , تركت والدتك على اثره والدك ولجأت الى بيت اهلها , وكنتَ صغيرا لم تكمل عامك الأول ,
    - و ... .
    - في هذه الفترة رزقني الله فاطمة , وشاء الله ان أُصاب بمرض افقدني القدرة على الإرضاع
    همّ الزوج بالكلام ولكن ام فاطمة لم تعطه المجال واسترسلت
    - كانت والدتك رحمها الله جارتي ورفيقتي ... صمتت قليلا وتنهدت بقوة , وأكملت لقد أرضعت فاطمة لمدة تزيد على تسعة اشهر , ..... فاطمة أختك بالرضاعة , وانفجرت بالبكاء .
    ساد صمت رهيب , تدحرجت الدموع , ذهول وتساؤلات , رجل يضرب رأسه بيديه , وعيون زاغت في محاجرها , وأولاد ينظرون باستنكار وينتظرون , وقد عُقدت الألسن من هول الموقف ..... .



  2. #2
    الصورة الرمزية زهراء المقدسية أديبة
    تاريخ التسجيل : Jun 2009
    المشاركات : 4,596
    المواضيع : 216
    الردود : 4596
    المعدل اليومي : 0.85

    افتراضي


    ذكريات وتفاصيل من تاريخ الشعب الفلسطيني
    أبدا لن تنسى ولن تزول آلامها إلا بزوال من كان سببا فيها
    كثيرة هي القصص المؤلمة التي واجهت الشعب الذي هجر من أرضه قسرا

    في قصتك أستاذ محمد جعلتني أعايش تفاصيل تلك اللحظات المؤلمة
    التي هجرت فيها عائلتي عن حيفا
    وما زلت استشعر تلك الغصة في كلام والدي وهو يحدثنا عن حيفا وقراها
    وكيف كا نوا يعيشون وكيف هجروا وفي عبراته كل الشوق والحنين
    والنقمة على من كان سببا من عرب ومن عجم

    ولانقول سوى حسبنا الله ونعم الوكيل فيمن طغى وتجبر

    تحية اليك ودمت معطاء
    ـــــــــــــــــ
    اقرؤوني فكراً لا حرفاً...

  3. #3
    الصورة الرمزية حسام محمد حسين شاعر
    تاريخ التسجيل : Jan 2006
    الدولة : مصر
    العمر : 42
    المشاركات : 551
    المواضيع : 30
    الردود : 551
    المعدل اليومي : 0.08

    افتراضي

    سيدي الفاضل لقد أبحرت بنا في ماضي وإن كان ذو شجون وذكريات اليمة إلا أننا
    تعلمنا وعرفنا كيف كانت حالة أهلنا في فلسطين، يعيشون ويعانون في تلك الفترة وحتي يومنا هذا لم ترفع عنهم تلك
    المعاناة التي ندعو الله أن يرفعها عنهم.

    دمتَ كاتباً رائعاً
    وما من كاتب الا سيفني ويبقي الدهر ما كتبت يداه
    فلا تكتب بخطك غير شئٍ يسرك في القيامة ان تراه

  4. #4
    الصورة الرمزية محمد ذيب سليمان مشرف عام
    شاعر

    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    المشاركات : 19,255
    المواضيع : 522
    الردود : 19255
    المعدل اليومي : 3.70

    افتراضي

    الأخت الجميلة زهراء
    نعم قصة حاولت من خلا لها تبيان أمور عدة
    أولاها جماليات فلسطين وإبراز التراث الفلسطيني ولو بالمرور على بعض المصطلحات السائدة فب تلك الأيام
    ثانيها سبب تهافت اليهود على أرض فلسطين
    ثالثها ذكر بعض المعلومات عن مصادر تسليح العصابات الصهيونبة مع ذكر اهم تلك العصابات
    رابعها مقدار التهاون الذي قابل العرب به اليهود
    خامسه وهو محور القصة
    نموذجا لمأسات مركبة عاشتها أسرة وهي تمثل آلاف الأسر في الشتات الفلسطيني
    وأظن أن لا جلد لدى اللكثيرين لمتابعة كامل القصة ويكتفون بقراءات متفرقة قبل التعليق عليها .. وهم الخاسرون
    شكرالك سيدتي

  5. #5
    الصورة الرمزية كريمة سعيد أديبة
    تاريخ التسجيل : Nov 2009
    المشاركات : 1,435
    المواضيع : 34
    الردود : 1435
    المعدل اليومي : 0.27

    افتراضي

    المبدع محمد سليمان عيد

    قصة جميلة وثرية وذات أبعاد تاريخية وإنسانية وسياسية

    قرأتها بشغف في البداية ذكرتنا برواية "عائد إلى حيفا" لغسان كنفاني ولكنها أخذت مسارا مختلفا وحكاية أخرى

    أهنئك على جمال الوصف والسرد وثراء النص بالقيم الوجدانية والشعور بالانتماء ...

    تقديري

  6. #6
    الصورة الرمزية محمد ذيب سليمان مشرف عام
    شاعر

    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    المشاركات : 19,255
    المواضيع : 522
    الردود : 19255
    المعدل اليومي : 3.70

    افتراضي

    الحبيب حسام
    لك مني خالص الشكر على زيارتك الكريمة
    نعم يا أخي حاولت تسليط ضوء على حقبة
    ستعمل الكتابات المدرسية على محوها من الذاكرة استرضاء لعدو
    لكي يعلم ويتعلم الأبناء ما مرّبنا من مآس خلال فترة الإنتداب ثم الأحتلال والتهجير
    شكرا لك

  7. #7
    الصورة الرمزية محمد ذيب سليمان مشرف عام
    شاعر

    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    المشاركات : 19,255
    المواضيع : 522
    الردود : 19255
    المعدل اليومي : 3.70

    افتراضي

    الأخت الفاضلة كريمة سعيد
    أشكرك جدا على الصبر في قراءة هذا النص الطويل نسبيا
    مع علمي بل وثقتي أن من بستمر سوف يجد ما يجبره على المتابعة
    لم أكتب القصة لمجرد كونها قصة
    لأنني استطيع كتابة قصة قصيرة جدا وأجد عليها
    كثيرا من الردود
    ولكن هذه لها هذف أسمى وأبقى
    شكرا لك سيدتي

  8. #8
    في ذمة الله
    تاريخ التسجيل : Jan 2008
    المشاركات : 2,240
    المواضيع : 61
    الردود : 2240
    المعدل اليومي : 0.38

    افتراضي

    الأستاذ القدير محمد ذيب سليمان

    تترك محن الشعوب من المرارة ما تكتنز بها ذاكرة جيل من عاصر الحدث ومن سمع عنه بتعاقب الأجيال

    ما عاناه شعبنا الأبي في فلسطين ..دروس وعبر ولعلنا نستقي منها ما يحفزنا على مواصلة النضال لاستعادة ما سلب

    سرد قصصي ..يحفز المتلقي على المتابعة ..

    سلمت ..وسلم مدادك

    محبتي.. واحترامي
    الفكـرة ُ..العالـية ُ..
    لا تحتاجُ.. لصوتٍٍ..عـال ٍ..

  9. #9
    الصورة الرمزية محمد ذيب سليمان مشرف عام
    شاعر

    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    المشاركات : 19,255
    المواضيع : 522
    الردود : 19255
    المعدل اليومي : 3.70

    افتراضي

    أخي ثائر
    أعزك الله ووفاك ومن تحب مالاقي الشعب الفلسطيني من المصائب
    وما هو عليه الآن العراق الحبيب نتمنى له العودة ليمارس دوره القومي
    أما عن القصة فخالص امتناني لتجشمك عناء قراءة مطولة كهذه
    كتبتها وانا أعلم أن كثيرا من الكتاب سوف يتركها بمجرد رؤيتها بهذا الطول
    وقلت لا بأس سوف يطلع عليها من يحب متابعة صورة من أحداث مؤلمة عاشها سعب
    وهي صورة فقط
    لأشكرك على المتابعة والتعليق

  10. #10
    الصورة الرمزية أحمد عيسى قاص وشاعر
    تاريخ التسجيل : Mar 2007
    الدولة : هـنــــاكــــ ....
    المشاركات : 1,961
    المواضيع : 177
    الردود : 1961
    المعدل اليومي : 0.31

    افتراضي

    المبدع الجميل / أستاذنا : محمد ذيب سليمان قصة جميلة مؤلمة ، لكنها طويلة ، وكنت أفضل لو اختصرت قليلاً .. أحييك أستاذي وأشكرك دوماً على امتاعنا كل الود والحب
    أموتُ أقاومْ

صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. بسمة ابداً لن تنتهي ....
    بواسطة علي عطية في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 57
    آخر مشاركة: 06-03-2016, 04:19 PM
  2. هل تنتهي القافية بصامتين ؟
    بواسطة خشان محمد خشان في المنتدى العرُوضُ وَالقَافِيَةُ
    مشاركات: 3
    آخر مشاركة: 11-01-2013, 02:46 AM
  3. غـــــــــــــزة .. هموم لا تنتهي
    بواسطة جهاد إبراهيم درويش في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 12
    آخر مشاركة: 17-06-2010, 11:05 PM
  4. لا تنتهي في راحتيَّ... بلا جسد!
    بواسطة حنين عمر في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 30-12-2005, 03:33 PM