شاعت كلمة المطولة فى الدراسات الأدبية والنقدية فى العصر الحديث بعد ظهور المطولات الشعرية ، كمطولات البارودي ، وأحمد شوقي ، ومحمد عبدالمطلب ، وعمر أبي ريشة وخليل مطران وغيرهم .
فمعظم الدارسين والنقاد الذين عالجوا تلك المطولات بالنقد والتحليل اكتفوا بذكر كلمة "مطوَله"(1) دون أن تنال منهم تعريفاً يذكر ، ولم نجد – على الرغم من كثرتهم – إلا عدداً قليلاً منهم اقترب إلى تحديد مفهوم المطولة – كمصطلح شعري – دون أن يبسطوا القول فى سماتها الفنية التى تميزها عن القصيدة العادية التى تعارف عليها دارسو الشعر العربي فى عصوره المختلفة .
ولعل التعريف الذي أورده الدكتور / أنس داود للمطوَلة(2) يتكئ على المادة التى اشتقت منها كلمة "مطوَلة" وقد سبق غيره من الدارسين والنقاد وأصحاب المعاجم الحديثة إلى توضيح المعنى اللغوي والاصطلاحي للمطوَلة ، بادئاً من النظرة إلى جذور المصطلح متابعاً تطور النظرة النقدية القديمة إلى خاصية الطول والقصر فيما يتعلق بالقصيدة الشعرية القديمة ، فقد ذكر أن بعض القصائد قد بلغت من الطول "بضع مئات" كمقصورة ابن دريد ، وتائية ابن الفارض ، وهي قصائد قليلة فى الشعر العربي القديم وأكثر منها عدداً ما شارف المائة أو نيف عليها ، كالمعلقات العشر ومطولات ابن الرومي ، وبعض قصائد أبي تمام والبحتري وأضرابهم .. وظل للقصيدة التى دون المائة بيت أغلبية فى العدد ، وقد سمي العرب كل ما ينيف على سبعة أبيات أو عشرة قصيدة دون تفريق بين قصيدة المنخل اليشكري : ((إن كنت عاذلتي فسيري)) وبين معلقة طرفة أو حتي مقصورة ابن دريد ، فلكل منهم قصيدة ، قال ابن رشيق : ((إذا بلغت الأبيات سبعة فهي قصيدة .. ومن الناس من لا يعد القصيدة إلا ما بلغ العشرة وجاوزها ولو ببيت ، وما دون ذلك كانوا يسمونه "قطعة")) ، ويختلفون فى تفضيل المطيل أو صاحب القطع ، ويشتم من كلام ابن رشيق أن العرب ميزت الشاعر المطيل ، فقالوا عن الفرزدق إنه – بالنسبة إلى جرير " أقدرهما على التطويل" وقالوا : "لا شك أن المطول إن شاء جرد من قصيدته قطعة أبيات جيدة" ، هكذا دارت المادة على ألسنتهم : تطويل ومطول .
ولا شك أن المطولة تختلف عن الملحمة ، ولا يمكن أن نطلق على المطولة اسم " الملحمة " فثمة نقاد اتفقوا على إطلاق لفظ "المطولة" على تلك الأعمال الشعرية التى يسميها أصحابها "ملاحم" ، من هولاء الدكتور / حلمي القاعود ، إذ يقول : ((المصطلح الغربي لكلمة ملحمة يخرج هذه الأعمال عن مفهوم "الملحمة" ومن هنا فإننا نطلق عليها ملاحم تجاوزاً ، وإن كانت مناقشة المصطلح قد تعطينا دلالة ملحمية ما ، ولعلنا لو أطلقنا على هذه الأعمال اسم "المطوَلات" الشعرية لكان فى هذه التسمية قدر أكبر من الدقة)) (3)
ومن ثم فإننا سوف نمضي فى دراستنا هذه على ضوء هذه التسمية (مطولات لا ملاحم) ، حيث بلغ شاعرنا الراحل / عبدالمجيد فرغلي – شأواً عظيماً فى كتابة المطولات الشعرية(4) وحسبنا أن ندرك حجم المطولات الشعرية فى ديوان واحد له بعنوان "عبير الذكريات" الذي طبع منه عدد محدود من النسخ ، تحت رقم إيداع بدار الكتب المصرية 5646/2008م .
ففي هذا الديوان – إذا نحن استبعدنا القصائد القصار – عشر مطولات ، أقلها تبلغ مائة وثلاثة أبيات ، وأكبرها يبلغ عدد أبياتها مائتين وثمانية وأربعين بيتاً ، وكلها يتخذ من وحدة الوزن والقافية أسلوباً بنائياً فى تشكيلها الموسيقي .
ونبدأ هذه المطولات الشعرية لدى عبدالمجيد فرغلي بمطولته "أخت القمر" وموضوعها اجتماعي ، وقد قالها بمناسبة زفاف ابنه ، ويبلغ عدد أبياتها 163 بيتاً ، وهي موزونة على بحر الوافر ، ومطلعها :
عروس ابني تهادت فى حلاها كبدر الأفق فيه نرى أخاها
وهي تجمع بين الغنائية والقصصية معاً ، حيث يعرب الشاعر عن أحاسيسه نحو عروس ابنه فى كثير من الأبيات ، ويتخلل ذلك سرد قصصي ، يبدأ بيوم الجمعة الذي بدأ فيه عقد القران ، ثم يأخذ فى وصف الدار التى ضمت هذا الجمع من الآهلين : أهل العروسة وأهل العريس :
وقد صفت أرائك فى فناء وقد بثت (زرابيَُُُ) إزاها
فأحبب باللقاء لدي قرانِ يد الرحمن تمنحه رضاها
وأقبل من بني الأهلين رهط يشارك فرحةً رُبطت عراها
والشاعر يستقي من الموروث الديني ما يعدَُ تناصاً مع الحديث النبوي الشريف : ((تنكح المرأة لأربع لمالها وجمالها وحسبها ونسبها ودينها فاظفر بذات الدين تربت يداك)) ، حيث ورد هذا التناص فى قول الشاعر :
ومن يظفر بذات الدين زوجاً فقد بلغ المدى شرفاً وجاهاً
كما يتناص أيضاً مع الحديث النبوي الشريف حيث روي عن رسول الله صلي الله عليه وسلم أنه قال : "الدنيا متاع وخير متاعها زوجة صالحة إذا نظر إليها أسرته ، وإذا غاب عنها حفظته فى ماله وعرضه" فقد جاء هذا التناص فى قول شاعرنا :
إذا يرنو لها سرته حسناً وتحفظ بعلها ديناً وقاها
بل إن الشاعر يمتاح من التراث الشعبي ، ومن الأقوال الشعبية المأثورة التى تجري مجرى الأمثال ، ومن ذلك القول الشائع : ((أكفي القدرة على فمها تطلع البنت لأمها)) حيث تم التعبير عن هذا المعني فى البيت الآتي :-
وتحكي أمها كرماً وأصلاً وخلقاً فى فضيلته نماها
وليس بخاف عنا طريقة تشكيل الصورة الفنية لدى الشاعر وتفردها حيث تعتمد الصورة على الاستعارة التصريحية التى يخلع عليها القرآن الكريم ثوباً ناصعاً ، وذلك من خلال نصائحه لابنه أن يحفظ زوجته حتي تكون له بمثابة الظل الظليل ، بل حتى تؤتي أكلها – لاحظ جمال الأسلوب المستمد من القرآن الكريم – فى قول الشاعر :
وكن روضاً تكن لك فيه ظلاً ودوحاً مثمراً يهدي شذاها
وتؤتي أكلهـا فى كل حين بإذن إلهها الحـابي جناها
فالتناقض مع القرآن الكريم ومدى توافقه مع سياق القصيدة يعد "وحدة حية لا يقتصر دورها على الجانب الدلالي فحسب ، بل تساهم مساهمة فاعلة فى التشكيل الجمالي" (5) .
******
ثمة مطولة آخرى تنتمي إلى الاتجاه الاجتماعي ، ونعني بها مطولة "الجمال الباكي" ويبلغ عدد أبياتها 128 بيتاً موزونة على بحر الوافر ومطلعها :
• آثار جمالك الباكي خيالي وأشعل فى بركان انفعالي
وقد صدَرها الشاعر بكلام نثري ، هذا نصه : ((قصة واقعية بطلتها فتاة عذراء عاشت زوجة فى الخيال ، تقيدها الفضيلة ، ويطلقها سحر الجمال ، وقد حصلت على وثيقة حريتها بالطلاق)) .
ولما كانت القصيدة الطويلة – أو المطوَلة – كما يقول ديفيد بشبندر ((تميل للحركة باتجاه السرد ، ومن ثم ينشأ تحوَل فى القراءة وفى التوجه النظري فإن هذه المطولة تتميز بالقص والحكي والسرد كما تتميز بهيمنة الغنائية عليها فى نفس الآن ، أضف إلى ذلك ، المطولات التى تعد تعبيراً عن عواطف الشاعر الجياشة تجاه فكرة ما، أو حدث ما ، أو إحساس ما ، تبعاً لبعض المضامين التى تحتاج إلى تدفق الطاقة الشعرية)) (6) وكلها سمات فنية تتجلي فى هذه المطولة حيث يتحدث الشاعر عبدالمجيد فرغلي عن تلك الفتاة :
وقفت أسيرة بشباك شيخِ بلا حولِ لديك ولا احتمال
ثم يصف حال تلك الفتاة من خلال تصوير فني أخاذ
فتاة فى ربيع العمر تحيا معذبة الجمال بلا مجالِ
وشمعة عمرها تنسال دمعاً يفوق كنوز تبر أولآلي
ثم يمضي السرد القصصي ، فيصف مقابلته لها على شط البحيرة ، ثم يقارن بينها وبين شخصه ، حيث تزوج منذ سبع سنوات ، وله من العيال سبع ، بينما هي زوجة على الورق فحسب ، ثم يصف زوجها ومدى القهر الذي يواجهها به :
وصاحب قيدها شيخ عتل يعاقبها على همس النمــال
كسجان بلا قلبِ رمـاها على حر الظهيرة فى الرمال
ثم يصف جمالها ، لتبرز من خلال ذلك المأساة التى تعاني منها :
وكانت ذات سحر عبقري بحسن سال منساب الجمال
طبيعي بلا زيف جلــيب سوى العناب فى شفتي ثمال
جري خمر الجمال بوجنتيها وقوسي حاجب مثل الهلال
قد انسابا على مهل ولطف بريشة رب مكة ذى الجلال
إن تأثر الشاعر بمأساة تلك الفتاة جعله يقدم المحتوى النفسي لشخصيته ومدى إحساسه الأليم بما تعانيه ، بدلاً من تركها تتحدث عن نفسها ومأساتها ، وذلك من خلال المونولوج الداخلي أو الحوار الذاتي الذي يعرفه بعض النقاد بأنه ((التكنيك المستخدم فى القصص بغية تقديم المحتوى النفسي للشخصية ، والعمليات النفسية لديها – دون التكلم بذلك على نحو كلي أو جزئي – وذلك فى اللحظة التى توجد فيها هذه المستويات المختلفة للانضباط الواعي قبل أن تتشكل للتعبير عنها بالكلام على نحو مقصود)) (7)
نقول : من خلال هذا المونولوج الداخلي يعبر الشاعر عما يعتمل فى صدره هو من مرارة والتياع :
يقيدني الآسي بقيود عمر مضى هدراًوأمعن فىمطالي
على أيام عمر قد قضينا وجرعنا بها كأس العُضـال
لذلك لم أزل أبكي عليها كباكــية الجمال وراء آل
يخب على الرمال كبحر ماء ولكن بين أودية خوالــي
ومالي لم أزل أبكي عليها وأندب سوء حظي من منال
أليس أمامها دنيا براح ومالي فى البراح من انتقال
ومن هنا يبدأ الصراع عند الشاعر بين أحاسيسه الغريزية وبين جمال تلك الفتاة ، حيث يشده خيطان هما : تمسكه بالفضيلة من ناحية والجمال الذي يستثير كوامن المتعة الحسية من ناحية آخري :
أحس شعورها وتحس مني كما فى عمق نظرتها بدا لي
فباكية الجمال بكت شباباً وإني قد بكيت أسي كلالـي
وإن يكُ بيننا أدني رباط هو الحب المسافر فى الجبال
وحيداً ليس بين يديه حام سوى التقوى خلالك اوخلالي
كلانا حافظ لكريم ود دعته به الفضـيلة للكمــال
ثم يختتم الشاعر مطولته بالدعاء لها ، بأن تنعم مع قرين يعوضها سنوات الحرمان :
ويالجمال باكية كفاني وصالك فى الكرى عبر الليالي
فقد تجد القرين شباب قلب تركتها بخـير : فـى وصال
يلاحظ فى مثل هذه المطولات التعامل ((مع ما يسمي بالقوس الإسلامي فى المعمار ، بمعني الاهتمام بأول الشئ وآخره)) (
فكما كان هناك اهتمام أشد بالأبيات الأولى فى المطولة ، وبخاصة مطلع المطولة : (أثار جمالك الباكي خيالي ........) فإن بداية المطولة تربق فى العادة برقاً ، كما هى تبرق الآن فى نهاية أبيات المطولة ، حين اختتمها الشاعر بالدعاء لتلك الفتاة بحياة سعيدة مع زوج آخر .
*******
من اللافت للنظر فى المطولات الشعرية التى احتوى عليها ديوان "عبير الذكريات" وشائج القربى التى تربط بين أربع مطولات تنتمي إلى مضمون واحد هو ((الخلاص من قيود الوظيفة بالإحالة إلى التقاعد ونهاية الخدمة)) ، حيث يلاحظ أن هذا المضمون يعد قاسماً مشتركاً بين أربع مطولات هي : مطولة "وداعاً يا مكتب الذكريات" وعدد أبياتها 152 بيتاً – موزونة على بحر المتقارب ، ومطلعها :
نفضت اليدين عن المكتب وكم كان من ذكرياتي وحبي
ومطولة "رحلة القيد فى ظلال الوظيفة" وعدد أبياتها 137 بيتاً ، وقد جاءت موسيقاها على بحر الخفيف ، ومطلعها :
رحلة القيد بين أمن وخيفة رحلة العمر فى ظلال الوظيفة
والمطولة الثالثة بعنوان " فى يوم تكريم شاعر" وقد كتبت فى 163 بيتاً ، وهي موزونة على بحر الخفيف أيضاً ، ومطلعها :
إخوة الروح يا هواة القوافي فى احتفال يضم فكراً ثقافي
ولأن هذا التكريم تم تنظيمه بمناسبة بلوغ سن الإحالة للتقاعد وترك الوظيفة ، فإن الشاعر بعد أن يشكر القائمين على هذا التكريم ، يدلف إلى التعبير عن حالته بعد أن توقف صرف راتبه الشهري :
وقف الصرف للمرتب فيـه ولوى العطف مرفق الصَراف
لم يقل : آسفٌ ولا رد سؤلي إنما قال لم تصـبك صـحافي
فارجع اليوم وانتظر فى مقر قد سـيأتيك راتب باسـتلاف
أما المطولة الرابعة فهي بعنوان "الهزيع الأخير" وقد جاءت فى 248 بيتاً على بحر الخفيف أيضاً ، ولا شك أن التشكيل الموسيقي لهذه المطولات الثلاث يلقي بظلاله على توحد المضمون الشعري وتناغمه – بشكل عفوي – فى التعبير عن إحساس واحد مشترك ، مما يشي بأن المضمون الشعري يستطيع أن يختار موسيقاه طواعية ، ودون تصنع وتكلف من الشاعر ، متى كان هذا الشاعر موهوباً وذا قدرة على امتلاك أدواته الفنية بشكل تلقائي ، يحس به قارئ الشعر ومتذوقه .
*********
تتسم المطولات الشعرية – بشكل عام – بتدفق الطاقة الشعرية لأنها تعتمد على الجزئيات والتفصيلات ، والجمل المتوهجة ، والزحام الموسيقي ، حيث يلاحظ أن أغلب المطولات فى العصر الحديث كتبت على البحور المركبة كالخفيف والبسيط – على سبيل المثال-(9) لأنها تدور أساساً حول محور فكري لا محور موسيقي ، وإن كانت الفكرة قد تتوحد – فى عدد من القصائد أو المطولات – مع الموسيقى، كما أوضحنا آنفاً ، ولكن ثمة مطولات كتبت على البحور الصافية ، كبحر الكامل أو بحر الوافر أو غيرهما ، من هذا النوع نجد مطولة "أماكن لها تاريخ" للشاعر عبدالمجيد فرغلي ، وعدد أبياتها 154 بيتاً، فقد جاءت موزونة على بحر الوافر ، ومطلعها :
أماكن ابتغي منها الوداعا وقد حان الوداع لها زماعا
وقد كتب الشاعر مطولته هذه تعبيراً عن حبه لأرض الذكريات الجميلة " صدفا "، ولا غرابة فى ذلك ، فقد عاش الشاعر فيها فترة طويلة ، حيث تداعت الذكريات الجميلة التى ربطت الشاعر بكثير من الأصدقاء ، والأحباب ، باعتبار أن المكان الذي يعينه الشاعر هو "ذلك الجزء من الواقع الذي مارس فيه الشاعر تجربته الحياتية والذي انزرع فى وجدان الشاعر وأعماقه وتجلى بالتالي في نشاطه الإبداعي، فهو مكان له حضور وخصائص مرئية ملموسة" (10) تتمثل فى هذا المكان (صدفا بأسيوط ) وما ينشأ عن ذلك من وعي الشاعر بهذا المكان ، وبخاصتة إذا كان يمثل " البيت" الذي يعد "بيت الأحلام والألفة" كما يقول غاستون باشلار (11) ، لاحظ وصف الشاعر لأشياء هذا البيت فى قوله :
أملي الطرف والنظرات حيرى بأي أبتدي هذا الوداعــا
أبا الحجرات من أرض وطوب تهشم باكياً وهوى إنصداعا
أم الآثـار من بـاقي أثــاث تنـاثر فى نواحيه تباعـا
أم الأبواب أم ســقف تداعت وقد بقي الحنين لها التياعا
أم الأنقـاض قد ثقفت يبــاباً عليها العنكوت شرى وباعا
أم الأسوار قـد أكلت جـذوراً وخـرَ أساسها يشكو الصداعا؟!
أم الـدورات من مـاء تراهـا على سفر وما تنوي ارتجاعا
هكذا يخلع الشاعر أحاسيسه الملتاعة وحنينه الممتزج بالشجن على أشياء البيت (الحجرات – الأبواب – السقف – الأسوار – دورات المياه) ، مما يعمق المعنى بالشعور تجاه هذه الذكريات ، وما يصاحبها من أسى ، فالبيت الأليف الذي "يركز الوجود داخل حدود تمنح الحماية" (12) - كما يقول غاستون باشلار – أصبح مجرد ذكريات مما يشي بانقطاع الشاعر عن المكان ، وأحالته – أى هذا المكان (الدار) – إلى نوع من الحنين الذي يعاوده بين الحين والآخر:
أأبقي بينها لا الدار داري ولا الأهلون إذ رمت ازدماعا
سآتي كلما سنحت ظروف أقـبل أرض ذاكراك انتجاعا
ثم يسرد الشاعر الأماكن والمنشآت والموافق العامة بصدفا كمركز الشرطة ، والمستشفى ، والإدارة التعليمية ، والمجلس المحلي الشعبي، ومجلس المدينة ورئيسها ، وإدارة الإسكان والتموين ، وكالنافورة التى يشبه تدفق مياها بالإنسان الكريم الجواد ، مما يؤكد على أن الشاعر – شأن شعراء المطولات فى العصر الحديث – يركز على الجزئيات ، ويقترب من الوصف والسرد والروح القصصي بصفة عامة .
****
بقيت جملة من الظواهر الفنية والمعنوية تتعلق بهذه المطولات ، منها أن هذه المطولات بالرغم من كثرة عدد أبيات كل مطولة فإنها تميزت بالتماسك العضوي ، وتوحد المشاعر ونمو العاطفة ، كما جاءت موسيقاها متناغمة مع مضامينها ، لا خلل فيها ولا اضطراب، سواء فيما يتعلق بالموسيقى الداخلية أو الموسيقى الخارجية ، بحيث إننا لم نعثر على كلمة مجتلبة للقافية أو فى غير موضعها ، مما يدل على موهبة الشاعر الفذة وثراء لغته ومخزونه الضخم من الألفاظ والتعبيرات ، تلك التى تميل - فى أغلبها – إلى اشتقاقات لغوية قلما نجد مثيلتها فى قصائد الشعراء المحدثين .
أما أنماط هذه المطولات ، فقد تنوعت بين الغنائية ، والقصصية ، والغنائية والقصصية معاً (13) ، وإن كانت الغنائية قاسماً مشتركاً بينها جميعاً ، لأن "الشعر يبدأ غنائياً مطلقاً ، ثم غنائياً مقيداً بحدث ثم يميل إلى الحكاية والحبكة والسرد والروح القصصي والملحمي"(14) ، وإن كانت النزعة القصصية تغلب على الغنائية فى تلك القصائد التى تنحو منحىً قصصياً .
أما موضوعات هذه المطولات ، فقد تنوعت بين الذاتية تارة ، وبين الاجتماعية والوطنية والإخوانية تارة أخرى ، هذا فضلاً عن أن ثمة مطولات تنتمي إلى أدب الخيال العلمي كمطولة "رحلة عبر الكواكب"، وهي من المطولات التى لم نقف أمامها بالدرس والتحليل، حيث يتعذر أن تنهض هذه الدراسة المحدودة بكل المطولات التى ضمها ديوان "عبير الذكريات" ولكن حسب هذه الدراسة أن تفتح الباب أمام الدارسين والنقاد لإعداد أكثر من دراسة حول المطولات الشعرية عند عبدالمجيد فرغلي ، تدرسها من عدة زوايا كالصورة الشعرية والتراكيب اللغوية والنزعة الدرامية ، هذا بالإضافة إلى أن بعض المطولات تنتمي إلى شعر الفكرة باعتباره – أي شعر الفكرة – نوعاً من الشعر لم يعرف من قبل ، حيث لم يعد مفهوم الشعر أنه مجرد مشاعر بل أصبح – كما يقول الشاعر الكبير "رلكة" – خبرات إنسانية وتجارب عميقة"(15) وهذا ما حدا بناقد كبير مثل الدكتور / عز الدين إسماعيل أن يقول : ((والحق أن القصيدة الطويلة – المطولة – هي الكشف الحقيقي فى ميدان الشعر العربي الحديث بعامة ، والإضافة الجديدة الجديرة بمزيد من الاهتمام فى وقتنا الحاضر ، وأقول : فى ميدان الشعر العربي الحديث بعامة))(16) أو كما يقول ناقد آخر : ((المطولة تعد خطوة متقدمة نحو تحرير القصيدة العربية من هيمنة الغنائية كموقف ولغة وتطور أسلوبي وموضوعي وإيقاعي وتركيبي)) (17)
ومن ثم ندرك أهمية الإنجاز الشعري العظيم الذي أضافه شاعرنا الراحل عبدالمجيد فرغلي إلى شعر المطولات العربية ، مما يجدر بنا أن نناشد الهيئات الثقافية ودور النشر فى مصر والوطن العربي الكبير أن تطبع هذا التراث الشعري الضخم الذي خلفه لنا الراحل عبدالمجيد فرغلي حتي يكون فى متناول القراء والدارسين والنقاد .
الهوامش والإحالات :
(1) انظر : د. جابر قميحة : صوت الإسلام فى شعر شوقي ، دار الهداية للطباعة والنشر والتوزيع – القاهرة 1987م (حيث تعرض بالنقد والتحليل للمطولة العمرية لحافظ إبراهيم ، وذكر أنها مطولة دون أن يعرفها كمصطلح شعري) .
(2) د. أنس داود : الأسطورة فى الشعر العربي الحديث ، مكتبة عين شمس – القاهرة 1975م ، صـ483 ، 484 .
(3) د. حلمي القاعود : محمد صلي الله عليه وسلم فى الشعر الحديث – دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع – المنصورة – ط . الأولي 1978م ، صـ452 .
(4) انظر : السيرة الذاتية التى أعدها ابن الشاعر : عماد عبدالمجيد فرغلي – ضمن كتاب "رحالة الشعر العربي عبدالمجيد فرغلي – دراسات نقدية - إقليم وسط وجنوب الصعيد الثقافي – أسيوط 2011م" .
(5) أحمد مجاهد : أشكال التناص الشعري دراسة فى توظيف الشخصيات التراثية – الهيئة المصرية العامة للكتاب – القاهرة 1998م – صـ8
(6) ديفيد بشبندر : نظرية الأدب المعاصر وقراءة الشعر – ترجمة عبدالمقصود عبدالكريم – الهيئة المصرية العامة للكتاب ، سلسلة الألف كتاب الثاني 206 القاهرة 1966م ص 8 .
(7) على حوم : أدوات جديدة فى التعبير الشعري المعاصر الشعر المصري نموذجاً دراسة نقدية – دولة الإمارات العربية المتحدة – حكومة الشارقة – دائرة الثقافة والإعلام 2000م – صـ28 .
(
د. عبده بدوي : فن المطولات عند شوقي وحافظ – مجلة الشعر (القاهرية) عدد أكتوبر 1983م ، صـ44
(9) انظر : د. عبده بدوي : المرجع السابق صـ44
(10) اعتدال عثمان : إضاءة النص – دار الحداثة للطباعة والنشر والتوزيع – بيروت – ط . الأولي 1988م ، صـ68
(11) انظر : غاستون باشلار : جماليات المكان – ترجمة غالب هلسا – المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع – بيروت – ط . الثانية 1984م ، صـ58
(12) انظر : غاستون باشلار : المرجع السابق ، صـ59
(13) انظر : دراستنا : المطولة الشعرية مفهومها وسماتها الفنية – مجلة العرب – دار اليمامة للبحث والنشر والتوزيع – الرياض – المملكة العربية السعودية عدد أكتوبر / نوفمبر 2010م ، صـ291
(14) د. جلال الخياط : الأصول الدرامية فى الشعر العربي – دار الرشيد للنشر – بغداد 1982م ، صـ57
(15) د. عز الدين إسماعيل : الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية – دار الفكر العربي – القاهرة – ط. الثالثة 1978م ، صـ250
(16) د. عز الدين إسماعيل : المرجع السابق ، صـ267
(17) حاتم الصكر : مرايا نرسيس الأنماط النوعية والتشكيلات البنائية لقصيدة السرد الحديثة – المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع – بيروت – ط. الأولي 1999م ، صـ180 ، 181