الحلقة الخامسة
لم أعد أحتمل رؤية ( امتثال ) كل يوم وهي تترجل من عربة زوجها الدكتور جلال وتواجدنا داخل قاعة واحدة توحدنا الجغرافيا ويباعد بينناإحساس عارم بالإذلال .. أن يخونك شخص ما التقيته صدفة ..هذا شيء طبيعي ..أما أن يخونك شخص حفظته وساهمت في تشكيل شخصيته ووضعته في قائمة احتياجاتك الروحية والمادية مباشرة بعد الماء وقبل الهواء الذي تتنفسه ..فهذا شيء لا يحتمل ..لذلك تقدمت بطلب كتابة لعميد الكلية لتحويلي إلي المجموعة ( ب ) التي يقوم بتدريسها الدكتور يوسف بدلاً عن مجموعة الدكتور جلال متعللاً باكتظاظ القاعة وعدم قدرتي علي فهم ( الأكسنت ) أو الطريقة التي ينطق بها الدكتور جلال فوافق علي طلبي .. وفي ثاني يوم لاحظ أصدقائي عصام وطارق وزميلتنا علياء غيابي فاعتقدوا بأنني مريض أو شيء من هذا القبيل ..لكنهم تفاجأوا بي وأنا أغادر في الجهة المقابلة مع طلاب المجموعة ( ب ) ..شخص واحد لم يلحظ ذلك ولعل عشرات الأسئلة دارت بخلده عندما لاحظ غيابي في مكاني المفضل بالدرج الأخير ..إنها الرائعة المؤلمة ( امتثال ) .. سلمنا علي بعضنا البعض وسألوني عن سر وجودي مع المجموعة ( ب ) ..فشرحت لهم تفاصيل مقابلتي مع العميد وما حصل بعد ذلك ..لم تضيع علياء وقتاً فانحنت علي مقدمة إحدي العربات في باحة الكلية وأخرجت قلماَ وورقة سطرت عليها طلباً مماثلاً وتوجهت مباشرة نحو مكتب العميد لأجدها في ثاني يوم تجلس بقربي في قاعة المجموعة ( ب ) ..وتبعها في ثالث يوم طارق وعصام .. وعندما اكتشفت ( امتثال ) هروبنا من مجموعة الدكتور جلال واستحالة أن تفعل الشيء ذاته جُن جنونها وأصابها نوع غريب من الإحباط وبكت فوق كتف علياء آخر النهار مثل طفلٍ صغير وقالت لها ..ماذا فعلت لتتخلوا عني بهذه البساطة ..هل كفرت بالله وبسيدنا محمد ؟ ..لقد تزوجت علي سنة الله ورسوله ..والزواج قسمة ونصيب فلماذا تعاقبونني بهذه الطريقة ..قالت علياء ذلك وزادت بأنها تتمني لو تموت لتريحنا وترتاح ..وكان أول شيء فعلته بين المحاضرتين الأولي والثانية أن توجهت نحو مقعدها وقد بكرت هي في الدخول قبل الجميع ..كانت منكبة علي بعض الأوراق .. ولم تشعر باقترابي منها ..صباح الخير ..صباح ..صباح النور ..سلمت عليها بمحبة وصدق وبادلتني نفس الشعور ..كيفك ( امتثال ؟ ) ..آمل أن تكوني سعيدة مع الدكتور جلال ..وأنا ..وأنا ..أنت ماذا ؟ هكذا سألتني عيناها ..وأنا لست عاتب عليك بعد ..صدقيني يا امتثال أنت الآن أغلي عندي من أي وقت مضي تماماً كرقية أختي ..وإذا أساء الدكتور جلال معاملتك أو اضهدك لأي سبب في يوم من الأيام ..فقط كلمينا لنحضر أنا وبقية الشلة لنغتاله أو علي الأقل نعلمه كيف يتعلم أن يصون جوهرة غالية مثلك ..وكنت أعني كل كلمة أقولها ..نهضت من مكانها وقالت لي بحرارة ..أشكرك من كل قلبي يا قصي أشكرك جداً علي تفهمك لموقفي .. وفي الواقع ..وفي الواقع ..ثم لحظة صمت ودمعتان غاليتان انحدرتا علي وجنتيها الساحرتين ..كان الموقف فوق احتمالي وخفت أن يدخل أحد الزملاء فجأة فيسيء الظن بنا . .تركتها تكفكف دموعا ..وأنا أهمهم ..نشوفك ..اتفقنا ؟ ..اتفقنا..قالتها وهي تؤمي برأسها ونصف ابتسامة ارتسمت فوق شفتيها الورديتين .
* * *
لا تزال علاقتنا مع أعمامي في البلد قائمة بالرغم من الأحداث المروعة التي وقعت هنالك وسقوط عدد من أبناء عمومتي بين قتيل وجريح ..فقد كانوا بالرغم من كل ذلك الواقع المرير يرسلون لنا نصيب والدنا كل من التركة التي تليه ..بعض الأغنام والبلح والفول المصري والقمح ..لذلك عندما حضر عمي بشارة لمنزلنا اعتقدت أن زيارته تجيء في هذا الإطار ..بيد أنه فاجأ الجميع عندما شرح لأمي الغرض من زيارته ..إنه يطلب شقيقتي رقية لابنه المعتصم بالله وكان قد حضر معه في آخر زيارة لنا .. قالت له المعتصم علي العين والرأس وهو منا وإلينا ولكن رقية صغيرة علي الزواج وأمامها مشوار طويل في التعليم .. متي ستكمل الثانوي العالي وهي في السنةالأولي .. ومتي تلتحق بالجامعة وتتخرج ..والمعتصم ما شاء الله ولد ليهو قيمه وتاجر مواشي كبير ..خلينا ننتظر شويه يا عمده ..وأنت يا كبير العائلة ..ما رايك ؟ ..وكان يوجه الحديث لي ..والله يا عم أنا أتشرف بالمعتصم بالله زوج لشقيقتي ..فهو شاب خلوق ومهذب وهو في النهاية إبن عمي ..أري أن نسأل رقية عن رايها فهي صاحبة الشأن ..ثم .. كيف نقيم عرساً وأبناء عمومتي من الجانبين ينتظرون تنفيذ أحكاماً بالإعدام ..ألا تري يا عنمي أن الوقت غير مناسب للأعراس ..صحيح نسيت أن أخبركم ..لقد توسط الشيخ ( الضهبان ) بارك الله فيهو بيننا وأبرم صلحاً برعاية حاكم الأقليم يتولي بموجبه شقيقي العمده ( خضير) العمودية وأمثّل أنا أهل الدائرة في الانتخابات القادمة وقد بارك الرئيس جعفر النميري ذلك الصلح وأصدر عفواً شاملاً عن المحكومين ..لقد أقمنا احتفالاً كبيراً بهذه المناسبة ..يا الله كيف فات علينا دعوتكم ..أصابني نوع من الأحباط من القضية برمتها خطوبة شقيقتي واحتمال أن توافق وتقطع تعليمها ..لماذا ؟ ..ألم توافق ( امتثال ) بالزواج من الدكتور جلال خلال أيام ..لكن ما أحبطني حقيقة تجاهل أعمامي لنا .. نحن من نحن .. والله آسف وتمسحوها لينا في وجوهنا وليكم عليّ نعزمكم ونحتفل معاكم أسبوع كامل ..اسبوع ؟ ..ما قصة هذا ( الأسبوع ) معك يا قصي ..تتزوج امتثال خلال اسبوع ويحتفل بكم أعمامك لمدة أسبوع ..ها قد عادت رقية من المذاكرة ..أهلاً عمي بشاره ..كيفك .. إن شاء ناس البلد بخير ..بخير يا عروستنا ..أقصد يا بنيتي .. رقية قبل ما تقعدي دايرك في كلمتين .. أخذتها خارج الغرفة وحملت لها السبب من زيارة عمي ..هل تمزح يا قصي ..أم أن هذه نكته سخيفه ..عشان كدااا .. يا عروستنا ويا بتنا ..لا بالله .. معقول أتزوج وأنا في أولي عالي وأترك مستقبلي ودراستي ..؟ ..المهم رأيك شنو ..أرفض رفضاً باتاً بالرغم من احترامي وتقديري لابن عمي المعتصم فهو ( زول جنتلمان ) ..يعني هذا رأيك الأخير ..طبعاً يا قصي ..تركتها وهي تردد يا الله ..دي مفاجآت شنو دي ؟ .. قلت لعمي بطريقة الكبار ..والله يا عمي كان لينا عظيم الشرف لكن القسمه ما ساقت ..رقية ترغب بالدراسة .. لم تتفوه أمي بكلمة واحدة وتحولت إلي قطعة حجر لا تري ولا تسمع بعد أن جاء عمي علي ذكر الشيخ (الضهبان ) ..هل يكون هو أبو قصي ؟ ..استغفر الله العظيم
هذا موسم الأحلام المؤجلة بل والميتة ..ما الذي بيديك لتؤجله وقد انتهي كل شيء ..انتهي الدرس يا غبي ..اين سمعت هذا الكلام ..في الإذاعة ؟ ..ربما .. أم في التلفاز والصحف اليومية ..هل أنا غبي فعلاً.. اذهب كل يوم إلي الجامعة وأتظاهر أمام زملائي لا سيما امتثال بأن كل شيء عال العال ..أضحك بكل العنفوان لأوهم الجميع بأنني بخير وفي الواقع كنت إنما أضحك علي نفسي وعلي حالي ..وعلي أية حال لن أذهب إلي الجامعة اليوم .. سأتسكع في مكان ما ..مكان يمكنني أن أرهن فيه أحزاني ..توجهت صوب محطة السكة حديد إنه أفضل مكان لذرف دموع الوداع ..وباحة لتلويحة متعبة بمنديل ..يطير بلا جناحين في فضاء المحطة ليعود بعد أن تطلق القاطرة صافرتها الحزينة ليكفكف دمعة ما تسربت من بين زوايا العيون ..باااي ..مع السلامه ..ما تنسي تتصل ..الجوابات ..نعم ..؟! ..قلت ليك الجوابات ..ما تنسي تكتب لي بعد ما تصل ..بيد أن كلماتها ارتطمت بجدار طقطقات عجلات القاطره ..وفي لمحة واحدة ..تباعدت عيون وأحضان ولم تبق سوي الذكريات ..لمحتها وهي تنتحب بشدة والزفرات ترجها رجاً الجوابات ؟! ..مع من تود التواصل هذه الأنيقة الصغيرة .زيا الله ..يا لنعموتها وإشراقها ....علي مهلك يا صغيرتي علي مهلك يا ..مي ..اسمي مي ..هل تعرفني ؟ ..أم حدث والتقينا من قبل ..لا ..أنا لا أعرفك ..لكن دموعك من بين جميع المودعين شدتني إليك ..هل أنت عاشقة ..أم ..آسف إذا سألت يعني ..لا ليس كما تتوقع ..إنه شقيقي الأكبر والوحيد يسافر إلي كوستي ومنها بالباخرة للجنوب ..هل هو جندي في الجيش ؟..لا في البوليس ..أخشي أّلا أراه ثانية ..لقد تخرج حديثاً من كلية البوليس ونقلوه إلي ملكال ..ملكال مدينة عظيمة وكبيره ..مثل الأبيض وكسلا والقضارف فلا داعي للخوف ..أمي لم تتمكن من الحضور لوداعه لأنها مريضة ولكنها كانت تبكي طول الليل ..ووالدك ..أين والدك ؟ ..والدي توفي منذ عام ..كان يتلهف لرؤية شقيقي (سراج ) وهو يرتدي البزة العسكرية ..لكن سائق شاحنة متهورة دهسه وهو يهم بالدخول إلي مكتبه ..كان يعمل في حقل المحاماه ..ولكن لماذا اتكلم معك بهذه الصراحة ..من أنت ؟ ..حتي أنني لا أعرف اسمك ..أنا قصي وأدرس في الجامعة كلية الآداب ..ويتيم أيضاُ ..نحن إذن يتيمان في المدينة ..وأخيراً عادت الإبتسامة إلي فمك الرقيق يا مي ..تعرف يا قصي ..ما جعلني أطمئن إليك ذلك الشبه الرهيب بينك وبين سراج ..علي الأقل في الشكل بيد أنه عصبي ومشاكس وقوي الشكيمة وهذا ما يجعلني أخاف عليه .. سراج إنسان حبيب إلي قلبي ولا نريد أنا ووالدتي أن نفقده في حرب الجنوب .. ليت السلام يعم البلد ليعود لنا سراج سالماً ..أتمني ذلك ..ولكن قل لي ..من كنت تودع ..لا أحد ..جئت لأرهن أحزاني هنا حيث الدموع والمناديل ولحظات الفراق الصعبة ..وأظنني وجدت الشخص المناسب لأودعه أحزاني ..ولماذا أنت حزين ؟ ..تزوجت حبيبتي وزميلتي من شخص آخر ..ما هذا الهراء يا .... قصي .. يا قصي ..تعرف ؟ ..اسمك صعب جداً ..أنت في مقتبل العمر وأمامك الكثير من الفرص ..زواج حبيبتك لا يعني نهاية العالم ..أها ..هنا فيلسوفة أخري تماماً مثل شقيقتي رقيه ..اختك اسمها رقيه ..نعم ..اسم حبوبات لكنه حلو وهو في البداية والنهاية اسم إحدي كريمات الرسول صلي الله عليه وسلم ..يا سلام عليك يا مي ..مذاكره كويس ..جبت 75% ورفضت التقديم السنه الفاتت وسأعود لأجلس ثانية لأدخل الطب ..موفقه يا مي ..طيب ..عندك مانع نمشي لأي مكان نتعرف فيهو علي بعض أكثر ..زي وين يعني ؟ ..جنينة الحيوانات مثلاً ..والله فكره هائله ..علي الأقل نخفف الضغوط الواقعه علينا ..واقعه علينا بس ؟ ..قولي عامله فينا عمايل ..وضحكنا بعفوية لا تصدق ..أخيراً ضحكنا بصدق وليس إدعاءاً .
* **