الحلقة الحادية عشرة
أسعدني هذا الإنجاز الرائع فتوجهت نحو الجامعة التي فتحت أبوابها من جديد منذ ما يقارب الأسبوع بمعنويات عالية ..فأنا عاطل بتقدير ممتاز وقد أوصدت كل الأبواب في وجهي ومع كل اصطفاق باب أزداد قوة وصلابة وأنا مقتنع بأن الأمور ستؤول للأحسن في نهاية المطاف ..فكرت في الذهاب إلي هناك لأطمئن علي طارق الكردفاني وأين وصلت إعاقته نتيجة حادث المرور يوم أن هُرعنا ب(نسرين ) للمستشفي ..وجدتها وهي تدفعه أمامها علي كرسي متحرك لتعيده للداخلية بعد نهاية المحاضرات ..استوقفتهما وسلمت عليهما بمحبة حقيقية ودعوتهما علي كوب من الشاي بالكافتيريا ..ومن ثّم جلسنا ونحن نستعيد ذكريات السنين الماضية وأخبار أفراد المجموعة الذين تفرقوا في أركان الدنيا الأربعة ..سلافة وقد هاجرت إلي أمريكا مع زوجها القنصل السوداني بسفارتنا بواشنطن ..وعلياء التي تدرس بلندن وأدروب الذي لا نعلم عنه شيئاً منذ ( كرامة ) والدة ( مي ) ..لعله قد سافر إلي كسلا .. بيد أن نسرين الرائعة أو (الواحة ) كما يسميها عصام قد أصبحت بالنسبة له واحة حقيقية بكل ما تحمله هذه المفردة من معامي .. تأتي كل صباح تنتظره أمام داخلية الطلاب تدفعه أمامها بكرسيه المتحرك حتي باب قاعة المحاضرات لتأخذه نحو أي ركن تذاكر معه مقررات السنة الرابعة ثم تعيده للداخلية ..هذا السلوك المستغرب لفت إنتباه العديد من طلاب الجامعة وهذه الجميلة تدفع أماها هذا المُقعد كل يوم ذهاباً وإياباً ..الطلاب القدامي يعلمون تفاصيل الموضوع أما الطلاب الجدد فيتعجبون من إخلاص ووفاء نسرين خاصة بعد أن علموا بأنه لا قرابة بينهما وإنما ذاك الإحساس الصافي إحساس العاشق المدنف.. الطبيب وعدني بإزالة الصفائح المعدنية من أرجلي في غضون ستة أشهر وربما يكون بإمكاني الوقوف من جديد ..لا بل ستقف وأنت بكامل الصحة واللياقة البدنية يا عصام بإذنه تعالي .
زارتنا ( مي ) وشقيقها سراج ووالدتها بمنزلنا وكانت فرحة أمي بهما جدُ عظيمة ..فمن ناحية ها نحن نتعرف علي أصدقاء جدد ومن ناحية أخري سحرت ( مي ) والدتي بروحها العذبة وأناقتها المفرطة وعفويتها ودماثة خلقها ومرحها الذي لا ينقطع ..ضحكت أمي كما لم تضحك منذ رحيل الوالد رحمه الله ..وقامت فنضحت عليها شيئاً من زيت السمسم ودلكت لها ظهرها وأرجلها وهي ترسل التعليقات المضحكة .. باختصار شديد حولت ( مي ) منزلنا إلي عالم من الفردوس ..ولدي مغادرتهم لنا بكت أمي وكأنها تودع فلذة كبدها فعادت مي من جديد إلي الداخل وطلبت من شقيقها أن يذهب بأمهم للمنزل وستوافيهم عند الغروب ربما معي أو مع ( سراج ) وتركنا الموضوع حسب ظروف كل منا ولم تستبعد ( مي ) قضاء الليل معنا إذا لزم الأمر ..لكنني أخذتها بعربة تاكسي حيث منزلهم ولدي عودتي أخذتني الوالدة في برنامج امتد لثلاث ساعات وهي إما تثني علي ( مي ) أو تلمح إلي أنها العروس المناسبة لي ..وربما كانت تلك هي أيضاً رغبة والدتها والتي أكثرت من ترديد بعض العبارات ..( إن شا الله ما نتحرم منك يا رب ..إن شاء الله تبقي لينا عرفه لأبد الدهر ..) .لكن الشيء الذي لا تعلمانه أن هنالك شخص ما يموت من أجل إيماءة واحدة من الساحرة ( مي ) ..إنه الصديق العزيز ( طارق أدروب ) .
لم يمكث( سراج ) طويلاً لقصر إجازته فعاد إلي الجنوب وهو يوصيني علي والدته وشقيقته .. قال لي ..والله يا قصي البت دي ما قاعده تقرأ ..كل همها الاستماع لبرامج الطهي بالتلفزيون ومحاولة تقليدها ..مرضتنا مرض بأكلات ما أنزل الله بها من سلطان وفوق ده كلو أرهقتنا مادياً .. فليتك تشجعها علي المذاكرة حتي تمضي قدماً بالجامعة وأنا في الواقع أشعر باطمئنان شديد عليها وهي ضمن مجموعتكم .. لكن وبعد مضي أسبوع واحد علي مغادرته التقينا أنا وأدروب في الجامعة ورحنا نبحث عنها وعن نسرين وعصام ..عثرنا عليهما وكانت نسرين توشك أن تدخله قاعة المحاضرات فأقترح علينا أن نذهب للكافتيريا لتناول بعض الساندوتشات علي أمل أن تنضم إلينا ( مي ) في أية لحظة ..وكان أدروب يلتفت بين الفينة والأخري باتجاه البوابة لعله يلمح قوامها الفارع يتقدم نحونا ..مضي الوقت بسرعة واقتربت مواعيد المحاضرة التالية ..التفت لأجد أحد الطلاب وبيده صحيفة وعنوانها الرئيسي يقول ( مقتل طالبة جامعية بواسطة مجهول والشرطة تحقق ) ..في البداية لم أكترث للموضوع لكن هاجساً ما ألحّ عليّ إلحاحاً شديداً لكي استعير تلك الصحيفة لأعرف كنه القضية ..استأذنته فناولني لها بلطف وهو يتهيأ للمغادرة وقال لي بإمكانك الاحتفاظ بها فقد إنتهيت من قراءتها ..بدأت أقرأ في تفاصيل الخبر لأجد أن الضحية هي ( مي ) شخصياً .. وقفت وأنا أترنح من هول الصدمة وأردد ( يا إلهي ..يا إلهي ) ..واستندت علي جزع شجرة قريبة من المكان ..أتأوه وقد التف حولي نسرين وأدروب يستوضحان الخبر ..لكنني تذكرت أدروب وما يمكن أن يحدث له فيما لو أخبرته بحقيقة الأمر..لا ..لا ..الموضوع وما فيه أن ( مي ) تعرضت لحادث بسيط وعلينا التحرك فوراً ..في أي مستشفي يا قصي ؟؟!!!..اي مستشفي ..مستشفي ..يبدو أنها قد أسعفت وأعيدت للمنزل يا أدروب ..هيا تحركوا .
وصلنا إلي هناك وعندما توضحت الصورة أمام ( أدروب ) ونحن نرفع إيدينا بالفاتحة ونسرين تجهش بالبكاء وتذوب وسط جموع النسوة لم أتمالك أنا نفسي أيضاً فبكيت بصوت عالٍ وكذلك فعل عصام ..حاول الحاضرون بالمكان تهدئتنا بطريقتهم الخاصة وهم يطلبون منا الصبر والاستغفار ويرفعون معنا الفاتحة ..تهاوي ( أدروب ) نحو جدار المنزل ودفن وجهه في كفيه ..أخذته بالأحضان وأنا أبكي .. بيد أنه ظل ساكناً وهو يرسل نظراته نحو البعيد البعيد ..سألت أحد أقربائها عما حصل فقال لي لقد وجدها تلاميذ الثانوي العالي الذين تعطيهم دروس تقوية ملقاة داخل المطبخ والسكين مغروزة في صدرها وهي تسبح في بركة من الدماء .. جُن جنونهم وخرجوا إلي الشارع يصرخون وهم في حالة مزرية من الرعب والارتباك ..جاءت الشرطة وأخذت الجثة للتشريح وواصلت تحرياتها وقد سمحوا بدفنها بعد ذلك حيث واريناها الثري في حوالي التاسعة أما الحادث فقد وقع عصر أمس ..لم نلبث قليلاً حتي وصل سراج وكان رابط الجأش قوي الجانب واستقبل المعزين وهو يردد ( إنا لله وإنا إليه راجعون ) ومن ثمّ ازدحم المنزل بعدد كبير من ضباط الشرطة بعضهم زملاء لسراج جاءوا لتعزيته وآخرون من المباحث الجنائية وفي خضم تلك المأساة لمحت (سمير ) وهو يركض نحو سراج يحضنه بقوة ويبكي ..ومن ثمّ بدأنا في نصب سرادق العزاء ومعي بعض أبناء الحي وجنود الشرطة وكان سمير أيضاً يعمل معنا ..قرأت ملامحه ولاحظت أن ثمة خدوش جديدة خلف أذنه اليسري وأنه لا يستعمل يده اليمني وهو يساعدنا في شد الحبال وإنما يحركها بصعوبة شديدة ..تذكرت في تلك الحظة صورته وهو يتلصص علي ( مي ) بالمستشفي ..أيكون هو الفاعل ؟!! ..إنتحيت بسراج جانباً وعبرت له عن شكوكي بهذا الشاب ..في البداية لم ترق له الفكرة ولكنه عاد وأقتنع بكلامي ..لاسيما أن الشرطة قد عثرت علي بصمات الجاني في منضدة بالبهو الخارجي القريب من المطبخ وقامت بنقلها وتحفظت عليها كما أن السكين التي عثرت عليها الشرطة مغروزة في صدرها قد تكون مفيدة فيما لو تم القبض علي المشتبه به وأخضع لطابور استعراف بواسطة الكلب البوليسي .. أرسلت نسرين في طلبي لتخبرني بأن والدة ( مي ) بالمستشفي بالعناية المكثفة ..فقد عادت من الجيران لتصطدم بالتلاميذ وهم يصرخون ويولولون فما أن رأت ابنتها في تلك الحالة حتي أغمي عليها ونقلت بسرعة للمستشفي حيث لا تزال هناك ..طلبت منها أن تذهب مع عصام لأن سراج استبقاني لأحكي روايتي للمحقق و( أدروب )لا يزال يلتزم الصمت وهو غائب تماماً عن كل ما يدور حوله من هول الصدمة التي تلقاها لدي وصولنا للمنزل ..وكان من الممكن أن يصاب بالسكتة القلبية لولا أنني مهدت للخبر بقصة الحادث البسيط .. دون المحقق أقوالي وملاحظاتي وتم القبض علي سمير دون تردد .. في البداية حاول الإدعاء بأنه سيساعد الشرطة في إلقاء القبض علي قاتل ( مي ) ..ثم أصابته هستريا مفاجئة وهو يردد ..ما قتلتها ..والله العظيم ده ما أنا ..سراج قال له نحن نريدك كسشاهد لا تخف .. قبلقليل قصي أدلي بشهادتو .
عدت للمنزل وحاولت أن أنقل الخبر للوالدة بأقل ضرر ممكن حتي لا تلحق بوالدة ( مي ) وهي التي أحبتها ربما أكثر منها ..نقلت لها الخبر بالتقسيط وانتقلنا لتمضية أيام العزاء بمنزلهم كأي فرد من أفراد أسرتها ووصينا المعتصم ليأخذ حذره من اللصوص والمحافظة علي ممتلكاتنا علي قلتها .
أخضعت الشرطة ( سمير ) لتحريات في غاية الدقة ..أخضعته للكشف الطبي لتكتشف أن كتفه اليمني مخلوعة وثمة خدوش وكدمات خلف أذنيه وفي صدره ..وذلك بانتظار تقرير المعمل الجنائي حول مضاهاة البصمات التي عثرت عليها الشرطة في كوب العصير مع بصمات أخذت له وذلك قبل أن تخضعه لطابور الاستعراف البوليسي مستعينة بسكين المطبخ وثمة شيء آخر هو العثور في أظافر ( مي ) علي مزق صغيرة من الجلد وبها بقع دماء صغيرة جداً أرسلت هي الأخري للفحص مع عينة من دمه ..وجاءت كل تلك البينات لتعضد إتهامه بقتل ( مي ) فما كان منه إلا أن انهار واعترف بجريمته البشعة وحكي للشرطة كيف أنه حاول اغتصابها في ظل تواجدهما مع بعضهما البعض لوحدهما وأنها انفلتت منه وركضت صوب المطبخ وأخذت السكين لتدافع بها عن نفسها لكنه تمكن من أخذها منها ومن ثم طعنها بها في صدرها وغادر مكان الحادث لتغيير ملابسه التي راشتها بعض البقع الصغيرة من الدماء .. أخذته الشرطة إلي منزلهم وعثرت علي تلك الملابس مخبأة داخل خزانة الملابس .
تحسنت حالة والدتها واستيقظت من غيبوبتها ..وكم كان لافتاً حضور والدة ( سمير ) للمأتم وإصرارها علي البقاء حتي بعد أن تكشفت الحقيقة ..أعيدت والدتها للمنزل لتواجه عاصفة من البكاء من قبل قريباتها ونسوة الحي ..وأجهش بالبكاء كل الحاضرون ..الرجال والشيوخ وحتي الأطفال فقد كانت ( مي ) ..محبوبة لدي الجميع وفقد سراج وقاره المصطنع وتجمله ليحضن أمه وهو يردد ( مي يا أمي ..مي الغاليه ..آآآه يا مي ) أبعدته عنها بقوة حتي لا تنتكس حالتها وحمداً لله أنه بكي أخيراً وإلا من يدري فقد تكون لعدم بكائه عواقب مرضية خطيرة ....خرجت أمها من ( الغيبوبة ) ليدخل ( أدروب ) في ( كوما) من نوع جديد .. فقد صام عن الكلام والأكل والشراب علي مدي يومين كاملين فأضطررنا لنقله للمستشفي حيث قام الطبيب بزرع غابة من المحاليل الوريدية في جسده المنهك ..وقال لنا إن المريض في حالة صدمة فظيعة وسنعمل علي استبقائه هنا لحين تحسن حالته .
عكفت علي ملازمته علي مدي شهر كامل دون جدوي فسمع أهله بالخبر وجاءوا من كسلا للأطمئنان عليه ..وكنت قد أخذتهم لتقديم العزاء لوالدتها ومن ثمً أقوم بأخذهم آخر المساء بعربة المعتصم لمنزلنا وظللنا علي هذا المنوال حوالي أسبوع كامل وفي النهاية يئس ذووه من استفاقته وقرروا نقله لأحد المشائخ بالمنطقة لمداواته بالطريقة البلدية المعروفة
* * *