قراءة من الذاكرة ( 1 )
لواء شرطة ( م ) عبدالغني خلف الله
أجلس كابتن الطائرة الجامبو الضخمة علي أرضية مطار جوهانسبرج بجنوب افريقيا وكأنه يضع باقة من الورد علي النافذة فصفق له جميع الركاب وكأنه أحرز هدفاً في مرمي الخصم باستثناء راكبين هما أنا والإبن العزيز العميد الدكتور علي مدير قسم الكلاب الشرطية بالمباحث المركزية وكنا في رحلة عمل لذلك البلد الإفريقي العريق ..وعندما غادرنا المطار ودلفنا إلي الطريق المؤدي إلي العاصمة بريتوريا اعتقدت بأننا ربما نكون قد نزلنا عن طريق الخطأ بإحدي البلدان الأوربية ..فهذه المدينة جوهانسبرج هي تؤام لمدينة نيويورك في كل شيء بدءاً بناطحات السحاب وانتهاءاً بارتفاع معدلات الجريمة بدرجة جعلت وظيفة رجل الشرطة وظيفة شبه انتحارية ..فالشرطة ليس مكاناً للتسلية والترويح عن النفس أو الاستمتاع بالمهنة في جنوب أفريقيا ..إذ أنها تخسر سنوياً ما يزيد عن الأربعمائة شرطي في صراعها المرير ضد العصابات الإجرامية ومما يؤسف له أن ما تفقده ينظر إليه علي اساس أنه جزء من القوات الخاصة جيدة الإعداد والتدريب وبمهنية عالية جداً ..وتلزم الدولة هنالك كل شرطي بارتداء سترة واقية من الرصاص ولا تتحرك أي قوات من الشرطة لمكان أي حادث إلا وهي داخل عربة مصفحة ..فالعصابة من هؤلاء تدخل المنزل بقصد السرقة بيد أنها تقوم بإبادة قاطنيه قبل أن تبدأ في السرقة وعندما تنهي مهمتها تتصل بالشرطة لتقول لها هنالك حادث قتل في المنزل المعين وتعطيها العنوان ..في البداية كانت الشرطة تخف لمكان الحادث بصورة عفوية وتلقائية لتجد نفسها في ثنايا كمين محكم نصبته لها العصابة وكأن ما قتلت من المواطنين الأبرياء لم يكن كافياً فتفتح نيران اسلحتها علي الشرطة وتحدث بها خسائر فادحة .. لكن الشرطة انتبهت لذلك فصارت تتعامل بحذر مع تلك الممارسات الهمجية ..وعندما سألونا عن معدلات الجريمة بالسودان وبعد أن تعرفنا علي أوضاعهم ..قلنا لهم الحمد والشكر لله ..نحن لا نعاني ولا واحد بالمأئة من معاناتكم ..إذن لابد أنكم تمتلكون قدرات هائلة مكنتكم من السيطرة علي الجريمة في بلدكم واحتوائها ..أسطول كبير من العربات ومروحيات ومدرعات ..فنحن لدينا الكثير من الإمكانات لكننا نعجز عن فعل شيء ..سرب من الطائرات الشرطية يتكون من خمسين مروحية وخمسة عشرة طائرة للنقل وثلاثة مطارات بكل من كيب تاون وجوهانسبرج وديربان ولدينا أكبر معامل جنائية علي نطاق العالم وأكبر مركز للسجلات الجنائية وأكبر مركز لتوليد وتدريب الكلاب الشرطية وبالرغم من كل هذه المعينات المهولة فالجريمة في إطراد .. لدرجة أننا فكرنا في خلع الزي الرسمي لأنه يضعنا كأهداف للمجرمين ..قلنا لهم نحن نحتوي الجريمة بقدرات محدودة لكننا والحمد لله مجتمع متدين وله راي عام قوي ضد الجريمة ويملك رقابة ذاتية عليها ..والأسرة ممتدة ومتماسكة والفرد منا يعمل ألف حساب لسمعته وسمعة أسرته قبل الإقدام علي اي فعل إجرامي ..قالوا لنا كنا مثلكم مجتمع متدين وأسرنا مترابطة إلي أن جاء النظام الراسمالي فخلق الفروقات الطبقية والاستلاب الثقافي الذي أفقدنا بوصلتنا القبلية والأخلاقية ..والحل يا جماعه ؟ سألناهم في براءة ..الحل يكمن في الإستزادة من التدين والتماسك الأسري وخلق فرص العمل لكل راغب فيه والإنتعاش الإقتصادي وإيجاد الحلول للمشكلات السياسية والأجتماعية ..وإلا ..إلا ماذا؟ ..وإلا فالدور عليكم