الحلقة الرابعة والعشرون
وهنالك ما وراء البحار في مارسيليا الحالمة..مني الغضنفر بفقد القبطان ميشيل الذي غادر هذه الحياة إثر علة لم تمهله طويلآ ..فبكاه بحرقة وأسي ..فقد كان الرجل بالنسبة له بمثابة الوالد والأم والصديق ..واكتشف أنه قد أوصي له بكل ثروته ..المنزل والعربة ورصيد لا باس به من المال وهو بالطبع لا يحتاجه ..وحاول من بعده التكيف مع واقعه الجديد ..تعرف علي عدد من الفتيات المهووسات بالفن والفنانين ولكنه ما أن تمضي الواحدة معه بضعة أيام حتي يكتشف كم هي سخيفة وغبيه ..الأولي كانت تشرب الخمر بشراهة ومنذ الصباح وتظل شبه مخمورة طوال اليوم والثانيه كانت تتفلسف وتحاضره في المدارس الفنية طوال الليل والثالثة غبية متخلفه برغم جمالها وصغر سنها ..وحاول الإنغماس في الرسم من جديد وإقامة المعارض يرحل بها من مدينة إلي مدينة ومن قرية إلي قرية وحين يعود إلي مارسيليا يشعر بالوحدة والضياع وعدم الإنتماء لأي شيء..إن لحظة واحدة بين أحضان والدته آسيا تساوي عنده الدنيا بما فيها ..لذلك قرر توفيق أوضاعه والعودة للسودان مروراً بالقاهرة ليطمئن علي والده مرتضي ..ولو علم الحالة التي وصل إليها والده من الفاقة والإفلاس لما تأخر عنه ..فقد أثقلته مروة بالأطفال ..إذ ولدت له ثلاث توائم ..وصارت (الشقة) تمور بالفوضي والصخب ..ودخل بغدادي الصغير المدرسة فترتب علي ذلك المزيد من المصاريف بعد أن أصّرت هبه علي إلحاقه بمدرسة خاصه ..أما مروة فقد عملت كمضيفة بإحدي خطوط الطيران وتعرفت علي زميل لها يعمل بنفس الشركة كمضيف ..فتزوجته في هدوء ودون مراسم إحتفاليه تذكر وكانا نادراً ما يزورانهم بسبب الأسفار الكثيرة ورحيلهم للسكن في (شقة) منفصله..لذلك ساءت أوضاعه المادية فاستنجد بجده لأمه في الخرطوم الذي لم يتأخر عليه فحول له مبلغاً من المال دخل به في مشروع فاشل.. وعادت الساقية تدور من جديد ..بؤس وضياع وسط سبعة من الأطفال ..وفي هذا الوضع المشحون بالمعاناة رن جرس الهاتف في تلك الأمسية البارده ..رفعت هبه سماعة الهاتف لتجد الغضنفر علي الجانب الآخر ..الغضنفر..؟ الغضنفر مين ؟! ..لهذه الدرجة نسيتني يا عمتي ..الغضنفر ..الغضنفر؟ ..ياه ..يا مرتضي ..يا مرتضي ..إبنك في التلفون ..تري من أين جاء ؟..لسنا بحاجة لأعباء جديدة ..ولكنك وعدتني يا مروة أنك ستقبلين به إن هو عاد ..لا مش بالضبط ..يالا ..إتأخرت علي ابنك في التلفون ..كيف حالك يا بوي ..الغضنفر!! إبني الغالي ..كيف حالك يابوي ؟!!!..الغضنفر حبيبي ..وهنا خنقته العبرات فلم يعد قادراً علي مواصلة الكلام ..أخذت هبه منه السماعة وسألته ..أبوك منفعل شويه ..إنما قل لي إنت بتتكلم من فين ..من (شيريتون) القاهره ؟ ..بتقول أيه ؟ شيريتون ؟ ..وبتعمل أيه في شيريتون ..؟ ..أصلي وصلت من باريز قبل ساعه وقلت أطمئن عليكم ..لا طبعاً يا حبيبي دقائق ونكون عندك ..لا ما تتعبو نفسكم ..أنا بعرف السكه كويس وحأجيلكم علي طول أصلكم واحشني كتير ..ده بقول أنو نازل من باريس من ساعه وكمان حاجز في شيراتون ..الظاهر ربنا حيفك ضيقتنا يا بغدادي ..المهم أشوف إبني بعد كل السنين دي ..يا هبه ..ياما أنت كريم يا رب ..يا ما أنت كريم يا رب .
أخذه بالأحضان عند بوابة العماره واصطف الأطفال وهبه في ( البلكونه ) يتأملون القادم الجديد ..كيف هو ..كيف يبدو ..ومن ثمّ إعتليا الدرج وهما ينوءان تحت ثقل الهدايا .
*******
وتحت ضغط مني زوجة المرحوم الوجيه إسماعيل قرر العقيد إزهري إلقاء القبض علي الشيخ البغدادي علي ذمة التحقيق ..رفض الرائد طارق مرافقته في هذه المهمة غير المرغوب فيها ولإعتقاده الجازم بأن الشيخ البغدادي لا ولن يكون القاتل الحقيقي وحتي لا يواجه عينّي أمل بموقف سخيف كهذا ..قال له سعادتك أنت المسئول عن التحقيق ..وإنت من سيقبض علي الشيح البغدادي .
فوجئت الأسرة المسترخية ذاك الصباح بالعقيد أزهري وهو يطرق بابها..فاستغربت تلك الزياره في هذا الوقت المبكر ..طلب أن يجلس إلي صفاء و أسامة لوحدهما بيد أن أمل اصرت علي أن تكون حاضرة ..وبعد مقدمة مملة حول براءة المتهم حتي تثبت إدانته وحتي يتمكن والدهم من فضح الإشاعات التي تتناقلها الألسن حول دور مفترض له في جريمة قتل النائب إسماعيل يريد إلقاء القبض علي الشيخ البغدادي والتحري معه ..أبوي قاتل ؟..أمل وقد صرخت في وجهه ..إنت كذاب منافق يا أزهري ومنحاز للناس ديل عشان الدكتوره ندي ..إنت إنسان غير نزيه ..ومن ثّم غادرت المكان وذهبت إلي غرفة والدها الذي إستيقظ وهو شبه مخمور ..فأخذته بأحضانها وتشبثت به في هستيريا غريبه ..وذهل الرجل مما يحدث حوله ..لحقت بها أمها وأسامة يهدآنها ..ربنا موجود يا أمل وحيثبت براءة أبوك ..والآن لو سمحتو أنا عاوز أفتش البيت ..
وفي القسم سأله العقيد أزهري بحضور أسامه ..إنت قتلت الوجيه إسماعيل يا سيد بغدادي ؟ ..أيوه كتلتو ..أيوه كتلتو ..والسبب يا بغدادي ..لأنو بجيب العاهرات من الخرطوم ..سابينا وما أدراك ما سابينا ويضيع مستقبل أولادنا ..شعر أسامة إبنه بالرعب والغضب إذ وصف والده سابينا حلم حياته بتلك الصفه وإذ يورط نفسه في هذا الإتهام الخطير ..مستحيل يا بوي إنت ما كتلت ..إنت أكيد ما واعي بروحك ..خليهو براحتو يا أسامه ..ومن ثمّ أخذوه للنيابة لتدوين إعترافه وأودع الحراسه ..وعندما عاد أسامة للمنزل ليخبر والدته وأمل بما سمع .. صرخت أمل لا لا ..مستحيل ..ابوي بريء .. ومن ثمّ هرعت إلي غرفتها تبكي في حرقه ..ولكن ..كيف فات عليها الإستنجاد بالرائد طارق وهي تعلم كم يحبها .. فماذا ستقول له ..؟ ستقسم له بأنها ستكون له لو أنه أثبت براءة أبيها ..إستيقظ علي صوتهاعبر الهاتف منتصف الليل .. من.. أمل ..؟.. نعم أمل ..لقد نسيت أمل يا طارق ولم تكلف نفسك مجرد مواساتنا والوقوف إلي جانبنا في محنتنا ..وأشكرك لكونك لم تكن الذي وضع القيد علي يديّ أبي ..وقد قام بهذه المهمة العقيد أزهري وكلنا يعرف دوافعه ..كانت تتكلم وتتوقف لتبكي بحرقة ثم تعود للكلام ..ولم يكن في وسعه أن يعدها بشي وهو مطلوب منه أن يجمع البينات في مواجهة والدها لتعضيد إعترافه بجرمه المشهود ..قالت له ..اسمع يا طارق ..أقسم لك بشرفي أن أكون لك إن أنت أثبت براءة أبي ..وهذا وعد أقطعه أمام الله وأمامك ..ولكن يا أمل ..ولم تدعه يكمل ..وضعت سماعة الهاتف وتركته يتقلب علي فراشه طول الليل يستعيد كل كلمة وكل آهة ندت عنها ..لكم تعذب بسبب أمل ..كانت تبدو له علي الدوام حلمآ بعيد المنال ..وها هي تنهل بين يديه وعدآ جميلآ ..ولكن ..علي حساب ماذا؟ ..هل ستخون القسم الذي أقسمته لحظة التخرج من كلية الشرطه ؟..هل ستخون الواجب يا طارق من أجل فتاه ..ولكنها أمل ..أمل التي عشت أمني النفس بها ..لالا ..أنا لن أفعل شيئآ ضد القانون ..البغدادي بريء وأنا متأكد من ذلك..كيف ذاك يا طارق ؟ هل ستنضم إلي محامي الدفاع وأنت ممثل الإتهام ..وهل سيضيع دم الوجيه إسماعيل هدرآ ؟ الرجل الذي وهب نفسه وماله من أجل إسعاد الناس ..الرجل الشهم الكريم ..لالا يا طارق ..وهكذا ظل يقلب الأشياء في ذهنه ويعيش صراعآ مريرآ بينه وبين ضميره حتي أسفر الصبح وغمر الكون ..ولم يستيقظ إلا علي رنين جرس الهاتف وكانت الأستاذه سميره علي الجانب الآخر ..ماذا يحدث بالضبط يا طارق ..البغدادي يقتل ..معقول ده بس يا جناب الرائد ..مستحيل طبعآ ..وهسه هو عامل كيف في الحراسه ..أرجوك يا طارق قبل ما تمشي المكتب تجي تودينا لزيارتو ..أيوه الدكتور كمال حيكون معانا .
وقفت أمامه تتأمله من وراء القضبان وقد تكوم في ركن من الحراسة وهو يعاين في البعيد البعيد ..لعلّه يستعيد شريط حياته المضطربة صعوداً وهبوطاً من الثروة والجاه والنيابة إلي الفقر والمهانة والإذلال ..هكذا الحياة يا بغدادي لا تدوم علي حال ..ولكن هذا الإنسحاب وتلك الرغبة في الموت لن تفيدك بشيء ..تذكر أولادك ..هل نسيت أمل وأسامه ومرتضي وصفاء ..هل نسيتنا نحن أصدقاؤك أيوه أصدقاؤك ..أنا وزوجي الدكتور كمال وطارق وكثيرون غيرنا ..قالت له كلامآ كثيرآ ووقف أمامها كتلميذ صغير يتلقي الدرس الأول في الصف .. يتأملها في تبتل ومحبه ..كيف تضع نفسك في موقف زي ده يا بغدادي وتجازف بسمعة العائله ومستقبل أولادك ..حتي إحنا في الشرطه واثقين من براءتك والمطلوب أنك تساعدنا ..خلي ثقتك في الله عظيمه يا أستاذ بغدادي ..إنت من رموز هذا البلد والرمز لا يتحطم بهذه السهوله ..أنا وزوجي مستعدين نجيب ليك أكبرمحامي في السودان بس إنت تأمر يا بغدادي ..أمضيا معه داخل (العنبر) أكثر من ساعة إستعاد فيها بعضاً من معنوياته وحين غادروه ..تمني لو أن الأستاذه سميره تتخلف منهما ولا تذهب ..ولكن كيف يا بغدادي ..كيف؟!!!