أحدث المشاركات

قراءة فى بحث تجربة ميلغرام: التجربة التي صدمت العالم» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: اسلام رضا »»»»» مصير الكوكب على متن الشراع الشمسي» بقلم إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح » آخر مشاركة: إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح »»»»» وذُلّت الأعناق مقتطف من رواية قنابل الثقوب السوداء...» بقلم إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح » آخر مشاركة: إبراهيم أمين مؤمن مصطفى ح »»»»» الفصل الثاني من رواية وتستمر الحياة بين يأس و تفاؤل الأم الجريحة» بقلم بوشعيب محمد » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» و تستمر الحياة بين يأس و تفاؤل الفصل الأول من الرواية بقلم بوشعيب» بقلم بوشعيب محمد » آخر مشاركة: ناديه محمد الجابي »»»»» قراءة في بحث أمور قد لا تعرفها عن مستعمرة "إيلون موسك" المستقبلية» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: اسلام رضا »»»»» نعم القائد» بقلم عطية حسين » آخر مشاركة: احمد المعطي »»»»» قراءة في مقال يأجوج و مأجوج ... و حرب العوالم» بقلم اسلام رضا » آخر مشاركة: بوشعيب محمد »»»»» الطفل المشاكس بقلمي» بقلم بوشعيب محمد » آخر مشاركة: بوشعيب محمد »»»»» @ تَعَاويــذ فراشَــةٍ عَاشِقـَـة @» بقلم دوريس سمعان » آخر مشاركة: دوريس سمعان »»»»»

صفحة 2 من 4 الأولىالأولى 1234 الأخيرةالأخيرة
النتائج 11 إلى 20 من 34

الموضوع: آخر صفحة في كتاب الألم .. رواية .

  1. #11
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2010
    المشاركات : 1,149
    المواضيع : 174
    الردود : 1149
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي

    الحلقة الخامسة
    لم أعد أحتمل رؤية ( امتثال ) كل يوم وهي تترجل من عربة زوجها الدكتور جلال وتواجدنا داخل قاعة واحدة توحدنا الجغرافيا ويباعد بينناإحساس عارم بالإذلال .. أن يخونك شخص ما التقيته صدفة ..هذا شيء طبيعي ..أما أن يخونك شخص حفظته وساهمت في تشكيل شخصيته ووضعته في قائمة احتياجاتك الروحية والمادية مباشرة بعد الماء وقبل الهواء الذي تتنفسه ..فهذا شيء لا يحتمل ..لذلك تقدمت بطلب كتابة لعميد الكلية لتحويلي إلي المجموعة ( ب ) التي يقوم بتدريسها الدكتور يوسف بدلاً عن مجموعة الدكتور جلال متعللاً باكتظاظ القاعة وعدم قدرتي علي فهم ( الأكسنت ) أو الطريقة التي ينطق بها الدكتور جلال فوافق علي طلبي .. وفي ثاني يوم لاحظ أصدقائي عصام وطارق وزميلتنا علياء غيابي فاعتقدوا بأنني مريض أو شيء من هذا القبيل ..لكنهم تفاجأوا بي وأنا أغادر في الجهة المقابلة مع طلاب المجموعة ( ب ) ..شخص واحد لم يلحظ ذلك ولعل عشرات الأسئلة دارت بخلده عندما لاحظ غيابي في مكاني المفضل بالدرج الأخير ..إنها الرائعة المؤلمة ( امتثال ) .. سلمنا علي بعضنا البعض وسألوني عن سر وجودي مع المجموعة ( ب ) ..فشرحت لهم تفاصيل مقابلتي مع العميد وما حصل بعد ذلك ..لم تضيع علياء وقتاً فانحنت علي مقدمة إحدي العربات في باحة الكلية وأخرجت قلماَ وورقة سطرت عليها طلباً مماثلاً وتوجهت مباشرة نحو مكتب العميد لأجدها في ثاني يوم تجلس بقربي في قاعة المجموعة ( ب ) ..وتبعها في ثالث يوم طارق وعصام .. وعندما اكتشفت ( امتثال ) هروبنا من مجموعة الدكتور جلال واستحالة أن تفعل الشيء ذاته جُن جنونها وأصابها نوع غريب من الإحباط وبكت فوق كتف علياء آخر النهار مثل طفلٍ صغير وقالت لها ..ماذا فعلت لتتخلوا عني بهذه البساطة ..هل كفرت بالله وبسيدنا محمد ؟ ..لقد تزوجت علي سنة الله ورسوله ..والزواج قسمة ونصيب فلماذا تعاقبونني بهذه الطريقة ..قالت علياء ذلك وزادت بأنها تتمني لو تموت لتريحنا وترتاح ..وكان أول شيء فعلته بين المحاضرتين الأولي والثانية أن توجهت نحو مقعدها وقد بكرت هي في الدخول قبل الجميع ..كانت منكبة علي بعض الأوراق .. ولم تشعر باقترابي منها ..صباح الخير ..صباح ..صباح النور ..سلمت عليها بمحبة وصدق وبادلتني نفس الشعور ..كيفك ( امتثال ؟ ) ..آمل أن تكوني سعيدة مع الدكتور جلال ..وأنا ..وأنا ..أنت ماذا ؟ هكذا سألتني عيناها ..وأنا لست عاتب عليك بعد ..صدقيني يا امتثال أنت الآن أغلي عندي من أي وقت مضي تماماً كرقية أختي ..وإذا أساء الدكتور جلال معاملتك أو اضهدك لأي سبب في يوم من الأيام ..فقط كلمينا لنحضر أنا وبقية الشلة لنغتاله أو علي الأقل نعلمه كيف يتعلم أن يصون جوهرة غالية مثلك ..وكنت أعني كل كلمة أقولها ..نهضت من مكانها وقالت لي بحرارة ..أشكرك من كل قلبي يا قصي أشكرك جداً علي تفهمك لموقفي .. وفي الواقع ..وفي الواقع ..ثم لحظة صمت ودمعتان غاليتان انحدرتا علي وجنتيها الساحرتين ..كان الموقف فوق احتمالي وخفت أن يدخل أحد الزملاء فجأة فيسيء الظن بنا . .تركتها تكفكف دموعا ..وأنا أهمهم ..نشوفك ..اتفقنا ؟ ..اتفقنا..قالتها وهي تؤمي برأسها ونصف ابتسامة ارتسمت فوق شفتيها الورديتين .

    * * *

    لا تزال علاقتنا مع أعمامي في البلد قائمة بالرغم من الأحداث المروعة التي وقعت هنالك وسقوط عدد من أبناء عمومتي بين قتيل وجريح ..فقد كانوا بالرغم من كل ذلك الواقع المرير يرسلون لنا نصيب والدنا كل من التركة التي تليه ..بعض الأغنام والبلح والفول المصري والقمح ..لذلك عندما حضر عمي بشارة لمنزلنا اعتقدت أن زيارته تجيء في هذا الإطار ..بيد أنه فاجأ الجميع عندما شرح لأمي الغرض من زيارته ..إنه يطلب شقيقتي رقية لابنه المعتصم بالله وكان قد حضر معه في آخر زيارة لنا .. قالت له المعتصم علي العين والرأس وهو منا وإلينا ولكن رقية صغيرة علي الزواج وأمامها مشوار طويل في التعليم .. متي ستكمل الثانوي العالي وهي في السنةالأولي .. ومتي تلتحق بالجامعة وتتخرج ..والمعتصم ما شاء الله ولد ليهو قيمه وتاجر مواشي كبير ..خلينا ننتظر شويه يا عمده ..وأنت يا كبير العائلة ..ما رايك ؟ ..وكان يوجه الحديث لي ..والله يا عم أنا أتشرف بالمعتصم بالله زوج لشقيقتي ..فهو شاب خلوق ومهذب وهو في النهاية إبن عمي ..أري أن نسأل رقية عن رايها فهي صاحبة الشأن ..ثم .. كيف نقيم عرساً وأبناء عمومتي من الجانبين ينتظرون تنفيذ أحكاماً بالإعدام ..ألا تري يا عنمي أن الوقت غير مناسب للأعراس ..صحيح نسيت أن أخبركم ..لقد توسط الشيخ ( الضهبان ) بارك الله فيهو بيننا وأبرم صلحاً برعاية حاكم الأقليم يتولي بموجبه شقيقي العمده ( خضير) العمودية وأمثّل أنا أهل الدائرة في الانتخابات القادمة وقد بارك الرئيس جعفر النميري ذلك الصلح وأصدر عفواً شاملاً عن المحكومين ..لقد أقمنا احتفالاً كبيراً بهذه المناسبة ..يا الله كيف فات علينا دعوتكم ..أصابني نوع من الأحباط من القضية برمتها خطوبة شقيقتي واحتمال أن توافق وتقطع تعليمها ..لماذا ؟ ..ألم توافق ( امتثال ) بالزواج من الدكتور جلال خلال أيام ..لكن ما أحبطني حقيقة تجاهل أعمامي لنا .. نحن من نحن .. والله آسف وتمسحوها لينا في وجوهنا وليكم عليّ نعزمكم ونحتفل معاكم أسبوع كامل ..اسبوع ؟ ..ما قصة هذا ( الأسبوع ) معك يا قصي ..تتزوج امتثال خلال اسبوع ويحتفل بكم أعمامك لمدة أسبوع ..ها قد عادت رقية من المذاكرة ..أهلاً عمي بشاره ..كيفك .. إن شاء ناس البلد بخير ..بخير يا عروستنا ..أقصد يا بنيتي .. رقية قبل ما تقعدي دايرك في كلمتين .. أخذتها خارج الغرفة وحملت لها السبب من زيارة عمي ..هل تمزح يا قصي ..أم أن هذه نكته سخيفه ..عشان كدااا .. يا عروستنا ويا بتنا ..لا بالله .. معقول أتزوج وأنا في أولي عالي وأترك مستقبلي ودراستي ..؟ ..المهم رأيك شنو ..أرفض رفضاً باتاً بالرغم من احترامي وتقديري لابن عمي المعتصم فهو ( زول جنتلمان ) ..يعني هذا رأيك الأخير ..طبعاً يا قصي ..تركتها وهي تردد يا الله ..دي مفاجآت شنو دي ؟ .. قلت لعمي بطريقة الكبار ..والله يا عمي كان لينا عظيم الشرف لكن القسمه ما ساقت ..رقية ترغب بالدراسة .. لم تتفوه أمي بكلمة واحدة وتحولت إلي قطعة حجر لا تري ولا تسمع بعد أن جاء عمي علي ذكر الشيخ (الضهبان ) ..هل يكون هو أبو قصي ؟ ..استغفر الله العظيم

    هذا موسم الأحلام المؤجلة بل والميتة ..ما الذي بيديك لتؤجله وقد انتهي كل شيء ..انتهي الدرس يا غبي ..اين سمعت هذا الكلام ..في الإذاعة ؟ ..ربما .. أم في التلفاز والصحف اليومية ..هل أنا غبي فعلاً.. اذهب كل يوم إلي الجامعة وأتظاهر أمام زملائي لا سيما امتثال بأن كل شيء عال العال ..أضحك بكل العنفوان لأوهم الجميع بأنني بخير وفي الواقع كنت إنما أضحك علي نفسي وعلي حالي ..وعلي أية حال لن أذهب إلي الجامعة اليوم .. سأتسكع في مكان ما ..مكان يمكنني أن أرهن فيه أحزاني ..توجهت صوب محطة السكة حديد إنه أفضل مكان لذرف دموع الوداع ..وباحة لتلويحة متعبة بمنديل ..يطير بلا جناحين في فضاء المحطة ليعود بعد أن تطلق القاطرة صافرتها الحزينة ليكفكف دمعة ما تسربت من بين زوايا العيون ..باااي ..مع السلامه ..ما تنسي تتصل ..الجوابات ..نعم ..؟! ..قلت ليك الجوابات ..ما تنسي تكتب لي بعد ما تصل ..بيد أن كلماتها ارتطمت بجدار طقطقات عجلات القاطره ..وفي لمحة واحدة ..تباعدت عيون وأحضان ولم تبق سوي الذكريات ..لمحتها وهي تنتحب بشدة والزفرات ترجها رجاً الجوابات ؟! ..مع من تود التواصل هذه الأنيقة الصغيرة .زيا الله ..يا لنعموتها وإشراقها ....علي مهلك يا صغيرتي علي مهلك يا ..مي ..اسمي مي ..هل تعرفني ؟ ..أم حدث والتقينا من قبل ..لا ..أنا لا أعرفك ..لكن دموعك من بين جميع المودعين شدتني إليك ..هل أنت عاشقة ..أم ..آسف إذا سألت يعني ..لا ليس كما تتوقع ..إنه شقيقي الأكبر والوحيد يسافر إلي كوستي ومنها بالباخرة للجنوب ..هل هو جندي في الجيش ؟..لا في البوليس ..أخشي أّلا أراه ثانية ..لقد تخرج حديثاً من كلية البوليس ونقلوه إلي ملكال ..ملكال مدينة عظيمة وكبيره ..مثل الأبيض وكسلا والقضارف فلا داعي للخوف ..أمي لم تتمكن من الحضور لوداعه لأنها مريضة ولكنها كانت تبكي طول الليل ..ووالدك ..أين والدك ؟ ..والدي توفي منذ عام ..كان يتلهف لرؤية شقيقي (سراج ) وهو يرتدي البزة العسكرية ..لكن سائق شاحنة متهورة دهسه وهو يهم بالدخول إلي مكتبه ..كان يعمل في حقل المحاماه ..ولكن لماذا اتكلم معك بهذه الصراحة ..من أنت ؟ ..حتي أنني لا أعرف اسمك ..أنا قصي وأدرس في الجامعة كلية الآداب ..ويتيم أيضاُ ..نحن إذن يتيمان في المدينة ..وأخيراً عادت الإبتسامة إلي فمك الرقيق يا مي ..تعرف يا قصي ..ما جعلني أطمئن إليك ذلك الشبه الرهيب بينك وبين سراج ..علي الأقل في الشكل بيد أنه عصبي ومشاكس وقوي الشكيمة وهذا ما يجعلني أخاف عليه .. سراج إنسان حبيب إلي قلبي ولا نريد أنا ووالدتي أن نفقده في حرب الجنوب .. ليت السلام يعم البلد ليعود لنا سراج سالماً ..أتمني ذلك ..ولكن قل لي ..من كنت تودع ..لا أحد ..جئت لأرهن أحزاني هنا حيث الدموع والمناديل ولحظات الفراق الصعبة ..وأظنني وجدت الشخص المناسب لأودعه أحزاني ..ولماذا أنت حزين ؟ ..تزوجت حبيبتي وزميلتي من شخص آخر ..ما هذا الهراء يا .... قصي .. يا قصي ..تعرف ؟ ..اسمك صعب جداً ..أنت في مقتبل العمر وأمامك الكثير من الفرص ..زواج حبيبتك لا يعني نهاية العالم ..أها ..هنا فيلسوفة أخري تماماً مثل شقيقتي رقيه ..اختك اسمها رقيه ..نعم ..اسم حبوبات لكنه حلو وهو في البداية والنهاية اسم إحدي كريمات الرسول صلي الله عليه وسلم ..يا سلام عليك يا مي ..مذاكره كويس ..جبت 75% ورفضت التقديم السنه الفاتت وسأعود لأجلس ثانية لأدخل الطب ..موفقه يا مي ..طيب ..عندك مانع نمشي لأي مكان نتعرف فيهو علي بعض أكثر ..زي وين يعني ؟ ..جنينة الحيوانات مثلاً ..والله فكره هائله ..علي الأقل نخفف الضغوط الواقعه علينا ..واقعه علينا بس ؟ ..قولي عامله فينا عمايل ..وضحكنا بعفوية لا تصدق ..أخيراً ضحكنا بصدق وليس إدعاءاً .

    * **

  2. #12
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    الدولة : على أرض العروبة
    المشاركات : 34,923
    المواضيع : 293
    الردود : 34923
    المعدل اليومي : 6.75

    افتراضي

    متابعون أيها الكريم
    فلا تتأخر علينا بالتالي من الأجزاء

    دمت متألقا
    تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

  3. #13

  4. #14
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2010
    المشاركات : 1,149
    المواضيع : 174
    الردود : 1149
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي

    الحلقة السادسة
    طلبت من امتثال أن نخرج في نزهة لدقائق خارج أسوار الجامعة ..قلت لها أود لو نتحدث قليلاً ..اشعر بأنني سأختنق ..بعدك عني هذا يقتلني ..قالت لي موافقه ..فقط أنتظرني حتي أنهي بعض الفروض ..أي فروض ؟ ..سألتها بانزعاج واضح ..بحث حول قصة ( روميو وجوليت ) طلبه مني الدكتور ..قصدك الدكتور جلال ..؟ ..بالضبط ..ولكن ما دخل( روميو وجوليت) بمقرر السنة الثانية ..هذا جزء من مقرر السنة الثالثة ..لا أعرف ..عموماً لا بأس ..فلنخرج ..توجهنا نحو الشاطيء ..وجلسنا لساعة كاملة وربما أكثر ..أفصحت لها عما يجيش بخاطري ..حدثتها عن طيفها الذي ما أنفك يزورني في أحلامي ومن ثمّ يؤرقني حتي الفجر ..قلت لها كلاماً كثيراً أضحكها معظم الوقت وأحياناً أبكاها ..قتلتني نهنهاتها واضطرابها ..قدمت لها منديلاً لتكفكف دموعها وتمنيت لو كنت أنا ذلك المنديل ..والآن قصي ..قصي ..هل تسمعني أنت هناك ؟ نعم ..نعم ..كيف نعرب هذه الجملة ( معللتي بالوصل والموت دونه ) ..نعم دكتور ..معللتي ..معللتي ..لعلك كنت شارداً أثناء المحاضرة صحيح ..إنه علي حق..كانت أحلام يقظة لا أخالها تتحقق .. إجابتي جاءت خاطئة تماماً سرت علي إثرها همهمة وعبارات تندر وسخرية من الزملاء والزميلات ..علياء التقطت القفاز وأجابت نياية عني ..وما بين المحاضرتين قالت لي ..ما بك قصي ؟ ..كيف تشرد بهذا الشكل وأنت في المحاضرة ..لا ..لا ..قلت لها ..إنما كنت أعاني من صداع بسيط بسبب الأرق ..لم أنم جيداً ليلة البارحة ..أنت تفكر بامتثال ..صاح ..؟ لا علياء ولم أفكر بها ؟..امتثال خرجت من حياتي ومن تفكيري ..لا يبدو ذلك يا قصي ..علي العموم أنا جوعانه هل ترافقني للكافتيريا ؟ ..بالطبع أفعل ..يبدو أن لدينا ضيوف ..نسرين ..طالبه بالسنة الأولي اقتصاد ..عصام وهو يقدمها لنا ..سلافه ..طالبة بالسنة الثالثة حقوق ..طارق وهو يحذو حذو عصام ..أهلاً بيكم ..اتشرفنا ..علياء زميله في ثانية آداب ..الآن حان دوري أنا لأقدم قصي ..قصي يا شباب زميلنا في ثانية آداب ..اتشرفنا ..وأنا لن تفوتني هذه الرفقة الرائعة ..امتثال وهي تفرد يدها تسلم علسي طارق ثم عصام ونسرين وسلافة وأخيراً توقفت لدي وهي تتمتم ..حقو الزول ما يسلم عليك يا قصي ..اتفضلوا يا جماعه واقفين ليه ..علياء وكأنها بصدد ترأس الإجتماع ..ايه المفاجأة دي يا امتثال ..؟ ..طارق وهو يسأل ربما بالإنابة عني ..ليك مده ما فطرت معانا ..أهو جيت وتقدرو تعتبروني عازماكم علي شرف الآنستين ..منو ..؟ ..نسرين وسلافة .. طارق يعرفها علي الزميلات الجدد .. ومضي الوقت سريعاً دون أن نشعر به وكانت سلافة تطوف بنا حول العالم وتحكي لنا مشاهداتها وذكريات طفولتها في جنيفا وباريس وأكرا ..أنا شخصياً لم أغادر السودان ولا مرة واحدة ولا أعرف شكل الطائرة من الداخل ..وطبعاً البقية هي الأخري خارج إطار العالم الجديد .. نسرين من الجزيرة وطارق من الشرق ( أدروب يعني ) ..إيتنانينا يا طارق ..نسرين وهي تبدأ مشوارها مع طارق ..شنو يعني ( إيتنينا ) ؟! ..معناها السلام عليكم ..حلوه مش ؟! ..سلافه تعلق علي المفردة الهدندويه ..بالمناسبه أنا عشت في كسلا حوالي شهر ..والمناسبه شنو ..لا أبداّ مشيت قعدت مع شقيقتي محاسن وهي تضع مولودها الأول ..لكن المسائل دي مهمةالأمهمات ..أمي متوفيه ..رحمها الله ..هتفنا بصوت واحد ..أنا آسفه يا سلافه نسرين الرائعة وقد أرخت لدموعها العنان .. وعصام القادم من كردفان يسفح كل حنان الربي والوديان السمراء أمام عينيها ويطوقها بإحساس لافت ..خلاص يا نسرين ..خلاص ..في الأول ما تسالني ليه أنا ببكي ..لأني برضو فقدت الوالده الله يرحمها ..رحمها الله هتفنا مرة أخري وبصوت لافت ..دي جامعه ولاّ دار أيتام ..طارق أدروب وهو يضفي علينا شيئاً من المرح ..في البداية ضحكت امتثال يصوت عالٍ لكنها وضعت يدها علي فمها وهي تحرك عينيها يمنة ويسرة ليطلق الجميع لأنفسهم العنان فضحكنا كلنا ..في البداية كانت الضحكات الحبيسة تأني فرادي لتنتظم الجميع الشيء الذي أثار انتباه كل الحاضرين بالكافتيريا .. ..لكن شخصاً ما أراد لتلك الدقائق المترعة بالروعة أن تنتهي إلي لحظة صمت وألم ..فقد ظهر الدكتور جلال في مدخل الكافتيريا وصرخ في وجه امتثال في حدة وغلظة ..امتثال ..تعالي هنا بسرعة ..فوجئت المسكينة بصراخه وزعيقه في وجهها واعتراها إحساس جارف بالحرج والمهانة فقامت علي عجل تلملم أشيائها فاصطدمت بكوب العصير القابع أمامها ليأخذ العصير طريقه عبر سطح الطاولة مباشرة نحو ملابسي .. هل هي رسالة من نوع جديد ؟ ..هُرعت نسرين الرائعة تخرج منديل لها من حقيبتها تساعدني في إزالة البلل الذي لحق بملابسي وهي تردد حصل خير يا جماعه ..إندفق الشر ..أما إمتثال فقد رددت عبارتها التي أحفظها عن ظهر قلب ..أنا آسفه يا جماعه ..أنا آسفه ..دائماً آسفه وأنا يا حياة عمري ..كيف أبدو ؟..وتناهت إلي اسماعنا عبارات الدكتور جلال وهو يعنف امتثال ..كم مره قلت ليك تفطري في المكتب ؟ .

    وإلام ستظل تحمل فوق ظهرك ( صخرة سيزيف ) هذه ..لقد تزوجت إمتثال وأضحت خارج حياتك ..لا لم تخرج ..بل خرجت ..قلت لك لم تخرج ..إذن إذهب وتكوم خارج غرفة نومها لتكفكف دموعها وتمسح أحزانها وهي تغدو وتروح ..والدكتور جلال يسومها سوء العذاب بعد أن تأكد له أنها معه فقط بجسدها وليس قلبها ..تحرر يا صديقي من استعمار إمتثال وعد إلي تلك اللحظات المترعة بالروعة مع ( مي ) في حديقة الحيوانات .. يا لعذوبة الطفولة في عينيها ..بل آه من الدهشة والإنبهار وهي تتقافز وتعدو أمامك من حظيرة إلي حظيرة كفراشة جذلي ترفرف للمطر ..هل تتذكر يا قصي تلك العاصفة من الحبور التي ظللت وجهها الصغير وهي تضع حبات ( التسالي ) في كف الشمبانزي ..والمجنون يمنحها ابتسامة عريضة ..لعله قرأها بنفس اللغة التي أفهمها وتاه في سطور انفعالاتها كما أفعل .
    ولدي باب منزلهم المتواضع ألحّت علي علي أن أدخل واسلم علي الوالده ..من وين إنتو يا ولدي ؟ ..من الأرياف ..يعني إنتو زينا ..(نحنو جات) من حلفا القديمة ..وتركت للعجوز المجروحة بذكريات الرحيل المر تفضفض خلجاتها وتستعيد ذكريات طفولتها هنالك عند ضفاف النيل القادم من الجنة .
    علياء تلتف حولي كالسوار للمعصم..تضبط إيقاع يومي كسكرتيرة خاصة وليست كزميلة..هذا الأهتمام الشديد أربكني ..تحفظ جدول المحاضرات ..وتنتظر مقدمي لدي بوابة الجامعة ولا تدخل إلا وهي معي..لماذا وكيف ؟!! ..نعرج علي ( كنبة ) نائية بأحد أركان الجامعة تحت شجيرة بلوط عتيقة فتأمرني بالجلوس نذاكر دروس الأمس ونستعد لمحاضرات اليوم والسمنارات والبحوث التي يطلبها منا الأساتذة ..هذه الصبية جادة ومنضبطة برغم جمالها الساحر ..لو أن فتاة أخري تملك قوام وجمال علياء لأصبح شغلها الشاغل تعذيب الآخرين ..لكنها تتجاهل حقيقة أنها جميلة وملفتة للأنظار ..وكانت رؤية أعناق الزملاء تلتفت نحونا لدرجة أن بعضهم تتعثر خطاه تشعرني بالغضب ..هل هي الغيرة يا قصي ؟! .. ربما ..وعليّ أن أعترف بأن علياء تتشرنق حولي في لطفٍ وتؤدة يوماً بعد يوم ..هل ستذهب معي إلي الندوة يا قصي ؟ ..وما هو الموضوع ؟ ..تجربة عبد الناصر في الحكم ..تعلمين يا علياء أنني لست مهتماً بأمور السياسة ..أعرف ..ولهذا السبب بت تتهرب من صديقك أسامة ..أسامة شاب لطيف للغاية لكنه ما أنفك يدعوني للانضمام للأخوان ..وأنا أيضاً مثلك ..فترت علاقتي بصديقتي سامية لأنها تلمح لي وبإلحاح غريب للأصطفاف مع الشيوعين .. قالت لي إنها رغبة الرفاق بالجامعة ..ألا يوجد حزب وسط ؟ ..بالطبع ..فهنالك حزب البعث العربي ..حزب البعث ؟! ..لا تقل لي بأنك لم تسمع بحزب البعث أو أنك لا تستمع لخطب زعيمه ( ميشيل عفلق ) ..هل أنت متأكدة بأن هذا هو اسمه الصحيح ..آمل ألاّ يكون اسم وزير خارجية لبنان..لا ..لا ..أظنه هو ..حزب البعث يا قصي هو بالأصل سوري عراقي لكنه يجتذب الكثير من الشباب العرب هذه الأيام كحزب منافس للقوميين العرب والأخوان والشيوعيين ..تعرفي يا علياء ..بطلي الخطب الرنانة هذه يااا ..ماذا ؟! .. رنانه ..ودعينا ندخل سينما ال ( بي . أن ) ..والتذكرة علي حسابي يا شيخة ..شيخه أنا ؟!! ..مقبوله منك ..والفلم اسمو شنو ..صوت الموسيقي ..لم نتأخر في الوصول إلي سينما النيل الأزرق ..ذهبنا سيراً علي الأقدام علي طول شارع النيل نثرثر في مواضيع شتي وغير مرتبة..كنت مشوش الذهن وهذه الجميلة تسير إلي جواري ..تأملنا لحظة بزوغ القمر واتفقنا أنه وبعد التخرج يغادر كل واحد منا مكانه مهما كانت الظروف ومهما تكن أهمية من هم في معيته لتأمل البدر لحظة اكتماله ويقول ..يقول ماذا ؟ يقول كيفك يا علياء ؟ ..كيفك يا قصي ؟ مشتاق ليك ومشتاق لأيام الجامعة ..ساعتها تكون آلام الرطوبة وضجة العيال قد هدت حيلي ..حيلك ..حيلك يا قصي ..لقد ذهبت بعيداً جداً إلي آخر نقطة في المستقبل ..والحاضر يا قصي ألا يستحق منك ولو التفاتة قصيرة ..أم أن امتثال أصابتك بعمي الألوان ؟..لا والله يا علياء .. يستحق وأكثر ..بالجد يستحق ..وهكذا مضي الوقت ولم نشعر به كما أننا لم نتابع مجريات الفلم ..بل هوّم كل منا في أحلامه السرية وطموحاته الغائبة ..وعند مدخل داخلية البنات ودعتها وكأنني سأفارقها للأبد وليس بعد سويعات قلائل ..ولدي حضوري صباح الغد أخذتني إلي ذلك الركن القصي وقالت لي في غضب شديد لم أعهده فيها .. ليتنا لم ندخل السينما معاً يا قصي ..لماذا وما المشكلة ؟ .. إنها امتثال ..قابلتها قبل مجيئك وسلمت عليها بحرارة وود كعادتنا دائماً بيد أنها سلمت عليّ بفتور شديد ..واختصرتني بحجة أنها علي عجلة من أمرها ..كانت في ما مضي تأخذني لساعات تحكي لي أدق أسرارها وبالتفاصيل المملة ..بدأت كلامها بالحديث عن فلم البارحة وكيف أنها قد شاهدته مع الدكتور جلال .. حدثتني عن الوفاء المفقود في هذا الزمان وكأنها تريد أن تقول لي ..( لا تكذبي إني رايتكما معاً ) ..سرعان ما أخذت مكاني يا صديقتي الغالية مع قصي ..قلت لها إذا كنت تلمّحين إلي أن ثمة علاقة ما تربطني مع قصي فإنها مجرد زمالة لا أكثر ..وأنني لا أفكر في هذه المرحلة سوي في دراستي فقط ..لكنها لم تقتنع ..لا بد أن السيدة امتثال لا تزال مغرمة بك يا أستاذ قصي ..حديثها عنك وبحماسة متدفقة ليس له تفسير سوي أنها لا تزال تحبك ..لا ..لا يا علياء أنت مخطئة تماماً ..امتثال خرجت من حياتي ..تماماً يا قصي ؟! ..عفواً علياء ..استطيع أن أقول بأن ثمة جراح يصعب أن تلتئم بالسرعة المرجوة ولكنها تأخذ وقتها ..لا أريد لتلك الجراح أن تنزف مجدداً لذلك سأتركها للزمن فهو كفيل بها ..وأنت ماذا تظنين ؟ ..هل كنت صادقة مع نفسك عندما شكلت العلاقة التي تربط بيننا علي أنها زماله فقط ؟ وهل يملك المرء حرية اتخاذ القرارات فيما يخص علاقاته بالآخرين دون التعرف علي وجهة نظرهم ؟ ..ماذا تقصد بكلامك هذا يا قصي ؟ ..ما خلاص أنت حللت واستنتجت وشكلت الإطار العام لما بيننا ..كنت أطمع علي الأقل في أن تنقليني إلي مرتبة الأصدقاء مثلاً ..فإذا بك تقيّمين العلاقة التي تربطنا بأنها مجرد زماله ..اسمع يا قصي ..هنالك مشاعر لا تحتمل الأخذ والرد وأي إفصاح عنها يقلل من روعتها ..هل تفهمني ؟ ..يعني .. 50% ..لا بأس يا قصي ..( الباص مارك ) في أمور الحياة يعادل ( كريدت ) في الجامعات.

  5. #15
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2010
    المشاركات : 1,149
    المواضيع : 174
    الردود : 1149
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي

    الحلقة السابعة
    إقتربنا من إجازة نصف العام ..طارق أدروب قررتمضيتها في الشرق مع أهله الهدندوة ..صدقني يا قصي أنا لا أشعر بالراحة إلا في أربعة مواضع ..عندما أكون علي ظهر ناقتي أذوب في ثنايا السهول الخضراء ..أو عندما أسامر نهر القاش وهو يداعب الشاطيء بجنونه الغامر ..وعندما أجلس تحت شجيرة ظليلة في غابة ( هداليا ) ..أصنع لنفسي كوباً من القهوة وأتصيد الظلال ..والموضع الرابع يا أدروب لعلك نسيته ..الموضع الرابع يا صديقي الصدوق قصي هو الأهم وهو عندما أكون وسط جميلات الشرق أغني وأرقص رقصة السيف ..رقصة كسلا ..لذلك لا مكان لي في الخرطوم وأنا في إجازة ..أما نسرين وعصام فقد قررا قضاء الإجازة بالخرطوم وخططا لقراءة نصف مكتبة ( البريتش كاونسل ) معاً ..عصام يلقب نسرين بالواحة ..ويسأل عنها عندما تتأخر في الوصول للجامعة ..يا أخوانا الواحه ما عاودت .. ثم يتابع .. ( واحة البشيري )..هلا..هلا ..يا بت الجزيره ..يا بحر الدميره ..وقد يغني ( فتيل البخاخ ..وقع مني راح ..إن شاء كان ساعتين ..أنا أمشي وين ..) ..ما جننتنا جن يا عصام بفتيلك ده .. سلافه وهي تعلق في امتعاض ..وأنت يا ( اسير الغرام يا قلبي ) ..أين ستذهب ؟! ..أما أنا فسأذهب للبلد أيضاً فقد توطدت علاقتنا بابن عمي المعتصم بالله ..ما شاء الله عليهو ..أصبح من تجار المواشي المرموقين واشتري عربة بوكس آخر موديل ..والدتي سمحت لي بالسفر بعد أن اطمأنت لصحبة المعتصم والذي صار تقريباً فرداً من العائلة ..ينزل عندنا كلما أتي لمتابعة إجراءات تصدير الماشية لدول الخليج ويغدق علينا الأموال باستفاضة بالرغم من أننا لا نحتاج لدعم يذكر سيما ومندوب المنظمة لا يتأخر في توصيل الهبة المقررة لنا أول كل شهر..لكننا وفي آخر يوم للدراسة وبينما نحن نتأهب للدخول لقاعة المحاضرات لمحت خيال فتاتين تتقدمان نحونا وعندما اقتربتا وجدت أن البنت الأنيقة التي تركض باتجاهي ليست سوي الغالية ( مي ) ..مي !!! ..مش معقول ..إزيك يا قصي ..كيف يعني ولا مره واحده تسأل علينا ..الوالدة مصممه أني أزورك في الجامعة وأطمئنها عليك ..عقدت كلتا يديها أمام صدرها وهي تتحرك بكل الإتجاهات تنشر الدهشة والذهول وكأن الجميع يقول في سره ..يا لهذه الصبية الحلوة ويا لكل هذا النشاط ..كانت تتفجر حيوية ومرحاً ..قلت لها إنتظري سآتي معك ..قالت لي ..لا ..ما في داعي ..خالي ينتظرني بعربته عند بوابة الجامعة ..اشوف وشك بخير ..وإنتي كمان ..علياء سألتني باضطراب واضح ..دي أختك ؟ ..لا ..وإلا كنت قد حدثتكم عنها ..إنها من أقاربنا ..قرابه بعيده وكده ..لكن القلق لم يبارح وجهها الصبوح ..أما امتثال فقد حدجتنا من الجانب المقابل بنظرات مستغربة ذلك الموقف ..أدروب علق قائلاً ..هل هذه صبية أم كرة تنس ؟! ..هكذا أدروب ..دائما يبعث السرور في أنفسنا بتعليقاته المرحة .

    * * *
    تدحرجنا أنا والمعتصم في الطريق الترابية الوعرة وسط الوديان والمنعطفات الجبلية باتجاه قريتنا ..وكانت لحظات الفراق قاسية علي الوالدة وكذلك علي شقيقتي ( رقية ) ..فهي المرة الأولي التي أغادر فيها المنزل لمكان ما خارج العاصمة بدون رفقتها الحلوة ..وظلت طوال الليل مسهدة لا يغمض لها جفن وهي توصي المعتصم عليّ وكأنني طفل في السادسة من العمر وليس طالباً جامعياً في السنة الثانية بكلية الآداب لي راي وموقف حتي من رئيس الجمهورية وسياسات الحكومة واتحاد طلاب الجامعة ..لقد كبرت يا أماه وليتك تستوعبين هذه الحقيقة ..أنا أقدر لك حرصك وخوفك عليّ يا حياتي ولكن لا تبالغي في إظهار قلقك بهذه الطريقة ..يوماً ما ستدرك مقدار ما أعانيه يا قصي ..يوماً ما ستدركون جميعاً ما معني أن يكون لك ولد وتكون لك بنت ..أنت ولدي الوحيد ورجل هذا المنزل خاصة بعد وفاة المرحوم أبوك ..كيف تريدني أن أتجمل بالصبر بينما أنا أموت شفقة عليك يا ولدي ..ربما أمي معها حق في كل الذي قالته ..فنحن مهما كبرنا نظل أطفالاً بنظر آبائنا وأمهاتنا .
    ..استقبلتني القرية بحفاوة لا تصدق وكأنني زعيمها وسيدها الأوحد ..ربما كانوا يجدون في شخصيّ المتواضع ملامح أبي المرحوم العمدة ..كان ذلك واضحاً من الدموع التي ذرفت والآهات والزفرات التي خرجت من صميم الحنايا ..لله دركم يا أهلي وعشيرتي ..لقد اكتشفت ومنذ الوهلة الأولي أن الإنسان لا يساوي شيئاً بدون أهله وعشيرته الأقربين ..وبعد أن استعدنا حيويتنا ونشاطنا مما ألم بهما نتيجة المشوار القاسي بين الخرطوم والقرية تتبعنا قطعان الماشية أنا والمعتصم ليشتري ما يحتاجه منها للتصدير ..واكتشفت أنه أصبح خبيراً ضليعاً في هذا المجال ..كان يكشف عليها وكأنه طبيب بيطري وكلما نؤمن كمية بقدر ما يسعه صندوق العربة نعود أدراجنا للقرية لنعاود الترحال من جديد ..وكم كانت دهشتي عندما أخرج المعتصم بندقيته ذات صباح وظل يطارد سرباً من الغزلان حتي ضحي ذلك اليوم لنظفر باثنتين منهما ..لم استمتع كثيراً بالصيد وقد تعمدت عدم إصابة إحداهن وكانت في محاذاة العربة تماماً ..الشيء الذي أحبط المعتصم ..وعمدت النسوة إلي تجهيز وجبة مميزة من لحم الغزلان وسهرنا علي الغناء ينبعث من مسجل العربة ..وكان للفنان المعروف ( أحمد المصطفي ) ..أيام بتمر ووراها ليالي .. سقتني المر وأبت ترتالي ..أظنني أنا المقصود بهذا الكلام ..ولا أدري لماذا أعادني الغناء مباشرة إلي امتثال وليس علياء ..لكن أغنية أخري سجنتني في باحة طيفها ..في سكون الليل ..الليل ..دعنا نجتلي الصمت الرهيب ..إن في عينيك معنيً فوق إدراكي عجيب ..وتذكرت حديثها لي عن القمر ولحظة اكتماله وكان في واقع الأمر يكمل استدارته في تلكم اللحظة من تلك الأمسية الصيفية الرائعة وقد لف السكون القرية إلا من صوت المسجل وغثاء الشياه ونباح الكلاب وزغرودة سابحة في الفضاء أتتنا من الشاطيء الآخر ..هذا هو عرس الشيخ ابراهيم من ( هناء ) ذات العشرين ربيعاً ..والله إني لأغبط الشيخ ابراهيم إبن الستين سنة وهو يتزوج من أجمل بنات الناحية ..فتاة كثيرة الصفات ..فهي بجانب جمالها الفائق معلمة وسليلة أسرة عريقة بالجانب الشرقي وسرعان ما واتتنا أصوات النحاس والطلقات النارية ..لتؤكد لنا ما ذهب إليه المعتصم .
    مرت أيام الإجازة هانئة لا يعكر صفوها شيء ..بيد أن حدثاً استثنائياً هو انتخابات الدائرة المؤهلة لمجلس الشعب بالخرطوم فجرت النزاع القديم بين أعمامي من جديد بالرغم من الصلح المكتوب الذي شهده حاكم الإقليم ..فقد أصّر عمي العمدة ( خضير ) علي الترشح للإنتخابات مخالفاً بذلك نصوص الصلح التي قضت بأن يتبؤا هو منصب العمده ويترشح عمي الماهل للمجلس التشريعي ..ودار صراع خفي واستقطاب حاد عندما ترشح كلاهما ..وفي صبيحة اليوم المحدد للتصويت تجمع عدد كبير من رهط وعشيرة الطرفين للإدلاء باصواتهم ..وكنت قد بذلت جهوداً جبارة للحيلولة دون وقوع ذلك النزاع مستثمراً مكانة والدي المرحوم والعمدة السابق غير أن نداءاتي ذهبت أدراج الرياح ..وفي لحظة حاسمة عندما أدرك أنصار عمي الماهل بأن أصوات العمدة قد باتت أضعافاً مضاعفة وقد جذبها بريق السلطة كما في كل أركان الدنيا هجم أبناء عمي الماهل ومرافقيهم علي غرفة الاقتراع بالمدرسة الأولية واقتحموها وحطموا الصندوق وأشعلوا النار في المكان الشيء الذي أدي لتدخل الشرطة وفض الاشتباك بين الطرفين وقد تطور من مجرد الملاسنات والاشتباك بالأيدي إلي تسبيب الأذي بالعصي والفئوس .. وكان موقفاً مؤسفاً لم أكن أتصور بأنني سأكون شاهداً عليه ..اعتقلت الشرطة مثيري الشغب وكان عددهم حوالي العشرين وهرعنا إلي رئاسة شرطة المنطقة وتدخل الأجاويد من الجانب الشرقي وبعض المسئولين وتم احتواء النزاع بعد أن قررت لجنة الانتخابات إعادة الإنتخاب تحت الحراسة المشددة ..وخاض عمي الماهل الانتخابات بمساندة الجميع بعد أن تنازل له العمدة ليفوز بالدائرة علي مرشح آخر من السياسين القدامي الذي ينتمي للقرية المجاورة ولا يقيم بها.. إنما يقيم بالخرطوم ونادراً ما يزور المنطقة هو وأسرته ..أقيمت الأفراح ونحرت الذبائح ابتهاجاً بفوز عمي الماهل وقد علمت فيما بعد أن ذلك الخصم استغل ذكائه ودهائه السياسي وخبراته لزرع الخلاف بين أعمامي وكان حتماً سيفوز بالدائرة فيما لو ترشح الإثنان ..وفي خضم تلك الساعات المترعة بالروعة بزغ القمر وأكمال استدارته فتذكرت علياء وطيفها الرفراف يدعوني للوفاء بوعدي لها ..استأذنت الحضور وصعدت علي التلة الصغيرة المطلة علي القرية وهتفت بصوت مسموع ..علياااااء ..كيفك يا علياء ..فجاوبتني أنسام المساء الفارهة وكأنها تحمل إليّ صدي مناجاتها .. وعدت للمنزل وأنا أحتضن طيفها حتي الصباح .

  6. #16
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2010
    المشاركات : 1,149
    المواضيع : 174
    الردود : 1149
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي


    الحلقةالثامنة
    كانت عودتنا لقاعات المحاضرات بعد إنتهاء إجازة نصف العام عودة صاخبة ومفرحة .. فقد عدنا بلهفة وشوق للجامعة ولسان حالنا يقول إن أية لحظة نمضيها خارج أسوارها كئيبة ومملة ..وكان أول فرد من المجموعة التقيه الرائعة سلافة وما بين المحاضرتين الأولي والثانية أسرت لي بأنها ستضع أدروب في موقف لا يحسد عليه عندما يلتئم شملنا ..ولم تتأخر في الإفصاح عن نواياها وأخرجت علبة صغيرة بها خاتم ذهبي وقالت ..هذا الخاتم يخص شقيقتي رؤي ..وهي مخطوبة وقد طلبت مني أن أعرج علي سوق الذهب وأنظفه لها ..سأقوم بوضعه علي معصمي باعتبار أنني قد خطبت أثناء الإجازة لأري ردة فعل طارق أدروب فقد لاحظت أنه متيم بي ولكن طبعه البدوي المتأصل في دواخله يمنعه من التعبير صراحة عّما يجيش بخاطره ..قلت لها الكل يعرف إعجابه الشديد بك وهو بالمناسبة يلقبك بسلافه القيافه ..والله ..؟! قالت وهي تضحك ..بختكم يا ماما .. كل واحد في المجموعة لديه لقب إلا العبد لله .. نسرين الواحه وسلافه القيافه وأنا ..من يبيعني ولو شبح لقب أتفاخر به بين أقراني الطلاب ..لماذا ؟ ..ألم تسبغ عليك امتثال ولو لمرة واحدة أي لقب؟ ..وما الداعي لتذكيري بها الآن يا سلافة .؟ ..هل عادت من الإجازة ؟ ..والله لا أعلم ولا أريد أن أعرف .. وبالفعل أخذنا مواقعنا في الكافتيريا ونحن نقضم الساندوتشات ونرشف العصير الطبيعي لأننا نقاطع وبصفة شبه يومية قاعة الطعام بالرغم من أن الوجبات مجاناً وغنية بما لذّ وطاب لدواعي الكسل والحرص علي اغتنام زمن الإفطار لنجلس معاً .. سلافه يا خاينه ..صرخت نسرين وقد لاحظت الخاتم الأنيق وقد أخذ موقعه في أروع أنملة رايتها في حياتي ..معقول يخطبوك وما تدينا خبر أو تعزمينا ..منو الانخبطت ؟!! أدروب وقد هالته المفاجأة وجعلته يترنح كالسكاري من هول الصدمة ..سلافه .. ما شايف الخاتم يا طارق ..خاتم لشنو ..؟ ..ولم يكمل المسكين جملة واحدة علي بعضها البعض ..وتداخلت الحروف في الحروف والكلمات في الكلمات ..هنا شلحت سلافة الخاتم من أصبعها وهي تقول ..لا اتخطبت ولا انخبطت .. كل ما في الأمر أن رؤي شقيقتي طلبت مني أن أعمل شوية صيانه للخاتم وقد أعجبني فقلت في نفسي لم لا أجربه ..يمكن يجيب لي عريس ..كلها سنه واتخرج وأودعكم يا ( برالمه ) ..تنفس أدروب الصعداء وهو يهمهم ..ما جننتنا يا خي ..أيه الهظار البايخ ده ؟ ..لعلك تنوي خطبة سلافه يا أدروب ؟ ..فأجأته بسؤالي وأنا أنظر مباشرة في عينيه ..إنتو قايمين علي الليله دي مالكم ..منو المحرشكم ؟! ..تبادلت النظرات مع سلافة وكأنها تقول لي .. شايف يا قصي ..كلامي طلع صاح مش ؟! ..لكن يا سلافة .. يا عزيزتي الغالية حرام أن يتلاعب الإنسان بمشاعر الآخرين حتي ولو عن طريق المزاح فمثل هذه الأمور لا تقبل التلاعب ..كيف لأدروب المسكين أن يطال سماواتك البعيدة ومراسيك الصعبة ..إبنة سفير طافت العالم وتتكلم ثلاثة لغات أجنبية ولديها وثيقة سفر بريطانية ..وتسكن في منزل من ثلاثة طوابق ..هل سترضي بالحياة الصعبة التي يعيشها الناس في البادية ..ولم لا يا قصي ؟ ..فالحب يصنع المعجزات ويحطم الفوارق الأجتماعية في لمحة من البصر ..علي العموم سنري كيف ستسير الأمور بين هذين النقيضين إذا مد الله في الأيام ..

    * * *
    نحن الآن في عامنا الرابع بالجامعة ولم تتبق سوي أيام قلائل لنجلس لامتحانات التخرج وقد حدثت أشياء وأشياء كثيرة خلال العامين المنصرمين .. سلافة سبقتنا بعام في التخرج وتزوجت من القائم بالأعمال بسفارتنا بواشنطن..وكان وقع رحيلها صعباً للغاية علي أدروب لكن التحاق الصغيرة ( مي ) بالجامعة قد خفف عليه الأمر قليلاً لينصرف لها تماماً كشقيقها الأكبر ..وكدنا نفقد نسرين بسبب مرض البلهارسيا اللعين لولا لطف الله وعنايته.. فقد هُرعنا بها وهي في حالة الخطر للمستشفي .. وعندما علم عصام بما ألمّ بها جن جنونه فركض نحو شارع الجامعة يلتمس عربة أجرة تقله حتي المستشفي وفي غمرة انفعاله فقد القدرة علي التركيز لتطيح به عربة ملاكي وتهشم ساقيه ليصبح لنا مريضان بدلاً من مريض واحدة ..بيد أن نسرين تعافت وواصلت دراستها لكن عصام فقد عاماً دراسياً كاملاً وهو يتنقل من مشفيً إلي مشفي ومن طبيب إلي طبيب وأقسمت نسرين بأنها لن تستلم شهادة التخرج ما لم يكمل عصام الجامعة وستظل بجانبه تراجع معه مقرر السنة الرابعة محاضرة بمحاضرة حتي يلحق بنا ..ذلك لأن نسرين بطبيعتها الريفية ووجدانها السليم أدركت بأن عصاماً هذا القادم من ضواحي بارا لم يكن ليعاني لولا حبه الشديد لها ولهفته عليها .... أما امتثال فقد تعقدت علاقتها مع زوجها الدكتور جلال بصورة دراماتيكية أقرب للخيال .. فقد سبقت زوجها ذات يوم في التوجه من الجامعة لمنزلها لتفاجأ بامرأة بريطانية وهي داخل المنزل ..أخبرتها الخادمة بأن ضيفة أجنبية تدعي ( هيلين ) قد وصلت صباح اليوم من لندن وبمجرد وصولها توجهت مباشرة نحو غرفة النوم ..بدلت ملابسها وطلبت منها أن تعد لها كوباً من القهوة وعندما أتت به إليها وجدتها وقد راحت في ثبات عميق ..اتصلت علي الفور بالدكتور جلال لتخبره بوصول ( هيلين ) فاضطرب اضطراباً عظيماً ..ولم يقدم لها تفسيراً مقنعاً ..فأخذت عربة أجرة لتعود للجامعة..بحثت عن الدكتور جلال في كل مكان بالجامعه ولم تجده ..رأيتها تقف مع علياء وهي تبكي ..توجهت نحوهما أحاول تشجيعها ولأسري عنها قليلاً ولأخبرها أن عليها أولاً وقبل كل شيء أن تفهم كنه علاقة تلك الضيفة بالدكتور جلال قبل أن تقرر .. يا جماعه أنا آسفه قالت وهي تكفكف دموعها ..عدنا للاسف من جديد ..آسفه لأني تعبتكم معاي ..هل أذهب معك ؟ ..علياء تسأل في صدق ومحبة .. لا يا علياء سأتدبر الأمر بنفسي .. وتحت إلحاح وضغط علياء وبتشجيع مني وافقت علي إصطحابها .. أما أنا فقط ظللت واقفاً تلفني غيمة من الذهول والغضب علي ما آلت إليه أحوال امتثال من ضعف وخور وهي الباذخة القوية وكأنها صخرة عاتية لا تهزها الأعاصير ..يا حسرتي عليك يا امتثال. .ليتني أستطيع أن أفعل شيئاً لأجلك ..ليتني يا حياتي وعمري أستطيع ..ولم يتبق أمامي سوي انتظار علياء لتكشف لي سر تلك الزائرة المجهولة وما يمكن أن يمثله ذلك بالنسبة لامتثال وكيف ستعالج الموقف ..إذن لا بد من الانتظار وما أقصي الانتظار عندما يتعلق بمصير امتثال ..ورحت في شبه غيبوبة وأنا أرسم كافة السيناريوهات المحتملة للقضية برمتها .

    مشكله كبيره يا قصي ..مشكله كبيره ..ما الأمر يا علياء أرجوك أخبريني ماذا حدث بالضبط ؟ ..أخذنا أنا وامتثال عربة أجرة أقلتنا حتي منزلهم ولدي دخولنا سمعناً عراكاً وضجيجاً داخل غرفة نومهما ..وكان صوت تلك الأجنبية هو الأعلي والأكثر شراسة والدكتور جلال يحاول دون جدوي تهدئتها ..زوجتك ؟ ..هذه البائسة الفقيرة زوجتك يا دكتور ..وأنا من أكون ..؟!! لقد تركتنا وأطفالي بانجلترا بحجة العودة للخرطوم وتدبر أمر شراء منزل لنا هنا وبدلاً من ذلك أنفقت مالي علي ملذاتك والزواج من فتاة باهتة لا تساوي شيئاً هي بالأحري إحدي تلميذاتك كما تقول .. هنا انهارت امتثال تماماً ..أخذتها برفق نحو ال( صوفيا ) الوحيدة الموجودة بالصالون وطلبت من الخادمة أن تحضر لها كوباً من الماء بسرعة ..في هذه اللحظة انخرطت ( هيلين ) من الغرفة وهي توجه كلامها له .. سأكون بال( قراند أوتيل ) وعليك أن تلحق بي هنالك مساء اليوم إن رغبت في البدء بمراسم إجراءات الطلاق وليكن معلوماً ليديك بانني سأغادر إلي لندن في أول طائرة متوجهة إلي هناك أما ( سوزان وناتالي) فلا تحلم برؤيتهما ثانية لأنني سأسافر إلي أي بلد أوروبي وأستقر به ولن تجدنا حتي ولإن استعنت بشرطة العالم مجتمعةً..والدكتور جلال جلال يمسك بها وهي تتملص منه وقبل مغادرتها توقفت لدي امتثال التي وضعت كفها بين يديها وهي تبكي وتهتز في شبه هستريا ..وهمهمت بكلمات مثل ..غبيه .. مسكينه ..تافهه ..إيه يا زمن ..كيف يحدث كل هذا وفي طرفة عين ..كيف ؟!!

    لكن امتثال عادت ثاني يوم وهي متهللة الأسارير ..مرتاحة البال ..أخذتنا أنا وعلياء إلي مكان معزول بالجامعة بعيداً عن أعين الزملاء والزميلات وشرحت لنا ما حدث بعد مغادرة (هيلين ) للمنزل وتوجهها نحو الفندق ..قالت .. كان موقفاً عصيباً لم أحتمله وما كنت لأحتمله لولا وجود علياء إلي جانبي ..الآن تأكدت بأن نعمة الصداقة هذه من أنعم الله العزيزة إلي قلبي ولو أنني قسوت عليك يا علياء أكثر من مرة .زأرجوك سامحيني ..لا بأس يا يا امتثال فنحن بالنهاية بشر نخطيء ونصيب ..لا أدري كيف تماسكت حتي غادرت تلك الملعونة المنزل ..كانت قبيحة وبشعة وهي تكيل لي الشتائم وكأنني كنت أعرف أصلاً بوجودها في حياة جلال ..تصوروا أنه لم يرد ذكرها مطلقاً أمامي خلال العامين الماضيين .. لكنني أتذكر أن الدكتور جلال كان يعود للمنزل في بعض الأوقات مشتت البال مهموماً وحزيناً ثم سرعان ما يستعيد حيويته ..لكن حادثة واحدة أربكتني ولم أجد لها تفسيراً .. فقد زارنا في إحدي المرات بريطاني عرّف نفسه علي أنه من السفارة البريطانية بالخرطوم وأنه يريد الدكتور جلال في أمر يخص عائلته ..لم أتوقف كثيراً عند كلمة ( عائلته ) تلك لأن جلال أخطرني منذ البداية بأنه غير متزوج وعزا تأخره في الزواج للمشغوليات المترتبة علي الدراسة بانجلترا ومن ثمّ التحضير للماجستير والدكتوراة فصدقته وقبلت الزواج منه .. ذلك لأنني كنت مبهورة بقوة شخصيته وسطوته أثناء المحاضرات .. عاد جلال لأخبره بزبارة مندوب السفارة لنا ..في البداية اضطرب قليلاً لكنه تماسك وأخبرني بأنهم يطلبونه في لندن لتقديم بعض المحاضرات عن السودان ..ولعله كان يمهد بذلك لرحلة سريعة للندن قبل أن تفاجؤنا ( هيلين ) ..أمضي نهار أمس وحتي الغروب في تهدئتي وطمأنتي علي أنه سيذهب لها بالفندق ويبدأ غداً في إجراءات الطلاق وبأنه حريص عليّ أكثر من حرصه عليها وأخبرني أنه تزوجها فقط لرد الدين لأسرتها التي آوته وصرفت عليه أثناء إقامته الطويلة هناك ..قلت له سآتي معك ..وعندما أقنعني بضرورة التحدث منفرداً إلي ( هيلين ) وعدته بأن أنتظره بالعربة ..انطلقنا إلي شارع النيل وفي قاعة استقبال الفندق شاهدت الموظف وهو يقدم له مظروفاً فضه بسرعة وقرأه ثم عاد راكضاً علي الأدراج وأدار محرك عربته وهو يتمتم ..لقد توجهت ( هيلين ) إلي المطار لتغادر بطائرة الخطوط الألمانية ( لوفتهانزا ) ..علينا أن نسرع فلم يتبق علي إقلاعها سوي دقائق ..ولكن حاسب يا جلال ..فقد تخطيت علامة المرور الحمراء مرتين ..هكذا كنت أحاول تهدئته حتي لا يصطدم بعربة فيدمرنا معاً ..هُرع من العربة مسرعاً باتجاه قاعة المغادرين وتبعته لأراقب ما يحدث من علي البعد ..اوقفه ضابط الجوازات ورفض أن يمنحه فرصة التوغل أكثر فأكثر داخل مكاتب المغادرة ..وسمعته يقول له ..غير مسموح لك بتخطي هذه النقطة يا دكتور ..ولكنها زوجتي ويجب أن أذكّرها بأمور مهمة للغاية ..قلت لك لن تمر من هنا ..أنت تضيع وقتي ووقت المسافرين ..هيا تراجع .. وتحت إصرار الدكتور جلال علي رؤية (هيلين ) ما كان من الشرطة إلا أن أوقفته بحراسة قسم شرطة المطار بدعوي الإزعاج العام ومعارضة موظف أثناء تأدية واجبه ولم يفرجوا عنه إلا بعد أن حلقت الطائرة بعيداً في الفضاء .. عدنا للمنزل في ساعة متأخرة من الليل وقد أخذ التعب منا كل مأخذ ..وفي صباح هذا اليوم طلبت من الخادمة أن تعد له الشاي والإفطار وتركته وهو يغط في نوم عميق .

  7. #17
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2010
    المشاركات : 1,149
    المواضيع : 174
    الردود : 1149
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي

    الحلقة التاسعة
    إمتثال هذه لا يأتي من وراءها خير أبداً..رقية أختي وقد بدت حزينة ومحبطة ..ماذا فعلت لك امتثال يا رقية ؟ ..تصور أنها أمرت شقيقها كمال بالإنتقال للعيش معها بمنزلها ريثما يعود زوجها من الخارج ..وهل سافر الدكتور جلال ..؟ نعم منذ حوالي أسبوع ..فأين المشكلة إذن ؟ ..كيف يعني يترك والدته المريضة لابنتيها انتصار واعتدال وهما لا تزالان صغيرتين علي تحمل مسئولية البيت ..فقد كان كمال يحنو علي أمه ويجلب لها الدواء ويعطيه لها حسب المواعيد التي قررها الطبيب ..فماذا سيحدث لهذه المسكينة يا تري ؟ ..هذا تصرف ينم عن الأنانية و.... مهلاً مهلاً يا رقية ..ألم تلاحظي بأنك تبالغين قليلاً في حكاية والدة كمال هذه وأن ما يهمك هو كمال نفسه وليس أمه ..ماذا تقصد يا قصي .. ماذا تقصد ..ها ..؟ أظنك تعتقدين بأن أخيك مغفل أو شيء من هذا القبيل ..لقد لاحظت مدي اهتمامك بكمال عندما يزورنا ..توتر وقلق وانفعال ..ثم زياراتك المتكررة لمنزلهم بحجة زيارة انتصار ..أنا أحذرك من كمال يا رقية فهو أكبر منك سناً وتجربة في الحياة ..لكن في النهاية الخيار متروك لك يا أختي العزيزة رقية ..أنت تفهمني خطأ يا قصي كعادتك منذ أن كنا صغار ..لكن لماذا لا نزورهم يا قصي ..؟ يقال أن منزل امتثال يجنن الواحد وليس مثل هذه الزنزانة التي نعيش فيها ..ما لها الزنزانه التي نعيش بها ؟ ..نحمد الله عليها كثيراً ..فغيرنا يعيش في العراء وتحت الأشجار ..لكن ولا يهمك سنزورهم غداً إن شاء الله .. صحيح يا قصي ؟ ..يا حبيبي يا قصي يا أعز الناس حبايبك ... بلاش الاستهبال ..وكفاك ثرثرة .. أصنعي لنا شيئاً نتعشي به .. رغيف بلبن .. ممكن ؟ ..أيوه ممكن .. دائماً تختارين الحلول السهلة .
    أنا نفسي لم أتمكن من تبديد أشواقي لامتثال منذ أن أغلقت الجامعة أبوابها وانشغالنا بالركض هنا وهناك بحثاً عن وظيفة مؤقتة قبل استلامنا لشهاداتنا ..وكانت عبارة ( عفواً لا توجد وظائف خالية ) تصفعني بقسوة أينما اتجهت .
    أخذنا عربة تاكسي إلي حيث تقطن امتثال ولدي بابهم استقبلنا كمال بترحاب شديد وكأنه سيد الدار وليس ضيفاً عابراً مثلنا ..وبعد حوالي نصف ساعة أطلت علينا شقيقته وكأنها إحدي أميرات الأغريق ..أمضينا وقتاً ممتعاً في ضيافة العزيزة الغالية امتثال وكان الانسجام واضحاً بين رقية وكمال ..امتثال غمزت لي بطرف عينها وهي تؤمي نحوهما ..هل تتدخل عوامل الوراثة في المشاعر يا قصي ؟ ..لكن قبل مغادرتنا بقليل وقع حدث لم يكن في الحسبان ..إذ سمعنا طرقاً مهذباً بالباب ..أنا سأفتح كمال وقد كان قريباً من الباب ..أهلاً ..تفضل ..شكراً .. في الواقع أنا المحامي أمير وأود مقابلة السيدة امتثال ..نعم ..أنا شقيقها هل لي بمعرفة الأمر ؟ ..لا للأسف فالموضوع شخصي ويخصها وحدها ..حسناً تفضل ..من الطارق يا كمال ..إنه المحامي أمير ويريد التحدث إليك علي انفراد ..أهلاً ..اللهم اجعله خير ..هل نجلس لوحدنا لو سمحت ؟ ..بالطبع تعال من هنا ..انتابتنا حالة من الترقب والقلق لتعود امتثال وهي تتأبط مظروفاً كبيراً وتدلف به مباشرة إلي غرفة نومها ..لحظة من فضلك .. ثم وبعد عودتها ..إمهلني ثلاثة أيام فقط لا أكثر ..هو كذلك .. بالإذن ..ما الموضوع يا امتثال ؟ ..كمال يسأل ..لقد باع الدكتور جلال هذا المنزل قبيل سفره وهاهو محامي المشتري قد أتي لتكملة الاجراءات ..علينا يا جماعه مغادرة المنزل دون إبطاء .. كمال خذ هذا المبلغ واتفق مع أي وكالة للدلالة واحضر معك شاحنة وعدداً من الحمالين وخذ كل اثاث المنزل وبعه لها .. انتظروني لحظة ..قصي ورقية ..ساحضر حقيبتي وأذهب معكم إلي منزلنا ..لا أريد أن يتبعني اي أثر للدكتور جلال من هذا البيت ..غادرنا علي مهلنا لتقول امتثال لسائق التاكسي من فضلك خذنا للبنك .. وحددت لهمصرفاً بالاسم ..ومن ثمً شرحت لي تفاصيل الصفقة ..لقد كان زوجي منصفاً يا قصي فهو علي الأقل لم يتركني وأنا مفلسة ..فقد أحضر لي المحامي ربع قيمة المنزل بعد أن أخذ هو نصف البلغ مقدماً وسيسلمني المحامي الباقي بعد استلامه للمنزل خالياً من العفش .

    * * *
    وهكذا عادت عصفورتي الجميلة إلي عشها..وهاهي حبيبات الدم الأرجواني تبحر عبر الشرايين إلي القلب المتعب الذي ما أنفك يواصل قرعه الممل في أبواب الحياة بكل السذاجة والغباء فلا يخلد للراحة أبداً والفرص الضائعة تؤرقه وتنغض عليه عيشه ..بيد أن امتثال التي عشقتها لم تعد بعد ..امتثال تلك الطفلة المشاغبة المترفة ..أين هي من امتثال اليوم ..هل كان باستطاعتي أن أبقيها طفلة وإلي الأبد ؟ ..وباي سلطة .. هذه الديمومة الطفولية ما أروعها إن وجدت ..بيد أن امتثال التي آبت إلي حينا العريق جاءت بأكثر من صفة وأكثر من عنوان .. فهي حرم الدكتور جلال وهي ومنذ اليوم سيدة أعمال ولديها حساب بالبنك وعدة تواقيع ..غريب والله أمر هذه الحياة ..تجمعك مع أناس مميزين فتحبهم بكل ذرة في كيانك المكدود لكنك في لحظة ما تجدهم وقد تسربوا من بين يديك وذابو في بحر الحياة العريض .
    لم تضيع امتثال وقتاً طويلاً حتي حضروا إلينا هي ووالدتها وشقيقتيها لطلب يد شقيقتي رقية لابنهم كمال ..قدمنا لهم الشربات كبادرة ترحيب وموافقة وتم تحديد موعد الخطوبة بعد اسبوع ..وكان قد تصادف حضورهم لنا مع وصول مندوب المنظمة الذي أحضر لنا الدعم الشهري وكان يود الانصراف بسرعة كعادته معنا لكنه عندما علم أن تجمعنا يخص شقيقتنا وما بات يعرف ب( قولة خير ) .. انتظر بضعة دقائق لشرب شيء من الشربات وتناول بعض الحلوي ..وكم كانت مفاجأة أذهلتنا عندما حضر في مساء اليوم التالي وهو يحمل معه مبلغاً محترماً من مدير المنظمة مع تمنياته بأن يكون زواجاً ميموناً مباركاً ..الشيء الذي سيساعدنا حتماً في لجم ألسنة أخوال امتثال ونظرتهم لنا كمواطنين من الدرجة الثانية قدموا للخرطوم من الريف وليس لهم الحق بالتمتع بنفس الحقوق التي يتمتعون بها ..بذلت جهوداً مضنية لأعثر علي أصدقائي عصام وأدروب وعلياء ونسرين ومي لأدعوهم لحضور حفل الخطوبة وكانوا جميعاً في الموعد بلا استثناء ..( مي ) حضرت في معية والدتها وعصام جاء يتوكأ علي عصاه وكانت نسرين شاحبة ومرهقة جراء مرض البلهارسيا الذي استوطن جسدها النحيل ..سألت ( مي ) وهي تمد يدها لتصافحني ..ما بك يا ( مي ) يدك ساخنة جداً هل تشعرين ببعض الحمي ..لا ..هذا هو مستوي حرارة جسمي في جميع الأوقات ..ولكن يا ( مي ) ..لا تشغل بالك .. كانت تتحرك في جميع أنحاء المنزل بخفة ونشاط ..طارق أدروب اتفق معي علي أن حرارة ( مي ) غير عادية وأردف قائلاً بطريقته الساخرة تلك ..( البت دي المكوا ذاتو أبرد من إيديها ..بقيت أخاف لما تجي الجامعة وتمد لي إيديها عشان أسلم عليها ..قلبت لي أصابعي زي ( السلات ) .. مثلت عليها بأني ما بصافح ..كدا بس من بعيد ووضع كلتا يديه في صدره ..وضحكنا من قفشات أدروب التي لا تنتهي ..كأنك تجلسين في موقد كهبائي وليس كرسي يا ( مي ) ..هذه السخونة الشديدة ربما تحرق ملابسك يوماً ما ..أقول ليكم حاجه يا جماعه .. تصدقوا أني لما أطبق ( بلوزتي ) واضغط عليها بإيدي ..تستعدل زي الجابوها من المكوجي للتو ..( مي ) تعلق علي حديثنا لها ..أيوا اعترف يا ( مي ) .. أدروب يواصل ..لازماً اشتغل في المطافيء عشان خاطر النار الجواك .. ويبدو أن كمال قد تلقي دعماً سخياً من امتثال بالنظر إلي كثرة الهدايا التي قدموها لرقية والشبكة الباهظة الثمن .


    * * *

    إلتقتني علياء صباح اليوم التالي بالجامعة وهي متهللة الأسارير وكنت قد ذهبت لأطّلع علي النتيجة المعلقة بال( بورد ) وقد نجحت والحمد لله بتقدير جيد أما علياء فقد كانت بتقدير ممتاز ..هذه البنت تتحدث الإنجليزية وكأنها من مواليد أكسفورد .. لكن ثمة مفاجأة رهيبة كانت بانتظاري .. ولم أعرف كيف أتصرف أمام علياء وهي تخبرني بفرح طفولي غامر بأن الجامعة قد منحتها بعثة دراسية إلي انجلترا ..دبلوم عالي .. أدب إنجليزي بجامعة أكسفورد .. والسفر بعد اسبوع واحد ..أصابني نوع من الوجوم والبلاهة والتردد .. مبروك ..قلتها وأنا أتمزق من الداخل ..ما بك يا قصي ؟ ..ألم تفرح لنيلي هذه البعثة ؟ ..لا ..لا .. بالطبع فرحت لأجلك ..لكنني ..لكنني .أعرف ..تريد أن تقول لي بأننا سنفترق ولمدة طويلة جداً ..دعنا نعتبر هذا الغياب بمثابة إختبار لمشاعر كل واحد منا نحو الآخر ..والآن هيا ابتسم .. وإلا سأعتذر عن هذه المنحة .. أقسم بأنني سأرفضها إن كانت ستسبب لك أي قدر من التعاسة يا قصي ..وأعلم بأني جادة فيما أقول .. ترفضين السفر إلي الخارج والمضي قدماً في التعلم وربما نيل الماجستير والدكتوراه ..إطمئني سنتغلب علي مشكلة بعادنا عن بعضنا البعض بوسيلة أو بأخري .. سأكتب لك وستكتبين لي وسأهاتفك باستمرار وقد تسنح لي فرصة زيارتك ..وقد ..وقد .. لماذا لا تمكل يا قصي ؟..وقد نتزوج ونسافر معاً ..لا ليس بعد يا قصي ..دع المقادير تفعل ما تشاء ..وإذا كنا سنتزوج في يوم ما أعدك بأني سأحرص علي أن أكون لك إلا ..إلا .. إلا ماذا ؟ .. إلا إذا عادت الأمور إلي مجاريها بينك وبين امتثال ..قلت لك وأقول لك وللمرة الألف يا علياء أن ما بيني وبين امتثال قد انتهي ..لماذا لا تصدقينني ..حسناً سافعل هذه المرة وسنري ..والآن هل لديك أي ارتباط ما ..وددت لو نبقي معاً طيلة هذا اليوم لأنني سأغادر إلي عطبرة غداً لإنجاز بعض المهام الأسرية ..بالطبع سأكون معك وسألغي جميع ارتباطاتي لأجلك يا علياء ..سنحصد الثواني والدقائق وكل لحظة من يومنا هذا لعله يكون لنا زاداً خلال غيابك المباغت هذا ..أخذتني من مكان إلي مكان وكأنها تود لو تستبقيني داخل قفص ضلوعها ..تسكعنا في فرندات الأسواق ودخلنا المكتبات نقرأ عناوين الكتب وارتدنا المقاهي الراقية ومن ثمّ عرجنا علي جنينة الحيوانات .. فعلنا كل شيء لنبقي معاً .. كنا نركب أي حافلة متوجهة لأي إتجاه ونترجل في المحطة الأخيرة لنعود من جديد إلي قلب الخرطوم .. وقبيل الغروب أعدتها إلي داخلية البنات ولدي بابها قلت لها ..أحبك يا علياء ..أحبك بكل ذرة في كياني ..بكل نبض في عروقي وبكل خفقة في فؤادي ..وأنا يا قصي أحبك ..أحبك ..أحبك ..وسأظل أحبك لآخر العمر .. وكم من مرة راودتني نفسي لأسالك ..هل تحبني يا قصي كما أحبك ؟ ..لكنك قلتها بدون أن تكلفني عناء السؤال وأتمني ألاّ تندم علي اعترافك هذا في يوم من الأيام ..تصبحين علي خير يا علياء ..وأنت .

    لا أدري لماذا يتبرع لك الناس بالمعلومة بعد فوات الأوان وكأنهم ينتظرون تأزمك ليجلدوك بأقسي العبارت .. (كيف يعني تدو بتكم لواحد ..سكير ..عربيد ..ومدمن قمار ؟! ) ..هل أخبر رقية بما سمعته عن خطيبها أم أترك كل شيء للظروف ..أم أن عليّ أن أتأكد بنفسي عن صحة تلك التخرصات ..وهذا ما فعلته بالضبط..توجهت نحو ( البوتيك ) الفخم الرابض في قلب الخرطوم حيث كمال والذي تضخم أكثر فأكثر بعد دخول امتثال كشريكة له بعد المبلغ الذي توفر لديها من ريع المنزل .. دخلت عليهم ووجدتها هي تجلس في المكتب تحاسب إحدي الزبونات بينما انهمك هو في مناجاة حالمة مع إحداهن ..كانت فتاة رائعة الجمال وصبية في حدود الثامنة عشرة من عمرها ..السلام عليكم ..قلتها بصوت عالٍ لألفت انتباهه ..قصي؟!!.. مش معقول ..امتثال وقد فوجئت بزيارتي ..وبالرغم من ترحيبها بي وبصوت فيه شيء من الانفعال والترحيب الشديد إلا أنه واصل تجواله الحالم في تضاريس تلك الفتاة ..إحم ..إحم ..نحن هنا يا أبو النسب ..قذفتها بأعلي صوت في وجهه ..ارتبك ارتباكاً شديداً وهو يردد ..قصي أهلاً بيك ..آسف ما لاحظت ظهورك ..هل الأسف سمة غالبة لأفراد هذه الأسرة ؟ ..ولا عليك يا بطل ..أما هي فقد هًرعت مغادرة البوتيك وهي تقول له سأراك في فرصة قادمة ..وهو كذلك .. سألتني امتثال ..ماذا نقدم لك ؟ .. شاي.. قهوة ..حاجه بارده ..لا ..لا ..شكراً لك ..في الواقع كنت علي مقربة من البوتيك ..قلت أسلم عليكم ..كتر خيرك يا قصي ..أها ..كيف كانت حفلة الخطوبة بنظرك يا قصي ؟ ..أسألي العريس ..قلتها باستهزاء فهمه كمال ولم تتوقف عنده امتثال ؟..كيف أخبار علياء لم أرها منذ يوم الخطوبة ؟ ..علياء غادرت إلي لندن ..وصلتها منحة من الجامعة لدراسة الأدب الإنجليزي ..بالضبط يكون ليها ثلاثة أيام هناك ..هل كنت في وداعها بالمطار وكيف كان شعورها وهي تسافر خارج السودان ..تجاهلت سؤالها واستأذنت الإنصراف وخرجت وكلماتها توشحني بإحساس باهر .

    عفواً سيدي ولكنني لا استطيع العمل بالأقاليم الجنوبية في الوقت الراهن ..هذا هو شرط منحك وظيفة معلم مدرسة ثانوية عليا يا أستاذ والخيار متروك لك .. كان ذلك رد المسئول بوزارة التربية علي طلبي وموافقة الوزارة علي منحي الوظيفة ولكن بشروط صعبة للغاية .. العمل بالجنوب ليس سيئاً لا سيما بعد توقيع اتفاقية السلام لكن والدتي تحتاجني وليس بوسعي تركها هنا والتوجه للجنوب ..يا لسوء الحظ ..أخيراً حصلت علي وظيفة بدون فائدة ..لملمت أوراقي وشكرته وأنا أقول له ربما في فرصة لاحقة ..كل المصالح الحكومية تشترط العمل بالأقاليم ..لذلك اعتذرت عن قبول أكثر من وظيفة علي درجة عالية من الأهمية ..ضابط إداري ببحر الغزال ..معلم بمدرسة الأبيض الثانوية ..وهكذا ..ولكن ..لكن ..لكن ماذا يا قصي ..؟ لم لا أجرب القطاع الخاص ..وهل تعرف شخصاً ما في هذا القطاع ؟.. نعم ..نعم ..بالطبع أعرف ..السيد صاحب البطاقة الذي أوصلني بعربته لمنزلنا يوم المظاهرة ..لقد كان لطيفاً جداً معي ..وركبت في أول عربة تاكسي متوجهة لأمدرمان ..اقتحمت المنزل وأنا أنادي علي رقية ..بت يا رقية ..والدتي استيقظت من غفوتها التي تعودت عليها منتصف نهار كل يوم ..( سجمي ..مالك بتكورك يا قصي ..؟! ) ..لا أبداً يا أمي ( ما في حاجه ) ..وهُرعت رقية أيضاًُ وقد بدا عليها الإنزعاج الشديد .. الحكايه شنو يا قصي ؟ ..المصحف الصغير ..المصحف الأخضر حق الوالد الله يرحمه ..هل رأيته قريباً ؟ ..لا والله يا قصي ..إذن ..هيا أمامي نبحث عنه ..وظللنا حتي مساء ذاك اليوم نخرج جميع محتويات الحقائب ونعيدها إلي مكانها دون جدوي .. وحولنا المنزل إلي بؤرة للفوضي والارتباك ..يجب أن أعثر علي ذلك المصحف يا رقية فقد وضعت بداخله بطاقة ذلك السيد الذي اهتم بي يوم المظاهرة .يووم ..يووم زواج امتثال ..هل نسيتي ..نعم ولكنني وصلت درجه من التعب ..خلينا نؤجل الموضوع حتي الصباح ..ومع خيوط الفجر الأولي بدأنا رحلة البحث من جديد ..هذا هو ..الحمد لك يا رب ..قبلّت المصحف وأخرجت منه ( كرت ) ذاك السيد .. سالم عبيد التهامي .. شركة التهامي للاستيراد والتصدير ..الخرطوم ..يا الله .. ستكون يا عماه أول من أقصده هذا اليوم ..ووقفت حائراأمام المبني الضخم المكون من أربعة طوابق واللافتة المهولة وذاك الحشد من العربات وقد أخذت موقعها في جراج الشركة .. استوقفني أحدهم ووجهني نحو مكتب الاستقبال ..من هنا يا شاب ..لم يتحمس موظف الاستقبال كثيراً ولعله لم يشعر بوجودي أصلاً وظل منهمكاً في الرد علي الهاتف القابع أمامه ..وأخيراً رفع راسه ونظر نحوي ..نعم ..أي خدمه ..في الواقع أود مقابلة السيد سالم ..الأستاذ سالم .. ليقول لي أنه غير موجود أو أنه خارج الشركة لحضور اجتماع هام كعادة بعض موظفي الاستقبال وليس جميعهم بالطبع .. وقبل أن يكمل كلامه ناولته ( كرت ) السيد تهامي ..وقف علي أرجله ورحب بي ..عموماً أخليك تقابل السكرتيرة وهي مؤكد ستُعني بك ..اتفضل ..لكن الأستاذ تهامي خارج السودان ..زيارة قصيرة للقاهرة ومنها للأراضي المقدسة لأداء العمرة ..أترك لي اسمك ورقم تلفونك لو سمحت وسأتصل بك حالما يعود الأستاذ سالم من الخارج ..أمليت عليها اسمي ..والتلفون ؟ .. لا نملك تلفون بالمنزل يا آنسه ..ولكن خذي هذا الرقم ..هو رقم صاحب البقالة المجاورة لمنزلنا ..وغادرت المكان وأنا ما بين الرضا واليأس .. لكن لا بأس من الانتظار بضعة أيام علي الأقل نستكمل فيها الاستعداد لمراسم زفاف شقيقتي رقية وقد تبقي له بضعة أيام ..وما أن ترجلت من عربة التاكسي حتي صاح جابر صاحب البقالة بأعلي صوته .. قصي ..قصي .. تلفون عشانك .. معقول بالسرعه دي ..لكنك أعطيت هذا الرقم لكل الزملاء وقد يكون أحدهم ..وكان المتكلم ( مي ) وقد ران علي صوتها شيء من الحيرة والإحباط .. قصي ..إنت وين ..؟ والدتي بالمستشفي منذ أول أمس ..فقدت الدفتر الذي قيدت به هذا الرقم واليوم وجدته .. اي مستشفي ؟ ..المستشفي العمومي بالخرطوم عنبر الباطنية حريمات ..طيب طيب أطمئني .. سأحضر حالاً ..ولو سمحت كلم معاك أدروب .

  8. #18
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2010
    المشاركات : 1,149
    المواضيع : 174
    الردود : 1149
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي

    الحلقة العاشرة
    إلتقطت أدروب من مكتبة المجلس البريطاني وكان قد انضم لكل من عصام القادم من سفوح كردفان ونسرين الواحة كما يسميها ..وإذ يسترسل في أوصافها ويتغني باسمها تصاب ( سلافة ) بالاستياء الشديد ..إيه يا سلافة ..تسافرين وتتزوجين وأين ..؟ في آخر الدنيا ..ونحن ألا نساوي لديك شيئاً ..هذه الجامعة اشبه بالحياة ..دخولها مثل يوم وضوعك ومغادرتها مثل موتك ..كلاهما رحيل محزن .
    كان ثلاثتهم قد انتهوا للتو وخرجوا إلي الشارع بانتظار حافلة تقلهم لوجهتهم الثانية وقد دخلوا في جدال شديد أثار فضول المارة ..لا يا عزيزي ..لا يوجد ملك لا يتحدث الإنجليزية بطلاقه ..هذا التفسير خاطيء ..أها ..حضر شكسبير شخصياً ..أدروب يعلق وكان أول من شاهدني ..عينا أدروب تلتقط الأشياء في جميع الاتجاهات ..لعلها ضرورات البقاء والاستمرار في الحياة في بيئة صعبة هي من جعلته قوي الملاحظة حاضر البديهة ..مالكم تتحدثون بصوت عالٍ وكأن بينكم ثأر ..الموضوع باختصار شديد نريد أن نعرف عبارة ( أوكي ) إختصار لماذا ؟ ..أولاً الحرف ( أو ) لا وجود له وما يقرأه ويستخدمه الناس في كل مكان هو العدد ( زيرو ) .. صفر يعني ..أما ( الكاف ) فهو اختصار للكلمة الإنجليزية ( كيلد ) أي قُتل..وبذلك تصبح العبارة ( أوكي ) إختصار ل( عدد القتلي صفر ) ..لا .. لا يا قصي ..أنت تمزح ولا ريب ..يعني أنا لما أكتب جواب لحبيبتي وأقول ليها ( يجدها أوكي ) ..معناه أنا بكتب ليها يجدها عدد القتلي صفر ..أدروب يحلل المشكلة ..إنت شارب حاجه كدا ولاّ كده يا قصي قبل ما تجي هنا ؟ ..لا شارب ولا حاجه ..المهم ده ما الموضوع الأنا جاييكم بخصوصو ..اتصلت ( مي ) من المستشفي ..مستشفي .. مستشفي ياتو ..وين .زشنو ؟!..أدروب وهو يقاطعني بنوع من الهستريا ..قول بسم الله الرحمن الرحيم يا أدروب المريض أمها وليس هي ..الحمد لله ..رايكم شنو نمشي ليهم في مستشفي الخرطوم ..باطنية حريمات ..( أوكي ) .. نسرين وهي تحاول أن تعيدنا للمربع الأول ..سألنا إحدي الممرضات عن العنبر الذي ترقد به والدة ( مي ) فاشارت لنا إلي مكان قريب لا يبعد سوي خطوات فقط ..توجهنا نحوه دون إبطاء وعند الباب وجدنا شاباً في مقتبل العمر وهو يتلصص علي ( مي ) ويرشقها بنظرات مسمومة تنضح اشتهاءاً ..بتعمل في شنو هنا يا زول ..؟ وبخته وبخشونة متعمدة ..لا أبداً ..منتظر زجاجات العصير الفارغة من البت ديك .. تقصد ( مي ) .. بالضبط ..كانت تجلس بالقرب من والدتها تسقيها بعض الحساء بمعلقة وظهرها نحو الباب ..الشيء الذي مكن ذلك المعتوه من رؤيتها دون أن تلحظ ذلك .. أهلين بالشباب ..أدخلوا ..كفاره ..إن شاء أجر وعافية يا حاجه ..كتر خيركم وبارك الله فيكم قالتها وهي تقاسي آلاماً مبرحة في بطنها .. سلامه إن شاء الله ..عدت لمراقبة ذلك الشاب ووجدته وقد تجمد في مكانه ..أدخل يا سمير ..ديل زملاي في الجامعة ..عليك الله هات لينا حاجه بارده بسرعه ..حاضر يا ( مي ) ..القزاز الفاضي ..أيوا ..أهو هنا ..اتفضل .. ده سمير راقد مع أبوه في العنبر الجنبنا ..ود حلال خلاص ..( مي ) تعرفنا عليه .. يجيب لينا الدوا من الصيدليه وياخد العينات للفحص .. أمي بتقول ليهو شكراً يا سمير الأمير .. أمير أم خطير ..يا لطيبة قلبك يا ( مي ) ..لا تثقي به ..أرجوك لا تثقي به ..قلت لها ونحن نغادر ..حصل شنو يا قصي .. قلقنني ..المهم لم أشعر بالارتياح نحوه ..خلاص اتفقنا ..تكوني حذره في تعاملك مع هذا الشاب ..اتفقنا ..إتفقنا ..وإنتي عامله كيف مع الإجازه ..أهو ..بدي تلاميذ الثانوي الموجودين في الجوار حصص إنجليزي ..بختك ..مقرشه يعني ؟ ..لا والله .....( تضحك ) .. دروس تقوية مجانيه .

    توجهت إلي الجامعة لأري إن كانت ثمة رسالة من علياء .بيد أن موظف البريد أخبرني بأنه لا رسالة لي ..وفيما كنت أغادر صاح ورائي ..مهلاً مهلاً ..أظن أن هذه الرسالة تخصك ..من المملكة المتحدة علي ما أظن ..بل هي كذلك ..أنظر ..أنظر إلي الطوابع ..شكرته وحملت الرسالة ولا أدري لماذا توجهت وبصورة لا إرادية نحو مقعدنا الأثير بذاك الركن البعيد ..كان الهدوء يلف المكان ولا شيء يسمع سوي أزيز الريح وصوت الأوراق الجافة التي تساقطت من أشجار المهوقني العملاقة تلك وحذائي الثقيل يضرب في ثناياها في تتابع رتيب ..(عزيزي قصي .. من أين أبدأ وكيف بوسع هذه الوريقة المسكينة تحمل ما يجيش به فؤادي من أشواق وفقد مريع لشخصك الغالي ..لم أعرف بأنك مهم بالنسبة لي إلا بعد أن فقدتك وافتقدتك في هذه المدينة الخضراء .. في البداية أصابني نوع من الدهشة والإنبهار وأنا أتجول في هذا العالم الجديد ..لكنني حين أنظر إلي أسفل الخارطة مروراً بالبحر الأبيض الموسط والصحراء الكبري ..اشعر وكأن المسافة ما بين لندن والخرطوم قد أصطبغت بالدموع والآهات والشجن ..والمدي الرابض يطلعني علي مآلاته المستعصية وشموخه المريب في وجه مسكنتي وضعفي ووحدتي آناء الليل والنهار ..هل أقول أحبك ..أم أقول أموت لأجل أن تكتحل عيناي ولو للمحة واحدة من محياك البهي .. هل تصدق بأنني أذبل وأتلاشي كل صباح كالجذر وقد منعوا عنه السقيا ..وأشعر بالخوف والبرد والمطر المثابر بتوقيعاته المنقطة علي صفحة نافذتي الزجاجية يشعرني بالتعاسة والندم ..ولولا ..) ..لم استطع أن أكمل بقية الرسالة التي كانت صعبة وفوق طاقة كل احتمال ..وذهبت مباشرة إلي ذيل الرسالة حيث ..ملحوظه :أود أن أخبرك بانني التقيت الدكتور جلال صدفة وهو يهيم علي وجهه في طرقات لندن بعد أن اكتشف بأن هيلين وابنتيه قد غادروا انجلترا إلي جهة غير معروفة ..وقد أوصدت أسرتها الأبواب في وجهه وطلبوا منه أن لا يحاول رؤيتهم مرة أخري..وهو يعد العدة للسفر إلي أمريكا بعد أن علم من إحدي صديقاتها المقربات بأنها ربما تكون قد سافرت إلي هناك .
    ألهذه الدرجة يا علياء تشتاقين شخصي الضعيف ؟ ..فلو أخبروني قبل بضعة سنوات بأنني كإبن للطبيعة العذراء بالريف وتواضعه الجم سألفت مجرد خادمة بعمارات الخرطوم لما صدقت ناهيك عن هذه المترفة الباسقة الباذخة علياء ..وللمرة الثانية تكون كلمتنا مسموعة ..وهل تسمي استمالة علياء وحبها لك بأنه انتصار ورد اعتبار للذات ..لا سيدي أرجوك لا تتدخل فيما بيني وعلياء إنما أقصد تجليات العرس الكبير لشقيقتي رقية من كمال إبن الجيران ..ولماذا لا تقول شقيق امتثال ؟ ..حسناً شقيق امتثال ..هل ارتحت يا هذا ..المهم تمت مراسم العرس وفق تقاليدنا نحن وليس تقاليد الخرطوم عرس قروي بكل تفاصيله المفرحة ..( الجرتق وفتح الخشم والسيره مرقت عصر والغناء الجميل الذي يدعو للقيم السمحة قيم الشجاعة والإقدام ( ويا مقنع الكاشفات البدرج العاطلات )..مشوا وين ديل ؟! ..فقد حضر الأهل من البلد وأثاروا الفوضي الخلابة والرعب الجميل في طرقات الحي ..( العرضة والبطان ..وأبشر ..أمباشر ) ..لا ليس ( مباشر ) التي تكتب في زاوية الشاشة البلورية ..إنها البشريات والدعاء العريض ( تغلبك بالمال وتغلبها بالعيال ..أم العكس الصحيح ..تغلبك بالعيال وتغلبها بالمال ) هذا طبعاً إن سمحت سياسات الحكومة في التقشف وشد الأحزمة علي البطون ..لكن شخصاً ما غاب عن المهرجان الأنيق وقد مثل غيابه علامة استفهام والإجابة عندي أنا ..فقد غادرنا إبن عمي المعتصم بالله قبل يوم من الخطوبة وانتقل للسكن بأحد الفنادق وتغيب أيضاً عن العرس ..ياااه ..ألهذه الدرجة أحببت رقية شقيقتي .. لكن يا صديقي العزيز للقلوب منطق يستعصي علي الفهم وهي من تقرر وقراراتها لا تقبل الاستئناف .
    غادرت والدة ( مي ) المستشفي فوجهت لنا دعوة لحضور ( الكرامة ) ..توجهنا أنا وأدروب إذ لم نتمكن من إخطار البقية وكان وصف المنزل سهلاً كأي منزل يرتبط برقم محطة مواصلات أو إسم محطة باص ..والذي غالباً ما يكون اسم أقرب وجيه من وجهاء المنطقة أو منشأة مثل البيارة والمسجد والمدرسة أو الصيدلية ..دلفنا إلي المنزل فاستقبلنا الملازم ( سراج ) والذي حضر علي عجلٍ في إجازة قصيرة من الجنوب للإطمئنان علي صحة والدته ..كان شاباً رائعاً ..منفتحاً ومثقفاً بعكس الصورة النمطية التي ارتسمت في اذهان الناس عن ضابط الجيش والذي تعني الحزم والقوة والجسارة ..تناقشنا حول مشكلة الجنوب وسير اتفاقية ( أديس أبابا) فعلمنا منه بأن الأمور تسير علي ما يرام علي الأقل حتي هذه اللحظة بيد أن الأجواء في أفريقيا تظل دائماً ملبدة بالغيوم ..غيوم المطر وغيوم السياسة .. سلمنا علي ( مي ) في باحة المنزل المخصص للعائلة إذ لن يسمح لها بالحضور لنا بالطبع حيث نحن ..هكذا تقضي تقاليدنا حتي وإن أضحت المرأة رئيسة وزراء ..لكن ما أزعجني وأصابني بنوع من التوتر الشديد وجود ذلك الشاب الذي ضبطناه وهو يسترق النظر نحو (مي) بالمستشفي المدعو ( سمير ) وما أغاظني أكثر تعامله مع الجميع وحتي النسوة وكأنه فرد من أفراد العائلة .. يحمل الطعام ويعود بالأواني الفارغة ..وهات يا سمير وجيب يا سمير وهو يتحرك كالطوربيد لا يكّل ولا يمّل ..حاول أن يقدم لي زجاجة كولا بعد الغداء فقلت له معليش أنا صائم ..ففهم بأنني لم أعد أطيقه فعاد بها ووضعها في الصندوق المخصص لها ..المهم قدمت الدعوة ل( سراج ) شقيق ( مي ) لزيارتنا بالمنزل ووعدني بأنه سيزورنا مع الحاجة وشقيقته ريثما يقل عدد الضيوف والزوار الذين يأتون كل يوم فرادي وجماعات

    وفي زحمة تلك التفاصيل اليومية المرهقة تذكرت إبن عمي المعتصم بالله ..ذهبت إليه بالفندق الذي يقيم به وقلت له.. ما تقوم به يا أخي عيب علينا وعليك ..كيف جاز لك اتخاذ موقف كهذا مني ومن بيت عمك ومن الأسرة كلها لمجرد أن الحظ لم يكن حليفك مع شقيقتي رقية ..وأنت تعلم بأن الزواج قسمة ونصيب ..قال لي إنه لا يود السكن معنا حتي لا يضايق رقية وعريسها ..فإذا كان هذا هو السبب فأعلم بأن رقية تقيم مع زوجها بمنزلهم الجديد منذ عودتهما من شهر العسل ..لم أترك له أية فرصة ليتملص من الذهاب معي ..حملنا حقيبته وتحركنا بعربته عائدين للمنزل ..وفي لحظة دخولنا علي الوالدة كانت رقية وعريسها يسأذنان في الإنصراف لبعض شأنهما ..تجمدت عيناه في وجه شقيقتي ..وصافحه كمال ببرود شديد ..مبروك ..خرجت من فمه بصعوبة شديدة وهمهمت رقية بكلام غير مفهموم ..ثم مالكم واقفين ..؟ ما تدخلوا الحاجة الوالدة وقد سرتها عودة المعتصم .

  9. #19
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    الدولة : على أرض العروبة
    المشاركات : 34,923
    المواضيع : 293
    الردود : 34923
    المعدل اليومي : 6.75

    افتراضي

    عجيبة تقلبات القلوب
    ولقاءات المقسوم منها فيما يبدو من الظروف صعبا

    إضاءات مميزة على دواخل النفس البشرية وتعاريجها ؟؟؟

    نتابعك بشغف

  10. #20
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2010
    المشاركات : 1,149
    المواضيع : 174
    الردود : 1149
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي

    وأنا أسعد بمتابعتكم وكل أعضاء المنتدي وضيوفه لا سيما عندما تكون المتابعة بهذا القدر من الفهم العميق والانفعال ..دمت لنا بهذا التوهج مع أصدق أمنياتي لك بموفور الصحة والعافية ابنتي ربيحة .

صفحة 2 من 4 الأولىالأولى 1234 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. تركيب آخر ......رأي آخر
    بواسطة محمد محمد أبو كشك في المنتدى النَّقْدُ الأَدَبِي وَالدِّرَاسَاتُ النَّقْدِيَّةُ
    مشاركات: 11
    آخر مشاركة: 31-05-2015, 08:28 PM
  2. قراءة لرواية ( آخر صفحة في كتاب الألم ) ..
    بواسطة عبدالغني خلف الله في المنتدى النَّقْدُ الأَدَبِي وَالدِّرَاسَاتُ النَّقْدِيَّةُ
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 26-06-2010, 05:29 PM
  3. طلاب آخر زمن، لأ ونظار آخر زمن!
    بواسطة ماجدة ماجد صبّاح في المنتدى أَدَبُ العَامِيَّة العَرَبِيَّةِ
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 12-10-2007, 10:28 PM
  4. ما هو آخر كتاب قرأته ؟؟
    بواسطة محمد عصام في المنتدى الاسْترَاحَةُ
    مشاركات: 28
    آخر مشاركة: 03-03-2006, 11:47 AM