أحدث المشاركات
صفحة 4 من 4 الأولىالأولى 1234
النتائج 31 إلى 39 من 39

الموضوع: أنستاسيا .. وردة الهزيع الأخير ..رواية

  1. #31
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2010
    المشاركات : 1,149
    المواضيع : 174
    الردود : 1149
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي

    أشكرك أخي حسام علي هذا المرور البهي وقد لا تعلم غلاوة حروفك عندي ..أذكر أننا كنا في بعثة دراسية بألمانيا بين عامي 75 و77 وكان أكثر من صديق ألماني يحذرني من الركض وراء سراب الحضارة الغربية المزعومة وأوصوني بأن نحافظ علي تقاليدنا الأسرية وترابطها وأن نحافظ علي ثوابت الدين والعرف حتي لا نندم .هذا مع تحياتي

  2. #32
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2010
    المشاركات : 1,149
    المواضيع : 174
    الردود : 1149
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي

    الحلقة السابعة عشرة
    عدت إلي النزل وأنا مثقل بقصة ذلك الجندي الإسباني الذي قتله نعوم وحمداً لله أن( شاهندة) لم تكن موجودة معنا لتسمع بأن زوجها قد جرب القتل من قبل ولا بد أن الشخص الذي قتل شقيقها في (سرنغار) يعاني هو الآخر .. أدخلت المفتاح في القفل ولكنه لا يفتح .. حاولت أكثر من مرة دون جدوي .. لا بد أن لصاً بالداخل .. هرعت إلي كريموف لأستنجد به وحين عدنا سمعنا همهمة بالداخل .. رجعنا خطوات إلي الوراء ومعاً حطمنا الباب لنفاجأ ب(شرودر وأنجلينا) وقد جلسا خائفين علي السرير وهما يتصببان عرقاً وثمة حبلان معقودان ومربوطان بسقف الغرفة .. وكان واضحاً بأنهما كانا علي وشك الانتحار .. نشط كريموف في إزالة الحبال وانخرطت أنجلينا في بكاء مر .. لماذا عدت يا أويس .. بربك لم عدت ؟ .. لقد كنا علي وشك اللحاق بأحبائنا لولا تدخلك الغبي .. ماذا لو تأخرت خمس دقائق فقط .. عملت علي تهدئتها وجلس شرودر صامتاً لا يحرك ساكناً .. ما الحكاية يا (شرودر) ولماذا تنتحران ؟ لم أكن أحسبكما جبانين بهذه الدرجة .. لقد انتحرت (أورليكا ماينهوف وبادر) داخل السجن ب ( شتوتقارد ) بعد فشل عملية مقديشو .. لقد ماتت (أورليكا الأنيقة المترفة والجميلة ) يا أويس .. ماتت .. هل تفهم ما يعنيه لنا موتها ؟ .. حتماً لن تفهم .. وكيف ستفهم .. لقد انتهينا يا أويس .. إنتهينا .. (أنجلينا) وهي تبكي بحرقة شديدة .. علي رسلكما يا أخوتي .. ما هذا التفكير الساذج والغبي .. سوف تدخلان النار يوم الحساب لو أنكما أقدمتما علي الانتحار .. اسمع يا (كريموف) .. انتظرني هنا ريثما اتصل بِ( أنّا ) وإياك أن تتفوه ولو بكلمة واحدة بما شاهدته الساعة ..هل فهمتني .. نعم سيدي لن أتفوه بكلمة واحدة .. ولم تتأخر علينا( أنستاسيا) كثيراً .. ما بكما ماذا حدث ؟ .. اسألي (شرودر وأنجلينا) .. كانا علي وشك الانتحار .. معقول هذا الذي يحدث أمامي ؟ وهذه الحبال .. هذا شيء مخيف .. أمرت (كريموف) بالانصراف وأمضينا الليل بطوله ونحن نعمل علي تهدئتهما وتبصيرهما بالجريمة المرّوعة التي كانا علي وشك ارتكابها بحق نفسيهما .. وشيئاً فشيئاً هدأت خواطرهما ودخلنا في نقاش جاد معهما ليسلما حيث أفصحت لهما (أنستاسيا) باعتناقها الإسلام .. وشرحنا لهما كيف أن حياتهما ستتغير وأنهما سيشعران براحة نفسية عميقة فيما لو اسلما .. وأخيراً وافق (شرودر) وطلبت ( أنجلينا) مزيداً من الوقت لتفكر بالأمر.
    كان حفلاً لا يصدق.. تداعي له حشد كبير من الساسة ورجال الإعلام .. وزراء ورجال أعمال ومدير جامعة الصداقة وشخصيات متنفذة في الحزب نسمع بها فقط من خلال الراديو والتلفاز .. وأمام الفندق الفخم .. أخذتها والدتها بالأحضان وكذلك فعل والدها وصافحت الجميع فرداً .. فرداً وهم يغادرون وعندما جاء الدور علي والديها ليغادرا استوقفتهما لحظة لتقول ( اسمعي يا أمي الحنونة.. اسمع يا والدي الطيب ً.. أستطيع أن أضمن لكم سعادة هذا الفتي ما حييت .. أشهد الله وأشهدكما علي ذلك ..) .. نحن واثقون من ذلك يا ( أنّا ) وليباركك الرب .. والدتها وقد اختلطت في دواخلها مشاعر الفرح والحزن لتزويج ابنتها وفراقها في نفس الوقت .. لن يطول غيابي (ماما )وسأزوركما كلما سمحت الظروف بذلك .. إلي اللقاء .. إلي اللقاء .
    وهكذا انتهي الحفل الذي حضره كل أصدقائي من طلبة الجامعة وقد ارتدي البعض أزياءهم القومية المميّزة وكان حاضراً أيضاً بعض موظفي السفارة السودانية بموسكو مع أسرهم وقد قرأت (أنستاسيا) وجوههم جيداً ولسان حالها يقول( يا إلهي!! هل تملك المرأة السودانية كل هذه الرقة والأنوثة والجمال وقد تخيلناها مغطاة بالغبار والأتربة في سعيها اليومي بين الغابة والمنزل تجمع الحطب وتقطف الثمار .. لا يا حبيبة أيامي .. هي أجمل مما تتصورين .. ولو كان قدري أن أرتاح في مراسيك لبعض الوقت وأمضي في حال سبيلي .. تأكدي بأنني سأجد حتما من يلملم أوجاعي وأحزاني لفقدك إن هو حصل ولا أدري لماذا أشعر في هذه اللحظات الحاسمة من حياتي بأنك أكبر من طموحاتي .. كل هذه الأناقة والجاذبية والروعة ملكي أنا وحدي .. أتمني ألاّ أكون في حلم .. وأن كل ما يحدث أمامي هو الحقيقة بعينها وأنك زوجتي علي سنة الله ورسوله .
    لم استطع إخفاء أمر زواجي من أنستاسيا عن والدي وهو بدون شك سيتفهم دوافعي .. وهذا ما حدث بالضبط .. ولم أكن لأتوقع من أب تخرج من كلية الآداب جامعة الخرطوم وأمضي زمناً طويلاً يتلقي الدورات التدريبية بكل من لندن ولاهاي .. لم أتوقع سوي كلمات التشجيع والرضاء التي غمرني بها واتفقنا علي أن يظل الأمر سراً بيني وبينه فلا نطلع أمي التي تسوء صحتها باطراد وقد يزيد سماعها نبأ زواجي بأجنبية من تفاقم وضعها الصحي .. وهل هي مسلمة يا بني ؟! نعم يا أبي هي مسلمة ومن أصول شيشانية .. الحمد لله علي ذلك لقد أرحتني أراحك الله .. وكانت ( أنّا) بجانبي وأنا أهاتفه .. سلم عليها وتبادل معها عبارات التهاني والأماني بانجليزية باهرة .. الشيء الذي أسعدها أيما سعادة .. ولدي مغادرتنا الفندق بعد أسبوع واحد تصورت بأننا سنواصل تمضية شهر العسل في مكان آخر ..بيد أن أنسستاسيا أقنعتني بالعودة للجامعة وأن ثمّة مهام كثيرة بانتظارها في الحزب .. عدت وكان أول من التقاني من الزملاء الألماني شرودر .. قلت له حالك لا تعجبني يا شرودر .. لماذا أنت شاحب ومحبط هكذا ..؟ ..نعم أنا كذلك يا أويس .. فقد رحلت أنجلينا .. رحلت ؟!! .. إلي أين رحلت ؟ .. إلي فلسطين .. أنت تحيرني يا شرودر .. ما علاقة أنجلينا بفلسطين ؟ .. ومن ثم قص عليّ كيف أن أحد القادمين من الأراضي المحتلة ومن نابلس بالضفة الغربية بالتحديد قد سلمها رسالة من بسام يقول فيها بأنه أصيب بطلق ناري .. بينما كان يتظاهر بالقرب من طولكرم ومعه لفيف من الأجانب والإسرائيليين من أنصار حركة ( السلام الآن ) .. كانوا يطالبون بفك الحصار عن المدينة الفلسطينية المحاصرة في تظاهرة سلمية لا أكثر ولكن الجنود الإسرائيليون أمطروهم بوابل من الرصاص المطاطي والقنابل المسيلة للدموع وعندما تشبثوا بمواقعهم رشقوهم بزخات من الذخيرة الحية فأصيب بسام إصابة بالغة يرقد بسببها بمستشفي نابلس .. وما أن قرأت أنجلينا الرسالة حتى توجهت بصورة دراماتيكية نحو مكاتب الخطوط الجوية الأردنية وطارت علي الرحلة المتوجهة إلي عمّان في مساء نفس اليوم .. لقد هجرتني بكل بساطة يا أويس بعد كل ما فعلته من أجلها .. ليس لي سواها وليس لها سواي بعد أن انقطعت صلاتنا بأسرتينا منذ سنوات ولا تنس أنها ابنة عمتي .. أنا تعيس جداً ومحبط يا أويس .. أنصحني يا صديقي كيف أتصرف حيال هذا الموقف الصعب .. الذنب ذنبك يا شرودر فأنت لم تقدر أنجلينا حق قدرها .. انشغلت عنها باهتماماتك السياسية الهدامة .. ولم تدرك كم تحبك ولعلك لم تقل في يوم من الأيام بأنك تحبها .. لقد كادت أن تنتحر بسببك عندما علمت بنبأ فشل عملية مقديشو لولا لطف الله .. أجل .. أجل .. أعلم كم أنا مقّصر تجاهها .. لقد كنت غبياً عندما تأكدت بأنها لي وليس لأحد سواي .. كم أنا ساذج وغبي .. لقد خسرتها لصالح هذا الفلسطيني الطائش بسام ..لا..لا تظلم بسام يا شرودر .. لقد استنجد بها وهو بين الحياة والموت .. ولا بد أنه قد صرح بحبه لها وهو يغادر .. كان عليك أن تكون إيجابياًً في مشاعرك نحوها .. ماذا كان عليّ أن أفعل أيها الحكيم الإفريقي ..؟ أنتم تروضون الأسود والنمور وجميع حيوانات الغابة فمن الطبيعي أن تكون لكم وسائلكم في ترويض المرأة .. لا ليس هذا بالضبط ما قصدته .. الأمر يا صديقي لا يحتاج إلي كثير عناء .. كان عليك إرسال بعض الإشارات في حضورها كأن تعلق علي قوامها المموسق وكتفها العاجي وطلتها الآسرة وابتسامتها المشرقة وضحكتها المختزلة مع شيء من الدهشة وأن تضع يديك فوق كتفها وأنتما تتجولان في الحدائق العامة وأن تبحر في عينيها الزرقاويين كسماء بلادي في صباحات ربيعيه .. أنت تتغزل في ابنة عمتي يا أويس .. لا بل أصفها لك لعلك تراها كما أراها وكما يراها كل الطلاب بجامعة الصداقة .. أنت محق يا أويس فأنا مقصّر تجاهها .. والآن دلني بربك ماذا أفعل ..؟ أفكر باللحاق بها ..لا ..لا .. أرجوك لا تفعل .. ستبدو رخيصاً وساذجاً ومغفلاً إن أنت ركضت خلفها .. إنها المرأة يا شرودر .. المرأة في كل زمان ومكان .. تنظر إليك من علي البعد وتتمناك ملاكا ومخلصّاً من الضياع والألم وما أن تظفر بك وتنتهي تلك الهالة من الغموض والقداسة حتى تقلب لك ظهر المِجن وتركلك جانباً.. أنت محق فعلاً ولكن هذا ما لا أراه في العلاقة بينك وبين أنستاسيا .. أنستاسيا ؟!!! ..( أنّا ) شيء آخر .. شيء مختلف جداً .

  3. #33
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2010
    المشاركات : 1,149
    المواضيع : 174
    الردود : 1149
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي

    الحلقة الثامنة عشرة
    وأخيراً عادت أنجلينا من فلسطين .. كانت تبدو متعبة وحزينة مع شيء من اليقين والرضاء يلون قسماتها الجميلة .. تمنيت لو أمضي بقية عمري هنالك مع أسرة بسام .. الناس هنالك رائعون وطيبون ووالد ووالدة بسام مع أشقائه وشقيقاته يكونون أسرة مثالية .. ها .. أنجلينا ماذا فعلت في فلسطين ..؟ شرودر يسأل وهو غير قادر علي إخفاء مشاعره فرحاً بعودة أنجلينا ..؟ وكيف حال بسام ؟ هل تركته بخير وكنت أنا من يسأل هذه المرة .. أرجوكما اتركاني وشأني ..أنا متعبة جداً .. أستأذن أنا فلدي بعض المشاوير المهمة ..أراك لاحقاً .. عزيزتي ..أنجي ..إلي اللقاء ..والآن يا أنجلينا قولي لي ماذا يحدث هنالك في نابلس ؟ ..لقد مات بسام يا أويس .. مات بسام .. لحظة من الصمت المطبق جثمت كصخرة عملاقة فوق صدرينا .. عبرت سحابة سوداء فضاءات الغرفة وشعرت للحظات بأنني أتهدم وأتمزق إلي أجزاء متباعده .. تمالكت نفسي وقلت لها في رفق وأنا آخذ كفها في كفي .. هذه إرادة الله ولا راد لقضائه .. اطلبي له الرحمة .. وسالت الدموع غزيرة فوق وجنتيها الشاحبتين .. ولكن كم هذا مجحف وغير عادل .. غمغمت بين الآهات والتنهدات .. لعلك وصلت بعد فوات الأوان .. لا لم أصل بعد فوات الأوان وجدته وهو يصارع الألم والجراح بمعنويات عالية وكان في شبه إغفاءة حين دخلت عليه بغرفته في مستشفي نابلس .. وما كان منه إلا أن همهم باسمي لحظة وقوفي قرب سريره .. قبلتّه فوق جبينه وأنا أحاول التماسك .. أنا هنا يا حبيبي .. بسام هل تسمعني ؟ .. فما كان منه إلا أن أفاق .. وكانت تلك هي المرة الأولي التي يفيق فيها منذ دخوله المستشفي .. لقد وصلتك رسالتي إذن .. قالها بصعوبة شديدة .. أنا شاكر وممتن لحضورك يا أنجي .. أنا أحبك جداً .. أرجوك لا تقل شيئاً فالكلام يضر بصحتك .. أنا أيضاً أحبك وعليك أن تتشبث بالأمل في الشفاء وسنبقي بقية العمر معاً .. أقسم لك بأنني جادة فيما أقول يا بسام .. أضاء وجهه الوسيم للحظات وارتسمت ابتسامة عريضة فوق شفتيه وبدا وكأنه ينام نوماً عميقاً والابتسامة لا تفارق شفتيه .. بيد أنه استيقظ للحظات وقال لي في توسل وخضوع .. لي طلب أخير أرجو أن توافقي عليه يا حياتي .. وما هو يا بسام قله وأنا أستجيب له علي الفور .. أريدك أن تدخلي الإسلام .. أعني أن تعتنقي ديننا .. وكيف أعتنق الإسلام يا بسام ؟!! .. أخبرني ماذا يتحتم عليّ فعله ..؟ أن تقولي فقط وأنت مطمئنة ..أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله .. بل أفعل يا حياتي وعلي أحدهم أن يعيد عليّ هذه الجملة .. هنا تدخل والده ولقنني الشهادة .. بيد أنه عاد لغيبوبته وهو أكثر إشراقاً وجمالاً و لم يفق أبداً .. لقد مات وهو راضٍ عني تماماً وهذا ما يخفف عليّ فقده يا أويس .. بذل الأطباء جهوداً مضنية لاستعادته من تلك الإغفاءة العميقة بالرغم من ضآلة الإمكانيات المتوفرة للمستشفي بعد أن رفض الإسرائيليون طلباً تقدمت به عبر قنصليتنا لنقله إلي عمان .. أو حتى رام الله .. لقد أسلمت إذن يا أنجلينا ..مبارك لك الإسلام وهذا الخبر سيسعد شرودر كثيراً .. لعلك تذكرين موافقته علي اعتناق الإسلام ليلة محاولتكما الانتحار معاً وهذا ما تم فعلاً .. يا إلهي .. كم هي غريبة هذه الدنيا .. هل أفرح بهديتك أم أبكي لفقد بسام ..أحياناً تختلط مشاعر الحزن والأسي ولا ينفصلان .. نعم يا أويس .. أنت محق في هذا ..كنت أنوي البقاء قليلاً مع أسرته ولكن السلطات الإسرائيلية أبعدتني قسراً إلي الأردن وهنالك اعتصمت ثلاثة أيام بلياليها أمام سفارة إسرائيل وقد رفعت لافتة كتبت عليها ..( أطالب بمثول الجندي الذي قتل حبيبي بسام في طولكرم أمام العدالة ) .. وكان الجمهور الأردني كريما معي وتضامن معي العشرات من النساء والرجال وغمروني بالهدايا .
    أسمع يا أويس نسيت أن أخبرك بأنني حامل ..هكذا وبدون مقدمات وبهذه البساطة يا ربيع أيامي .. أخذت عنها حزمة من اللفافات كانت تحملها وقد اقتربنا من شراء كل ما نحتاجه .. أخذت عنها حتى حقيبة يدها خوفاً عليها وعلي أبني .. وتجادلنا لدرجة الصراخ في وجه بعضنا .. أريده ولداً وأنا أريدها بنتاً يا أويس ..لا ..لا .. دعك من البنات الأولاد أفضل وأفيد .. هذا غير معقول يا حبيبي كيف تفكر بهذه الطريقة الغريبة هل نسيت بأنني أنثي .. غاليتي لم أنس .. ولكن الولد يحميك حين يكبر فيما لو حدث لي مكروه فأموت وأنا مطمئن .. تموت .. أعوذ بالله من هذه الفكرة المخيفة .. دعنا نتوسل إلي الله سبحانه وتعالي أن يرزقنا بالذرية الصالحة ولداً كان أو بنتاً لا فرق .. وهكذا تغير كل شيء في حياتنا منذ تلك اللحظة وبت أخاف علي أنستاسيا وعلي ابننا ( ألا زلت تصر علي خياراتك ؟ ..نعم بشرط أن لا تعلم هي بذلك ..) قلت لضميري وأنا أحمل عنها الأطباق إلي المائدة .. ألا تلاحظ بأنك تبالغ في حرصك عليّ أيها العزيز أويس ؟ .. ليس لي أغلي منك ومن .. ومن .. ومنك .. أعلم كم تتوق لرؤية صبي وليس صبية وأتمني أن يوفقني الله لأنجبه لك سالماً ..أتمني ذلك من كل قلبي علي أن أترك لك فرصة اختيار جنيننا القادم .. الخيرة لله وحده .. اتفقنا ؟ .. اتفقنا .
    ومضت أيامنا هانئة لا يعكر صفوها شيء ومع الاستقرار النفسي الذي حظيت به مع أنستاسيا والأجواء المريحة التي نسجتها من حولي .. اجتهدت في التحصيل ولم أعد أفوت محاضرة واحدة وبالمقابل نجحت في الامتحان النهائي بتقدير جيد جداً .. وكانت ( أنّا) تحوم حولي كفراشة ملوّنة تسألني إن كنت احتاج إلي شيء .. تصنع لي الفطائر والشاي والقهوة .. وعندما يجن الليل تتحول أنستاسيا إلي وردة تنشر عبيرها الفواح .. أريجها المعطّر.. نداوتها المستحيلة ولمساتها الحانية .. وردة هي في الهزيع الأخير من الليل في رقتها ونعومتها وشذاها .. وردة للوفاء .. وردة للجمال .. ولكل ما هو نادر وغريب .. وأقول لها في رعب حقيقي .. أخاف تحولك المستمر هذا إلي وردة يا ( أنّا ) إذ أن عمر الورود قصير جداً يا حياتي فهو أنيق وموحٍ .. أليس كذلك ..؟! لهذا أريدك نخلة في الصباح ضاربة في باطن الأرض تهزئين بالريح والمطر .. أنت مخطئ يا حبيبي .. أفّضل أن أمنحك عبيري ورحيقي وأنا وردة حتى وإن قصرت أوقاتنا علي أن أتمدد فوقك أجيالاً من الثمار والظلال .. ألهذا غادرت محطة حياتي بهذه السرعة ؟! .. الوطن أولاً يا أويس .. وطني الشيشان يحتاجني وقد دقت ساعة المواجهة .. هكذا كانت فحوي الرسالة التي تركتها لي علي سريري في ذاك الصباح الماطر ورحلت بعيدا كالغيوم المسافرة .. ومضت تقول .. أعدك بأن أحافظ علي ابننا مهما كلفني ذلك من عناء وسيكون بمثابة أمانة عندي وأقسم بان أعيده لك في أقرب فرصة ممكنة إن حفظني الله من كل مكروه أما إذا استشهدت فحاول أن تتذكرني في الهزيع الأخير من الليل ونيلكم العظيم يوشح صباحاتكم بالندي والنسيم العليل .. أرجوك تصرف بحياتك كما تشاء تزوج وأنجب أطفالاً رائعين مثلك وحاول أن تشرح الأمر لوالدتي ووالدي وأن يبقي رحيلي سراً بيني وبينك لدواعٍ أمنية بحتة ..أخاف عليكم من ( الكي . جي .بي . ) وعقابهم المّر ..الشقة مؤجرة حتى بقية العام .. وفي خزانة الملابس مظروفان بهما بعض النقود .. واحد باسمك والآخر لعائلتي .. أحبك من كل قلبي وسأظل أحبك ما حييت

  4. #34
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2010
    المشاركات : 1,149
    المواضيع : 174
    الردود : 1149
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي

    الحلقة التاسعة عشرة
    الوطن أولاً .. وأنا يا حياة عمري .. أين هو موقعي من أولوياتك .. وقرعت الباب وأنا أترنح من ثقل اللحظات القادمة .. ماذا أقول لهما وماذا يمكن أن يقال .. فتحت الباب شقيقتها ( باتريشا ) وقد تهلل وجهها لرؤيتي ..هل أنت لوحدك ..وأين ( أنّا ) ؟!! ..مرحبا .. لعلها قرأت كل صنوف التعاسة التي أنتجتها البشرية منذ سيدنا آدم في قسمات وجهي ..أمي ..أمي ..إنه أويس ..مرحبا بني العزيز أويس .. جلست قبالة والدها وكان يقلب صفحات موسوعة (قينيس) للأرقام القياسية .. ألا يوجد تصنيف عالمي للضياع والحزن والفراغ ..أظنني سأحطم جميع الأرقام القياسية المسجلة للحزاني والضائعين .. ناولت والدتها المظروف فاعتدل والدها في جلسته .. أهذا المال من صغيرتي (أنستاسيا ؟ !!!) .. نعم إنه منها .. لم يعلق بشيء .. فقط تراجع في ال(صوفيا) العملاقة إلي الخلف ودفن وجهه من جديد في موسوعته وكأنه يود الاختباء خلفها حتى لا يفضح انفعالاته تلك .. أما أمها فقد إستاذنتني في صوت متهدج .. أشعر بصداع رهيب وأود أن أبقي لمفردي لبعض الوقت .. ومن ثمّ ركضت نحو غرفتها وأغلقت الباب خلفها.. هل كانا يتوقعان ذاك الرحيل المفاجئ ..أم ماذا ؟ ..ولكن أين هي ( أنّا ) ..الصغيرة ( باتريشيا ) وهي تحاصرني بالأسئلة وهي تزفني حتي البوابة الخارجية .. بالإذن عزيزتي .. قلت لها ذلك وأنا أجرجر أرجلي وأفسح المجال للنسمات العابرات لتصفعني بلا هوادة حتى وصولي إلي محطة الحافلات .. وقررت أن أتوجه مباشرة لدي وصولي إلي موسكو ل(إزابيلآ) لعلني أجد بعض العزاء في رفقتها .
    أويس ؟!! .. منذ متي وأنت هنا ؟! .. وكان برفقتها شاب روسي الملامح ..لا ..لا .. أشكرك( إزابيلا ).. تبدوان وكأنكما علي وشك الخروج .. نعم .. نعم .. نحن في طريقنا لحضور اجتماع هام جداً .. أليس كذلك يا (إيزو ؟) .. بالطبع (فكتور) .. أقدم لك أويس ..إنه يدرس الطب في( الأونفيرستيت دورشبي) .. هذا هو فكتور شريكي في إدارة أعمال الشركة التي قمت بتأسيسها مؤخراً .. سعدت بمعرفتك سيد فكتور .. لا رد وإنما حمم من الكراهية الممزوجة بشيء من الغرور والتعالي ..وكانت الحقيبة السوداء التي أذكرها جيداً تقبع تحت قدميه ..أراك لاحقاً .. (داسيفيدينا ) .. كنت بصدد أن أقول لك (إزابيلا) .. بأن (أنستاسيا) قد رحلت .. لقد .. لقد انفصلنا .. أحقاً ؟ قالتها بشيء من الدهشة والاستغراب .. هذا شيء مؤسف .. سنتحدث حول هذا الأمر في فرصة قادمة ..أجل (إزابيلا ).. سنفعل .. وأغلق فكتور الباب في وجهي بقسوة غير معهودة .. فتي مربوع القامة أقرب إلي حارسها الشخصي من أن يكون عشيقها .. ومن أدراك بذلك ..؟ إحساسي يقول لي ذلك .. ورجعت وحدي محزون الخطي وبلا رفيق .. سوي الأمطار الغزيرة تجلدني بغزارة .. ولم أجد وجهة اتجه إليها فقررت التوجه نحو غرفتي القديمة ألتمس بعض العزاء هنالك لعلي أصادف (نعوم وشاهندة) وربما (روزماري أو أنجلينا ) ..أو حتى (كريموف) .. حزنت (شاهندة ) كثيراً لأجلي ولكنها تفهمت دوافع ( أنستاسيا) وأكبرتها .. ووعدتني بأن يكون الأمر سراً بيننا نحن الإثنين فقط ورجوتها أن تقنع زوجها بالانتقال إلي منزلي ليعيشا معي .. فقد بت أخشي العودة إلي هناك حيث خيالات حبيبتي ( أنّا ) تدوزن ردهات المكان .. فوافقت علي الفور سيسر نعوم لذلك كثيراً .. فهو لا يطيق الفوضى والإزعاج الذي يتفجر كل مساء بالنزل ..لم يكن (كريموف) موجوداً وقتها بيد أنه ظهر فجأة وهو يحمل خطاباً أو شيئاً من هذا القبيل .. سيدي أويس .. سيدي أويس .. لقد كنت بصدد التوجه إلي منزلك .. أحضر ساعي البريد هذا التلغراف ويقول السيد نعوم بأنه ينطوي علي أنباء مزعجة لك .. لأنه يتعلق بالسيدة والدتكم في الوطن .. أرجوك أقرأه .. علي رسلك .. علي رسلك .. أخذت منه البرقية بيدين راجفتين وجلتين .. صفعتني أحرفها القاسية لدرجة كدت أسقط معها مغشياً عليّ .. بيد أن كريموف تلقفني قبل أن أسقط وأجلسني علي أقرب كرسي .. إذن ماتت والدتي الرائعة الحاجة رقية النعمان .. ماتت وأنا بعيد عن الأهل والوطن .. هرع كريموف لإحضار كوب من الماء فقد جف حلقي وخارت قواي وبت لا أقوي علي البكاء أو حتى مجرد الكلام .. لم أنم ليلتها .. فقد عشت شريط حياتي بكامله مع أمي مذ كنت تلميذا بالخلوة والمدرسة الابتدائية وتعلمت كم هو قاسٍ ومؤلمٍ فقدان الأم .. وتذكرت المرات العديدة التي ذهبت فيها وحدي أو مع آخرين لتقديم واجب العزاء للأصدقاء والزملاء في البلد في فقد أمهاتهم .. كان الواحد منهم يبدو متماسكاً ويندفع نحوك يرفع ( الفاتحة ) ويأمر الصبية بتقديم الماء والشاي ويجلس بقربك يسألك عن الأحوال الخاصة منها والعامة .. وحين يُجن الليل ويأوي إلي فراشه يكتشف كم هو باهظ ومكلف وفظيع فقدان الأم ويود لو يرفع عقيرته بالبكاء في قلب الظلمة ويقول للجميع أنا مكلوم وضائع وحزين وأريد أمي بأي ثمن .. أريد ابتساماتها ودعواتها وحضنها الدافئ الحنون .. ولكن هيهات يا صديقي هيهات .

  5. #35
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2010
    المشاركات : 1,149
    المواضيع : 174
    الردود : 1149
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي

    الحلقة العشرون
    لم تكن شاهندة مرتاحة لصداقتي مع إدوين و لهذا الانحراف المفاجئ في سلوكياتي فصارت تزعجني بسيل من النصائح كلما تقابلنا في غرفة الطعام .. وفي ذات مرة هددتني بترك المنزل إن لم أقطع صلتي بهذا الأيرلندي الماكر علي حد قولها .. إنه يستغلك يا أويس .. اشتريت له موترسايكل وتدفع عنه تكاليف أمسياتكم الماجنة تلك .. وكيف علمت بهذا يا شاهندة ؟ .. لا شيء يخفي بهذه المدينة يا دكتور .. نعوم وهو يشارك في إسداء النصح .. وخوفاً من فقدهما قررت السفر مع صديقي (إدوين ) إلي ( ليننقراد ) حيث الصغيرة الرائعة (سيسيليا) والعمة ( خواليتا ) .. رحب بالفكرة أيما ترحيب فالجامعة مغلقة بنهاية النصف الأول من العام الدراسي وليس بوسعه السفر إلي بلفاست فهو علي قائمة المطلوبين بواسطة الأسكتلند يارد
    غادرنا باكراً دون أن نوقظ ( نعوم وشاهندة )وركبنا علي الباص السياحي العملاق باتجاه تلكم المدينة الأسطورية العريقة .. كانت الرحلة رائعة وتعرفت في أثناء الرحلة علي بعض الأفراد القادمين من شرق آسيا وكم كانت دهشتي عظيمة عندما تقابلنا مجدداً بمنزل العمة ( خواليتا ) .. إييه يا خواليتا لكمّ أنت غامضة ومحيرة ولولا وجود الساحرة الصغيرة سيسيليا لأقمنا بأي فندق عوضاً عن هذه القلعة الغارقة في الصمت والأسرار.
    رحبت بنا مضيفتنا ترحيباً حاراً وتسلقتني )سيسيليا( وهي تهتف بفرح حقيقي .. مرحباً أيها الزنجي الوسيم .. لقد اشتقت إليك كثيراً .. هيا ادخلا .. تفضلا بالدخول .. مرحبا .. مرحبا .. هذا هو ( إدوين ) صديقي وزميلي بالجامعة .. إنه من إيرلندا من (بلفاست) ..أهلاً بكما .. ولم تشفع لنا حالتنا المزرية جراء الرحلة الطويلة في أخذ قسط من الراحة .. فقد طافت بنا السيدة خواليتا وابنتها سيسيليا أنحاء المدينة المختلفة ومعالمها التاريخية وفي أثناء تنقلنا من مكان لأخر كانت سيسيليا المتوثبة مثل كرة من المطاط تتأبط ذراعي وتدور بي في فرح طفوليًّ غامر ..حدث هذا في اليوم الأول والثاني وفي صباح اليوم الثالث وبينما نحن نتناول إفطارنا بحديقة المنزل لاحظت أن صديقي ( إدوين ) وسيسيليا يتبادلان النظرات الحانية ويذوبان في حالة من العشق غريبة .. آلمني ذلك كثيراً فقد كنت أنظر إلي (سيسيليا) كصخرة ناتئة في قلب المحيط وأنا أتشبث بها كغريق يائس .. ظللت ساهماً أثناء جولة لنا بإحدى مراكز التسوق وافتقدت في تلك اللحظات القاتمة (أنستاسيا ).. حبيبة عمري ومني خاطري وذكرياتي .. ازداد إيقاع التقارب بينهما حرارة وتسارعاً .. وأنا أتجرع كأس الذلّ والحرمان .. وبمجرد عودتنا للمنزل طلبت الأذن لأخذ قسط من الراحة وتعللت بأنني أشعر بصداع فظيع .. ولكنني في الواقع كنت أتفادي رؤيتهما معاً .. وبينما الجميع في باحة المنزل يتناولون وجبة العشاء ويشربون النبيذ الأحمر ويتسامرون نظرت عبر النافذة لأجد سيسيليا وقد تكومت كقطة صغيرة في حجر ( إدوين ) .. عدت مسرعاً إلي فراشي وقررت الرحيل في الصباح الباكر من هذا الجحيم القاسي .. ومع خيوط الفجر الأولي سطرت للسيدة (خواليتا) رسالة مقتضبة أقول لها فيها بأنني تذكرت موعداً هاماً مع إدارة الجامعة وعليّ أن ألحق به .. وحملت حقيبتي وأنا أجرجر خطواتي نحو البهو الخارجي ومن ثمّ باب الحديقة والشارع الطويل .. كنت وحيداً .. حزيناً ومطروداً من جنة أحلامي .. من الرائعة المترفة الصغيرة (سيسيليا) وعوالمها الباهرة والمبهرة .. ومن يومها لم أعد أقابل (إدوين ) بالرغم من رجاءاته المتكررة إذ كنت أختلق في كل مرة يطلبني فيها عذراً جديداً .. كانت (شاهندة) سعيدة بهذه القطيعة المفاجئة وكذلك زوجها الأسباني (نعوم) القادم من إقليم (الباسك) .. وبتنا نتحلق من جديد حول المائدة كأسرة واحدة وأحيانا نخرج للنزهة وقراءة الوجوه والأماكن وتمنيت لو أن (رزان) كانت إلي جانبي ولكن أين أنا وأين (رزان ؟).. آه منك يا شاهندة !! .. يا أخت روحي وبلسم جراحي .. تري أين أنت الآن وكيف الحال عندكم في كشمير الغالية .
    وفي ذات يوم وبينما كنا نقلّب صفحات الصحف الصادرة صباح ذاك اليوم .. فوجئنا بصورة كبيرة بحجم ( البوستال ) تتوسط الصفحة الأولي وقد ظهر فيها وجه سيدة وشاب روسي الملامح والتعليق يقول .. شرطة موسكو تُلقي القبض علي سيدة كولومبية ورفيقها وهما يقومان بتوزيع كميات كبيرة من الكوكايين .. وأخذت تلكم الحقيبة السوداء التي طالما أُحتفي بها هنا وفي (ليننقراد) موقعها بين أقدام الاثنين .. ويمضي الخبر ليقول أن الشرطة كانت تراقب منذ مدة ليست بالقصيرة تحركات سيدة الأعمال الكولمبية القادمة من كولومبيا عبر العاصمة الفنزولية (كاراكاس) .. وهنالك سهم يشير للحقيبة السوداء وتعليق يقول ..ا لحقيبة التي ضبطت الشرطة بداخلها المخدرات .. لم يخامرني أدني شك بأن الصورة ل(إزابيلا) وصديقها المتجهم ( فكتور ) .. انتابني خوف حقيقي وشعرت بان قدماي لا تقويان علي السير .. هل ستقبض الشرطة عليّ أنا أيضاً ؟! .. إن الخبر يقول بأن الشرطة كانت تراقب تحركات إزابيلا ولا بد أنها رصدت تواصلي معها .. يا إلهي .. لكم كانت (أنستاسيا) محقةً وهي تحذرني منها .. لا أرتاح لها يا أويس ولا تسألني لماذا .. إن شخصيتها غامضة ولا تبعث علي الثقة والارتياح.. الغالية (أنّا) وهي تحذرني مراراً وتكراراً .. وتذكرت عدد المرات التي صاحبتنا فيها تلك الحقيبة ما بين موسكو ولينينقراد وتبدل وضعيتها بين الاحتفاء الشديد والإهمال التام .. هل ستذهب لزيارتها في السجن يا أويس ؟ .. أزورها أنا ؟ .. هل جننت ؟ قلت وأنا أتكلم كالمجنون مع نفسي .. مخدرات وكوكايين .. ولماذا هذا السم الزعاف الذي يرسل آلاف الشباب لتلك الدائرة الجهنمية دائرة الإدمان يا إزابيلا ؟ وأنت يا فكتور المتجهم .. هنيئاً لك ظلمات السجن .
    لم أتوقع أن تبحر سفن بعض الزملاء والزميلات بعيداً بهذه السرعة .. لقد توحدنا في ( الأونيفرسيتيت دورشبي ) كأسرة واحدة بالرغم من الاختلافات الإثنية والدينية .. جمعتنا الروابط الإنسانية العريضة وحبنا لأوطاننا وللحياة .. واليوم سنقوم بتوديع إثنين من أحب الزميلات إلي قلبي .. ( أنجلينا )التي قررت العودة مجدداً إلي فلسطين والانضمام للهلال الأحمر الفلسطيني كممرضة متطوعة و(روزماري) التي ستغادرنا إلي ( كيب تاون ) بصحبة أحد الأثرياء الجنوب إفريقيين من البيض المعروفين بانتمائهم للفقراء والمسحوقين من السود .. كان حفلاً صغيراً ومتواضعاً بيد أنه مثّل علامة فارقة في الإتحاد والتوحد بين شباب العالم .. قدمنا من خلاله الهدايا للمحتفي بهن وتبادلنا بعض الكلمات .. كانت هنالك شاهندة ونعوم وشوماخر وفاجأنا ( إدوين ) وهو يأتي متأخراً بعض الشيء .. يزف أمامه فتاة جميلة أدارت أعناق كل الحضور من النساء والرجال .. تفرست في ملامحها التي تلونت بأضواء الثريات الموزعة علي أركان حديقة الجامعة .. وعندما أخذا موقعهما ليس ببعيد عني .. أصابني إحساس عارم بالدهشة الممزوجة بالغضب والاستياء .. إذ أن تلك الفتاة الجميلة لم تكن سوي ( سيسيليا ليننقراد) .. شعرت بكل دواخلي ترتعش وبتُ غير قادرٍ علي التماسك .. حيتني من علي البعد وهي تهتف ( هاي أويس .. كيف حالك ؟ ) .. جاوبتها بتلويحة باردة وأنا أغمغم بكلام غير مفهوم .. لم تكلف نفسها تحيتي حيث أجلس ولم أكلف نفسي مشقة الانتقال إلي طاولتها .. وجاء دور (روزماري) لإلقاء كلمة وداع قصيرة ولكنها عوضاً عن ذلك ألقت خطبة عصماء مذكرةً الجميع بالمسئولية المشتركة لكل شباب العالم في مقاومة الظلم والاضطهاد والوقوف في وجه الطواغيت وتوظيف العلم والتكنولوجيا من أجل إحداث التغيير المنشود لشعوب العالم الثالث ومكافحة الفقر والجوع والمرض .. ودعتنا للتوحد جميعاً بالانخراط في منظمات المجتمع المدني وتبادل الرسائل والخبرات .. وجاء دور (أنجلينا) التي ارتدت حجاباً رقيقاً زادها تألقاً وجمالاً وطلبت منا أن نرسم لحياتنا جملة من الأهداف والطموحات النبيلة وأن نتمسك بمكارم الأخلاق والقيم النبيلة التي توارثناها عن آبائنا وأجدادنا فلا ننخدع بأطروحات العولمة والإباحية والانحطاط الخلقي .. وأن ننخرط في حرب كونية لا هوادة فيها ضد الاستعمار والإمبريالية الجديدة وأن ندعو للسلم والصداقة بين الشعوب ونقف صفاً واحداً ضد تجار الحروب والفساد .. ومضي الحفل ثقيلاً علي قلبي .. فمن ناحية أجد صعوبة في تقبل فكرة رحيل هاتين الرائعتين ومن ناحية أخري يؤلمني رؤية ( سيسيليا ) مجدداً في أحضان شخص آخر .. لذلك قررت الانسحاب من الحفل مبكراً .. ولدي مغادرتي سمعت (صوتاً يشبه صوت كريموف ينادي باسمي ..( مستر أوليس ..مستر أوليس ) فتأكدت بأنه هو ولا ريب .. ومن غيره يخطئ في نطق اسمي علي الدوام .. مستر أوليس .. حمداً لله أني لقيتك .. مرحبا كريموف .. لقد حضر صباح اليوم للجامعة رجل قال أنه دبلوماسي بسفارة بلادكم السودان وبرفقتة سيدة أو آنسة لا أدري .. المهم أنها جميلة وأنيقة وخجولة .. و .. ماذا بك كريموف .. هل أحببتها من النظرة الأولي أم ماذا ؟.. قلت له مضاحكاً .. وترتدي الزي الهندي تماماً كالسيدة شاهندة .. لعله يقصد الثوب السوداني بيد أنها تضع غلالة سوداء فوق وجهها فلا يتبين منه سوي العينين .. وقد أخبراني بأن أبلغك بضرورة التوجه صباح الغد إلي مبني السفارة .. أشكرك يا كريموف .. خُذ .. هذا كثير سيدي أنت دائماً كريم معي .. وأنت أبو الكرم يا كريموف .. واختفي قبل أن أكمل .. ( واسمك يدل علي هذا ).

  6. #36
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2010
    المشاركات : 1,149
    المواضيع : 174
    الردود : 1149
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي

    الحلقة الواحدة والعشرون
    كنت شارد الذهن أفكر في أمر ذاك السيد القادم من السفارة ورفيقته .. ربما كانت زوجته أو لربما هي موظفة بالسفارة وقد حضرا لدعوتي كأي سوداني مقيم بموسكو لحضور حفلٍ بمناسبة عيدٍ من أعياد الوطن ولقد شهد الجميع بقدراتي الفائقة علي استنطاق آلة الربابة ..هل هو عيد الاستقلال ..لا ..لا ..لسنا في يناير .. ثم أن الغالبية العظمي من المواطنين فقدت الاهتمام بذكري الاستقلال بعد مرور كل هذه السنوات من التخبط السياسي والكيد الأعمى بين الأحزاب .. وبعد أن ازدادت معاناة الناس .. هل هو عيد العمال .. الأول من مايو .. لا أظن ذلك فقد ضاعت صيحة الشيوعيين المعروفة ( يا عمال العالم اتحدوا ) بين صخب وضجيج الماكينات وبات رؤساء وأعضاء النقابات العمالية في واد ومتطلبات قواعدهم في وادٍ آخر بعد أن صار كل واحد منهم ظهيراً للسلطة علي حساب أولئك التعساء .. هل هي ذكري ثورة الواحد والعشرين من أكتوبر 64 .. أظنك تمزح يا صديقي .. ألم يقولوا لنا بأن ثورة أكتوبر نحرت بليل .. أكتوبر ؟! .. إنها موجودة فقط في ذاكرة الأرشيف .. مجرد أناشيد لم يعد يسمعها أحد ..أم لعلها ثورة الخامس والعشرين من مايو .. لماذا تكثر من ترديد كلمة ( ثورة ) ؟.. هل تشتري حفنة موز من سوق الفواكه والخضروات أم ماذا ؟.. أعطني تعريفاً واضحاً للمفردة ( ثورة ) .. ولماذا أنت غاضب هكذا ؟ .. أنا متوتر فقط .. يعتريني إحساس غريب أجهل كنهه ..نعم أنا قادم .. من يقرع الأجراس بهذه الشدة في هذا الوقت المتأخر من الليل .. أللهم أجعله خير .. أللهم أجعله .. نعم .. نعم .. أنا قادم .. من؟!!! .. سيسيليا ؟! ما الخطب ؟! .. لماذا أنت هكذا ؟.. هل يمكنني الدخول .. أرجوك .. بالطبع تفضلي .. ولكن من فعل بك هذا .. لماذا أنت بهذه الحالة المزرية ؟! .. ثياب ممزقة وكدمات وآثار عراك وملابسك ملطخة بالطين .. ماذا جري سيسيليا ماذا جري ؟ .. امنحني فرصة استعيد فيها توازني .. أنا .. أنا .. ماذا ؟ .. ما بك ؟ .. قولي .. تكلمي .. لقد تعرضت لمحاولة اغتصاب .. المجرم السافل .. من هو هذا المجرم السافل .. من هو وماذا فعل لك ؟ .. إنه ( إدوين ) .. نعم ( إدوين ) أخذني في نزهة بدراجته النارية وعرج بي علي إحدى الغابات وحاول اغتصابي وعندما قاومته ضربني بقسوة ومزق ثيابي .. فهربت منه وصرت أجري وأجري بين الشجيرات وهو يطاردني بال(موتر سايكل ) .. بيد أنه اصطدم بشجرة وربما يكون قد أصيب إصابات بليغة التفت وشاهدت دخان الحريق يتصاعد من المكان .. وصلت بصعوبة بالغة للطريق العام وهنالك التقطني سائق شاحنة مخمور .. كان لوحده وحاول العبث بي أكثر من مرة .. اغتنمت فرصة إبطاء الشاحنة بإحدى المنعطفات وفتحت باب الشاحنة وقفزت منها حتى قبل أن تتوقف تماماً فأصبت ببعض الكدمات بذراعي وأرجلي بيد أنني نهضت ثانيةً وعدوت بالاتجاه المعاكس بأقصى ما أستطيع حيث توقفت عربة صغيرة تقودها سيدة طيبة أقلتني حتى باب منزلكم .. يا إلهي كم كنت غبية .. هذا جنون لا يصدق .. أنا غبية فعلاً إذ وثقت بذاك المخادع .. سامحني يا أويس .. أنت إنسان مختلف جداً وما كان عليّ أن أفقدك بهذه السهولة ولأجل من ؟.. سخيف مخادع وجبان .. لا بأس يا صغيرتي .. المهم أن تكوني أنت بخير وأن تتعلمي شيئاً من هذه التجربة المريرة .. ولكن كيف وصلت إلي هنا .. أعني من أعطاك عنواني ؟ .. أعطتني إياه خالتي ( إزابيلا ) عندما زرتها في السجن .. بالمناسبة .. هي تسأل عنك بشدة وقد علمت أن شخصاً متنفذاً ومهماً أمر بإخراجها من السجن بالضمانة وشطب الإتهام في مواجهتها بعد أن اعترف فكتور بالجرم وشهد بأن خالتي إزابيلا لم تكن علي علم بمحتويات تلكم الحقيبة المشئومة .. والآن أويس .. أرجوك أنا جائعة وظمآنة وأشعر بالبرد يطحن عظامي .. ولن يكون بوسعي العودة للمنزل لتراني أمي وأنا بهذه الصورة .. هل تسمح لي بقضاء الليل معكم ؟.. بالطبع سيسيليا .. تركتها لبعض الوقت وعدت ومعي شراباً دافئاً وأيقظت شاهندة وزوجها وشرحت لهما الأمر وطلبت من شاهندة أن تهتم بها وأن تنام معها في غرفة نومها ونمنا أنا ونعوم في غرفتي .. ولكن هل نمت ؟! .. لا .. لا .. لم أنم وظللت مسهداً أقلب في ذهني مجريات هذا اليوم العجيب .. سفر (أنجلينا وروزماري ).. وذاك السيد القادم من سفارتنا ورفيقته وقصة سيسيليا المحزنة .. ووجدتني أتعاطف معها بالرغم من هجرها لي والارتماء في أحضان ذلك الإيرلندي ( إدوين ) .. لم أحقد عليها ولكنني رثيت لحالها وقررت أن اشتري لها ثياب جديدة قبل توصيلها لأسرتها .. فضلاً هل بإمكاني استخدام الهاتف ؟.. بالطبع تفضلي .. هالو .. ماما .. أنا سيسيليا .. أنا هنا أتسامر مع بعض الأصدقاء بمنزل السيد أويس .. لا .. لا تقلقي أنا بخير وسنسهر حتى الفجر لنحتفل ببزوغ شمس الغد .. مرحبا سيده خواليتا .. إنها بخير وسأوصلها لمنزلكم غداً بنفسي .. طاب مساؤك .
    كيف تشعرين الآن سيسيليا ؟! .. اشعر بأني تحسنت كثيراً وسأطلب من والدتي إعادة المال الذي أنفقته علي ملابسي الجديدة وتكاليف تصفيف شعري وهذا الحذاء الجميل وحقيبة اليد .. سأطلب منها منحك أموالاً كثيرةً فهي ثرية جداً كما تعلم .. أشكرك سيسيليا ولكنني أعتقد أني تصرفت بما يمليه عليّ واجبي وضميري .. أنت إنسانة رائعة جداً سيسليا بيد أن تجربتك في الحياة محدودة .. ثمة أمور كثيرة ستتعلمينها مع مرور الوقت والأيام .. لقد كنت غبية جداً إذ تخليت عنك من أجل ذاك المغرور المتوحش .. سأقرع الباب أنا .. لا عليك .. سوف تجتازين هذا الموقف بسلام .. وكانت والدتها من فتح الباب والقلق يرتسم علي وجهها .. سيسيليا !! ..آآ يا طفلتي تعالي لأمك .. لقد خفت عليك لدرجة التلاشي .. الأحوال في موسكو ليست كما هي عندنا في لينينقراد .. ولكن ما هذه الكدمات التي علي صفحة وجهك وذراعك .. إنها لا شيء .. لا تقلقي أمي .. كل ما في الأمر أننا كنا نسهر بإحدى المقاهي الليلية وأراد الشباب اختبار قوتهم فحملوني بين أيديهم وصاروا يقذفونني في الهواء ثم يتلقفوني من جديد .. نجحوا في المرة الأولي والثانية وفي المرة الثالثة خارت قواهم فلم يتمكنوا من تلقفي فسقطت جزئياً علي أرضية المقهى .. تفضل مستر أويس .. تفضل .. لا أعذراني فلديّ مشوار مهم .. إنهم يطلبونني بالسفارة السودانية .. مرحبا أويس .. إزابيلا؟!! .. خلتك في السجن .. لا ..لا .. فقد أفرجوا عني .. حمداً لله علي تبرئتك .. أشكرك .. ألن تنضم إلينا ؟! .. نحن بصدد الاحتفال بمناسبة خروجي من السجن ..آ أويس .. السجن مكان رهيب .. إبق معنا أرجوك.. إذ ربما تحصل علي كأس من عصير التوت الكولمبي أم أنك نسيت مذاقه ؟ .. قالت ذلك وهي تمنحني نظرة إغراء صارخة الشيء الذي أثار استياء سيسيليا .. أود ذلك كثيراً إزابيلا .. ربما في مرة قادمة .. ينتظرني مشوار هام كما قلت لك .. طاب يومكم .. وداعاً .. سأوصلك بنفسي حتى باب الحديقة .. أشكرك .
    لم أضيع وقتاً .. الفضول يقتلني وأشعر باني ضائع ومشوش .. وفي مكتب الاستقبال بالسفارة قال لي الموظف .. السفير عماد غادر إلي منزله ويطلب منك اللحاق به علي هذا العنوان .. أخذته منه وواصلت السير بدراجتي النارية أبحث عن العنوان المنشود .. دلني أحد المارة علي الشارع وبات العثور علي رقم المنزل ميسوراً .. قرعت الباب فجاءت خادمة قوقازية لتفتح لي .. قلت لها .. قولي للسيد السفير عماد الدين .. أن الدكتور أويس من جامعة الصداقة يود رؤيتك .. اختفت تلكم الخادمة الصغيرة بملامحها المتواضعة ثم عادت لتأخذني عبر البهو الواسع لغرفة الجلوس .. لحظة من فضلك السيد عماد سيلحق بك بعد قليل .. إنه يهاتف شخصاً ما بوزارة خارجية بلادكم .. دقائق معدودة انقضت علي حساب أعصابي .. هل أحضر لك شيئاً من شراب ( الكركدي ) الساخن .. إنه لذيذ جداً .. أعلم ذلك يا آنستي وقد سبق لي زراعته وحصاده عندما كنا بكردفان .. نعم لو كان هذا لا يضايقك .. كلا البتة .. وفي هذه اللحظة أطلّ علينا السفير عماد .. أنا آسف لتركك هكذا وحدك .. في الحقيقة لديك رسائل ووصايا من والدك وشقيقاتك بالسودان أحضرتها ابنة أختي ..آها .. ها هي قادمة .. سلمي علي الدكتور أويس .. مرحبا .. مددت يدي لمصافحتها بيد أنها لوحت لي من علي البعد وفهمت من القفازات التي ترتديها بيديها والخمار الأسود المسدل علي وجها بأنها من النوع الذي لا يصافح الغرباء .. لكن شيئاً ما جذبني نحوها .. قرأت تفاصيل عينيها وأبحرت في خضمها لثوان .. يا إلهي .. هاتان العينان الرائقتان الناعستان مألوفة جداً بالنسبة لي .. ولكن أين طالعتهما .. هل سبق أن تجاورنا في مدينة ما من المدن التي عمل بها والدي الضابط الإداري .. هل هي من الأبيض؟ .. بورسودان .. كسلا .. بارا .. بور .. رفاعة ..؟ .. أين رأيت هاتين العينين النجلاوين .. ؟ أين يا أويس ؟ أين .. أين .. لحظة صمت مفتوحة علي كل الاحتمالات خيمت فوقنا .. لعلك لم تعد تتذكرني وربما النقاب الذي أضعه فوق وجهي قد ضيع ملامحي .. نعم آنستي .. لا أتبينك تماماً لكن صوتك يخبرني بأنك رزان عبدو .. هل أنت متأكد ؟! .. ولماذا رزان بالذات ؟.. إنها فتاة أحلامي وحبي الحقيقي مذ كنا أطفالاً وحتى يومنا هذا .. ربما أكون كذلك ولكن يمنعني التزامي الديني من كشف تقاطيع وجهي .. وعليك أن تتوقع أشخاصاً آخرين غير رزان .. لا أستطيع لو لم تكوني رزان ..أرجوك حاولي أن تكوني .. صوتك ولفتاتك تقول لي بأنك هي وقد أكون مخطئاً وفي هذه الحالة سأشعر بخذلان شديد .. أويس مرغني الفاضل .. أنا فعلاً رزان .. رزااااان .. أكاد لا أصدق ونهضت نحوها لآخذها بين ذراعي ولكنها استوقفتني وغادرت المكان وصدي نهنهاتها يزلزل كياني .. لم أكن أعلم بأن العلاقة بينك وبين الدكتورة رزان متجذرة بهذه القوة .. بل وأكثر .. يا إلهي ..لا ..لا ..لا ..لم أعد قادراً علي التفكير .. رزان هنا في موسكو .. هذا مستحيل .. هذا .. ولكن .. كيف سمح الأستاذ (عبدو) ل( رزان ) بالمجيء إلي هنا .. أعني إلي موسكو ؟! .. سمح لي يا (دوك) ..لأن خالي هنا.. (رزان) وقد عادت بعد أن جففت دموعها .. نعم .. نعم .. كيف فات عليّ ذلك ..لا بد أنني أصبحت غبياّ .. أشعر وكأنني أكبر غبي في العالم .. وبما أن خالك هنا فإنني أطلبك زوجة لي عليّ سنة الله ورسوله .. لا بد أن طلبي فاجأ الجميع .. فقد توقفت زوجة السفير في منتصف البهو وكانت تحمل بعض الحلوى وعصير (الكركدي) .. وساد المكان صمت رهيب .. أنا أعني ما أقول .. ولكن يا دكتور (أويس) ألا تري أنه من الأفضل أن تتم أمور كهذه في البلد .. أعني في (وادمدني) حيث يقيم والدها .. أنا آسف أعني .. ليس بوسعي التفريط في (رزان) بعد أن ساقها القدر إليّ وحتى بابي .. وأنتم يا سعادة السفير تملكون خطاً ساخنا ً.. ومن ثمّ أعطيته هاتف والدي بالشركة التي يعمل بها بالخرطوم بعد التقاعد وطلبت منه أن يوصلني به لأطلب منه التوجه إلي (وادمدني) ليطلب ( رزان ) من والدها .. ثم نغادر للسودان لنكمل مراسم الزواج هنالك ونعود لنواصل مشاريعنا في التخصص .. والله فكرة هائلة .. هنالك موضوع هام لم تتطرقا إليه .. زوجة السفير وهي تشارك في النقاش بعد أن أراحت الأواني التي كانت تحملها علي الطاولة . لماذا لا نسأل (رزان) صاحبة الشأن إن كانت مرتبطة بشخص ما قبل حضورها إلي موسكو ؟ وكانت قد ظلت طوال الوقت محدقةً نحو الأرض .. أصابني نوع غريب من الرعب وشعرت بان دواخلي تنهار فجأة .. شخص ما ؟ ماذا تعنين بشخص ما يا خالة ؟ .. قلت ربما .. وفي هذه اللحظة المشحونة بشتي الانفعالات والاحتمالات ..انسحبت (رزان) من البهو لتتركنا وحدنا نتخبط في بحر من الظنون .. أرجوك خالتي .. أتوسل إليك .. ألحقي بها واسأليها إن كان ثمة أمر كهذا موجود في حسبانها .. سألحق بها .. يا طالما عاشت (رزان) السنين الطوال في أحلامي وخيالاتي .. إنها كل ما أتمني في هذه الدنيا وقد أتت إلي هنا .. أقسم بأنني لن أغادر هذا المنزل إلا و(رزان) قد قبلتني خطيباً لها .. ومرت الدقائق والثواني بطيئة وكأنها أسابيع بحالها .. وأخيراً عادت زوجة السفير وأساريرها متهللة توشك أن ترسل زغرودة .. لم تجبني بلا أو نعم ولكنها أشاحت بوجهها حياءً وخجلاً .. وكما نقول ( السكات رضا ).. بإمكانكما الاعتماد عليّ في أمورٍ كهذه .. كم أنا سعيدة لسعادتك ُبني .. ولسعادتها هي أيضاً .. سوف تتزوجان وتعودان إلي روسيا ونشكل معاً أسرة واحدة قوامها الحب والتكافل .. أرجو ذلك .. أشكرك من كل قلبي .. لو كانت أمي علي قيد الحياة لشكرتك بنفسها .. والآن ماذا تنتظران ؟!.. هيا أذهبا للسفارة وأجريا المكالمات الهاتفية المطلوبة وعودا لنا بالبشارة .. و(رزان) .. قالت إنها تفضل بأن تترك لوحدها .. لا عليكما سأهتم بها لحين عودتكما.

  7. #37
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2010
    المشاركات : 1,149
    المواضيع : 174
    الردود : 1149
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي

    الحلقة الثانية والعشرون
    أسبوع .. أسبوعان والخرطوم العنيدة لا ترد .. وكنت أذهب تقريباً كل يوم بعد انقضاء ساعات العمل الرسمي لمنزل السيد السفير فتقابلني أسرته بترحاب شديد بينما تتحصن ( رزان ) بالصمت الرهيب وبغرفتها .. وأكثر ما تستطيع منحي إياه تلويحة من علي البعد دون أن تجلس لتشاركنا الأنس والطعام وقد أسدلت كالعادة خمارها فوق وجهها فلا أكاد أري سوي تلكم العينين الرائعتين وقد التمعت فيهما مشاعر دافئة .. فأعود مساء كل يوم أحتضن الفقد والأشواق وصورة ( رزان ) وأحياناً تأتيني صورة ( أنستاسيا ) من وراء الغيوم وقد حملت بين يديها طفلة صغيرة كثيرة البهاء .. تشبهني بسحنتها الخلاسية وتشبه ( أنّا) بتقاطيعها القوقازية المترفة .. ولم يطل انتظارنا .. وما كان له أن يأخذ كل ذاك الوقت .. وذهبت ذات مساء لأجد منزل السيد السفير وهو يعج بموظفي السفارة وأسرهم وقد تلقفني بابتسامة عريضة وهو يقول .. مرحبا أويس ..العريس .. لقد بحثنا عنك في كل مكان دون جدوى .. بربك أين كنت ؟ .. عموماً مبروك يا صديقي .. ربنا يتمم بخير .. وما كنت لأحتاج لكثير عناء لأكتشف من الحركة الدءوبة التي انتظمت الدار وأكواب الشربات وكل أنواع الحلوى التي غصت بها المائدة بأني موعود بأخبار سارة .. انتظرت حتى غادر المدعوون المنزل لأدلف إلي غرفة قادتني إليها زوجة السفير حيث ( رزان ) وقد كشفت وجهها لأول مرة أمامي منذ قدومها إلي (موسكو) .. لم أتمالك نفسي من شدة الدهشة ووقع المفاجأة فترنحت وكأن بي سكر أو شيء من الحمي .. انسلت تلكم السيدة الفاضلة وتركتنا لوحدنا .. دنوت منها في تبتل غريب .. أفردت لي كفها فأخذتها وأنا شبه تائه وضائع تماماً بعد أن أفصحت (رزان) عن تفاصيلها المموسقة .. يا لنعومتها ورقتها .. لم كل هذه الروعة يا رزان ؟ .. هذا الضياء المسكوب علي وجنتيك الساحرتين أم ذاك البريق العجيب المنداح من عينيك الواسعتين .. أم .. تفضل .. لم تنظر إلي هكذا ؟ .. أويس .. هل أنت بخير .. نعم .. نعم بكل تأكيد .. لقد أزحت الخمار عن وجهي لأن من حقك أن تراني علي حقيقتي بعد كل هذه السنين .. خاصة ونحن لا زلنا علي البر كما يقولون .. وتستطيع أن تغير رأيك الآن إن شئت .. أتمزحين يا .. لا بل أنا جادة فيما أقول .. لقد تغيرت كثيراً يا رزان .. لم تكوني بكل هذا الجمال وأنت طفلة .. وأنت لم تكن بهذه الوسامة وأنت طفلاً .. أرجوك حبيبتي .. كوني جادة .. أنا أعني ما أقول يا رزان .. وأتمني أن أكون في مستوي هذا الألق الذي أراه أمامي .
    وتبقي رزان حقيقة ماثلة للعيان بكل ما بها من كبرياء وعنفوان .. لم كل هذا الاعتداد بالنفس وتلكم النفرة وذاك الجموح .. رزان .. هنالك جوانب في حياتي تحتاج لبعض الإضاءة والتوضيح .. لا تحدثني عن الماضي .. أنت الآن لي وأنا لك .. وكلانا ملك لأطفالنا القادمين من وراء الغيب فلم نشغل بالنا بما كنت وليس بما تكون .. عزيزتي .. عزيزتي الأمر يتعلق .. اسمع أويس .. سأسمعك فقط عندما يتعلق الموضوع بي وبك .. أرجوك لا تجرّح أناقة هذه الدقائق الغالية بماضٍ قد ولي ولن يعود .. كما تشائين .. حبيبتي كما تشائين .. والآن أريد أن أعرفك علي صديقين هما بالنسبة لي بمثابة أخ وأخت وقد تزوجا قبل عام .. الفتاة من كشمير والفتي من اسبانيا من إقليم الباسك .. ها قد وصلنا .. انتظرنا كثيراً قبل أن تفتح لنا شاهندة باب شقتهما التي انتقلا إليها بعد انقضاء مدة الإيجار المدفوعة مقدماً بواسطة ( أنستاسيا ) .. مرحبا .. تفضلا بالدخول .. هل نعوم موجود ؟ .. نعم .. نعم إنه بالداخل .. تفضلا .. السلام عليكم سيد نعوم .. أهلاً بصديقي المختفي أويس .. إنه أخوك قبل أن يكون صديقك يا نعوم .. آه شاهندة .. أنت دائماً تصححين أخطائي الصغيرة عزيزتي .. والكبيرة أيضاً .. كانت نظراتهما المبهورة تقولان لي من تكون هذه الفتاة ( القنبلة ) .. عفواً يسعدني أن أقدم لكم خطيبتي الدكتورة ( رزان ) .. هل قلت ..؟! .. شهقة صغيرة .. (رزان ) .. شاهندة وقد أذهلتها المفاجأة .. نعم .. إنها هي .. لقد حدثني أويس عنك كثيراً بل وكثيراً جداً ومن ثمّ قامت من مكانها واحتضنتها في محبة حقيقية .. يا طالما قلت لأويس أرجوك ضعني في مرتبة (رزان ) وهو يقص لنا حكايات طفولتكما .. قلت له .. أريدك أخاً لي كشقيقي الأكبر في سرنغار .. قومني ونبهني إذا لاحظت بأني أحيد عن جادة الطريق وكأنني رزان .. هل قال لك كل هذا ؟! .. أيها الثرثار الماكر .. بم كنت تحدثهم عني .. قصصنا في أيام المدرسة الابتدائية وقصة الدراجة ويوم الاستقلال بالأبيض .. وأشياء من هذا القبيل .. ثم ماذا أيضاً ؟*** وتحديك لي يوم أن ركضت وتكومت تحت الجدار وعربة ( الكارو ) .. الحمد لله أنك هنا .. ولو أننا عاتبان بعض الشيء .. كان الواجب عليكما دعوتنا لحضور حفل الخطوبة بمنزل السفير .. أنا آسفة يا شهرزاد .. شاهندة من فضلك .. شاهندة .. أنا متأسفة جداً يا شاهندة .. لقد سارت الأمور بسرعة لا تصدق .. عموماً ها قد عوضك الله يا أويس خيراً من أنستاسيا .. إحم .. إحم .. نعوم وهو يحاول تغيير الموضوع قبل أن تسترسل شاهندة في الكلام .. وهل ستسافران لإتمام الزواج بالسودان كما فعلنا أنا وشاهندة .. لقد سافرنا لإتمام مراسم زفافنا في كشمير .. بالطبع سنفعل .. لن يكون للعرس طعم بعيداً عن الأهل والوطن وطقوسه الرائعة .. صمت من جانب رزان تقابله ثرثرة من جانب شاهندة .. ولدي عودتنا إلي منزل السفير .. أجلستني رزان علي كرسيٍ ساخن كاد أن يطيح بكل ما تحقق من أحلام .. لقد حاولت أكثر من مرة أن أشرح لك الأمر .. وكان هدفي أن أكون صادقاً معك منذ البداية ولكنك كنت دائماً ترفضين الحديث عن الماضي .. أجل .. أجل يا أويس .. لكل منا ماض و.. وجراحات وكنت أفضل أن تحدثني أنت عن أنستاسيا هذه .. حتى لا أبدو كالبلهاء أمام شاهندة .
    تبقت بضعة أشهر قبل أن تبدأ رزان دراستها التخصصية في الأمراض النفسية ويتحتم عليّ الانتظار شهران علي الأقل قبل أن استلم شهادة التخرج لذلك قررنا العودة للسودان .. نسلم علي الأهل ونتزوج ومن ثمّ نعود إلي موسكو لمواصلة دراستنا .. وكانت قد قررت التخصص في طب الأطفال .. بكت رزان من الفرحة عندما لامست الطائرة أرضية مطار الخرطوم ولدي هبوطنا صليت ركعتين شكراً لله علي سلامة الوصول والعودة للوطن بعد طول غياب وكان الجميع بانتظارنا في شرفات الاستقبال وتوجهنا مباشرة نحو واد مدني في موكب كبير حيث أطلقت الفتيات العنان للغناء وقرع الدفوف ( دا اليوم الدايرنو ليك يا أويس مبروك عليك وأحياناً يا رزان مبروك عليك ) .. وكان المسافرون علي طريق واد مدني الخرطوم ينظرون إلينا عبر النوافذ بإعجاب شديد وأحيانا تصافح أسماعنا عبارة ( أبشروا بالخير ) مصحوبة بتلويحات حميمة .. وكانت أكثر من مفاجأة بانتظارنا في منزل أسرة رزان فقد تجمع عدد كبير من الأقارب والأصدقاء ونصب سرادق ضخم زينته مجموعات من الأطفال بملابسهن الزاهية وانطلقت الزغاريد علي أكثر من صعيد وحضر عدد لا باس به من أفراد أسرتنا من البلد .. باستثناء الغائبة الحاضرة أمي الحبيبة يرحمها الله .. ما هذا الذي يجري يا أبي ؟ تساءلت في حيرة .. سنعقد لكم اليوم يا ولدي وقد نسقت مع الأستاذ عبدو لتكون فرحتنا بعودتكما فرحتين .. ولكن .. نحتاج لبعض الوقت لتجهيز أنفسنا .. نعقد اليوم وتدخلان بعد أسبوع .. أين المشكلة ..؟ وما كان أمامنا سوي الرضوخ لإرادة الأهل .. وفي المساء وبرغم التعب والإرهاق من رحلة الطائرة الطويلة أقيم لنا حفل باذخ سيظل راسخاً في أذهاننا مدي الحياة.
    قلت لرزان بعد عودتنا مجدداً إلي موسكو .. ضعي كامل زينتك ولا تنسي طبعاً العطر السوداني المنزلي الذي صنعته لك قريباتك وشقيقاتك .. آه يا عروستي المدللة كم يسكرني ذاك العبق المترف الذي ينداح منك حين تضعينه خلف أذنيك وفي ثنايا شعرك .. وليتك تأخذين حماماً بخارياً من أعواد الطلح والصندل .. هل جُننت يا أويس .. لا توجد حفرة دخان بمنزل خالي .. هل تظن أننا لا زلنا بواد مدني .. لو أشعلت ناراً هنا بالحي الدبلوماسي لا أعلم ما يمكن أن يحدث .. أظنهم سيطلبون المطافئ بعد أن تضج صفارات الإنذار معلنة نشوب حريق بمنزل السفير .. قلت بعض الأعواد ولم أقل غابة ( الفيل ) .. حسناً ولم كل هذا الاهتمام بهذه الزيارة بالذات وقد زرنا أكثر من عائلة ولم تشدّد علي كل هذه المظاهر .. ستعرفين عندما نصل .. وهكذا انتهينا من تجهيز أنفسنا وبتنا مستعدين للانطلاق .. ولكن إلي أين ؟ .. رزان وقد بدأ عليها بعض التبرم والانزعاج .. ثقي بي .. فأنا لن أسلمك للثوار في أفغانستان .. وأخيراً.. ها قد وصلنا .. نحن الآن يا عزيزتي أمام منزل أسرة أنستاسيا .. أنستاسيا؟!! تساءلت في رعب حقيقي .. ما بك يا حياتي .. إنهم أناس لطيفون جداً ويجب أن يعلموا بأنني تزوجت بك بعد رحيل ابنتهم .. آه رزااان ..اطرحي هذه التكشيرة جانباً وأعطنا أجمل ابتسامة في الوجود .. مرحباً .. والدتها وهي تفتح الباب .. أنظروا من لدينا اليوم .. أويس .. أويس يا عزيزي الغائب .. من الطارق والدها وقد شعر بقدومنا .. إنه أويس .. ومن تكون هذه السيدة الصغيرة ..؟! .. إنها رزان .. من السودان زوجتي الجديدة .. يا لها من مفاجأة .. تفضلا .. تفضلا .. فالبيت بيتكما ..وجاء والدها ليأخذني بالأحضان بيد أنه لم يحتمل صعوبة الموقف وقد رآني واقفاً أمامه ولكن بدون ابنته الغالية ( أنّا ) .. سلم علي رزان بكلمات غير مفهومة وغادر الصالة بسرعة وسمعنا صوت اصطفاق باب حجرته من خلفه .. إييه يا أويس .. زوجتك جميلة جداً .. وتستعمل عطراً غريبا لم أشم في حياتي عطراً بمثل روعته ونفاذه .. ما اسم هذا العطر بنيتي .. ترجمت سؤالها ل( رزان ) التي استعادت بعضاً من رباطة جأشها .. إنه عطر أنثوي من المواد المحلية عادة ما يتم تحضيره للعرسان الجدد .. لدي منه الكثير وسأحضر لك قارورة كاملة منه.. يسعدني أنه أعجبك .. ولم تكن باتريشيا حاضرة لحظة وصولنا فهي تتلقي دروساً في الموسيقي في معهد قريب من منزلهم ولكنها عادت قبل أن نغادر ومن غريب الصدف أنها تعلقت ب(رزان ) لدرجة الوله ..وهل من أخبار ؟! .. سألتها وأنا أتعطش لسماع أخبار ( أنّا ) .. أية أخبار؟ .. آه فهمت .. لعلك تقصد أخبارها .. لا .. لا .. لم نسمع عنها شيئاً منذ أن غادرت .. وكيف وجدت موسكو عزيزتي .. عزيزتي . .رزان .. رزان ..ق لت مذّكراً إياها .. يا ابنتي رزان .. إنها مدينة كبيرة ومزدحمة ولم نعتد في بلادنا علي مثل هذا الضجيج والزحام .. رزان وقد أفصحت عن شعورها حول العيش بموسكو .. لو أن الحياة في موسكو تزعجك .. لم لا تحضران للعيش معنا هنا .. فالبيت كبير وبه غرف عديدة وزوجي بالكاد يغادر غرفته بعد أن اشتدت عليه الروماتيزم .. أجادة أنت فيما تقولين خالتي ؟ .. قلت لها وقد راقني اقتراحها بصورة غريبة ..وصفقت بتريشيا في انفعال قريب وهي تفرك يديها وتعانق رزان ..أرجوكما وافقا ..وافقي رزان أنا أرجوك .. أنا بالطبع جادة وسأكون ممتنة لكما إن قبلتما هذا العرض .. في الواقع لن نطلب منكما أي شيء باستثناء تسديد فواتير الماء والكهرباء الخاصة بكما .. ها ماذا قلتما ؟ .. سأذهب لرؤية زوجي وأعود لكما ببعض ألحلوى والعصير ريثما تكونان قد اتخذتما قراركما .. ما رأيك رزان ؟ .. الرأي رأيك .. وأنت أدري بهما مني وسبق لك العيش هنا .. لقد أحببت هذه السيدة والمكان أنه أشبه بمنطقة السواقي الجنوبية بكسلا .. أليس كذلك ؟ .. إنه بالفعل مكان هادئ وعند هذه الناحية من الوادي توجد مروج ودغل كثيف..وكانت باتريشيا تتنقل بنظراتها بيني وبين رزان ونحن نقلّب الموضوع وفهمت من إيماءاتنا بأننا قد وافقنا فصرخت بأعلي صوتها ( ياهووو ..رائع ..رائع ) .

  8. #38
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2010
    المشاركات : 1,149
    المواضيع : 174
    الردود : 1149
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي

    الحلقة الثالثة والعشرون
    عدنا إلي موسكو وعرضنا الأمر علي خال رزان وزوجته .. في البداية استغرب الأمر جداً .. ولكن زوجته ولسبب لا أعلمه شجعته علي الموافقة .. الروس أناس طيبون وودودون وأنا متأكدة من أن العيش سيطيب لكما هنالك .. الزوجة المتحمسة أكثر مني ومن رزان .. لعلها كانت تخشى أن نقيم معهم .. لا .. لا .. رزان تصححني وقد بتنا لوحدنا .. زوجة خالي امرأة لطيفة للغاية وأنا أعرف طريقة تفكيرها هي ليست بخيلة ولن تكون .. ماذا ؟!! .. شاهندة وقد فاجأتها الفكرة .. فكرة العيش بالريف خارج موسكو .. ولكن دكتور أويس .. نحن نريدكما بالقرب منا .. نستأجر شقة واسعة نوعاً ما ونقيم فيها كلنا نتشاطر الأوقات الحلوة والتسوق والرحلات وال(كامبنق) في الحدائق العامة وتقول لي بكل بساطة ستتركان موسكو لتعيشا وسط الأدغال .. مهلاً .. مهلاً عزيزتي .. زوجها نعوم وهو يحاول تهدئتها .. ولماذا أنت منزعجة لهذا الحد شاهندة ..؟ .. أويس أخي ولم أصدق بأن الله قد بعث لي رزان .. لكم أحبك يا رزان ولا أريدك أن تبتعدي عنا .. لا بأس شاهندة .. سنكون معكم طوال اليوم بالجامعة .. نتغدي معاً ونتسوق معاً ونعود في المساء إلي عائلة زوجة أويس السابقة .. قالت ذلك وهي ترمقني بنظرة ذات مغزىً .. وهكذا أقنعت الجميع باستثناء كريموف .. بالله عليك دكتور أوليس .. عفواً .. أويس .. لا تقل لي بأنك تفضل العيش مع الدببة في الغابة علي موسكو المفعمة بالحيوية والثراء في كل شيء .. كل شيء .. النساء الجميلات والصبايا المتأنقات.. و .. اسمع كريموف يا صديقي الغالي ..سأترك لك جميلات موسكو لأنني ببساطة لا أرغب فيهن .. فلدي زوجتي الطيبة رزان.
    وهكذا وجدنا أنفسنا في معية أسرة ( أنستاسيا ) .. كان المنزل يضج بالفوضى فعكفنا أنا ورزان وباتريشيا في عطلة نهاية الأسبوع علي تنظيفه وترتيبه .. ومن ثمّ انتقلنا إلي الحديقة المهملة وقمنا بتشذيبها وتهيئتها بأفضل صورة ممكنة .. وأزلنا الدوالي المتدلية من سقف المنزل وكل الأشياء المهملة منذ سنين وحملناها علي مركبة استأجرناها خصيصاً لنقل كل المنقولات غير المرغوب فيها والقمامة وقذفنا بها بعيداً جداً في مستودع النفايات خارج البلدة .. وعملت رزان بجهد خارق لترتيب الغرف الداخلية والأسّرة والمفروشات .. وأحضرت معها من موسكو بعض الورود والرياحين بثتها في زوايا المنزل وقمت أنا ونعوم بدهان الجدران الداخلية والخارجية وأصلحنا الأعطال الكهربائية فتحسن مستوي الإضاءة في الداخل والخارج .. وتحولنا بعد ذلك إلي والد ووالدة ( أنّا ) وقمنا بقياس ضغط الدم لهما وأجرينا لهما كل الفحوصات المطلوبة وقمت بإلغاء العديد من الأدوية التي كانا يستعملانها لعقود طويلة فتحسنت حالتهما الصحية وبدأت العافية تعود لكل شيء بالمنزل .. وعملنا علي إخراجهما من عزلتهما التي فرضاها علي نفسيهما منذ رحيل ( أنستاسيا ) .. لا سيما وأن المواصلات العامة بين البلدة وموسكو متوفرة ومريحة .. فأخذناهما لحضور الحفلات الموسيقية والمهرجانات الراقصة .. وعندما عادت العمة ( فرنشيسكا ) من رحلة لها خارج روسيا أخذتها إلي( براغ ) .. لم تصدق ما تري أمامها من تحول في كل شيء وظلت تردد هذا غير معقول .. هذا لا يصدق .. تركناهما لوحدهما وتناهت إلينا صدي قهقهاتهم وانفعالاتهم حتى ونحن داخل غرفتنا ..إيييه فرانشيسكا عزيزتي .. إنهما ملاكان طاهران بعثهما لنا الرب لإسعادنا وتعويضنا فقدنا .. ل( أنّا) .. آصحيح .. هل من أخبار جديدة .. لقد طالت هذه البعثة الدراسية كثيراً ولا أعتقد أن ( كولمبو ) معزولة عن أوروبا بهذا الشكل .. وكانت ابنتهما قد حذرتهما من البوح لأي أحد كان عن وجهتها .. لا .. لا .. بالطبع تهاتفنا من حين لآخر بيد أن العمل يأخذ كل وقتها .. عملنا بجهد لتكملة كورسات التخصص .. أنا بالجراحة ورزان في الطب النفسي .. وتعودنا علي العيش مع أسرة ( أناّ ) .. وبتنا نتقاسم معهم أفراحهم وأحزانهم وتصر كل فروع العائلة المنتشرة في أنحاء روسيا علي دعوتنا و استضافتنا وكنا لا نتردد في إجابة دعواتهم حتى علي صعيد المناسبات الصغيرة كعيد ميلاد هذه الآنسة أو ذاك الشاب .. كانوا يجدوننا مميزين ويشيرون لنا بفخر واعتزاز وهم يقدموننا بوظيفتنا كأطباء لأصدقائهم وحرص رئيس الحزب بالبلدة علي دعوتنا في المناسبات الوطنية وإجلاسنا ضمن قائمة كبار رجالات الدولة والحزب .. وكانت رزان سعيدة بهذا الاحتفاء فغفرت لي زواجي من (أنستاسيا ) بالرغم من التعهدات التي قطعناها علي أنفسنا ونحن صبية صغار .. بيد أن العمل يتطلب منا أحياناً التواجد المستمر بموسكو لعدة أيام وربما أسبوع وكان ذلك يضايق عائلة ( أنّا ) والجيران فيخضعوننا لاستجواب رهيب .. هل سئمتم العيش معنا ؟ .. تسأل والدتها وهي تبكي .. لا يا خالتي .. أقسم لك بأننا مضطرون للعيش بموسكو وفق الجدول الموضوع لنا من قبل مرؤوسينا .. رزان وهي تقوم من مكانها وتأخذها بالأحضان .. آه بنيتي .. لو تعلمين كم نحبكما لما غادرتما هذه الدار لحظة واحدة .. نحن نمضي اليوم كله نترقب جرس الباب يرن لنفتح لكم ولا يهدأ لنا بال حتي نراكم بيننا ..لا سيما الصغيرة ياتريشيا إنها مغرمة بكم جداً .. وجاء وقت تطلب بقاء رزان بالمنزل في إجازة لوضع مولودنا الأول .. فكرنا في إرسال تذاكر سفر لوالدتها لتكون إلي جانبها وهي تضع .. بيد أن والدة ( أنّا) عارضت هذه الفكرة بشدة واعتبرتها انتقاص لأمومتها بالنسبة لرزان .. أنا لا زلت قوية يا بنيتي وباستطاعتي القيام بكل ما يلزم .. وسأعتني بك كما لو كنت ابنتي من لحمي ودمي .. وكذلك ستفعل ابنتي وأخيراً وبعد ساعات من المخاض العسير جاءت (مسك الجنة) ولكن ما هذا الاسم القديم إنه علي اسم والدتي أم أظنك قد نسيت ؟ ..هل لديك مانع ..لا ..لا طبعاً .. حسناً سأختار أنا أسماء الصبيان وأنت أسماء البنات ..اتفقنا ؟ حسناً .. موافقة .. ( مسك الجنة ) .. طفلة ولا أجمل من ملاك .. أخذت كل ملامحها تقريباً من رزان باستثناء جزء صغير جداً .. أنظر أويس .. والد رزان وهو يحمل الطفلة بين ذراعيه .. هل لاحظتم شيئاً ؟ .. هل ترون ما أري ؟ .. إن (الجنة) تشبه أباها في اليدين .. أنظروا للأصابع تكاد تكون مطابقة تماماً.. بل هي كذلك فعلاً وطارت أخبار مولودنا الأول إلي السودان .. بكت والدتها علي الهاتف عندما علمت بأننا قد أسميناها تيمناً بها .. وزارتنا بالطبع شاهندة وزوجها نعوم .. وزارتنا أيضاً زوجة السفير خال رزان التي لم تبد الحرص نفسه الذي أبدته عائلة ( أنستاسيا ) علي العيش معهم خلال فترة الوضوع الأولي .
    كنت منهمكاً في العمل مع المستر اسكاندوف إختصاصي الجراحة الأشهر بموسكو وذلك بعيادته الخاصة التي هي في الواقع مستوصف ضخم به مجمع عمليات وعنابر للمرضي حتى تسهل عملية متابعتهم بعد خروجهم من غرفة العمليات عندما اقتحمت عربة الإسعاف بوابة المكان وهُرع الممرضون لنقل سيدة سمراء بين الحياة والموت لشروعها في الانتحار بعد أن قطعت شرايين رسغها بسكين حادة ويبدو أنها نزفت الكثير من الدماء ..وأخذناها علي عجل لغرفة العملية وعكفنا علي إيقاف النزف وتعويضها بدم جديد .. واستغرقت العملية بضع ساعات ونحن ننتقل من تدهور في هذا الجانب إلى ذاك الجانب وبدأت وظائف أعضاء جسمها تتعطل الواحدة بعد الأخرى ولكن لا .. يا إلهي .. ساعدنا يا رب .. ساعدنا يا رب .. إنها إزابيلا .. آهٍ إزابيلا لم فعلت ذلك بنفسك .. وفيما كنا نبذل جهداً خارقاً لإنقاذ حياتها كانت هنالك جلبة وضوضاء قاسية خارج الغرفة وتبينت صوت (سيسيليا ) .. وهي تصرخ في شبه هستيريا .. لم نتمكن من فعل شيءٍ فقد رحلت المسكينة بالطريقة التي اختارتها لنفسها وأرادها لها الله .. خرجنا من غرفة العمليات لنواجه الموقف الصعب .. ولمحت رزان من بين الحضور وكانت قد أنهت نوبتها في مستشفيً آخر .. وحضرت لأصطحبها لمنزلنا أو بالأحرى منزل أسرة أنسناسيا .. وبينما المستر اسكاندوف يزّف إلي أسرتها الخبر السيئ .. لمحتني سيسيليا وتعرفت علي .. هرولت نحوي وعانقتني وهي تبكي بحرقة وهي تردد .. عمتي دكتور أويس .. عمتي الغالية إييزو .. بربك ماذا فعلتم بها .. كان الموقف صعباً عليّ لا سيما ورزان حاضرة .. هدأت من روعها .. وتملصت من بين ذراعيها الصغيرتين وهي لا تزال تنشج وصدي نهنهاتها وصراخها يعتصر القلوبوأخذتها حيث تقف رزان وقدمتها لها .. زوجتي الدكتورة رزان وهي من الوطن .. من السودان .. سيسيليا إبن أخت المتوفاة .. وهي أسرة صديقة تعرفت عليها لدي قدومي في بادئ الأمر إلي موسكو .. مرحبا.. سيسيليا . .تعازينا القلبية علي فقد خالتك .. تحلي بالشجاعة والإيمان .. شكراً .. قالتها بين دموعها المنهمرة بغزارة .. ولأول مرة اكتشف رقة وشفافية سيسيليا وكنت أراها كصبية مدللة لا أكثر .. عدنا للمنزل .. ورزان تحاصرني بالأسئلة الصعبة ولم تدع لي دقيقة واحدة للراحة ..استعادت كل التفاصيل الممّلة لتلك اللحظات التي عانقتني فيها سيسيليا .. وخاصمتني علي ذلك التصرف أسبوعاً كاملاً قبل أن تصالحني.

  9. #39
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2010
    المشاركات : 1,149
    المواضيع : 174
    الردود : 1149
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي

    الحلقة الأخيرة
    كانت رزان صامتة طوال الوقت وهي تستمع لنا ونحن نناقش الموضوع وقد أذهلتها ضخامة المبلغ الذي أوصت به ( إزابيلا ) .. كانت قلقة ومضطربة ولم يرق لها الأمر .. وتساءلت لماذا كنت أنا متردداً في قبول الهبة وقد تعلم بأن هذا المبلغ سيمكننا فعلاً من شراء منزل ضخم نحول جزءاً منه إلي مشفيً صغيراً للجراحات الصغيرة والطب النفسي .. قالت لي .. لابد أن ما بينك وهذه السيدة عميقاً جداً ربما أعمق من علاقتك بأنستاسيا .. شرحت لها الظروف التي جمعتني بها دون أن أخفي عنها شيئاً علي الإطلاق فأكبرت صراحتي تلك وقالت الآن بت أثق بك أكثر إذ لا يجب أن تكون هنالك أسرار بين الأزواج وأوضحت لها تحفظي علي تلك الثروة في بادئ الأمر لأنني كنت متخوفاً أن تكون من عائد اتجارها بالمخدرات ولكنني وقد ثبت لي بأنها أموال نظيفة وقد آلت إليها من والدها قبلت بها .. فهي علي الأقل ستمكننا من العودة إلي موسكو مرات ومرات لزيارة أسرة أنستاسيا مع ابنتينا بحكم العلاقة الوطيدة التي توطدت معهما ومدي تعلق البنتين بهما .
    إيييه .. أكاد لا أصدق أننا تخطينا سنوات التخصص واستلمنا شهادتينا وقمنا بتوثيقهما .. ثم ماذا بعد ؟!! .. لم يبق سوي الرحيل فانهمكنا في تجهيز أغراضنا وتذاكر سفرنا مع ابنتينا وقد تطلب إضافة ( مارثا ) في جواز سفري الكثير من الإجراءات والتعقيدات .. فإن ( مارثا) بعينيها الزرقاويتين بلون البحر وطلتها الآسرة وعذوبتها ورقتها وأدبها الجم تستحق أن يموت الإنسان في سبيل الحصول عليها .. ولم ننس بالطبع عائلة إزابيلا وقد غادرت لتستقر في لينينقراد مرة أخري فتكبدنا المشتاق حتى هنالك أنا ورزان وتركنا البنتين مع جدتهما وباتريشيا .. فكانت لتلك الزيارة أثرها العميق في نفوسهم .. تبادلنا العناوين وأرقام الهواتف وقدمت لهما الدعوة لزيارتنا في السودان فقبلتاها وعندما حانت لحظة مغادرتنا انفجرت سيسيليا بالبكاء وهي تعانقني للمرة الثالثة في حضور رزان .. لتسلخني بالعتاب والتوبيخ كل المسافة من لينينقراد وحتي موسكو .
    وكان هذا مجرد تمرين صغير لما سيأتي .. فقد تجمع عدد كبير من الأصدقاء والمعارف لتوديعنا .. كانت هنالك بالطبع شاهندة وطفلها وزوجها وبعض أفراد عائلة أنستاسيا .. كانت هنالك العمة فرانشيسكا وطبيب صيدلاني مقيم بالقرية وزوجته وأطفاله وكبادرة غير متوقعة جاء رئيس الحزب بالناحية وعمدة المدينة وسهرنا حتى الفجر ونحن نتسامر ونتبادل الحكايات الطريفة وتبقت اللحظات الأصعب .. وقفت الجدة والجد وكل واحد منهما قد حمل إحدى البنتين .. حتى مارثا وقد زاد وزنها لم يمنع ذلك جدها من حملها بين ذراعيه وهو يبكي .. هونت عليهما الأمر وتركت لهما مبلغاً محترماً من المال ليتمكنا من شراء التذاكر متي ما رغبا في زيارتنا بالخرطوم وتهربت باتريشيا من صعوبة تلك الدقائق فأمضت آخر يوم علي رحيلنا بمنزل احدي صديقاتها .
    وهكذا تمضي بنا الحياة تأخذنا من هذا الجانب من الكرة الأرضية إلي ذاك الجانب وعكفنا بين مشاعر الترحيب من الأهل .. مشاعر بطعم البهار لم تعتد عليها ( مارثا ) واستغربت هذا الاهتمام الذي تجده من مئات النساء والأطفال والرجال .. كل واحد أقدمه لها بصفة ما من القرابة ( واو .. بابي ) أنتم قبيلة رائعة وأنا فخورة بأن يكون كل هؤلاء الناس عائلتي .. وطبعاً كانت تدهش من كل شيء وجُن جنونها عندما رأت الجمل أمامها مباشرة وكنت قد أوصيت علي بعض الحصير من الريف فأرسله لي أحد الأصدقاء صحبة جمّال ..حتى أتمكن من سقف ( جراج ) عربتنا بعد أن اكتمل كل شيء تقريباً وقمنا بتأثيث الغرف لنا وللمرضي .. الطابق الأرضي الكبير مشفيً رائعاً تُزين بوابته لوحة ضوئية عملاقة وقد كتب عليها ( مستوصف إزابيلا التخصصي للجراحة والطب النفسي ) وزيلناه باسمي واسم رزان وتخصص كل واحد منا والشهادات التي حصلنا عليها .. ولم يفت علينا وضع صورة إزابيلا علي جانبي اللوحة وبدا الأمر وكأنه إعلان عن فلم سينمائي وتلك الشقراء الساحرة تبعث بابتسامتها الغامضة للمارة وكأنها موناليزا جديدة.
    وبتنا نتقاسم الإجازات كل عام .. تأتينا عائلة أنستاسيا في الشتاء ونقضي معهم إجازة الصيف بالرغم من التوسع الكبير الذي شهده مشفانا بعونٍ من الله وتوفيقه ومن ثمّ العمل الرائع الذي قمنا به .. وصارت ( مارثا) محط إعجاب المعلمين والتلميذات بعد التقدم المذهل في تعلمها للعربية مع تلك المسحة القوقازية المترفة .. ورزقنا أنا ورزان بطفل ثانٍ صبي ولا أروع وهو يثير جنون مارثا ومسك الجنة ويتنافسان في حمله ومداعبته .. إلي أن حدث ذاك الموقف الرهيب الذي قلب أوضاعنا بصورة دراماتيكية لم نكن نتوقعها .. صحيح أن كل الاحتمالات كانت واردة .. لكن لم نحتمل حصولها بهذه السرعة ..كنا نتحلق حول التلفاز ذاك المساء المتعب بمنزلنا وكان الجد والجدة وباتريشيا قد حضروا من موسكو لتمضية فترة الشتاء معنا كعادتهم كل عام وكنا أنا ورزان نتابع الأخبار وقد آوي الصبية إلي غرفهم وصعد الضيوف إلي النوم بعد يوم حافل بالزيارات لمتحف السودان ومتحف الخليفة والمتحف الطبيعي .. وفجأة قطعت ال( سي .أن .أن .) القناة الإمريكية المعروفة إرسالها وأعلنت عن خبر عاجل يقول .. أن جماعة من مقاتلي الشيشان تقودها فتاة قد استولت علي حافلة للجيش في ضواحي (قوروزني) وأخذت الحافلة والجنود كرهائن وتطالب بإطلاق سراح بعض الثوار الشيشانين الذين تحتجزهم السلطات هنالك .. وانتقلت الكاميرا لموقع الحدث .. وظهرت علي الشاشة صورة الحافلة وقد أحاط بها الثوار وقاموا بتفخيخها بالمتفجرات .. وتقدم أحد مسئولي الصليب الأحمر لإدارة حوار مع الخاطفين وشوهدت سيدة تضع علي وجهها قناع وتحمل مدفع بدا وكأنه من نوع (الكلاشنكوف ) وهي تقدم قائمة بأسماء المسجونين المطلوب الإفراج عنهم لمندوب الصليب الأحمر والكاميرا تقرّب الصورة أكثر فأكثر لأكتشف الخاتم الفضي الذي أرسلته والدتي كهدية (لأنّا) بُعيد زواجنا .. أرسلت شهقة قوية وصرت أردد ( سترك يا رب .. سترك يا رب ) .. وشعرت رزان بانزعاج شديد من ذلك التحول المفاجئ في مزاجي وصارت أنفاسي تعلو وتهبط وأنا أتصبب عرقاً ورزان تردد أويس مابك ؟.. حبيبي مابك ..؟ دكتور ما الأمر ؟!! .. إنها هي .. أنظري للخاتم ..أنظري لعينيها ..يا الهي ..إنها أنستاسيا .. أين أنستاسيا ؟ أهدأ قليلاً .. أنت متوتر جداً حبيبي .. ُخذ نفساً عميقاً .. فكرت في إخطار أبويها ولكنني لم أفعل خوفاً من أية مفاجآت غير سارة قد تحدث .. وسهرنا الليل بطوله ونحن مشدودين للشاشة الفضية وأنستاسيا تتنقل بين مندوب الصليب الأحمر ورفاقها في قفزات صغيرة وأحياناً تركض .. ها قد عدنا للركض حبيبتي ليس في ( الأونفيرستيت دروبا ) كما كان يحدث في الماضي ولكن في ميدان المعركة ومع الجنود الروس المعروفين بشراستهم .. غادرنا مقاعدنا لأداء صلاة الفجر وحين عدنا مرة أخري شاهدنا الدخان والقنابل اليدوية وانفجاراً هائلاً يبعثر الناس وقد تطايرت الحافلة إلي أشلاء .. وفي نهاية التغطية الحية للحدث قال المذيع والأسي يعلو قسمات وجهه .. هذا وقد جد قرار اقتحام الحافلة بواسطة كتيبة من الروس فاجأت المتفاوضين .. انتقادات حادة من الأمين العام للأمم المتحدة والإتحاد الأوربي بالنظر للنتيجة المأساوية التي آلت إليها العملية بموت وجرح العديدين من ركاب الحافلة والمقاتلين الشيشان .


    ( إنتهت بحمد الله)

صفحة 4 من 4 الأولىالأولى 1234

المواضيع المتشابهه

  1. رواية أنستاسيا ..مصافحة ثانية ..
    بواسطة عبدالغني خلف الله في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 48
    آخر مشاركة: 12-05-2014, 08:45 AM
  2. رسالة من وردة إلى وردة.
    بواسطة د. نجلاء طمان في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 46
    آخر مشاركة: 25-04-2010, 06:53 AM
  3. ...في الهزيع الآخِر..."مصافحةُ أولى"
    بواسطة ثامر الجريش في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 21-05-2007, 08:53 PM
  4. وردة ذابلة كان اسمها نسرين
    بواسطة نسرين في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 21
    آخر مشاركة: 16-09-2003, 11:21 PM