أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 6 من 6

الموضوع: أمريكا -1-

  1. #1
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Jun 2006
    المشاركات : 2,069
    المواضيع : 373
    الردود : 2069
    المعدل اليومي : 0.32

    افتراضي أمريكا -1-

    أدب الرحلات أدب نثري يختلط فيه الخاطرة والقصة ، والسرد والتحليل . فيه ترجمة ذاتية وترجمة موضوعية . وقد تجد فيه بعض الشعر الذي نظمه الأديب في المناسبة نفسها .
    ولعلي إن وجدت قبولاً لمثل هذا الأدب في هذا المنتدى المبارك تجرّأت فنقلت إليه مقالاتي في هذا النوع الأدبي ..
    ورجائي في الإخوة الأدباء الذين يتكرمون فيطلعون على هذا المقال أن يبدوا رأيهم دون مداراة ، فلن يستقيم عمل أدبي بالمحاباة ، وسأشكر كل أخ كريم يريني عيبي ، فرحم الله امرأ أهدى إليّ عيوبي
    أخوكم : عثمان قدري مكانسي

    أمريكا (1)
    في الشهر الأول من عام ألفين وواحد للميلاد جاءتني دعوة من رئيس مجلس أمناء المدارس الإسلامية في ولاية نيوجيرسي الأمريكية – وهي ولاية في الشمال الشرقي من الولايات الأمريكية المتحدة على حدود ولاية نيويورك – للاطلاع على مناهجها العربية والإسلامية .
    انطلقت إلى " قلعة " السفارة الأمريكية في حي " عبدون " في مدينة عمان .. وهي بحق سور ضخم على رابية كبيرة غرب المدينة مطل عليها ، حوله من كل الأطراف مسافة أمنية ممنوع تجاوزها، يحيط بها الحواجز الأمنية ، ممنوع وقوف السيارات أمامها ، بابها الأمامي الكبير مغلق .. ويفتح حين تخرج سيارات أولي الشأن! أو حين تدخلها بعد تفتيش دقيق يقوم به حرس السفارة من الأمريكيين أنفسهم - فهم لا يثقون بغيرهم - ... كان المكان مهيباً لا ترتاح له النفوس المجبولة على البساطة واليسر أمثالي ... أوقفت سيارتي بعيداً على جانب طريق فرعي غير ممهد ، تكثر فيه الحصا والحجارة ذي حفر متناثرة هنا وهناك ، لا تناسب خطورة المكان !! ولعلها كانت مقصودة توحي للزائرين بالحذر والرهبة فهم عند أبواب أقوى دولة في التاريخ كله . والدخول إليها صعب تتجلى أولى مصاعبه بهذا المنظر المهيب وموقف السيارات البعيد .. العشوائي ..
    كان الناس – مع ذلك – طوابير يُعَدّون بالمئات يأملون دخول هذا الصرح الكبير لينفذوا منه إلى دنيا الثراء والقوة!! فهناك الغنى والمال ، وفي بلادنا الفقر والكفاف . وهناك العزة والقوة ، وفي بلادنا الذل والفقر ... كانوا يقفون أمام بوابة شبه مغلقة عليها موظفون يسمحون بالدخول لاثنين أو ثلاثة بين آونة وأخرى .. وقفت في الطابور قريب الساعتين والسلسلة أمامي تتناقص شيئاً فشيئاً حتى صرت أمامهم وبدا لي ساحة كبيرة أمام بناء عالٍ فيه أبواب الكترونية وغرفة ذات نافذة صغيرة ، حين وصلت إليها تفحّص الواقف فيها أوراقي ثم دُفعت إلى باب يفتش في الداخلون تفتيشاً دقيقا خرجت منه إلى ساحة ممتدة ...ثم دخلت إلى حيث سبقني السابقون .. وقفت أمام طابور آخر لكنه قصير وسريع يفضي إلى موظفة تأخذ الأوراق وإيصال المقابلة ، وقد كان خمسين دولاراً ، وقد صار بعد الحرب العراقية مئة دولار ليساهم العرب والمسلمون في العملية الديموقراطية الأمريكية لإخوتهم في بلاد الرافدين ...في عملية قيصرية أودت يمئات الألوف منهم ، وما تزال طاحونة المدنية الأمريكية حتى هذه اللحظة - وإلى أن يأذن الله بالفرج – تعمل فيهم خراباً ودماراً وإذلالاً ... وحسبنا الله ونعم الوكيل ....
    كانت الردهة طويلة والمراجعون يجلسون على كراس حديدية متلاصقة أمام سبع غرف زجاجية صغيرة أو أكثر متلاصقة يجلس فيهاأمريكيون ينادي كل منهم اسم أحد المراجعين فإما أن تكون المقابلة طويلة ، وإما أن تنتهي في ثوان وتطير الخمسون دولاراً في " خبر كان" أو في " خبر ليس "فكلمة " ليس " أكثر تعبيراً من أختها ..
    - لم ترغب في السفر إلى أمريكا ؟
    - أرغب في زيارة أخي في مدينة كذا .
    - لا ، هذا ليس مقنعاً ، إنك تريد البقاء هناك . نحن آسفون.
    وينهي المقابلة .
    ويسأل غيره :
    - ماذا ستفعل في أمريكا ؟
    - سياحة فأنا تاجر .
    - رصيدك على ما يبدو لا يكفي
    - معي الكثير بين يديّ " كاش "
    - لم تقنعنا .. آسفون .
    وتنتهي المقابلة ... مر أمامي أحد عشر مراجعاً على هذه الشاكلة ، فقلت في نفسي : قد تكون الثاني عشر ، إنهم يطردون الناس طرداً ، بعد أن يسلبوهم البدل النقدي لهذه المقابلة الكريمة !! وبدا لي أن أعود أدراجي ، فلا أقابل هؤلاء اللئام ... وقبل أن أتخذ قراري سمعت : " مستر أوتمان ماكنزي " إلى الكاونتر " أربأه " أربعة ..
    تقدمت إليه ولم أكلمه ، إنما قدمت له بطاقة الدعوة .
    - ما الشهادة التي تحملها؟
    - قدّمت له صورة عن شهادتي الماجستير والدكتوراه .
    - ألك مؤلفات في اختصاصك ؟
    - هناك العديد منها.. .وأريته بعضها .
    لم أترك له مجالاً لسؤال آخر ، إذ قدمت له جواز السفر المليء بتأشيرات إلى دول ال " شنجن " وبريطانيا ليطمئن أنني سأعود إلى عمّان دون أن ألتصق في بلاد العم سام السعيدة .
    قال للمترجم : اسأله عن سبب استعجاله في تقديم أوراقه ؟ .. ابتسم المترجم .. وسأل : قلت له : لقد صرف هذا المتعجرف الكثير قبلي ، فهو أشد سرعة مني .
    ضحك بعد أن أوصل له المعنى بتهذيب ، وقال : لقد علمني اللقاء اليومي للمراجعين على مدى الأيام الطويلة السابقة أنواعهم ، واعتدت اختصار الوقت !! .. سأوافق على إعطائه التأشيرة .. وأخذتها عصر اليوم نفسه عدة سفرات على مدى سنتين ... وفي اليوم التالي غيروا رأيهم فطلبوا جواز السفر ليلغوا هذا الكرم ، ويجعلوها سفرة واحدة فقط .
    أقلعت الطائرة الأردنية من مطار الملكة علياء الدولي متجهة إلى " امستردام " محطتها الأولى ، فوصلتها في أربع ساعات ، لبثنا فيها ساعة ثم انطلقت بنا نحو الغرب إلى العالم الجديد .. استغرقت الرحلة في المرحلة الثانية ثماني ساعات لا أرى سوى الزرقتين – السماء والبحر - ... يارب ما أعظمك !! نحن في فضاء لطفك ، بين مخلوقين عظيمين من مخلوقاتك .. أقربهما تحتنا ، يبعد عنا أكثر من عشرة كيلومترات ، والآخر لا يدري بعده الحقيقي سواك ... أنت بارئه . وقد قال علماء الفلك : إن قطر السماء الدنيا مئة وأربعون مليار سنة ضوئية .. ثم أردفوا بقولهم : وقد يكون أضعاف ذلك ، والله أعلم ... وهذا من أدبهم مع الله سبحانه . فالإنسان مهما أوتي من علم فعلمه ظنّيّ يحتاج أن يسدده المولى العالم بما خلق ... هذه السماء الدنيا للسماء الثانية كحلقة في فلاة ، والسماء الثانية للثالثة كحلقة في فلاة .... والسماء السابعة للعرش كحلقة في فلاة ، والعرش للكرسي كحلقة في فلاة ، والكرسي لعلم الله سبحانه كحلقة في فلاة ...!! وما قرأت قوله تعالى :" وما قدَروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضتُه يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون" في حالة تفكر وتدبر وأنا أتصور الكون الفسيح بما حوى مقهوراً لله تعالى خاضعاً لعظمته – جل جلاله – إلا أخذتني هزة الحقير الصغير أمام العظيم الجليل . " فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله "
    وحين غربت الشمس كانت الطائرة على مدرج مطار " نيويورك " j-f-Kennedyتلك المدينة الضخمة التي سأفرد لها مقطعا أبث فيه مشاعري نحوها سلباً وإيجاباً ، على الرغم أن كثيراً من الإخوة يعرفونها أكثر مني ، ولكن لكل امرئ أسلوبه ومشاعره ووجهة نظره فيما يرى ويسمع وقد تحب النفس ما يكرهه غيرها ، وتعجب بما يزدريه الآخرون.. ..." والناس فيما يعشقون مذاهبُُُُُُُُُ " .
    كان الدكتور " مروان عجم " المختص بالدواجن ، وزوج أخت الدكتور " محمد نور الدين خوام " رئيس مجلس أمناء المدارس الإسلامية في نيوجيرسي ورئيس مجلس شورى " مسجد البرودويي " "broad way" ينتظرني حاملاً بالعربية كنيتي " أبا حسان " وإلى جواره " نبيل رحيم " أحد الشباب المصريين ، وكان طيب القلب لطيف المعشر بديناً ، يحمل معه أينما ذهب بطاقة " السيد " مفتخراً بها فهو ينتمي - كما يزعم - إلى سيد البشر محمد عليه الصلاة والسلام ، إلا أنه وأسرته بعيدون عن الحياة الإسلامية الهادفة ، ولا يعرف من الدين سوى الصلاة والعبادة ، وهو متزوج من نصرانية أمريكية تحب ولديها وزوجها ، وتخلص له ، فهي من نصارى يلتزمون الأخلاق وتقديس الزوج ، وينأى نساؤهم ورجالهم عن الزنا والفجور . ويتزوج الرجال منهم عدة نساء ، وينجبون االكثير من الذرية... ويحافظون في مجتمعاتهم المنغلقة على أعراف القبيلة .... والرجل" نبيل " بسيط التفكير، يحب خدمة إخوانه لكنه بعيد عن الدعوة ، وتأثيره في أسرته ضعيف . وهنا مكمن الخطورة في انتقال الإنسان إلى الغرب المسيحي ، فلئن حافظ هناك على دينه فأولادُه أو أولادُهم ينشأون على دين النصرانية ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
    أعرف أخاه الدكتور عبد القادر عجم ، فهو أصغر من مروان ، ويعمل طبيباً في إيطاليا ، مدينة " بريشا " حين زرتها في رمضان منذ أربع سنوات – عام واحد وعشرين وأربع مئة وألف للهجرة ، توثقت العلاقة به وبأخيه عمر الذي يدرس المحاسبة الهندسية ، وهو شاب ظريف ودود ، وذو أخلاق عالية إنهم بشكل عام يحبون الناس من حولهم ويمتازون بلطف المعشر وطيب السريرة وحب الخير ..... رفعت يدي لمروان من بعيد ، وسلمت عليه بابتسامة اخترقت الجموع الغفيرة ، فردّها بأحسن منها … وما إن وصلت إليه حتى كان نبيل قد استقدم سيارته وساعدنا في حمل الحقائب…. وانطلقت سيارته بنا تخترق المدينة الشهيرة بجسورها وجزرها وشوارعها العريضة والضيقة ستين كيلو مترا حتى وصلنا إلى مدينة " باترسون " كبيرة مدن " نيوجيرسي " new jersey " غرب نيويورك
    نيويورك
    كان "جيمس الثاني" –قبل أن يصبح آخر ملك يحكم بريطانيا قبل ثورة "كرومويل البيوريتانية"- يدعى "دوق يورك"، وقد أطلق المستعمرون الإنجليز اسمه على المدينة التي انتزعوها من الهولنديين الذين بنوها فوق الغابات الخضراء وبين الأنهار والتلال وقرب المحيط، وسموها "نيو أمستردام".
    وكان "هنري هدسون" قد اكتشف المدينة في بداية القرن السابع عشر، ولهذا فقد أطلق اسمه على النهر الكبير بها، وكان الهولنديون قد اشتروا جزيرة "مانهاتن" بما لا يزيد عن 24 دولارًا، دفعوها للهنود الحمر على شكل عقود من الخرز الرخيص.
    وكما هو الحال في كل الولايات المتحدة، فقد توافدت الهجرات الأوروبية إلى المدينة بدءًا بالهولنديين والسويديين إلى الإنجليز إلى كل الباحثين عن مهرب خارج أوروبا التي كانت –آنذاك- قد مزقتها الحروب الداخلية.
    كانت نيويورك عاصمة الولايات المتحدة
    وكانت "نيويورك" عاصمة للولايات المتحدة الأمريكية لفترة من الزمان تزيد عن عام كامل، كما كانت –ولا زالت- معبر البلاد الذي يستقبل كل وافد إليها وتقوم المدينة على جزيرتي "مانهاتن" و"ستاتن آيلاند" إضافة إلى "بروكلين" و"كوينز" و"برونكسن"، وبهذا تعد المدينة خمسة مدن، أشهرها جزيرة "مانهاتن" حيث إنها سوق هذه المدن، بل ومركزها التجاري والثقافي والفني والاجتماعي.
    ويقوم على الجزء البحري من المدينة تمثال الحرية الأخضر اللون، الذي يحمل شعلته الشهيرة والتي تم تجديدها في 4 يوليو عام 1986، كما (كان) قائمًا على جزيرة "مانهاتن" الطولية الشكل برجا مركز التجارة العالمي الذي كان يبلغ ارتفاع كل منهما 110 أدوار.
    كما يوجد بها مبنى "الإمباير ستيت" المشهور، الذي (عاد) أعلى مباني نيويورك بعد انهيار برجي مركز التجارة في 11 سبتمبر، ويوجد بها أيضًا مبنى الأمم المتحدة وشارع "وول ستريت" الشهير، وبورصة نيويورك، والحي الصيني، وحديقة "سنترال بارك" وشارع "برودواي"، ومركز "لنكولن"، ومتحف "المنيروبوليتان"، وحي "هارلم"، وغيرها الكثير من الشوارع والجامعات والأحياء والمباني التي ضاقت بها أرض "مانهاتن"، فارتفعت مبانيها إلى عنان السماء.
    أما "مانهاتن" فهي تعني –بلغة السكان الأصليين للبلاد (الهنود الحمر) – "أرض التلال"، وكان هؤلاء السكان يتراجعون أمام الغزو الأوروبي، فتتم مصادرة أرضهم أو شراؤها بالفتات، إلا أن السكان الجدد كانوا يبقون –فقط- على الأسماء القديمة مثل "ماساتشوستس" و"الموهوك" وغيرها.
    مركز التجارة العالمي
    أما مبنى مركز التجارة العالمي المكون من برجين، والذي تم الانتهاء من بنائه عام 1973، فقد كان حاصلاً على الأرقام التالية:
    * بلغ ارتفاع المبنى 1350 قدمًا، استُخدم في بنائه حوالي 425 ألف ياردة مربعة من الأسمنت المسلح و200 ألف طن من الحديد.
    * فتحت فيه 43600 نافذة، وكان يعمل في مكاتبه نحو 50 ألف شخص، ويؤم المبنى يوميًا 80 ألف زائر لقضاء مصالحهم وأعمالهم.
    * ومن فوق سطحه تستطيع رؤية أماكن تبعد حوالي 53 ميلاً، كما يمكن رؤية مدينة "فيلادفيا" إذا كان الجو صحوًا.
    وعلى الرغم من كل هذه البنايات الشاهقة الكثيرة، فقد بقيت من ذكريات اللون الأخضر من نيويورك القديمة حديقة "سنترال بارك" الشهيرة بكونها إحدى أكبر وأضخم حدائق العالم، والممتدة في نهاية جزيرة "مانهاتن".
    الشارع العريض
    وفي نيويورك أيضًا أطول شارع في العالم، شارع المسارح والأضواء؛ تلك المسارح التي لا تشغل سوى جزء بسيط من شارع "برودواي" الذي يعني "الشارع العريض"، والذي يذكر اسمه أذهاننا بمسارح أمريكا الاستعراضية المبهرة خلال عقود الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين.
    " قسمت " اسم عربي صار عنوان مسرحية تدور أحداثها في عصور العرب القديمة عُرضت لأول مرة على مسارح "برودواي" في عشرينيات القرن الماضي؛ حيث لم تكن صورة العربي كإرهابي أو بدوي جاهل قد انتشرت في سينما هوليود، ولكن كانت الأجواء العربية في المسرح –بل والسينما أيضًا- عبارة عن سحر وغموض وقصور فخمة، أو خيام منصوبة في الصحراء، وفي جو رومانسي صافٍ رقيق.
    نيويورك غثها أضعاف سمينها
    * حي هارلم أحد أشهر أحياء نيويورك، أخرج أعظم عازفي موسيقى "الجاز" في بداية القرن العشرين، وراقصي ديسكو الشوارع، وفريق "هارلم" العجيب لكرة السلة.
    وهناك حيان اثنان باسم "هارلم"؛ أسود وأسباني، وفي الحيين بؤس كبير وضجيج موسيقى صاخبة وبيئة مصدرة للجريمة غير المنظمة.
    إلا أن "حي هارلم" كان في بداية القرن الماضي سكن الأثرياء من اليهود أصحاب الملايين ، وكان من أجمل أحياء المدينة وأغناها .
    لم أشعر بالراحة حين كنت أزور المدينة لإلقاء محاضرة أو خطبة أو زيارة صديق ، فقد كنت أشعر بالغثيان وضيق في النفس والرئتين حين أرى ناطحات السحاب تمنع عني الهواء والشمس ، وحين أرى الأعداد الهائلة من الناس تملأ الشوارع جيئة وذهاباً ، فعدد سكانها خمسة عشر مليوناً فضلاً عن القادمين إليها نهاراً. كما أن معدّل الجريمة فيها كبير وفي وضح النهار ، فالعصابات تنتشر في الأحياء الفقيرة بشكل مرعب، وفي غيرها بحيث لا يأمن الإنسان على نفسه ، وفي أنفاق المترو وفي الأماكن النائية ، أما السرقات التي تصاحب القتل فحدّث ولا حرج . وهذا لا يعني أن المدن الأخرى ليس فيها مثل هذا الفساد ، إلا أنه في نيويورك أشد سوءاً . فشارع مارتن لوثر كنج والمنطقة الوسطى في حي هاليدون في باترسون ترى قطعان الأمريكيين السود في الشارع تغتنم غفلة من أعين الشرطة المتجولة فيهما لتقتنص غريباً، سرقة ونهبا وسلباً أو تقتحم محلا تجاريا ولو أدى إلى القتل والقصص المتواترة في ذلك عجيبة تدل على الفراغ الروحي ، وعلى الفلَتان الأمني .. وحين انقطعت الكهرباء في صيف عام ألفين وثلاثة أربع ساعات في نيوجيرسي ونيويورك وفيلادلفيا وواشنطن جرت ملايين حوادث السطو والنهب فيها .. وكان الإخوة هناك في بداية وصولي إلى باترسون يحذرونني من السير بسيارتي في هذه الشوارع والأحياء ليلاً ، فإذا توقفت السيارة لأمر طارئ فما ينبغي أن أنزل منها ، وعليّ استدعاء الشرطة فوراً.... هذه حقيقة التقدم والتطور في بلاد العم سام !! فهل في أشد بلاد المسلمسن فساداً وسوءاً تجد مثل هذا؟!!

    باترسون
    مدينة قديمة صناعية يتفرع عنها مدن صغيرة تتصل بها شأن البناء الأمريكي والأوربي المتصل بعضه ببعض ،ليس فيها أبنية عالية ولا شوارع فخمة عريضة ، يخترقها نهر متوسط الحجم ،غزير المياه ، وحولها بحيرات كثيرة ، صغيرة الحجم وكبيرها ، وهي تعد بحق مخازن المياه في المنطقة .عدد سكانها يتجاوز نصف المليون ، منهم ما لا يقل عن خمسين ألف مسلم .. من معالمها
    - الشارع الرئيسي "main street " يكثر فيه بشكل جليّ واضح المحلات العربية بلافتاتها التي تدل على غلبة العنصر العربي فيه مطاعم ودكاكين صغيرة وكبيرة وأفران الخبز العربي والحلوى والألبسة العربية والإسلامية والمواد المنزلية ، وصالونات الحلاقة والألكترونيات ، والمقاهي والمكتبات العربية ومكاتب الجرائد والمجلات العربية والمقاهي .........
    - المساجد : وأكبرها مسجد ال"broad way " في نهاية شارع " مارتن لوثر كنج " " marten louther king street" وقد كان كنيساً يهوديا ، اشترته الجالية الإسلامية بعد أن انتقل سكن اليهود من هذه المنطقة إلى منطقة أخرى أكثر حداتة وأبعد عن الناس ، وهذا دأب اليهود ، ينأون بأنفسهم في " غيتات " خاصة بهم ولا يختلطون بـ " الأمميين " . هذا المسجد يتسع لألف وخمس مئة مصل ، وأمامه ساحة كبيرة للسيارات ، تفرش في الأعياد لاستقبال العدد المتزايد للمصلين .والمسجد يتألف من طابقين : الأول لصلاة الرجال ، ومن خلفهم النساء – في الصلوات الخمس – والثاني لصلاة النساء في الجمع ، وفي القسم العلوي جناح شرقي هو قاعة محاضرات واجتماعات . وتقام صلوات الأعياد أربع مرات أو أكثر لاستيعاب المصلين الكثر ، خطب إحدى هذه الصلوات باللغة الإنجليزية لمن لا يحسن العربية . .... ويعتبر هذا المسجد بحق قبلة المساجد في الولاية ، وما حولها من الولايات الأخرى لاتساعه وتعدد المناشط فيه .... فبعد كل صلاة فجر خاطرة تتعدد مواضيعها كل يوم ، إلا فجر الجمعة فدرس ثم قراءة سورة الكهف ثم إفطار جماعي لتآلف القلوب والتعارف ... وبعد كل صلاة عشاء خاطرة لأحد المتخصصين في العلوم الدينية وغيرها ، أما بين صلاتي المغرب والعشاء في كل من الأحد والثلاثاء والخميس فدرس فقهي وآخر في التفسير وثالث في السيرة ... أما يوم الجمعة فدرس في التلاوة . يجتمع على كل هذه الدروس والمحاضرات عدد كبير يثلج الصدور ويريح القلوب .كما أن المسجد يقوم في هذه الغربة بما تقوم به المحاكم من عقود للزواج أو الطلاق ،والجمعيات من إقامة الأفراح وتقبل التعازي ، يتخللها كلمات تناسب أدب الوقت . .. وكثيرا ما يستزير المسجد العلماء والمحاضرين والأدباء والمفكرين ... ولا أكون مبالغاً إذا قلت إنه يستقبل المسلمين الجدد الذين يتوافدون لإعلان إسلامهم بازدياد مطّرد يعكس اهتمام الناس بهذا الدين العظيم في أمريكا على الرغم من محاربته بكل الوسائل والأساليب ، ولكن الله غالب على أمره ... ألم يخبرنا الصادق المصدوق :" ليبلغنّ هذا الدين ما بلغ الليلُ والنهار"؟ فالبلوغ غير الوصول ، إن البلوغ يعني الاستيطان والثبات والانتشار والتمكّن ، والوصول قد لا يعنيها كما البلوغ . وعلى هذا نفهم قوله تعالى " بلاغ ... فهل يهلك إلا القوم الفاسقون " ونفهم قوله صلى الله عليه وسلم : " ألا هل بلّغت ؟ " ولم يقل : هل أوصلت؟ كما قال : " ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب " وقال : " بلغوا عني ، ولو آية " ولم يقل أوصلوا ...نعم سينتشر هذا الدين في كل أرض وتحت كل سماء ما بلغ الليل والنهار ، على الرغم من كيد الكائدين ومكر الماكرين ، لأنهم لن يستطيعوا أن يطفئوا نور الله ... جل الله في علاه .
    - وهناك بعض الأخطاء الكبيرة تحصل في بعض المساجد ففي مدينة " وين " " Wayne " " القريبة من باترسون مسجد للشركس تكثر فيه المفاسد ، ففي قاعته الرئيسية يزاولون رجالاً ونساء الرقص الشركسي ، وفيه " بوفيه" يلتقي عندها الشبان من الجنسين !! ويمنعون الدروس والمحاضرات في مسجدها ، فهو للصلاة فقط !!
    أما اتصال المسلمين بغيرهم فيعتبر ضعيفا ، لا شك أن هناك بعض الوجود المسلم والعلائق مع الآخرين ولكنها ضعيفة إجمالاً بسبب تخلف المسلمين عن فهم الطرق الدعائية التي يتقنها اليهود ويتميزون بها .. فما من جالية إلا لها إذاعة محلية أو مجلات تعرّف المجتمع المحيط بهم , أما مجلات العرب فبالعربية التي لا يحسنها غيرهم ، دون أبنائهم الذين لا يقرأونها كصوت العروبة " و " الزمان " في باترسون ، وهي أخبار محلية . أما " الزيتونة " مثلاً فتصدر كل أسبوعين في واشنطن على ما أظن وباللغة العربية فقط فلا يكاد يقرؤها إلا القليل ، لأن أخبارها قديمة ولا تساير السرعة الإعلامية من قريب ولا بعيد ، وتصدر في بيئةٍ لغة الناس فيها إنجليزية ، ولغة الصحيفة عربية !! وقد نبهت إلى ذلك فانطبق عليّ المثل المشهور " النصيحة فضيحة " وقلت في نفسي :
    فلا تنصحْ إذا لـم تلـقَ آذانـا
    وصار الجوّ بعد النصح بركانـا
    فقولُ النصح بين الناس ما كانـا
    سوى همٍّ يذيـب القلب أحزانـا
    كان الجو بارداً جداً في أوائل نيسان " إبريل " في " وين Wayne " حين حملتنا الطائرة إلى مدينة " " شارلوت " في " كارولينا الشمالية " " north Carolina " فوصلنا إليها قبيل المغرب حيث كان الجو دافئاً ولطيفاً استقبلنا الأخ الكتور عمر الإدلبي في بيت أحد أصدقائه ، وفعل خيراً إذ كان ومجموعة من الرجال والنساء في غرفتين متجاورتين يتدارسون آيات من القرآن الكريم ، فكان سرورُنا في مشاركتهم والفرحُ باهتمام المسلمين بدينهم عظيمين .... ما أجمل أن يكون الإيمان والعمل الصالح رفيق المؤمنين في حياتهم ..صباحَهم ومساءَهم .. حلهم وترحالهم! .. كانت المدينة صورة مصغرة عن نيويورك بأبنيتها الشاهقة وشوارعها المنسقة . لكن الحلاوة أن تكون دار المرء بعيدة عن قلب المدينة ، حيث الهدوءُ والسكينة .
    دعيت إلى مدينة " ديترويت " القريبة من " كندا " في أيار ، وكان الجو يميل إلى البرودة المنعشة فرأيت ما زاد يقيني بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم إذ كانت نسبة المسلمين هناك كبيرة ، فسمعت صوت المؤذن يصدح في سماء المدينة ، وكأنك في بلد مسلم ، على العكس مما كان في باترسون فصوت الأذان لا يخرج من مساجدها.. قيل لي حين سألت عن سبب إعلان الأذان : أهل هذا الحي أكثرهم مسلمون . وكان عدد المصلين يوم الجمعة في مسجد اليمنيين يقارب ألفين وخمس مئة .... كان "أبو راتب " المنشد الإسلامي المشهور يعمل مشرفاعلى مادتي اللغة العربية والتربية الدينية في المدرسة الباكستانية الإسلامية . زرته فيها فكانت بحق مدرسة نموذجية .... وزرناه في بيته ظهراً فأكرمنا بالأكل الحلبي ..الكبة واللحم بالعجين . وزرناه ليلاً فكان كرمه بالأناشيد التي استمتعنا بها وشاركناه فيها ، فصوتي مقبول جداً لا يهرب السامع منه على ما أعتقد .
    من أجمل المناظر الطبيعية الوقوف على الطرف الغربي من نيوجيرسي المطل على نهر هيدسون الفاصل بينها وبين نيويورك قرب الجسر الواصل بينهما ناحية المركز التجاري العالمي .. ترى أمامك غابات الأبنية الشاهقة فتستمتع بها دون أن تنغمس في أتون الحركة الصارخة في قلب نيويورك الصاخبة التي لا تنام . وترى النهر العملاق الغزير يرمي بمياهه في جوف المحيط الفسيح ، فيتلاشى فيه مثل كأس صغير في بركة مترامية الأطراف ... ناديت ملء جوارحي :
    شكـراً لله ، وأحمـده فالنعـم الثـرّة مورده
    والخير لديه يفيض بها جوداً ، والكون يمجده
    معترفـاً أن الملك لـه والكـل بحـقٍّ يعبـده
    .................
    من سبع سماوات أوحى دينـاً كالشمس فوائده
    يقتاد ضليل الدرب إلى نهج العرفـان ويرشده
    وإلى الإيمـان يسير به وإلى الديّـان يوحّـده
    ...................
    من غير هدىً تجد الإنسا ن يتيه ويَشْعب مقصده
    لا مُثُـلٌ يرتـاح إليها لا ومْضَ سناء يسعده
    يتمسك في دنيا الأوهـا م بكـل حُطام يفسده
    ويهيـم بدنيـا تجذبـه نحو الأهواء وتُقعِـده
    فإذا الأجل المحتوم أتى فإلى النيـران تشرُّده
    وإلى سقر تغلي حُمَمـاً وإلى الأغلال تقيـده
    .................
    يارب ارحمنا وأجرنـا من "جمرٍ" أوفى مُوقده
    وحشرنا في ظل العرش في يومٍ حقٍّ موعـده
    فإليك القلب سما شوقـاً وإلى عليـاك تـوَدُّدُه
    يرجو الغفـران ومكرمة فعسى للنـور تسـدده
    بلسان الصدق أتى رَغَباً وبذكـر الله يـردده
    وبحبل الحقِّ يشد عـرا ه وجهد المخلص يَنشُده
    فاقبـل يارب تضرعـه فالأمل بجـودك مَعْقِده
    وهنا أدرك أباحسانَ الصباحُ، فأوى إلى صلاته يرتاح ، ثم أطفأ القنديل والمصباح ، واتجه إلى ربه هادي الأرواح ،يسأله الفلاح والنجاح ، ويصلي على زين الملاح ويقول:
    " اللهم أسلمت نفسي إليك ، ووجهت وجهي إليك ، وفوضت أمري إليك ، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك ... آمنت بكتابك الذي أنزلت ، ونبيك الذي أرسلت " ...






  2. #2
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jun 2006
    العمر : 54
    المشاركات : 3,604
    المواضيع : 420
    الردود : 3604
    المعدل اليومي : 0.55

    افتراضي

    ماشاء الله..
    اعتبرها من نمط الروايات القصيرة
    اسجل مروري واعجابي
    فرسان الثقافة

  3. #3
    شاعر
    تاريخ التسجيل : Jun 2006
    المشاركات : 2,069
    المواضيع : 373
    الردود : 2069
    المعدل اليومي : 0.32

    افتراضي

    أختي ريمة الخاني ؛ حفظك المولى الحاني
    شكرت لك مرورك الطيب ، وكنت أرجو ممن يمر أن ينقد ناصحاً سلباً وإيجاباً ..

  4. #4
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    الدولة : على أرض العروبة
    المشاركات : 34,923
    المواضيع : 293
    الردود : 34923
    المعدل اليومي : 6.71

    افتراضي

    لأدب الرحلات نكهة مختلفة، تزيد لواقعية حدثيتها من توغل القارئ في أعماق النص

    دمت بخير

    تحاياي
    تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

  5. #5

  6. #6
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 21,124
    المواضيع : 317
    الردود : 21124
    المعدل اليومي : 4.94

    افتراضي

    إن هذا النص لا يعد مجرد إضافة عادية إلى أدب الرحلات
    بل موسوعة متكاملة ، ووعاء معرفيا لما رآه وشعر به في رحلته
    ووسيلة للتعرف على سلبيات وإيجابيات الولايات المنحدة الأمريكية
    من وجهة نظر الكاتب وما شاهده ـ وقد نقل إلينا مشاهداته وتحليلاته لما يرى
    بأسلوب أدبي شائق معتمد على القص والسرد المباشر السهل الذي يشد انتباه القارئ
    ويحلق به بعيدا في رحلة ذهنية متخيلة يرفدها الكاتب بالتفاصيل الممتعة.
    شكرا لك سيدى على رحلة ممتعة قضيناها بين حروفك
    ولك كل تحياتي وتقديري.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

المواضيع المتشابهه

  1. أهلاً وسهلاً أمريكا-قصيدة مهداة إلى المقاومة العراقية
    بواسطة فارس عودة في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 23-07-2003, 04:47 PM
  2. أمريكيين عرب أشد أمركة من أمريكا شو رايكم
    بواسطة ابن فلسطين في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 17-04-2003, 07:44 PM
  3. أمريكا وعيد الحب!!!
    بواسطة محمد حيدر في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 4
    آخر مشاركة: 20-02-2003, 11:31 PM
  4. العنف الأسري ضد المرأة في الغرب (1) في أمريكا ...!!!
    بواسطة ابو دعاء في المنتدى النَادِى التَّرْبَوِي الاجْتِمَاعِي
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 08-02-2003, 01:32 AM
  5. أمريكا بين الارهاب والهيبة
    بواسطة نسرين في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 05-01-2003, 09:39 AM