أحدث المشاركات
صفحة 1 من 4 1234 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 39

الموضوع: أنستاسيا .. وردة الهزيع الأخير ..رواية

  1. #1
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2010
    المشاركات : 1,149
    المواضيع : 174
    الردود : 1149
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي أنستاسيا .. وردة الهزيع الأخير ..رواية

    بسم الله الرحمن الرحيم
    انستاسيا ..وردة الهزيع الأخير ..رواية

    عبدالغني خلف الله الربيع -الخرطوم
    الحلقة الأولي

    أويس .... نعم؟! إسمك مرة أخري يا ولد ..إسمي أويس مرغني الفاضل .. واضح .. هيا أجلس . .بعده .. كان ذلك أول سؤال أتلقاه وأنا أخطو أولي خطواتي بالمدرسة الابتدائية .. جاري في الفصل همس في أذني بلطف لا يشبه السن التي نحن بها قائلاً .. منو السماك كده .؟. أبوي طبعاً .. وده اسم شنو ؟ .. في الواقع لم أكن أعرف الإجابة .. وعند عودتي لمنزلنا لم يكن والدي قد حضر من العمل .. فهو ضابط إداري .. فتوجهت بالسؤال لوالدتي .. ماما .. ماما.. ما معني أويس؟! أويس .. إنتظر لما بابا يرجع ..انتظرت عودة والدي بفارغ الصبر وعندما هممت بسؤاله كلفني بحزمة من المهام .. ( دخّل الرغيف.. .. تلقي الجرايد في المقعد الخلفي وأمشي نادي أستاذ عبدو عشان اتغدي معانا) وكان ثمة ضباطاً آخرين في معيته ..وهكذا ضاعت عليّ فرصة التعرف علي كنه اسمي وبت مستعداً لسخرية زملائي .. ولكن ظل الفضول مسيطراً عليّ إلي أن حانت اللحظة المناسبة .. إذ دخل علينا أستاذ اللغة العربية فتوجهت إليه بالسؤال دون تردد .. أستاذ .. أستاذ .. ممكن أسألك سؤال ؟ .. طبعاً يا ابني تفضل .. أويس معناها شنو؟ .. أغلب الظن أن المقصود هو أويس القرني وله قصة معروفه فقد أوصي الرسول صلوات الله وسلامه عليه أصحابه بأن يطلبوا من أويس هذا أن يدعو الله لهم كلما لقوه .. لأن دعوته مستجابة وهو من عباد الله الشاكرين علي الابتلاء مثل سيدنا أيوب عليه السلام .. فهمتوا المعني يا أولاد ؟ .. فهمنا .. ومن ثمّ واصل الحصة ومذ ذاك الحين وأنا أمشي مشية الخيلاء بين التلاميذ وتناقل الجميع قصة اسمي وتنازل لي الألفة طواعية عن موقعه وانهالت علي الهدايا من زملائي بالفصل .

    أويس..؟ .how do you spell it كيف تتهجاه ؟ أنستاسيا .. وقد راق لها الاسم .. هل يمكن أن أكتبه (oh ..Yes? ) .. بالطبع ولم لا ..( سباسيبا ) .. لا شكر علي واجب .. ومرة أخري وجدتني وأنا أشرح لها معني الاسم .. كانت منفعلة بما تسمع .. وتوقفت كثيراً عند مدلول الشكر علي الابتلاء .. لا بد إنه كان إنساناً رائعاً .. وفي زمننا هذا يصعب العثور علي شخص كهذا .. تأمل معي الزملاء في ال( أونفيرستيت دورشبي ) .. بجامعة الصداقة والذين حضروا إلي موسكو من جميع بلدان العالم الثالث .. ولكنهم وبدلاً من التفرغ للدراسة تجدهم يتبادلون خبراتهم في صنع الألغام والمتفجرات ويحملون بين جوانحهم حقداً هائلاً علي مجتمعاتهم التي حضروا منها لا سيما الأنظمة الحاكمة في بلدانهم .. إنهم ثوريون وأنتِ تعلمين ذلك وبلدكم تمنحهم فرصة الحضور إلي هنا ليصبحوا شيوعيين ثوريين .. شيوعيون نعم أما ثوريون فلا .. وما الفرق يا أنستاسيا ؟ الفرق كبير .. نحن لم نطلب منهم إراقة الدماء .. فقط أردنا منهم التبشير بقيم ومبادئ ثورة (البروتاريا) ونشر الفكر الاشتراكي لا أكثر ؟
    أنستاسيا ..أنستاسيا .. مهرة آسيوية من الزمن الجميل تمتلئ حيوية وسحراً ..تركض من غرفتها حتى الكافتيريا وتركض من الكافتيريا حتى قاعة المحاضرات وتركض من قاعة المحاضرات حتى نزل الطالبات ..فهي في حالة ركض مستمر ..أحياناً تركض في الميادين الفسيحة بالجامعة في زمهرير الشتاء لا تأبه بالرياح العاصفة والمطر ..لم تركضين هكذا يا قمري ودوائي في هذه البلاد الثلجية المذاق ؟.. أنستاسيا كفاك ركضاً فأنا أريدك في أمر هام .. قله لي وأنت تركض بجانبي ..أريد أن أعترف لك بأنني .. بأنني .. تكلم فأنا مصغية لك .. ( يالوبلو تيبيا) .. ماذا قلت ؟ الرياح قوية وأنا لا أسمعك جيداً ..لا بأس عندما تكملين هذا الشوط انضمي لي بالكافتيريا ..لأقول لك ..أحبك يا ( أنّا ) ..بكل لغات الدنيا ..فقط أحبك وليتك تفهمين ؟
    ***
    شتاء موسكو القاسي يمزق أوصاليّ ..فأنا لم أتمكن من دفع فاتورة التدفئة فقطعوا عني الغاز ..إن المصاريف لا تأتي من السودان بانتظام والكمبيوتر المتنفذ لا يفهم أن الناس في دول العالم الثالث يعانون من البيروقراطية لدرجة الجنون .. ولم تنجح الألحفة الكثيفة في كبح جماح الرياح العاتية التي تولول في الخارج ..وهاهو الكون يطرح جانباً ستر الظلام ويتهيأ لاستقبال يوم جديد ..
    ارتديت ملابسي علي عجل وتوجهت نحو أقرب مقهىً لتناول قدحاً من الشاي إذ لم يكن بمقدوري صنعه بنفسي .. فكل شيء ب(الشقة) معطل .. كنت علي موعد مع أنستاسيا لأحدثها عن تأريخ المنطقة العربية وتاريخ السودان علي وجه الخصوص وقد لاحظت اهتمامها بالتاريخ ..ولم أدرِ وأنا أقطع المسافة من علي الرصيف الخالي من المارة .. أن أكثر من مفاجأة تنتظرني داخل المقهى .. لم أكترث لها في بادئ الأمر وأنا أخلع عني الجاكتة السوداء ذات الأزرار المدببه وأسلمها للنادل .. كانت تجلس في أقصى ركن بالمقهى وأمامها قدح من القهوة وهي تدخن .. سيدة في مقتبل العمر ذات ملامح لاتينية والأرجح أنها من البرازيل أو ربما كولومبيا .. كانت ساهمة ومهمومة لا تشعر بما يدور حولها تنفث الدخان من سيجارتها فينداح دوائر غامضة ترسم أنماطاً من الصور المبهمة ..وبدا وكأنها تتابع بنظراتها كل نفثة منذ أن تغادر فمها الرقيق وحتى مصافحتها لزجاج النافذة المبلل .. جلست بالقرب منها وأنا أرتجف من شدة البرد .. قلت لها صباح الخير ..ردت بإيماءة مترددة وأشاحت بوجهها عني لتراقب عبر الحاجز الزجاجي مجموعة من الصبية يتزحلقون علي الجليد بأحذيتهم ذات العجلات .. الناس هنا يتأقلمون مع كل الأجواء في سهولة ويسر أليس كذلك ؟! .. همست بهذه الملاحظة وأنا أوجه السؤال مباشرة نحو عينيها ..عينان زرقاوان فيهما عوالم من السحر غريبة .. وزاد الموقف غموضاً صوت المغني الذي ينداح عبر جهاز التسجيل ( إنني أبحر إلي وطني مرة أخري ..إنني أبحر ..) وصوت (رود ستيوارت) المفعم بالشجن يحاصرنا ..( لن أبكي أبداً بعد اليوم .. لن أبكي أبداً ) .. هي إذن لحظة مشاركة وجدانية لهموم الغربة بعيداً عن الوطن ..فعادت هي مباشرة إلي( بوقوتا ) وعدت أنا إلي (وادمدني ) وذكريات طفولتي هناك وإلي (رزان ) .. ولماذا رزان بالذات؟! ..كنا جيراناً ووالدها يعمل معلماً بالمدرسة الوسطي .. ولمّا كانت المدرسة التي تدرس بها في جوار مدرستي فقد طُلِب مني أن أقوم بتوصيلها كل يوم وإعادتها بعد نهاية اليوم الدراسي .. كانت لطيفه ولديها مقدرة فائقة علي سرد القصص المسلية عن والدها وأمها وإخوتها الصغار .. بيد أننا افترقنا بعد حين وتفرقت بنا السبل .. نقل والدها في بادئ الأمر ونقل والدي بعد فترة قصيرة من مغادرتهم .. بكت وهي تودعني وكنا وقتها قد صرنا في الصف الخامس .

  2. #2
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2010
    المشاركات : 1,149
    المواضيع : 174
    الردود : 1149
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي

    الحلقة الثانية ..
    إسمي أويس وأنا من أفريقيا من السودان وأدرس الطب بجامعة الصداقة .. وأنا من كولومبيا واسمي إيزابيلا وأمارس التجارة .. سعدت بمعرفتك ..وأنا أيضاً ..قالت ذلك وهي تلملم علبة سجائرها وأشيائها ..قمت بسرعة لإرجاع مقعدها للوراء قليلاً لأمّكنها من النهوض بيسر ..هل تحضرين عادة لل(هايسندا ) ؟ ..أحياناً .. طاب يومك .
    * * *
    كنت شارد الفكر طوال اليوم أفكر بتلك السيدة الغريبة .. إيزابيلا .. إيزابيلا .. لماذا هي وحدها ؟ وما الذي يدفعها للخروج في ذلك الصباح الباكر ؟ هل لاحظت الفراء الفخم الذي كانت ترتديه ؟ لا بد أنه يساوي آلاف الدولارات والقادحة المذهبة وسيماء العز والثراء التي تلون كل حركة وكل سكنة من سكناتها .. يا لأناقتها ويا لجاذبيتها .. لكأنها حقل من المغناطيس .. ولكن أنستاسيا أخرجتني من تأملاتي كعادتها في كل مرة .. ركضت نحوي فيما كنت أتهيأ للدخول إلي قاعة المحاضرات وقد منحتني ابتسامة عريضة أضاءت وجهها الجميل .. ومشكلة انستاسيا أنها لا تدرك كم هي جميله ..لا تهتم بمظهرها كبقية الطالبات .. ولا تضع شيئاً من العطر .. إنه رداء ( الجينز) المتواضع وبلوزتها البيضاء أو السوداء لا فرق ..وكأن لديها عداء مستفحل ضد البهرجة والألوان ..ولكنها تبقي جميلة بذاك السمت القوقازي الخلاب ونظرات الاعتداد بالنفس والبلد والتاريخ ..ألهذا السبب تدرسين التاريخ يا أنستاسيا ..؟ فاجأتها بهذا السؤال ذات مرة وكنا نجلس في أريكة داخل مسرح الجامعة الخالي من الناس .. كانت قريبة مني بدرجة أصابتني بالتوتر الشديد وبعفويتها المعهودة أراحت رأسها فوق كتفي وحدثتني كيف أنها تخاف كتابة التاريخ .. وضعت يدي فوق ركبتها اليمني أنقّرها في تتابع محموم وراودتني نفسي في تطويقها بذراعيّ وتقبيلها ولكن نقاشها الجاد للموضوعات التي طرحتها وشعورها الأخوي نحوي جعلاني أصرف النظر عن ذلك التصرف الأحمق ..إن السمو فوق الشهوات واجب صعب والطبيعة الحيوانية للرجل حين تستثار يجب أن تكبح عندما تكون القضية أسمي من كل الغرائز .. مرحباً انستاسيا.. لم أرك منذ الأمس ..لدي خبر سار لك وآخر مزعج بعض الشيء .. مزعج ؟ كيف ومتي وماهو ؟ .. وكنت قد تلقيت اتصالاً هاتفياً من الوالد يخبرني فيه أن صحة والدتي ليست علي ما يرام ..أصابني رعب حقيقي وتلاحقت أنفاسي في صعود وهبوط لدرجة الجنون .. أمي الحبيبة يا كم أحبها ..لقد وعدتها بأن أعود ومعي (بكلاريوس) الطب ووعدتها بأن أكون طبيبها الخاص حتى آخر يوم في العمر ..بيد أن ابتسامة انستاسيا الغامضة والتي تلمّح إلي عتاب حقيقي وكأنها تقول لي لقد كشفتك أيها المخادع قد أراحتني نوعاً ما .. لنبدأ بالخبر السار .. لقد قررت إدارة الجامعة منحك غرفة بالداخلية الغربية ..غرفه ؟!!! لي أنا ؟! ما أروعك يا أنستاسيا ..إذن لن يتحتم عليّ تمضية ليلة أخري بدون تدفئه ..أما الخبر الثاني يا مكّار .. لقد كشفك أحدهم وأنت تقبّل الطالبة الكشميرية مساء البارحة ..أنا أقبّل شاهنده ؟!! هذا ليس صحيحاً ..أقسم ..لا تقسم يا أويس ..هنالك سوء فهم قد وقع وعليّ تصويبه .. صوب كما تشاء ولكن الأمر لا يعنيني في شيء .. إنهم يعولون عليك كثيراً في الحزب وأنت قد حفظت ولا ريب قوانين الجامعة ..لا أعمال فاضحة داخل الحرم الجامعي أم لعلك نسيت يا صديقي ..؟ في الحزب ؟ نعم .. سمعتهم يقولون أثناء الاجتماع الأخير أن لديك (كارزما) غير عادية وميول فطرية نحو الفكر الاشتراكي من خلال مراقبتهم لسلوكياتك طوال العامين المنصرمين ومنذ انطلاقة هذا العام .. ويتوقعون لك مستقبلاً باهراً في عالم السياسة عندما تعود لبلدك السودان ..إذن لقد كنتِ هناك ؟ .. بالطبع .. وأنتِ من أوجد لي الغرفة بالداخلية ؟ ..ماذا تظن أنت ؟..ألم أقل لك أكثر من مرة بأنك أغلي شيء أنتجته روسيا عبر قرون .. شكراً .. شكراً .. والآن دعنا نتوجه نحو شقتك وسوف أساعدك في لملمة متعلقاتك.
    شاهنده ..العزيزة الكشميرية ..تسحرني منذ قدومها للجامعة هذا العام .. لعلها أيقظت في دمي كل تراكمات الإعجاب التي يكنّها كل سوداني أدمن الأفلام الهندية في السودان وأنا واحد منهم ..علمت منها بأنها مسلمة وقرأت لي سورة الفاتحة وسورة الإخلاص ونحن نستدفئ في المكتبة الجامعية من زمهرير الشتاء .. اعتراني شعور طاغ بالبهجة وهي تختتم تلاوتها بعبارة ( سدق ألاهو الأزيما ) .. وكنت لا أرتوي من التحليق في سماواتها كلما أتيحت لي الفرصة ومساء أمس كانت محبطة وحزينة وبكت بدموع المطر وهي تنقل لي نبأ استشهاد شقيقها في(سرنغار).. حاولت أن أخفف عليها مصابها وأنا أضمها إلي صدري وأمسد شعرها وصدي نهنهاتها تزلزل كياني ..إنها وحيدة في هذا البلد بعكس بقية الطلاب .. وبالفعل سعيت نحو تقبيلها ولكنني حين اقتربت من شفتيها تذكرت بأن هذا الفم الممتلئ يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فاعتراني شعور عميق بالخوف والرهبة .. صعدت قليلاً لأقبلّها فوق جبينها فتراءت لي وهي غارقة في السجود لله .. ومن ثم ّ مكثت بقربها طوال الليل في مقعد خشبي في مواساة أخوية لا أدري كم أخذت منا من وقت وأوصلتها إلي نزل الطالبات وأوصيتها بالتشبث بالذكر حتى يطمئن قلبها وأن الشهيد حي يرزق كما أنبأنا بذلك القرآن الكريم
    ***
    لا أملّ التردد علي ( الهاسيندا ) بحثاً عن إزابيلا .. لدرجة أنني أصبحت من الوجوه المألوفة لدي أصحاب المقهى .. وربطتني صداقة حقيقية مع (جوكي ) الموسيقي .. فصرت أساعده في انتقاء الأقراص الموسيقية التي يقدمها لرواد المقهى وكانت تستحوز عليّ أغنية بوب مارلي no woman no cry )) .. بصورة أقرب إلي الإدمان .. وذات مساء ناعس شابه هواء لطيف لا يشبه أجواء موسكو الممطرة .. أطلت علينا إزابيلا كملاك صغير أضاء المكان بحضوره القوي .. تجمدت الدماء في عروقي .. ازداد إيقاع الموسيقي عنفواناً .. واجتاحت أعصابي كيمياء اللهفة والأشواق فحولتني إلي بارود يوشك أن ينفجر .. أزاحت بعض الرزاز الذي تجمع فوق كتفيها وهي تسلم معطفها للنادلة وربطت شعرها بمنديل أحمر قبل أن تقرأ المكان وعندما التقت أعيننا هتفت دون أن تدري ( هالووا ) هل تذكرني ..؟ أراهن أنك إزابيلا أليس كذلك ؟ .. نعم بالطبع أنا هي .. لديك ذاكرة لا تضاهي .. أين كنت طوال الأسبوع الماضي ..؟ كنت في رحلة عمل إلي( ليننقراد) .. مرحباً بك .. كيف أنت ؟ ..أنا بخير وعليّ أن أعترف بأنني افتقدتك وأنك أوحشتني بشده ..أحقاً ؟ .. أنا آسفة لم أكن أتصور بأن للرومانسية مكان في ذاكرة القرن العشرين .. لو كنت أعرف أن شعورك نحوي قوي بهذه الدرجة لطلبت منك مرافقتي وهذا ما ستفعله بدون تردد كل امرأة منسية مثلي .. كانت رحلة طويلة وقاسيه .. قلت لها لا بأس ولكنني لن أفرط فيك مرة أخري .. تحت أمرك .. وهكذا أزاحت إزابيلا عن كاهلي كل تراكمات الترقب والعودة إلي الداخلية وأنا أجرجر أذيال الخيبة والألم .. راجعت كل التفاصيل الممكنة في مرايا قدها الصبي وهي تحاول استعادة لغتها الإنجليزية مع بعض الجمل الإسبانية المبعثرة أثناء حديثها هنا وهناك .. ولم أشأ الضغط عليها من الوهلة الأولي .. وتركت كل ما أود معرفته عنها لمقبل الأيام .. ثرثرنا قليلاً عن الوضع العام في الاتحاد السوفيتي والعالم بصفة عامه وتوقفنا عند ظاهرة ( البروستاريكا ) .. والانقلابات في أفريقيا وأمريكا اللاتينية وتبين لي أنها ثورية المزاج بصورة أخافتني وجعلتني أتردد عشرات المرات في سؤالها من تكون ولماذا هي هنا وما حقيقة الأعمال التجارية التي تقوم بها في موسكو؟ وعند منتصف الليل أصرت علي توصيلي حتى بوابة الجامعة وعانقتني بصورة متعجلة ونحن داخل العربة وهي تتمنى لي ليلة سعيدة وتابعتها بكل جوارحي وهي تدير ماكينة عربتها وتستدير لتغادر .

  3. #3
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2010
    المشاركات : 1,149
    المواضيع : 174
    الردود : 1149
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي

    الحلقة الثالثة
    لم أعد قادراً علي التركيز في المذاكرة وها نحن وقد تجمعنا للاستماع إلي مسئول الحزب عن دائرة موسكو ليحدثنا عن التحولات الاقتصادية التي أحدثتها ثورة (البروتاريا) في المجتمع الروسي .. وبدأ وكأنه يفند كل أطروحات الرأسمالية وينتقص من فعاليتها .. وعند ختام المحاضرة همس في أذني (بسام القادم) من نابلس بالضفة الغربية المحتلة .. إياك أن تثق في هذه الترهات يا أويس .. لقد تجولت في الريف الروسي ورأيت مدي البؤس الذي تعيشه الجماهير هناك .. حدثني أيضاً عن المزارع الجماعية التي تشبه إلي حد كبير نظام (الكميونات) بإسرائيل وكيف أن المواطن بالكاد يحصل علي ما يسد رمقه وحكي لي طرفة حول أحد المزارعين الذي اجتهد في تحقيق الربط المفروض عليه في توريد أصواف الأغنام وقد جاء إنتاجه أقل من المطلوب بأوقيات معدودات بيد أن مسئول الحزب أصّر علي أن تستكمل (الكوتة ) قبل أن يؤشر علي اسمه .. فما كان من ذلك المزارع إلا أن قص شعر رأسه وخصلات بناته الثلاث ليكمل الربط المفروض عليه .. سألته في إشفاق هل ستعود في عطلة نهاية العام إلي فلسطين وكانت عري الصداقة قد توطدت بيننا .. طبعاً سأعود ..لا بد لي من تعويض ما فاتني من الانتفاضة ..ولكنني أخاف عليك من البطش الإسرائيلي ..اعتدل في جلسته وكأنه يود الإفصاح عن شيء خطير ..لا تخف عليّ يا صديقي العزيز أويس ..أنا الآن في الخامسة والعشرين من عمري وقد وصلت إلي السقف العمري الذي يتمناه كل شاب فلسطيني وأية امتدادات أخري في الحياة بعد الخامسة والعشرين هي ملك لحركة التحرير الفلسطينية تفعل بها ما تشاء متي ما شاءت وكيفما شاءت .
    كنت أحاول إعادة ترتيب الغرفة بالطريقة التي تروقني عندما سمعت قرعا خفيفاً علي الباب وصوت مدير الداخلية ينادي علي إسمي ..فتحت الباب لأستجلي الأمر فوجدته بصحبة شاب ذي ملامح أوربية ويحمل فوق كتفه حقيبة متوسطة الحجم ..أقدم لك الطالب (شوماخر) من ألمانيا الغربية وسيكون زميلك بالغرفة .. ترددت برهة وأنا أهمهم بعبارات الترحيب المعتادة ..لا تقلق مستر أوليس ..أويس وليس أوليس .. قلت وأنا أصححه ..مستر(شوماخر) يتقن الإنجليزية ولن تكون اللغة حاجزاً بينكما ..أدخلته وقدمت له كوباً من العصير وكان يبدو متعباً وحائراً .. ربما من آثار السفر .. مرحبا .. سعدت بمعرفتكم .. من أي بلد أنت ؟ أنا من السودان ..أعرف السودان لقد قرأنا عنه ونحن أطفال صغار ..أحقاً..؟ نعم ..Das land des mahades..لقد كتب عنكم (كارمايكل) كلاماً رائعاً وعن الثورة المهدية بالذات .. وكنتم تصدرون لنا الأعلاف الغنية بالدهون .. كلامك هذا أطربني يا (شوماخر) .. ولكن ماذا تعني كلمة شوماخر ؟ .. تعني صانع الأحذية ..وأنت هل يحمل اسمك مدلولاً خاصاً أم أنه مجرد اسم .. قلت له وأنا أستجمع أفكاري .. لهذا الاسم قصة عظيمة ومن ثمّ طفقت أقص عليه قصة ذلك العابد الصابر ودعوته المستجابة .. بيد أنه فاجأني بقوله ولكنني لا أؤمن بأشياء من هذا القبيل كالجنة والجحيم ويوم القيامة .. قلت له في حزم شديد .. لا أعتقد أنه قراراً صائباً وسنتجادل في هذا الأمر لاحقاً .. تركته يأخذ حمّاماً دافئاً وعوضاً عن النوم تابعته وهو يغير هندامه وكأنه يتأهب للخروج .. أتوقع مجيء (أنجلينا) ابنة عمتي التي سبقتني إلي هنا وتحضّر للماجستير في العلوم السياسية .. وبالفعل سمعنا طرقاً خفيفاً علي الباب وصوت هامس يستأذن الدخول .. تفضلي أنجي .. يسعدني أن أقدم لك المستر أوليس وهو من السودان ويدرس في كلية الطب .. أويس ..عفواً .. كانت رائعة الجمال بحق .. ربما أكثر من أنستاسيا .. قوام فارع وملابس بسيطة وقد تبعثرت خصلات شعرها فوق كتفها العاجي .. (واو..!!) .. تنهدت بارتياح بالغ وبشيء من الدهشة .. أنتم من ذبح (غردون باشا) أليس كذلك ؟ .. نعم ..[نعم ولكنها لم تكن رغبة المهدي ..لا يهم المهم أنكم نلتم من ذلك الطاغية .. يدهشني حديث فتاة جميلة مثلك عن الذبح بهذا الحماس .. ولم لا ؟.. كل تصرف جائز من أجل القضية ..القضية ؟ .. ولكنك فاتنة جداً والمفروض أن تكوني رومانسية ..لا تراهن علي جمالي فأنا قوية الشكيمة .. حاولت تغيير مجري الحديث وسألتها عن موضوع درجة الماجستير الذي تحضّره .. لينين .. لينين؟! .. كل شيء يخص لينين .. حياته أفكاره .. مؤلفاته .. كل شيء عن لينين .. وتركتهما يغادران والحيرة تعربد في دواخلي .. الذبح ؟ .. القضية ؟ أي لغز أنت يا أنجلينا ؟! ..أذكر أن رزان قالت لي ذات مرة .. عندما يذبح خروف في منزلنا في عيد الأضحى أو في أي مناسبة عائلية أركض نحو غرفتي وأدفن وجهي في الوسادة وأضع وسادة فوق راسي حتى لا أسمع صوت الخروف وهو يتألم .. قلت لها هذا شعور طيب يا رزان .. أنت بنت حلوه ورائعة وأتمنى أن نتزوج عندما نكبر .. نتزوج ؟ صرخت في استنكار واضح .. أنت صغير ولن يكون بوسعك حملي بين ذراعيك إن أنا قبلت بك عريساً يا أويس .. تماماً كما نشاهد في المسلسل .. بل أستطيع .. لن تستطيع .. بل أستطيع .. تراهنني علي ذلك ؟ سأتظاهر بأنني مريضة وسأجلس تحت ذاك الجدار وحاول أن تحملني بين ذراعيك .. قلت لها موافق .. وبسرعة غريبة ركضت نحو الجدار وتهاوت نحو الأرض وهي تدّعي الضعف والمرض .. وضعت حقيبتي جانباً وشبكت كلتا يدي حول خصرها وعندما هممت بحملها سقطت من فوقها وتكومنا فوق بعضنا البعض كتلة واحده .. شعرت بالخذلان المرير .. أما هي فقد انفجرت في ضحك أقرب للهستريا .. ومن ثمّ نهضت مجدداً وأنا أنفض التراب عن قميصي ومددت لها يدي أساعدها علي النهوض .. وفي هذه اللحظة مرت سيدة بقربنا وسألتنا في استغراب ..( ما بكما يا أولادي ؟ ) .. قلت لها.. أبداً .. أختي مريضة ولا تقوي علي السير ..فاقترحت علينا أن نوقف عربة (كارو) سارت في محازاتنا لتنقلنا حتى منزلنا وهذا ما فعلناه بالضبط .

  4. #4
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2010
    المشاركات : 1,149
    المواضيع : 174
    الردود : 1149
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي

    الحلقة الرابعة
    اليوم هو السبت وفي المساء ستقدم علي خشبة المسرح عروض(فولكلورية) ضمن النشاط الثقافي بالجامعة ونسبة لأن معظم الطلاب السودانيين قد تخرجوا .. وإذ لم يقبل أي طالب هذا العام من السودان بعد تدهور العلاقات بين الاتحاد السوفييتي والسودان الذي انقلب علي السوفييت بمائة وثمانين درجة وتحول من حليف قوي للشيوعيين في قلب إفريقيا إلي خصم عنيد ..لذلك لم يكن أمامي سوي الاستعانة ب(شاهنده الكشميرية) و(بسام الفلسطيني) لتقديم شيئاً ما باسم السودان .. وكنت قد أحضرت معي آلة الربابة التي أتقن عزفها بشكل لافت وكانت (أنّا) كثيراً ما تطلب مني أن أغني لها وحدها بل وأن أشرح لها معاني الكلمات ..غنيت لها ذات مرة أغنية (النعام آدم) .. ( مرحبتين حبابك ) ..كانت محبطة بعد الشجار العنيف الذي وقع بينها وبين خطيبها .. وفي مساءات كتلك يكون الشجن باذخاً وموجعاً في الوقت ذاته .. بكت فشعرت بارتياح شديد .. فدموع المرأة تعني أن الأزمة في طريقها للزوال.. هل تحتفون بالأنثى في بلدكم لهذه الدرجة يا أويس ؟ بل وأكثر من ذلك يا فرحة عمري .. وكانت شاهنده هي الأخرى في حاجة لمن يخرجها من عزلتها التي فرضتها علي نفسها منذ استشهاد شقيقها في (سرنغار) في عملية فدائية استهدفت برلمان الإقليم هناك تلقفتني (أنستاسيا) عند مدخل القاعة الرئيسة بالجامعة وهي تهنئني بحرارة علي إنجاز ليلة أمس .. ركضت خلفكم أنت وأصدقائك حتى مرآب السيارات وتوقفت عندما رأيتكم تصعدون عربة تلك السيدة الجميلة ..( واو ..) ..هل هي عشيقتك يا أويس ..؟ ..لا بل معرفة وطيدة لا أكثر ..أقسم لك يا (أنّا) ..وقرأت بوادر غيرة تحاول جاهدة إخفاؤها ..أنظر أويس ..إييه ..! ..كيف أشرح لك الأمر ..أسمعني جيدا أويس وانتبه لما أقول ..أنت مشروع حياتي ومشروع الحزب الشيوعي السوفيتي .. ونحن نقوم بإعدادك لتحمل مسئوليات جسيمة في بلدك وفي كامل منطقة الشرق الأوسط ..إذا نجحت في صياغتك علي النحو الذي أرغب أتقدم في الحزب وفي حياتي وإذا فشلت أتهاوى نحو القاع ..أرجوك ساعدني يا أويس ..ساعدني أرجوك ..أرجوك ..( صمت ودموع ..) ..أنت تبكين يا (أنّا ) ..لم أكن أعلم بأنني قد ضايقتك لهذا الحد ..أرجوك سامحيني ..وكنا وقتها قد وصلنا إلي ملتقانا المفضل ..المسرح الخالي من الجمهور سوانا ..أجلستها علي الأريكة وهي ترتجف من شدة التأثر ..أخرجت من جيب سترتي منديلا وبدأت أجفف دموعها وأردد لا بأس يا حبيبتي ..لا بأس يا غاليتي ..هل تعدني بعدم الانزلاق في علاقة غير مأمونة العواقب مع تلك السيدة المشبوهة يا أويس .. قلت بعد تردد ..أعدك بأن أبذل قصارى جهدي .. هنا ابتسمت ابتسامة عريضة وطوقتني في محبة صادقة ..الآن أشعر بالتحسن .. لقد ابتاعتكم ثلاجه ..أليس كذلك ؟!..نعم ولكننا سنرد لها كلفتها ..لن تكون بحاجة لذلك ..لقد تحصلت لك علي إعانة شهرية من الخزينة العامة وهي تكفيك وتكفي لتسديد ديونها عليك .. قالت ذلك وناولتني مظروفا اشتمل علي مبلغ كبير من المال .. شكرتها وأنا أحاول أن أقول لها ..ما كان عليك أن تفعلي ذلك ولكنني تذكرت كلامها حول الدور المتوقع مني عندما أعود إلي بلادي .

    والآن لكي أفهمك جيداً لا بد لي أن أتعرف علي كل كبيرة وصغيرة تتعلق بنشأتك ..أين ولدت ومن هما والداك وكيف تعيش وأين كان أسلافك الأوائل قبل استقراركم بالخرطوم ؟!..هل أبدأ بوالدي ؟ ..لا بل أبعد .. بجدي ؟ ..لا بل أبعد ..بمن إذن أبدأ ؟ ..بجدك العاشر لأبيك ..أليس لديكم ما بات يعرف بشجرة العائلة ؟ .. جدي العاشر يا ( أنّا ) .. هل أنت جادة فيما تطلبين ..؟!!..نعم ..نعم ..أنا جادة وأصغي إليك جيداً ..فاجأني طلبها الغريب ..فأخذت نفساً عميقاً وبدأت أقص عليها قصصاً من نسج خيالي حتى أتفادي هذا الموقف الصعب . .كان جدي العاشر ملكاً يعيش وشعبه في منطقة نائية بالجزيرة العربية .. وكانت لديه ابنة كثيرة الجمال تدعي ( شجرة الدر )..ومن شدة جمالها وعلمها وأدبها تناقلت سيرتها القوافل الصاعدة والهابطة في وهاد وجبال جزيرة العرب ..وتقدم العشرات من أبناء الملوك والأمراء يطلبون يدها من أبيها الملك ..وحتى يتخلص جدي من هذا المأزق .. وضع شرطاً غريباً علي خاطبيها وهو القفز فوق فوهة جبل (الجلاميد) بفرسه من هذا الجانب إلي الجانب الآخر ..كان جبل (الجلاميد) بعلوه الشاهق جبلاً واحداً ..وضرب زلزال عنيف ذاك الجبل فقسّمه إلي نصفين لتقوم بينهما هوة عظيمة ..بيد أن المسافة بين النصفين لا تكاد تزيد عن العشرة أمتار ..وقبِل الأمراء والنبلاء التحدي من شدة تعلقهم بجدتي ..بالرغم من المخاطر التي تكتنف العملية بأسرها ..قام كل فارس باختيار أقوي وأصلب ما لديه من خيول ..واجتمع جمهور غفير من الناس يتقدمهم الملك والوزراء والأمراء والأعيان ..وتجمع شعراء العرب من كل حدب وصوب ليؤرخوا لذلك الحدث الجلل ..باستثناء جدتي الأميرة (شجرة الدر) ..التي لم تكن أصلاً موافقة علي هذه المغامرة الغريبة واعتكفت بجناحها الخاص بقصر أبيها تدعو الآلهة لكي ينجح أول المتسابقين فلا تراق قطرة دم واحده ..( أوو ..لا بد إنها كانت إنسانة رائعة بحق يا أويس ..(أنّا) وقد بدأت تنفعل بمجريات القصة ..وبدأ السباق الرهيب .. تقدم فارس معروف بالشجاعة والإقدام وهو يمتطي جواداً عربياً أصيلاً ..وأنشد أبياتاً من الشعر يتغزل فيها بجدتي ويصف الموت في سبيل الفوز بها بأنه شرف لا يدانيه شرف ...ومن ثمّ انطلق إلي الوراء بحصانه وتقدم بها وهو يسابق الريح نحو الفوهة الرهيبة ..حبس الجميع أنفاسهم وأشفقوا عليه بل وتمنوا لو أنهم لم يأتوا إلي هنالك أصلاً ..ولكنها مشيئة جدي الملك العنيد لم تترك لهم أي خيار آخر سوي الحضور ..ثم وبقفزة عملاقة لامس الفرس حواف الجبل بيد أنه سقط في تلك الهاوية الرهيبة مع فرسة بين صيحات وأناة الحضور ..وتساقط الفرسان الواحد تلو الآخر ..إلي أن جاء الدور علي جدي ..كان فارساً عملاقاً ..تبدو عليه سيماء النبل والأصالة وهو يقود فرسه المعروفة لدي العرب ب(النعامة) ..أوهي أنثي يا أويس ؟ نعم .. نعم يا ( أنّا ) ..وأنشد شيئاً من الشعر يصف فيها شجاعته وإقدامه ويذّكر العرب بالمعارك الكبرى التي خاضها دفاعاً عن قبيلته وأهله وعاد إلي الوراء بعيداً جداً ..وقبل أن يتقدم نحو الهوة السحيقة وصلت جدتي ( الأميرة شجرة الدر) وسط كوكبة من الجواري والقيان ..وكانت بصدد أن تتوسل لوالدها للكف عن هذا السباق السخيف الذي راح ضحيته عدد غير محدد من أنبل فرسان العرب ..ولكن الجميع كانوا مشغولين بما يمكن أن تترتب عليه القفزة التالية ..ولم يخيب جدي آمال جمهوره العريض فطارت ( النعامة ) عالياً في الفضاء لتحط بقدميها الأماميتين حيث تقف جدتي الأميرة (شجرة الدر) ..هتف القوم عالياً من شدة النشوة والحبور وتنفست الأميرة الصعداء وكذلك الحضور الكبير ..ترجل جدي من علي ظهر ( النعامة ) وانحني أمام جدتي الأميرة وهو يقّبل يدها ..وبعد أن أنشد شيئاً من الشعر معدداً مناقبها متغزلاً في جمالها تقدم نحو جدي الملك يطلب يدها ..وأقيمت الولائم والأفراح أياماً بل شهوراً وكان عرساً خرافياً لا يصدق .

  5. #5
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2010
    المشاركات : 1,149
    المواضيع : 174
    الردود : 1149
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي

    الحلقة الخامسة
    سألت أنستاسيا وكنا نتناول وجبة العشاء بالكافتيريا عن سر هذا التواجد الكثيف للطلبة الأفارقة بالجامعة .. طلاب من الصومال وجيبوتي وأثيوبيا وأنجولا .. وكانت في تلك اللحظة قد أنهت عشاءها وأخذت منديلاً ورقياً تجفف يديها ..هذا سؤال مهم وللإجابة عليه لا بد من إجراء تمرين صغير .. هيا انهض واقترب مني .. ماذا يدور بخلدك يا أنّا؟ .. قلت لك اقترب وستري بنفسك ماذا يعني وجود هذا الكم من الطلاب من شرق ووسط إفريقيا .. أذعنت لرغبتها واقتربت منها .. بل اقتربت منها جداً وكأنني أنتظر هذه اللحظة منذ مجيئي إلي موسكو .. والآن ضع يديك فوق خصري وسأضع يديّ فوق كتفيك .. حسناً .. طوق خصري بصورة أقوي ..أقوي من ذلك .. وبدا وكأننا نرقص علي أنغام الموسيقي .. والآن .. اتركني ولنعد لمائدتنا ..الاتحاد السوفيتي يا أيها الطبيب الإفريقي يفعل تماماً بأفريقيا كما فعلنا نحن منذ قليل .. قلت لها لا أفهمك يا (أنّا) .. السيطرة علي الصومال وهذا يعني الوصول للمياه الدافئة وذاك حلم قديم يراودنا منذ قرون .. والسيطرة علي جيبوتي معناه تحريرها من النفوذ الفرنسي ودعم نظام (منقستو هايلي مريم) الشيوعي وكذلك دعم الثوار الأنقوليين وقيام دولة شيوعية بذاك البلد ودعم الحركات المسلحة في (لايبريا وساحل العاج ) وعزل شمال أفريقيا عن جنوبها تكون بالنهاية نهاية الحقبة الإستعمارية بأفريقيا وسيطرة الغرب الرأسمالي عليها ..إنها لعبة القط والفأر التي يمارسها الغرب معنا ويجب أن ننتصر في نهاية المطاف ..الآن فهمت ياغاليتي ( أنّا ) ..( داسفيدينا أويس ) .. مع السلامه . ..
    كلما أعود بذاكرتي لذلك الخفل الكبير تغمرني صورةبسام وشاهنده .زفقد وضعتهما في إختبار حقيقي ونحن نحاول الانسجام معاً في الرقص والغناء السوداني .. لذلك عكفت علي تدريب شاهنده وبسام لأداء رقصة( كسلا ) ورقصة (الشايقية)وهما من الرقصات الفولكلورية المميزة عندنا .. وتحصلت لهذا الغرض علي سيفين من نادي الفروسية بالجامعة .. كانت ( أنّا ) تراقب وتصحح لينسجم الرقص مع بعض الرقصات الروسية لما يمكن أن يحدثه ذلك من أثر في نفوس المسئولين فقد علمنا أن تلفزيون موسكو سينقل الحفل علي الهواء مباشرة وأن ثلة من كبار المسئولين في الدولة سيشرفون الحفل .. ُقدمت العديد من الرقصات الإفريقية الصاخبة ورقصة (السامبا البرازيلية )وتجاوب الحضور مع الرقص والغناء .. وعندما جاء دورنا لتقديم فقرة السودان تذكرت بأنني أمثل حضارة عمرها أكثر من خمسة آلاف سنه فأعطاني ذلك الشعور قدراً لا بأس به من الشجاعة الأدبية .. حييت الجمهور الغفير الذي كان حاضراً بالعربية والروسية ومن ثمّ بدأت في استعراض مهاراتي في العزف .. فوجئ الجميع بالطاقة التطريبية الهائلة التي اختزنتها تلكم الآلة الصغيرة وساد صمت رهيب أرجاء المسرح وشعرت وكأنما الجميع مشدوداً نحوي وقد جرفته مفردات الغناء الجميل ( حتى الطيف رحل ..) .. المفردة الجامحة .. وشلال من الشجن والنشوة والنغم البهيّ يدوزن المكان .. وفجأة وبدون مقدمات مررت ريشتي علي الأوتار أكاد أمزقها ووضعت آلة الربابة خلف رأسي لتدخل شاهنده بقوامها الممشوق وقفزاتها المتتالية المصحوبة بصفقة( الشايقية) وبسام الماهر بطبعه في الرقص يقفز عالياً ويتوقف هنيهة لمواصلة التصفيق ..ثم ( مرحبتين حبابك ..اليوم السعيد الليله جابك يا فريع البان) شعرت وكأنني أغني لشاهندة وحدها الكشميرية القادمة من نسج البساتين والأساطير .. ومن ثم ّ تناول كلاهما سيفيهما لتسبح شاهنده كحمامة بيضاء والغناء (البجاوي) العريض يغطي كل الناس والأشياء ليخرجهم من وقارهم .. انضم إلينا وزير الثقافة ومديرة الجامعة وأنستاسيا ..فرقص الجميع داخل وخارج المسرح مع رقصة السيف وتقافزت (أنّا) كغزالة بريه .. ولدي نهاية الفقرة فوجئت بعاصفة من التصفيق يستقبلنا بها الجمهور وقبل أن نعود لمواقعنا وفي منتصف المسافة بين المسرح والمقاعد فاجأتني (إزابيلآ) ..اخذتني بالأحضان ودارت بي وهي تهتف (فانتاستيكا..فانتاستيكا)
    انتهى العرض الجميل الذي اشتمل علي رقصات من معظم دول الإتحاد السوفيتي .. رقصات أنيقة مترفة وأزياء رائعة . .رقصات من أوكرانيا ورومانيا وجورجيا ومن كل أقاليم روسيا تعكس الانتماء الرهيب للوطن والتراث والهوية وتبقّّي إعلان الفقرات الفائزة التي ستنافس بها (الأونيفيرستيت دورشبي)- وهذا هو إسم جامعة الصداقة - بقية الجامعات الروسية في حفل موسمي يقام كل عام ضمن فعاليات الاحتفال بانتصار الثورة البلشفية في العام 1917 علي خشبة (البولشوي جاتر)..المسرح القومي الكبير والتي غالباً ما يشرفها رئيس الحزب الشيوعي الرئيس (قورباتشوف) أو نائبه .
    لم أكن طبعاً أنتظر الفوز ولا بالمركز العاشر ناهيك عن المراكز الثلاث التي ستذهب للمسرح الكبير بالنظر لقلة المشتركين معي وعدم إلمامهم التام برقصات الشايقية والبجا حتى وإن أبدعا أيما إبداع .. وكانت مفاجأة لا تصدق إذ فزنا بالمركز الثالث وتماوج اسم السودان في جنبات المسرح وسط عاصفة من تصفيق الأخوة العرب والأفارقة علي السواء وأخذتني شاهنده بالأحضان وهي تجهد نفسها في تأليف زغرودة علي الطريقة السودانية وتقافزت إيزابيلا وهي تصفق في حماس منقطع النظير وافتقدت في تلكم اللحظات ( أنّا) ولم أجدها .. وتقدم بسام الفلسطيني القادم من (نابلس) لاستلام الجائزة وكأنه سوداني بحق وحقيقة ..وهتف وهو يصافح مدير الجامعة ( فيفا سودان ..) .

  6. #6
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2010
    المشاركات : 1,149
    المواضيع : 174
    الردود : 1149
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي

    الحلقة السادسة
    أحاول الاقتراب أكثر فأكثر من( إزابيلا ) ومحاولة فهمها .. لماذا أنت غامضة ومترفة وأنيقة لهذه الدرجة يا ( إزابيلا ؟!) ..من أين جئت وكيف نشأت ثم ترعرعت ووصلت إلي هنا ؟ ..طيبة كجدتي مذعورة كالعصافير في بلادي ....دافئة في بلاد تنام وتصحو علي هسيس الثلوج المنهمرة بلا انقطاع ..وودودة كخالاتي وعماتي ..لا أسرار ولا ثراء ..كل هذه الحياة التي أحياها بشيء من الدعة تخفي وراءها مأساة وقضيه ..المأساة قضيتي أنا والقضية هي قضية شعب يناضل من أجل التحرر من ربقة الإقطاع والفساد والاستغلال ..وقصتي يا أويس تحتاج إلي فضاء أرحب من مقهى أل ( هاسيندا ) الضيق هذا .. ما رأيك لو انتقلنا إلي منزلي فأحكي لك حكايتي بكل ما فيها من تفاصيل موجعة وأخري مفرحة ..لا عليك سأدفع أنا الحساب لأن الرجل عندنا في السودان لا يسمح للمرأة بدفع الحساب بالمقاهي والمطاعم ..حقا ؟1 ليتني كنت امرأة سودانية فلا أكافح لأعيش ..علي الرحب والسعه ..ومن ثم تدحرجنا بعربتها الفارهة نحو منزلها المطّل علي نهر موسكو المنساب في هدوء وكأنه يحتفل ببزوغ القمر ربما بعد قرن من الغيوم ..أمرت ( إزابيلا ) الخادمة بإعداد مقعدين قرب المدفأة الخشبية ..ولماذا لا نجلس في الصالون الأنيق المترع بالدفء ..لا يا أويس ..التدفئة بالأخشاب فيها شيء من الرومانسية بعكس التدفئة بالغاز ..كما تشائين فأنا ضيفك الليلة والزائر في يد المضيف كما نقول .. هل يعني هذا أنك أخيراً في قبضتي يا صديقي ..؟ إذن عليك تحمل جنوني وانفعالاتي .. قد أبكي فلا تبخل علي بكتفٍ صديقةٍ وكفكف دموعي وقد أثور وأحطم الأشياء التي أمامي .. فحاول أن تحتملني ..فأنا أحتاجك بشدة ..يا إلهي كيف سمحت لنفسي بأن أقع في حبك هكذا وبلا ثمن ..أنا التي دوخت (بوقوتا ) بجامعاتها ومسارحها بل وشرطتها أيضاً .
    إيه يا أويس ..لماذا أطلعك علي جميع محطات حياتي لتغادرني مثل قاطرة سريعة ..لدي إحساس عميق بأنك لست سوي غيمة أنيقة ستظلّل حياتي لساعات ثم تمضي إلي سبيلك ..كم أتمني لو كنت كولومبياً مثلي ولو أنك كنت جارنا لآماد طويلة ولو أنك تخصني وحدي لا فرق إن كنت حبيبة عينيك لأعفّرك بالقبل ولو أنك كنت أبني فأضمك بكل التحنان والأشواق ..فبأي صورة أتملكك يا أويس يا شمساً إفريقية تلهب ثلوج أوجاعي ..حياتي يا أويس بعد تعرفي عليك في (الهايسيندا ) أخذت منحيّ آخر وبعداً جديداً ..عشت طفولتي وأنا أتمرغ في الجاه والثراء في كنف عائلتي ..والدي رجل أعمال مشهور تعرفه أمريكا اللاتينية وتخشاه ..فهو رجل أمريكا القوي الذي لا يشق له غبار .. بإمكانه أن يسقط الحكومات وأن يرفع من شأن هذا الحزب أو ذاك وأن يشتري نتائج الانتخابات وتخضع له الهيئات والنقابات ..مارد اقتصادي خلط السياسة بالاقتصاد ومارس كل صنوف التآمر والخيانة ..دموي وقاسٍ ولا شيء يوقفه عند حده ..تزوج من أمي كاتبة القصة القصيرة الجميلة والقادمة من أروقة الجامعات كأستاذة للأدب الإنجليزي ..ولأنها قدمت من الطبقة الوسطي المرشحة للبرجوازية الجديدة وجدت في والدي ضالتها المنشودة فتزوجته من دون حب ..زيجة أساسها المصلحة المتبادلة ..أبي وقد امتلك كل شيء كان بحاجة للظهور بمظهر رجل الأعمال المثقف الذي يُعني بالأدب والثقافة والفنون..وأمي وقد رفضت دور النشر تبني إبداعاتها قبلت به عندما عرض عليها شراء دار للنشر جد مشهورة في (بوقوتا) وكان صاحبها الذي كم أهان والدتي مرات ومرات برفضه طباعة قصصها وتحقيرها قبل بالعرض لأنه مواجه بديون كبيرة كانت كفيلة بإيداعه السجن ..المهم تزوجا وكنت أنا نتاج تلك العاطفة البلاستيكية المصطنعة ..فدب الخلاف بينهما وعشت موزعة بين غطرسة والدي ورومانسية والدتي التي لم تعد تحتمل كل تلك الخيبات فانتحرت بعد مضي ثلاثة أعوام علي ولادتي لتكفلني عمتي .. إمبريالية أخري أشد قسوة من والدي لأعيش في سجن كبير عبارة عن قصر أسطوري اشتراه والدي لنقيم فيه وكان نادراً ما يزورنا ..بيد أنه كان يحرص علي تمضية الإجازة الصيفية معي فيأخذني في رحلات لا تنتهي ..زرنا باريس عشرات المرات ولاهاي ولندن ..هل تشعر بالملل يا أويس وأنت تسمعني ..إذا كان علّي أن أتوقف أرجوك قل لي بلا تردد ..لا ..لا ..علي العكس تماماً.. أشعر بفرح غامر وأنا أقرأُك من جديد ..أما أنا فأشعر بثقِل في أجفاني ونُعاس شديد ..أنا متعبة جداً يا أويس وسأكمل لك قصتي في فرصة أخري ..لا بأس يا إزابيلا ..سأرحل لأدعك تنامين ..لا ..لا ..قالتها برعب حقيقي ..أتوسل إليك ألاّ تتركني وحدي .. ولكن ...أفهم قصدك يا أويس .. بإمكانك أن تنام علي هذه الأريكة وسأنام هنالك في غرفة نومي ..أريد أن أخلد للراحة وأنا مطمئنة ولو لمرة واحده ..هذا المنزل الكبير يخيفني .. عواء الريح بالخارج واصطفاق النوافذ وتحليق الستائر في سماء غرفتي ..إن وجودك قربي يشعرني بالاطمئنان ..سأبقي ما دامت هذه هي رغبتك ..تصبحين علي خير ..وأنت بألف خير .
    ومن ثمّ توجهت صوب غرفتها وهي تلتفت نحوي بعد كل خطوة تخطوها وتركت الباب موارباً لتؤرقني طول الليل اشتهاءات بائسة ..بيد أنني قاومت جميع رغباتي وتظاهرت بأني أغط في نوم عميق ..ومع بزوغ فجر اليوم التالي تسللت خلسة دون أن أوقظها وسرت علي غير هدي فوق الرصيف المبلل وكانت ثمة نوارس تحلق فوق الشاطئ غير آبهة بالبرد القارص ..وصلت غرفتي ولم يكن شوماخر موجوداً بالغرفة ..لعله أمضي الليل مثلي خارج النزل ..دفنت نفسي تحت الألحفة الثقيلة وأنا أرتجف من شدة البرد الذي يطحن عظامي ونمت نوماً عميقاً جداً ..ولا أدري كم ساعة أمضيتها وأنا مستغرق في النوم وقبيل الظهر بقليل أيقظني صوت مدير النزل وهو ينادي علي إسمي ..( مستر أوليس ..مستر أوليس ..) ..أجبته وأنا أفرك أجفاني ..كم مرة يا كريموف أخبرتك بان أسمى أويس وليس أوليس ..معذرة يا صديقي العزيز ثمة ضيف بانتظارك في غرفة الاستقبال إنها الآنسة ( أنستاسيا ..) ..أنّا ..!! حسناً ..حسناً .. دعها تنتظرني قليلاً ريثما أغير ملابسي.

  7. #7
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2010
    المشاركات : 1,149
    المواضيع : 174
    الردود : 1149
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي

    الحلقة السابعة
    إلي أين يا( أنّا ؟!) ..سآخذك للتعرف علي أسرتي بمناسبة عيد ميلاد شقيقتي الصغري ( باتريشيا ) .. قلت أسرتك ؟! ..وهل تقيم بموسكو ؟! ..لا بل علي بعد مائة كيلومتر من هنا ..عظيم ..عظيم ..كم كنت أتوق للتعرف علي نمط الحياة في الريف لديكم ..الريف فقط أيها الذكي ..؟!!..وأسرتك طبعاً ..امنحيني نصف ساعة لأغيّر ملابسي ..عيد ميلاد ..؟ تري أي هدية ستختار يا أويس ؟ وقررت أن أهدي شقيقتها حقيبة اليد المصنوعة من جلد التمساح وكنت قد اشتريت بعضاً منها من شارع الجمهورية بالخرطوم ..وفي مطار موسكو استمعت من موظف الجمارك لمحاضرة في السلوك والأخلاق ..هل هذا جلد حقيقي يا رجل ..لماذا أنتم قساة القلوب لهذه الدرجة أيها الأفارقة ..؟ لا عجب إذن ..ألستم من أكلة لحوم البشر ..؟ فماذا تساوي حياة تمساح مسكين في نظركم ؟ ..حاولت إقناعه بأن هذه الحيوانات تنفق بعامل الزمن والأوبئة ..تخافون علي الحيوانات وتمطرون إخوتنا في أفغانستان ب(النابالم) يا سوفييت ..هكذا حدثت نفسي وأنا أبتلع إهاناته خوفاً من مصادرة الحقائب ..ستكون هدية مميزّة دون أدني شك ..(واو..!) هتفت (أنّا) وهي تتصفحها ..إنها جلد حقيقي ..لا بد أن تكون باهظة الثمن ..أنت إنسان رائع يا أويس ..وكم أحبك لهذا السبب .. وفي الطريق إلي قرية أنستاسيا رجعت بذاكرتي لعيد الميلادي الأول والأخير ..كنت في السابعة من العمر عندما نقل والدي للعمل بواد مدني وتشاء الظروف أن نسكن بالمنازل الحكومية قريباً من منزل المحافظ بالحي البريطاني ..هكذا يسمونه في مدني ويحاول البعض تسميته ب(الحي السوداني) دون جدوي ..وفي ذات مساء رأينا الثريات تلون بوابة منزل المحافظ ..سألنا عن المناسبة فقيل لنا أن اليوم هو عيد ميلاد أبنه الذي يزاملني بنفس الصف ..وأذكر أنني بكيت من شدة إحساسي بالقهر والغبن ورفضت تناول الغداء المتأخر كالعادة .. إذ كنا لا نتغدي إلا بعد عودة والدي من العمل ..ولم أكفف دموعي إلا بعد أن تلقيت وعداً قاطعاً بأن يقام لي حفل صغير الخميس القادم بمناسبة عيد ميلادي الذي مضي عليه وفق الأوراق الرسمية خمسة أشهر ..ولم تفّوت الرائعة رزان هذه المناسبة فأهدتني شيئاً قد لف بعناية أشبه بالمنديل وقد شاع في ذلك الزمان البعيد التطريز بالحرير الأبيض فوق المناديل البيضاء ..ترسم الفتاة قلباً صغيراً بال( عشري ) وتنصّفه بسهم قيل أنه سهم ( كيوبيد ) لعّله إله الحب لدي الإغريق أو شيء من هذا القبيل ..وعندما فضضته ثاني يوم وجدتها عباره عن ( فوطة ) بيضاء وقد ظهرت في زاوية منها تبقعات أشبه بدائرة صغيرة ..وكأن كوباً من الشاي قد وضع عليه ..وفي ظهيرة اليوم التالي اعتذرت لي (رزان) عن ذلك التصرف الأحمق قائلة ..لقد فوجئت بموعد الاحتفال بعيد ميلادك يا أويس ولم أكن أعرف حياكة المناديل لأصنع لك واحداً أهديه لك في الحفل ..فما كان مني إلا أن سطوت علي أغراض المنزل ..إنها أغلي هدية قدمت لي يا رزان من أغلي إنسان في الوجود وسأحتفظ بها ما حييت ..هنا تلألأ وجهها بفرح غامر ..وهذا ما فعلته بالضبط فلا زلت حتى الساعة وأنا هنا في موسكو أخرجها من حقيبتي من آن لآخر أشمها وأضمها إلي صدري ..رزان يا رزان .. تري أين انتهت بك الأيام وهل لا زلت تذكرينني كما أفعل علي الدوام ؟!..وكان ذلك أول وآخر عيد ميلاد ينظم لي لأن جدي أفتي بحرمة الاحتفال بعيد الميلاد وثار في وجه والدتي لما علم بما قمنا به ..مضيفاً بأن هذه إحدى بدع الشيطان ..عدت من جديد إلي أنستاسيا الغارقة وسط كم من الأغراض المقرطسة ..طلبت منها والدتها إحضارها معها ..وكانت تضج بالإشراق والابتهاج ..ولم أدر سبب هذه المعنويات العالية إلا بعد وصولنا إلي القرية ..فقد أثار وجودي بين أفراد أسرتها وجيرانهم وصديقات الصغيرة (باتريشيا) ذات العشرة ربيعاً موجة عارمة من الفضول والحماس ..وكان أكثر الحضور ترحيباً بي العمة فرانشيسكا ..والتي سبق أن عملت بالخارجية بسفارة الروس بنيروبي ..(أنّا) لم يرق لها استئثار عمتها بي طوال الحفل فطلبت مني أن نخرج لنتمشي قليلاً في حديقة المنزل غير مكترثة للبرد ..أرجوك لا تهتم بالعمة فرانشيسكا يا أويس ..إنها ( إيرما لادوس ) جديدة ولا أجد في نفسي ميلاً نحوها ..تصور إنها حامل وهي في هذه السن وبدون زواج ..إن والدي غاضب منها جداً ..وقد وبخها بشدة علي هذه الفعلة المشينة بيد أنها لم تستسلم وبادلته توبيخاً بتوبيخ ..الآن وقد أقلعت عن معاقرة الخمر وارتياد ( الخمارات ) تريد أن تصبح قديساً يا باساييف .؟!.
    عدت إلي النزل وأنا أدندن بكلمات أغنية حانية سمعتها في مكان ما ..في زمان ما ..كان الناس حينها يتبادلون فيهما اهداءات الأغاني تعبيراً عن الحب والأشواق ..تقول كلمات الأغنية ( أنّا في هواك آه جنيت أنا ..) فأين ذهب زمان الغناء الجميل ..كنت أشعر بسعادة غامرة ..فقد كنت ضيفاً علي أسرة أنستاسيا المترفة القادمة من أصول شيشانية ..وبينما أنا أخطو داخل الغرفة توقفت وقد انعقد لساني دهشة ..ذلك لأنني وجدت (شوماخر وأنجلينا) يتعانقان فوق(الصوفيا) الوحيدة بالغرفة ..عفواً لم أكن أعلم بأنكما في الداخل ..انتزعت أنجلينا وجهاً بللته الدموع من صدر شوماخر ..أوتبكين يا أنجلينا ..لماذا ؟ ماذا فعلت لها يا أخي ..؟ أسألها هي ..لماذا تبكين يا أنجي ..؟ قولي له أرجوك ..لقد كنت أواسيها فحسب ..إنها تشعر بالتعاسة وبأنها مهمشة ومهملة بسببك ..فهي تحبك يا فتيً وأنت لا توليها اهتمامك ..أنا ؟ ..أنا يا أنجلينا .أرجوك كفي عن البكاء فدموعك هذه غالية عندي ..ومن ثمّ جثوت تحت قدميها أسّري عنها وأواسيها ..إن موقفك هذا يا أنجلينا يصيبني بالغرور والإحساس بالأهمية ..أنا لا أصدق ما أري وأظنك تبالغين يا أنجي ..دعك من كل هذا يا أويس ..فنحن بصدد البوح لك بأسرار ..أسرار ..وهنا تبادلت مع شوماخر النظرات وكأنها تقول له هل أخبره ؟ ..ثم واصلت حديثها معي ..أسرار خطيرة جداً ..أنا وشوماخر أعضاء في منظمة سرية تدعي ( بادر ماينهوف ) وقد هربنا من كولونيا بالمانيا بجوازات سفر مزوّره ..بعد أن اشتركنا في اختطاف وقتل رجل الصناعة المعروف ( شلاير ) ..تابعت حديثها وأنا أكاد أموت من هول المفاجأة ..أنتما أعضاء في منظمة إرهابية ويداكما ملوثتان بالدماء ؟ لا لسنا كذلك بالضبط ..ربما لم تكن تعلم بأن (شلاير ) هذا لا يتحرك إلا تحت حراسة مشددة ..عربة أمامه وعربة خلف العربة التي يستقلها ونصف دستة من رجال الأمن ذوي الكفاءة العالية ..وكانت الخطة تقضي بأن نعترض طريق عربته أنا وشوماخر تحت غطاء سيدة وزوجها يدفعان أمامهما عربة طفل صغير ..فنتظاهر بأن العربة الصغيرة وبداخلها الطفل قد انسربت من بين أيدينا وتدحرجت أمام عربته .. فتوقفت عربة شلاير لتندفع عربة شحن بها عدد من الزملاء المدججين بالسلاح فتفصل ( شلاير) عن حراسته وتقوم بتصفيتهم وتختطفه ..وبعد .. ماذا حدث ؟ أكملي يا أنجيلينا ..تقدمت منظمتنا بعدد من المطالب أهمها إطلاق سراح (أولريكا ماينهوف) مؤسسة المنظمة ورفيقها (بادر) من سجن (شتوتقارد) .. لكن (البندستاق) رفضها فقررت المنظمة ترحيل (شلاير) لفرنسا وهنالك قامت بتصفيته ..يا إلهي ..كيف سمحتما لنفسيكما بالانغماس في عمل إجرامي كهذا يا شوماخر ؟..لم نكن ننوي تصفيته ولكن السلطة أجبرتنا علي ذلك ..ولكن لماذا هذه المنظمة أصلاً ؟ ولماذا هي دموية بهذه الصورة المفزعة ؟ .. أنت لا تعلم حجم المعاناة التي يعانيها شعبنا ..لا تلتفت لهذه الصورة البراقة التي تشاهدها عبر أجهزة الإعلام عن ألمانيا الغربية ..إن الملايين يُستغَلون بلا هوادة داخل المصانع ..ولا وازع من ضمير أو أخلاق يثني الساسة ورجال الأعمال عن استغلال أهلنا وسحقهم حتى العظم ..لعلك لا تدري بأن العامل لدينا يعمل ثمانية عشرة ساعة متواصلة لا يمنح خلالها سوي نصف ساعة فقط ليعود في المساء وكأنه حصان عجوز وفي جيبه حفنة ماركات لا تساوي شيئاً ..ومع ذلك ممنوع عليه أن يتغيب ولو لساعة واحدة طوال الأسبوع وهو ممنوع من المرض وإذا ما مرض عليه أن يموت واقفاً في أقسام المصنع المختلفة ..أتفهّم ذلك يا أصدقائي ..صدقوني إن قضيتكم تبدو عادلة ولكن علاجها لا يجب أن يتم بهذه الصورة ..صدقوني ....فلماذا لا يكون التغيير عبر النقابات والإضرابات والاعتصامات .؟ ..لقد حاولنا كل ذلك دون جدوي ولابد من تغيير سلوك المجتمع ونمط الرأسمالية البغيضة بالقوة وبحد السيف.
    ولكن لماذا تخصانني بهذا السر الرهيب ..لأننا نحبك ويريد شوماخر أن يكون نزيهاً في تعامله معك ..فلا يعقل أن تعيشا تحت سقف واحد ولا أحد منكما يعلم كنه الآخر ..لا ..لا ..يا عزيزتي أنجي ..ليس من الحكمة البوح بأسرار كهذه .. أنصحكما بأن لا تقعا في مثل هذا الخطأ الفادح مرة أخري ..إطمئن يا أويس ..نحن لا نثق بأحد غيرك ..فقط أردنا أن تعلم كم أنت غالٍ لدينا ..أو علي الأقل لديّ أنا ..قالت أنجلينا ذلك وهي تناضل كي لا تبكي ..معذرة أود شيئاً من الهواء الطلق ..مرحباً ..ومرة أخري حملت حملة شعواء علي شوماخر بعد مغادرة أنجلينا ..وحرضته علي ترك هذه المنظمة مستعيناً بكل ما أملك من حجة أو برهان .. لن تقنعني يا أويس مهما فعلت فهذه قضيتي وقضية شعب بأكمله وسأستمر في النضال من أجلها ..معذرة أريد أن ألحق بأنجي ..وأنا أيضاً أريد أن ألحق بشاهنده فقد وعدتها بأن نشكّل أنا وهي مظاهرة صغيرة أمام إحدى دور السينما بموسكو والتي تعرض هذه الأيام فلم ( الخرطوم ) الذي أنتجته هوليود وشارك به عدد كبير من كبار الممثلين ..وجدتها وقد جهزت لافتتين مكتوب عليها عبارة ( هذا تزوير للتاريخ ) فقد حمل الفلم علي المهدي والمهدية وكان لابد من التصدي له ولو بهذا الأسلوب البسيط والمسالم لا أن نفجّر دار السينما فوق رؤوس مرتاديها ..وجدتها وقد ارتدت الثوب السوداني الذي خلق منها تاجوج أخري ولبست أنا الزى السوداني التقليدي ..ولدي وصولنا إلي هناك حاول رجل الأمن المسئول عن الدار طردنا ومصادرة لافتاتنا ولكن مالكها الذي تصادف وجوده ذاك المساء سمح لنا بالوقوف قريباً جداً من المدخل وقد أضاف وقوفنا نوعاً من الإعلان والترويج للفلم عكس ما انتويناه ..وكان المارة يتوقفون ليقرءوا اللافتات ثم يتشاورون فيما بينهم لبرهة وينخرطون بالصف .
    انصرفت بكلياتي إلي المذاكرة لا سيما وأن الامتحانات علي الأبواب ..وقد ساعدني في ذلك رحيل أنجلينا المفاجئ إلي جهة غير معلومة ..وقد فكرت بسؤال شوماخر عن سر غيابها ولكنني لم أفعل ..ألم تكن هذه هي نصيحتي لهما ..وكنت بصدد تجميد هذا ( السمستر ) لشعوري بأنني مشوش الفكر وضائع .. بيد أن أنستاسيا غضبت مني غضباً شديداً وتوعدتني بالقطيعة الشاملة إن أنا فعلت ذلك وتجاهلت توسلات إزابيلا عي الهاتف وأقنعتها بأنني في مشكلة حقيقية لقرب موعد الامتحانات وكثرة المواد ..وفي النهاية اقتنعت بعد أن وعدتها بأنني سأصحبها إلي (ستالينجراد) لزيارة عمتها هنالك بمجرد أن أضع القلم في آخر ورقه ..هذه المليونيرة الجميلة ماذا تريد مني ولماذا أنا بالذات ؟! وهذا الغموض الذي يحيط بكل شيء فيها ..لقد كانت علي وشك إخباري بقصتها لو لا أنها شربت كثيراً من الخمر في تلك الليلة العجيبة ..أمها انتحرت وتقيم في قصر مع عمتها ..وهي هنا في موسكو وليس في( بوغوتا) ..ما هذا الخلط المحيّر ؟
    ***

  8. #8

  9. #9
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2010
    المشاركات : 1,149
    المواضيع : 174
    الردود : 1149
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي

    وأنا سعيد بهذه المتابعة إبني العزيز أحمد ..حفظكم الله من كل سوء .. لك ولعشاق فن الرواية أهدي الحلقة التالية وبقية الحلقات ..مع إعزازي ومودتي .

  10. #10
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2010
    المشاركات : 1,149
    المواضيع : 174
    الردود : 1149
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي

    الحلقة السابعة
    انتهت الامتحانات وتبقي أسبوع واحد علي إعلان النتائج وفكرت في التسكع مع بسام القادم من( نابلس) بالضفة الغربية في ( سان بطرسبرج ) ..تلك المدينة الساحرة التي تحتضن جده لأمه العالم والبروفسير في علم وظائف الأعضاء الدكتور نصيف ..استقبلتنا عائلته بترحيب شديد ولم تكن عائلة كبيرة فقط ابن واحد نجا من مذبحة (دير ياسين) بأعجوبة كبيرة وراح ضحية المذبحة ثلاثة من أطفاله وكان وقتها في رحلة خارج فلسطين ..وعلمت منه أنه حاصل علي الجنسية الأمريكية وقد زار إسرائيل لاستعادة بعض ذكريات طفولته هناك ..قال لنا وصلت (حيفا) ليلاً وفضلت الانتظار حتى صباح اليوم التالي ولمّا كان النزل الصغير قريباً جداً من دارنا وبستاننا فقد فضلت السير علي الأقدام ..كان هذا النزل قبل وصول اليهود عبارة عن مقهى الحاج عواد ..الرجل الطيب الذي طالما أدهشنا بموهبته الفذة في صناعة الشاي بالزنجبيل وبحكاياه المثيرة عن الحرب العالمية الثانية وكان قد حارب إلي جانب الحلفاء .. كل العرب حاربوا (هتلر) إلي جانب الحلفاء ..فماذا كانت النتيجة ؟! ..المهم حاولت وأنا أضرب بحذائي الثقيل أرضية الشارع الرطبة أن أعيد تشكيل الأشياء هناك ..وقرأت كل الوجوه الغائبة بفعل الموت أو الذبح أو التهجير القسري ..استعدتها الواحد تلو الآخر ..عماتي وخالاتي وأصدقائي ..حتى الأطفال الذين كانوا يدوزنون المكان بصخبهم وضحكاتهم ..استعدتهم جميعاً ..وكان ثمة بنايات جديدة قد نهضت ووجوه غريبة تذرذر الشوارع ولافتات كتبت باللغة العبرية ..كان كل شيء قاسياً علي قلبي ..كان قاسياً ..قاسياً يا بني ..مهلاً جدي ..بسام وهو يتدخل في الحديث .. كفاك ذكريات وآلام يا (بروف) ..بكي الرجل ..بكي كثيراً جداً لا أدري كم مضي علينا من الوقت وهو يبكي ..ناولته كوباً من الماء كان موضوعاً علي الطاولة بقربي ..تجرعه وهو يهمم ..استغفر الله العظيم ..استغفر الله العظيم ..شجعته علي الاستمرار في الحديث وكان بسام في تلك اللحظة قد خرج لإحضار بعض الأغراض أو هكذا خُيل إلي ّ لعلّه أيضاً قد انفعل بما يسمع وكان قد حدثني هو الآخر عن معاناتهم بسبب المستوطنين والإغلاق والحصار ومداهمات الجنود الإسرائيليين لهم تحت جنح الظلام ..إذن المأساة مستمرة بالنسبة للأجيال المهاجرة والأجيال الطالعة سيان ولا فرق بين العام 48 و88 ..أخذ نفساً عميقاً وواصل الحديث ..لم أجد صعوبة تذكر في الوصول إلي دارنا برغم الشوارع المسفلتة التي شوهت معالم الضيعة ومزقتها إرباً إرباً ..وصلت الدار وكان سوراً عملاقاً قد تم بناؤه فوق السور الأخضر المعشوشب علي زماننا الموشي بالقرميد والورود ..قرعت الجرس فجاءتني صبية صغيرة ..فتحت الباب وعندما رأتني أنكرتني في بادئ الأمر بيد أنني سألتها بإنجليزية رصينة إن كان والدها موجوداً بالداخل ..اطمأنت نوعاً ما وطلبت مني الانتظار ريثما تُعلمه بقدومي ..حضر رجل في العقد الخامس من عمره وكان أوربي الملامح ..وهو من النمسا تحديداً وقد علمت بذلك طبعاً بعد أن تجاذبنا أطراف الحديث ..حدثته عن الغرض من زيارتي وقلت له أنت تسكن في منزلي .. ماذا ؟! هل جننت يا رجل ..لا بد أنك أخطأت العنوان أو ربما فقدت ذاكرتك أو ..لم أفقد ذاكرتي وأنا بكامل وعيي ..وهنا ناولته جواز سفري ..أنت أمريكي إذن ..لا بد أنك تمزح ..من أرسلك من أصدقائي في (نيوجرسي ) .. لا أمزح يا عزيزي ..نعم هذا المنزل يخص عائلتي ..صحيح أنه لم يكن بهذا التحديث ..ولكنه منزلنا وقد ولدت أنا بتلك الغرفة وولد أطفالي ..هنا كانت البئر الصغيرة التي كنا نسحب منها الماء بواسطة الدلاء قبل أن تأتوا أنتم وتغتصبوا أرضنا ..أنظر .. وكانت بعض بقايا الآجر والطوب لا تزال تتشبث بالأرض أنظر إنني أحفظ هذا المكان شبراً شبراً ..ولم يغب عن ذاكرتي أربعون عاماً ونيف ..كان الرجل لطيفاً وكذلك أفراد عائلته وكانتا صبيتان وطفل رضيع ..أنا أقدر شعورك وانتماؤك لهذا البلد ولكنني دفعت كل شقاء عمري وما أملك لشراء هذا المنزل من الدولة ولا علم لي بمالكه الحقيقي ..أنا لا ألومك ولا أنوي مقاضاتك أو إزعاجك .ولكنني كبرت وأود أن تكتحل عيناي من هذا المكان قبل أن أفارق هذه الحياة ..طبعاً ..طبعاً حضرة البروفسير ..علي الرحب والسعة ..علي الرحب والسعة وهكذا هيئوا لي غرفة مطلة علي الوادي حيث بساتين الزيتون والعنب ..بساتيننا ..وأمضيت الساعات الطويلة وأنا أحدق في الفراغ العريض مستعيداً كل لمحة وكل دقيقة أمضيتها هنالك وودعتهم علي أمل الالتقاء بهم مرة أخري وقدمت لهم دعوة لزيارة (سان بطرسبرج) ..أنظر ..وكان في هذه اللحظات قد تناول ألبوماً عملاقاً يحتوي علي مئات الصور ..هذا هو المستر (فاغنر) وهذه (هيلين) زوجته وأطفاله الرضيع الصغير ويدعي مارك والصبيتان مارلين وآندي ..وحاول تعريفي بصور قديمة بالأبيض والأسود لأطفاله وأقربائه الذين قضوا في المذبحة فسقط الألبوم من يده واستأذنني ليرتاح قليلاً ..وأصداء آهاته وأنّاته عالقة بقامته المديدة وهو يربط الروب حول خصره ويغيب في الجانب الآخر من المنزل ..التقطت الألبوم وأضجعت علي الأريكة ..أغمضت عينيّ وتصورت أن عدواً ما سيقتلعني وأهلي من جذورنا بواد مدني ويقذف بنا خارج السودان فأصابني رعب حقيقي لم يتبدد إلا بعد عودة بسام بابتسامته العريضة وهو يسأل أين جدي ؟!

    أويس ..أخي الحبيب أويس ..ماذا بك يا شاهنده ..ولماذا أنت مضطربة هكذا ؟!..كارثة ..كارثة يا أويس ..إهدائي أرجوك واخبريني ما الأمر ؟ ألم تسمع ال( b.b.c) اليوم ..؟ لقد قالوا أن زلزالاً مروعاً ضرب المنطقة الواقعة حول (مظفر أباد ) وأن دماراً هائلاً قد لحق بالمباني وهنالك قتلي وجرحي ومشردون بلا مأوي ..آه يا أويس ليتني مت قبل أن أسمع بذلك ..لا تقولي هكذا يا شاهندة وأنت فتاة مسلمة ولن يصيبكم أذى إن شاء الله ..هل تعتقد ذلك يا أويس .. أنا لا أعتقد ولكنني أرجو الله مخلصاً أن يجنب بلادكم الكوارث والمحن ..وهنالك المجتمع الدولي ومنظمات الإغاثة ..الكل سيقف إلي جانبكم ..نحن لانريد المجتمع الدولي ولا منظمات الإغاثة ..إنها تظهر فقط وقت وقوع الكارثة وتصور المشاهد المرعبة لاستقطاب الدعم ثم لا نسمع عنهم شيئاً ..ما نوده هو وقوف أخوتنا في الإسلام ..المسلمون ؟!! ..وأين هم يا شاهندة أين هم ؟ ..هل تسّمين هذه الشعوب المتصارعة والمتناقضة مسلمون ..والآن ماذا أفعل يا أويس ؟ أنا خائفة جداً ..خائفة يا أخي الغالي أويس ..أرجوك دعني أتشبث بك فأنا أوشك أن أفقد الوعي ..أشعر بضعف شديد ..ومن ثم ّ تهاوت نحو الأرض وهي ترتجف بصورة مقلقة جداً ..شاهنده تماسكي ..حبيبتي خذي نفساً عميقاً ..ببطء ياشاهنده ببطء أكثر ..هيا مرة أخري ..هيا ..هكذا أفضل ..ضعي ثقلك علي كتفي ..ها ..كيف تشعرين الآن ..أشعر بشيء من التحسن .. لقد فقدت شقيقي ولا أريد أن أفقد بقية أفراد عائلتي .. يا رب ..خذ بيدهم ..يا رب ..فأنا أحبهم جداً ..اللهم آمين .. قلت لها وأنا أجلسها علي أريكة قرب النافورة الكبرى ..ارتاحي قليلاً ودعينا نراجع عيادة الجامعة والطبيب المناوب ..أنت طبيبي وأخي يا أويس ..لست بحاجة إلي الطبيب ..أحتاج فقط إلي وجودك إلي جانبي ..لكنني أفكر في ترك الجامعة والعودة إلي كشمير لأكون قريبة من أهلي أموت وأحيا بقربهم ..لا يا شاهندة ..ليس هذا رأياً صائباً ..لقد تبقت لك سنة واحدة ويجب أن تصبري قليلاً ..ثم تعودي وقد حققت طموحات أهلك وبلدك فيك ..أتمني لو أستطيع .. أتمني أيها الغالي أويس .

صفحة 1 من 4 1234 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. رواية أنستاسيا ..مصافحة ثانية ..
    بواسطة عبدالغني خلف الله في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 48
    آخر مشاركة: 12-05-2014, 08:45 AM
  2. رسالة من وردة إلى وردة.
    بواسطة د. نجلاء طمان في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 46
    آخر مشاركة: 25-04-2010, 06:53 AM
  3. ...في الهزيع الآخِر..."مصافحةُ أولى"
    بواسطة ثامر الجريش في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 21-05-2007, 08:53 PM
  4. وردة ذابلة كان اسمها نسرين
    بواسطة نسرين في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 21
    آخر مشاركة: 16-09-2003, 11:21 PM