أحدث المشاركات
صفحة 3 من 4 الأولىالأولى 1234 الأخيرةالأخيرة
النتائج 21 إلى 30 من 34

الموضوع: آخر صفحة في كتاب الألم .. رواية .

  1. #21
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2010
    المشاركات : 1,149
    المواضيع : 174
    الردود : 1149
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي

    الحلقة الحادية عشرة
    أسعدني هذا الإنجاز الرائع فتوجهت نحو الجامعة التي فتحت أبوابها من جديد منذ ما يقارب الأسبوع بمعنويات عالية ..فأنا عاطل بتقدير ممتاز وقد أوصدت كل الأبواب في وجهي ومع كل اصطفاق باب أزداد قوة وصلابة وأنا مقتنع بأن الأمور ستؤول للأحسن في نهاية المطاف ..فكرت في الذهاب إلي هناك لأطمئن علي طارق الكردفاني وأين وصلت إعاقته نتيجة حادث المرور يوم أن هُرعنا ب(نسرين ) للمستشفي ..وجدتها وهي تدفعه أمامها علي كرسي متحرك لتعيده للداخلية بعد نهاية المحاضرات ..استوقفتهما وسلمت عليهما بمحبة حقيقية ودعوتهما علي كوب من الشاي بالكافتيريا ..ومن ثّم جلسنا ونحن نستعيد ذكريات السنين الماضية وأخبار أفراد المجموعة الذين تفرقوا في أركان الدنيا الأربعة ..سلافة وقد هاجرت إلي أمريكا مع زوجها القنصل السوداني بسفارتنا بواشنطن ..وعلياء التي تدرس بلندن وأدروب الذي لا نعلم عنه شيئاً منذ ( كرامة ) والدة ( مي ) ..لعله قد سافر إلي كسلا .. بيد أن نسرين الرائعة أو (الواحة ) كما يسميها عصام قد أصبحت بالنسبة له واحة حقيقية بكل ما تحمله هذه المفردة من معامي .. تأتي كل صباح تنتظره أمام داخلية الطلاب تدفعه أمامها بكرسيه المتحرك حتي باب قاعة المحاضرات لتأخذه نحو أي ركن تذاكر معه مقررات السنة الرابعة ثم تعيده للداخلية ..هذا السلوك المستغرب لفت إنتباه العديد من طلاب الجامعة وهذه الجميلة تدفع أماها هذا المُقعد كل يوم ذهاباً وإياباً ..الطلاب القدامي يعلمون تفاصيل الموضوع أما الطلاب الجدد فيتعجبون من إخلاص ووفاء نسرين خاصة بعد أن علموا بأنه لا قرابة بينهما وإنما ذاك الإحساس الصافي إحساس العاشق المدنف.. الطبيب وعدني بإزالة الصفائح المعدنية من أرجلي في غضون ستة أشهر وربما يكون بإمكاني الوقوف من جديد ..لا بل ستقف وأنت بكامل الصحة واللياقة البدنية يا عصام بإذنه تعالي .

    زارتنا ( مي ) وشقيقها سراج ووالدتها بمنزلنا وكانت فرحة أمي بهما جدُ عظيمة ..فمن ناحية ها نحن نتعرف علي أصدقاء جدد ومن ناحية أخري سحرت ( مي ) والدتي بروحها العذبة وأناقتها المفرطة وعفويتها ودماثة خلقها ومرحها الذي لا ينقطع ..ضحكت أمي كما لم تضحك منذ رحيل الوالد رحمه الله ..وقامت فنضحت عليها شيئاً من زيت السمسم ودلكت لها ظهرها وأرجلها وهي ترسل التعليقات المضحكة .. باختصار شديد حولت ( مي ) منزلنا إلي عالم من الفردوس ..ولدي مغادرتهم لنا بكت أمي وكأنها تودع فلذة كبدها فعادت مي من جديد إلي الداخل وطلبت من شقيقها أن يذهب بأمهم للمنزل وستوافيهم عند الغروب ربما معي أو مع ( سراج ) وتركنا الموضوع حسب ظروف كل منا ولم تستبعد ( مي ) قضاء الليل معنا إذا لزم الأمر ..لكنني أخذتها بعربة تاكسي حيث منزلهم ولدي عودتي أخذتني الوالدة في برنامج امتد لثلاث ساعات وهي إما تثني علي ( مي ) أو تلمح إلي أنها العروس المناسبة لي ..وربما كانت تلك هي أيضاً رغبة والدتها والتي أكثرت من ترديد بعض العبارات ..( إن شا الله ما نتحرم منك يا رب ..إن شاء الله تبقي لينا عرفه لأبد الدهر ..) .لكن الشيء الذي لا تعلمانه أن هنالك شخص ما يموت من أجل إيماءة واحدة من الساحرة ( مي ) ..إنه الصديق العزيز ( طارق أدروب ) .
    لم يمكث( سراج ) طويلاً لقصر إجازته فعاد إلي الجنوب وهو يوصيني علي والدته وشقيقته .. قال لي ..والله يا قصي البت دي ما قاعده تقرأ ..كل همها الاستماع لبرامج الطهي بالتلفزيون ومحاولة تقليدها ..مرضتنا مرض بأكلات ما أنزل الله بها من سلطان وفوق ده كلو أرهقتنا مادياً .. فليتك تشجعها علي المذاكرة حتي تمضي قدماً بالجامعة وأنا في الواقع أشعر باطمئنان شديد عليها وهي ضمن مجموعتكم .. لكن وبعد مضي أسبوع واحد علي مغادرته التقينا أنا وأدروب في الجامعة ورحنا نبحث عنها وعن نسرين وعصام ..عثرنا عليهما وكانت نسرين توشك أن تدخله قاعة المحاضرات فأقترح علينا أن نذهب للكافتيريا لتناول بعض الساندوتشات علي أمل أن تنضم إلينا ( مي ) في أية لحظة ..وكان أدروب يلتفت بين الفينة والأخري باتجاه البوابة لعله يلمح قوامها الفارع يتقدم نحونا ..مضي الوقت بسرعة واقتربت مواعيد المحاضرة التالية ..التفت لأجد أحد الطلاب وبيده صحيفة وعنوانها الرئيسي يقول ( مقتل طالبة جامعية بواسطة مجهول والشرطة تحقق ) ..في البداية لم أكترث للموضوع لكن هاجساً ما ألحّ عليّ إلحاحاً شديداً لكي استعير تلك الصحيفة لأعرف كنه القضية ..استأذنته فناولني لها بلطف وهو يتهيأ للمغادرة وقال لي بإمكانك الاحتفاظ بها فقد إنتهيت من قراءتها ..بدأت أقرأ في تفاصيل الخبر لأجد أن الضحية هي ( مي ) شخصياً .. وقفت وأنا أترنح من هول الصدمة وأردد ( يا إلهي ..يا إلهي ) ..واستندت علي جزع شجرة قريبة من المكان ..أتأوه وقد التف حولي نسرين وأدروب يستوضحان الخبر ..لكنني تذكرت أدروب وما يمكن أن يحدث له فيما لو أخبرته بحقيقة الأمر..لا ..لا ..الموضوع وما فيه أن ( مي ) تعرضت لحادث بسيط وعلينا التحرك فوراً ..في أي مستشفي يا قصي ؟؟!!!..اي مستشفي ..مستشفي ..يبدو أنها قد أسعفت وأعيدت للمنزل يا أدروب ..هيا تحركوا .
    وصلنا إلي هناك وعندما توضحت الصورة أمام ( أدروب ) ونحن نرفع إيدينا بالفاتحة ونسرين تجهش بالبكاء وتذوب وسط جموع النسوة لم أتمالك أنا نفسي أيضاً فبكيت بصوت عالٍ وكذلك فعل عصام ..حاول الحاضرون بالمكان تهدئتنا بطريقتهم الخاصة وهم يطلبون منا الصبر والاستغفار ويرفعون معنا الفاتحة ..تهاوي ( أدروب ) نحو جدار المنزل ودفن وجهه في كفيه ..أخذته بالأحضان وأنا أبكي .. بيد أنه ظل ساكناً وهو يرسل نظراته نحو البعيد البعيد ..سألت أحد أقربائها عما حصل فقال لي لقد وجدها تلاميذ الثانوي العالي الذين تعطيهم دروس تقوية ملقاة داخل المطبخ والسكين مغروزة في صدرها وهي تسبح في بركة من الدماء .. جُن جنونهم وخرجوا إلي الشارع يصرخون وهم في حالة مزرية من الرعب والارتباك ..جاءت الشرطة وأخذت الجثة للتشريح وواصلت تحرياتها وقد سمحوا بدفنها بعد ذلك حيث واريناها الثري في حوالي التاسعة أما الحادث فقد وقع عصر أمس ..لم نلبث قليلاً حتي وصل سراج وكان رابط الجأش قوي الجانب واستقبل المعزين وهو يردد ( إنا لله وإنا إليه راجعون ) ومن ثمّ ازدحم المنزل بعدد كبير من ضباط الشرطة بعضهم زملاء لسراج جاءوا لتعزيته وآخرون من المباحث الجنائية وفي خضم تلك المأساة لمحت (سمير ) وهو يركض نحو سراج يحضنه بقوة ويبكي ..ومن ثمّ بدأنا في نصب سرادق العزاء ومعي بعض أبناء الحي وجنود الشرطة وكان سمير أيضاً يعمل معنا ..قرأت ملامحه ولاحظت أن ثمة خدوش جديدة خلف أذنه اليسري وأنه لا يستعمل يده اليمني وهو يساعدنا في شد الحبال وإنما يحركها بصعوبة شديدة ..تذكرت في تلك الحظة صورته وهو يتلصص علي ( مي ) بالمستشفي ..أيكون هو الفاعل ؟!! ..إنتحيت بسراج جانباً وعبرت له عن شكوكي بهذا الشاب ..في البداية لم ترق له الفكرة ولكنه عاد وأقتنع بكلامي ..لاسيما أن الشرطة قد عثرت علي بصمات الجاني في منضدة بالبهو الخارجي القريب من المطبخ وقامت بنقلها وتحفظت عليها كما أن السكين التي عثرت عليها الشرطة مغروزة في صدرها قد تكون مفيدة فيما لو تم القبض علي المشتبه به وأخضع لطابور استعراف بواسطة الكلب البوليسي .. أرسلت نسرين في طلبي لتخبرني بأن والدة ( مي ) بالمستشفي بالعناية المكثفة ..فقد عادت من الجيران لتصطدم بالتلاميذ وهم يصرخون ويولولون فما أن رأت ابنتها في تلك الحالة حتي أغمي عليها ونقلت بسرعة للمستشفي حيث لا تزال هناك ..طلبت منها أن تذهب مع عصام لأن سراج استبقاني لأحكي روايتي للمحقق و( أدروب )لا يزال يلتزم الصمت وهو غائب تماماً عن كل ما يدور حوله من هول الصدمة التي تلقاها لدي وصولنا للمنزل ..وكان من الممكن أن يصاب بالسكتة القلبية لولا أنني مهدت للخبر بقصة الحادث البسيط .. دون المحقق أقوالي وملاحظاتي وتم القبض علي سمير دون تردد .. في البداية حاول الإدعاء بأنه سيساعد الشرطة في إلقاء القبض علي قاتل ( مي ) ..ثم أصابته هستريا مفاجئة وهو يردد ..ما قتلتها ..والله العظيم ده ما أنا ..سراج قال له نحن نريدك كسشاهد لا تخف .. قبلقليل قصي أدلي بشهادتو .

    عدت للمنزل وحاولت أن أنقل الخبر للوالدة بأقل ضرر ممكن حتي لا تلحق بوالدة ( مي ) وهي التي أحبتها ربما أكثر منها ..نقلت لها الخبر بالتقسيط وانتقلنا لتمضية أيام العزاء بمنزلهم كأي فرد من أفراد أسرتها ووصينا المعتصم ليأخذ حذره من اللصوص والمحافظة علي ممتلكاتنا علي قلتها .
    أخضعت الشرطة ( سمير ) لتحريات في غاية الدقة ..أخضعته للكشف الطبي لتكتشف أن كتفه اليمني مخلوعة وثمة خدوش وكدمات خلف أذنيه وفي صدره ..وذلك بانتظار تقرير المعمل الجنائي حول مضاهاة البصمات التي عثرت عليها الشرطة في كوب العصير مع بصمات أخذت له وذلك قبل أن تخضعه لطابور الاستعراف البوليسي مستعينة بسكين المطبخ وثمة شيء آخر هو العثور في أظافر ( مي ) علي مزق صغيرة من الجلد وبها بقع دماء صغيرة جداً أرسلت هي الأخري للفحص مع عينة من دمه ..وجاءت كل تلك البينات لتعضد إتهامه بقتل ( مي ) فما كان منه إلا أن انهار واعترف بجريمته البشعة وحكي للشرطة كيف أنه حاول اغتصابها في ظل تواجدهما مع بعضهما البعض لوحدهما وأنها انفلتت منه وركضت صوب المطبخ وأخذت السكين لتدافع بها عن نفسها لكنه تمكن من أخذها منها ومن ثم طعنها بها في صدرها وغادر مكان الحادث لتغيير ملابسه التي راشتها بعض البقع الصغيرة من الدماء .. أخذته الشرطة إلي منزلهم وعثرت علي تلك الملابس مخبأة داخل خزانة الملابس .
    تحسنت حالة والدتها واستيقظت من غيبوبتها ..وكم كان لافتاً حضور والدة ( سمير ) للمأتم وإصرارها علي البقاء حتي بعد أن تكشفت الحقيقة ..أعيدت والدتها للمنزل لتواجه عاصفة من البكاء من قبل قريباتها ونسوة الحي ..وأجهش بالبكاء كل الحاضرون ..الرجال والشيوخ وحتي الأطفال فقد كانت ( مي ) ..محبوبة لدي الجميع وفقد سراج وقاره المصطنع وتجمله ليحضن أمه وهو يردد ( مي يا أمي ..مي الغاليه ..آآآه يا مي ) أبعدته عنها بقوة حتي لا تنتكس حالتها وحمداً لله أنه بكي أخيراً وإلا من يدري فقد تكون لعدم بكائه عواقب مرضية خطيرة ....خرجت أمها من ( الغيبوبة ) ليدخل ( أدروب ) في ( كوما) من نوع جديد .. فقد صام عن الكلام والأكل والشراب علي مدي يومين كاملين فأضطررنا لنقله للمستشفي حيث قام الطبيب بزرع غابة من المحاليل الوريدية في جسده المنهك ..وقال لنا إن المريض في حالة صدمة فظيعة وسنعمل علي استبقائه هنا لحين تحسن حالته .
    عكفت علي ملازمته علي مدي شهر كامل دون جدوي فسمع أهله بالخبر وجاءوا من كسلا للأطمئنان عليه ..وكنت قد أخذتهم لتقديم العزاء لوالدتها ومن ثمً أقوم بأخذهم آخر المساء بعربة المعتصم لمنزلنا وظللنا علي هذا المنوال حوالي أسبوع كامل وفي النهاية يئس ذووه من استفاقته وقرروا نقله لأحد المشائخ بالمنطقة لمداواته بالطريقة البلدية المعروفة
    * * *

  2. #22
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2010
    المشاركات : 1,149
    المواضيع : 174
    الردود : 1149
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي

    الحلقة الثانية عشرة
    بذلنا جهوداً مضنية لتجاوز مأساتنا برحيل( مي ) والحالة النفسية المزرية التي وصل إليها ( أدروب ) ..وكان لا بد للحياة أن تستمر برغم تلك الغلالة الرقيقة من الألم التي توشحنا بها وبرغم الإدعاء الزائف بالسعادة وبأن كل شيء علي ما يرام .. كيف صبرنا وتماسكنا ؟! ..الله وحده يعلم كيف وكان علينا أن نستصحب ( مي ) في كل تصرفاتنا .. تلك الإنسانة الرائعة التي علمتنا الرقة والعذوبة وكأنها نسمة صيف مسافرة في سهل واسع ..ضحكاتها .. لمساتها .. كل ما فيها يلون أحلامنا ويُذهب أحزاننا وهمومنا .. وما أنفكت عبارات مثل ( كما قالت ( مي ) وكما قال ( أدروب ) تسيطران علي نقاشاتنا وبوحنا الخاص بالحب والحزن والفرح ..ومضي عام كامل علي رحيل ( مي ) ومرض ( أدروب ) أو بالأحري إنسحابه من الحياة ..وهاهي رقية تضع طفلة رائعة بلون البنفسج اسميناها دون تردد ب( مي ) ..وكانت الصغيرة العزيزة بمثابة البلسم الذي يداوي جراحاتنا ويزرع الإبتسامة من جديد في حياتنا .. وهكذا ودفعة واحدة صرت خالاً وعندما تتعلم ( مي ) الصغيرة الكلام سأعلمها كيف تقول ( خالو قصي عسل ..وخالو قصي حلو ) وما أحلاك وأجملك يا ( مي ) الصغيرة وتلك الابتسامة الملائكية تلون قسماتك الجميلة ..لا لم لم تضحك بعد لكنها حتماً ستفعل .. وكانت سعادة أمي بها لا توصف وكذلك عماتها لا سيما امتثال التي أدمنت المجيء إلي دارنا لتراها وتأخذها بين ذراعيها تهدهدها وتقبّلها في عيونها بالرغم من إنشغالها الدائم بالعمل في السوق وحضور إجتماعات الغرفة التجارية وأسفارها المستمرة ما بين القاهرة ودمشق والخرطوم ..لقد صارت أكثر أناقة وإشراقاً ..ولم يتبق إلا أن تحسم علاقتها بالدكتور جلال الذي ظل يتنقل من هذا البلد إلي ذاك بحثاً عن هيلين وابنتيه.. وأخيراً استقر به المقام بأمريكا وكان من قبيل الصدفة أن يكون هو والقنصل السوداني بسفارتنا بواشنطن زوج الرائعة سلافة أبناء دفعة واحدة منذ الثانوي العالي ..وذات مرة ذهبت لأكون مع عصام ونسرين بالجامعة لحضور نتيجة آخر العام ..وقلت لم لا أراجع البوستة عساني أجد رسالة من علياء رداً علي آخر رسالة بعثتها لها ..لم تعد تكتب لي بكثافة كما في الأشهر الأولي ..وأضحت عباراتها باهتة ومصطنعة .. أقلقني هذا الأمر ولكنني عزيت ذلك لانشغاله ابالتحصيل مع كثرة الواجبات المنزلية التي ترهقها بلا شك .. حسناً يا إبني بلي لديك رسالة ولكنها هذه المرة من واشنطن ..أخذت الرسالة بفرح غامر ..أخيراً تذكرتنا سلافة الغالية علي قلوبنا..غريب أمر هؤلاء الفتيات ..تجد الواحدة فيهن قريبة منك وأنتما تعيشان أوهام الحب والهيام وما أن تتزوج وتُرزق باطفال حتي تركنك علي جنب وتصبح بالنسبة لها أثراً من آثار الماضي لا أكثر ..فضضت الرسالة وقد وجدت فيها الكثير من العتاب والكثير من الأعذار والمقدمات والسؤال عن أحوالنا لا سيما ( أدروب ) فقد خصته بنصف صفحة كاملة .. ثم عرجت علي امتثال ووصول الدكتور جلال لأمريكا بحثاً عن ( هيلين ) وعبر زوجها وعلاقاته بالمؤسسات الرسمية خاصة مكاتب الجوازات والهجرة والشركاتن الأمنية قام بتكليف شركة متخصصة في البحث عن المفقودين مهمتها إجراء تحريات واسعة حول المهام التي تكلف بها .. وكانت مفاجأة لا تصدق عندما عثرت تلك الوكالة علي عنوان إقامة ( هيلين ) في مدينة جامعية تدعي ( ألباني ) حيث تعمل كمعيدة في قسم التاريخ بالجامعة ..توجه الدكتور جلال وزوجها وهي لمكان إقامتها .. كان لقاءاً صعباً وعاصفاً .. تقول سلافة.. وقد استطاع زوجها بدبلوماسيته المكتسبة وبمهنية عالية في التفاوض إقناع هيلين بالعودة للدكتور جلال علي الأقل من أجل الطفلتين اللتين استقبلتا والدهما بالدموع والأحضان وتشبثتا برقبته ترفضان حتي تناول الطعام خوفاً من فقده مرة أخري ..وانتقلنا إلي واشنطن لتوثيق شروط ( هيلين) بالعودة بطريقة مؤسسية ..وكان شرطها الوحيد هو طلاق نهائي لا رجعة فيه لزوجته الثانية ( امتثال ) وكلفت محام أمريكي لهذا الغرض ..وافق الدكتور جلال علي طلبها ووقعت وثيقة الطلاق المرفقة يا قصي بحضور السفير وزوجي كشهود مع تعهد الدكتور جلال بدفع تعويض مالي مجزٍ لرأب الضرر الذي سيلحق بها كونها مطلقة ..لا أدري لماذا انتفض شيء ما في داخلي لكنني كبحت جماحه بعنف حتي لا أعود لدوامة امتثال من جديد .. علي الأقل في هذه المرحلة ..تقول والدتي عندما نطلق في وجهها خبراً أخافها ..( قلبي قال شح ) .. أنا أيضاً قلبي أصدر نفس الصوت ويا له من نبض عجيب لا يأخذ إذناً من أحد .. حملت الخطاب لمكتب إمتثال ووجدتها في إجتماع صغير مع ثلاثة من العملاء المرموقين .. رحبت بي ترحيباً حاراً ودعتني للجلوس ..قلت لها هل استطيع التحدث إليك علي انفراد ؟ ..الموضوع في غاية الأهمية ..استاذن ضيوفها وغادروا المكان وعندما صرنا لوحدنا وبعد مقدمة طويلة ناولتها الخطاب ومحتوياته وهرُعت خارج المحل وعباراتها تتبعني ( قصي إنتظر .. قصي ما الأمر ؟!) لقد خشيت أن أكون شاهداً علي ثاني انكساراتها وهي في عصمة الدكتور جلال وتركتها لتواجه الواقع لوحدها

    لم أر شخصاً يفرح ويبتهج بطلاقه كما فعلت إمتثال ..شقيقتي رقية تحكي لنا الحكاية ..قالت لي ..أخوك قصي قدم لي نهار اليوم أغلي هدية تسلمتها منذ أن ولدت .. فقد أرسل لي جلال صك حريتي عبر عنوان قصي بالجامعة من واشنطن .. تمنيت لو أنه انتظرني لأشكره وليشاركني فرحتي ..بيد أنه سلمني المظروف وولي هارباً .. ماذا كان يعتقد قصي بربك يا رقية ..هل كان يظن بأنني سأبكي وأهيل التراب فوق رأسي لمجرد أن الدكتور جلال طلقني ؟! ..كانت تتقافز كطفلة صغيرة من غرفة لغرفة وهي تمسك بكتف كل من تقابله وتضحك ضحكات هي أقرب للهستيريا وأخيراً هدأت واستكانت وبدا وكأنها تفكر في الخطوة التالية ..لكنهاعوضاً عن ذلك أرخت العنان لدموعها فتدفقت بغزارة وصدي تأؤهاتها يغادر غرفتها ليلفحنا في البهو الخارجي ..حاولت أن أذهب لأواسيهاوأخفف عنها لكن حماتي سامحها الله منعتني وقدمت لي الدروس والمواعظ كعادتها في التنظير اليومي مهما كان الموضوع تافهاً وبسيطاً ..أتركيها تسفح كل أحزانها وتغسل دواخلها من الألم الذي سببه لها الدكتور جلال عندما خدعها وخدعنا وأوهمنا بأنه غير متزوج وأخفي عنا حكاية زوجته البريطانية تلك ..حماتي هذه يا قصي تتكلم بكلام ( كبار ..كبار ..) ..في مره شفت ليها صور قديمه وهي ماسكه مايكرفون وبتخاطب في حشد من السيدات ومره لقينا في غرفتها قصاصات لجرايد قديمه ..سمعت أنها كانت صحفيه خطيره ..لكن ضعف النظر والذاكرة معاً منعاها من الكتابة مجدداً للصحف ..المهم يا زول أغتنمت ليك فرصة مغادرتها للصالون لتأخذ قسطاً من الراحة بغرفتها ..إمكن هي برضو عايزه تغسل ..تغسل شنو ؟! .. دواخلها يا رقيه ..ما حرقتي روحنا ..أها ..حصل شنو بعد دااك ..دخلت عليها فوجدتها وقد دفنت وجهها في الوسادة وهي تنشج في خفوت ..قلت ليها هل أدخل يا إمتثال ؟ ..يبدو أنها فوجئت بوجودي وأنا أقف فوق رأسها فنهضت علي عجلٍ وهي تكفكف دموعها ..اتفضلي يا رقيه ..ممكن طبعاً ..هل أنت حزينة لطلاقك من الدكتور جلال ؟! ..لا ..لا ..إطلاقاً ..أبداً ..لكنني حزينة علي العامين اللذين انصرما من عمري مع هذا الدعي الأجوف ..وحزينة أكثر لأنني ظلمت أخوك قصي ..لقد أحبني وأحببته ولكن طموحاتي وتطلعاتي في الحياة حجبا عني نور الحقيقة الساطع و بأنني ما خلقت إلا لقصي ..يعني أنك لا زلت تشعرين بشيء ما تجاه شقيقي قصي يا امتثال ؟ ..طبعاً وبعد مرور أول أسبوع علي زواجي من جلال .. لكنني كنت أكابر علي أمل أن أنساه ..وكنت أتمزق من الغيرة عندما أراه في الجامعة برفقة صديقتنا في الجامعة ..علياء ..هنا تدخلت لأمنعها في الاسترسال في الحديث بأكثر مما صرحت به ..وغادرت منزلنا بل وركضت باتجاه منزلهم ..طلبت من والدتها أن تدعوها لمقابلتي حتي أتفق معها علي كيفية استلام التعويض الذي نصت عليه وثيقة الطلاق .. تجهمتني ومصمصت شفاهها وكأنها تود أن تقول لي .. خرجنا من كابوس لندخل في آخر .
    والآن يا امتثال ..هل صرت أحسن ؟! ..الحمد لله ..أحسن بكثير ..أريدك أن تحددي المبلغ الذي تطلبينه كتعويض حسب الاتفاق الموضح في الوثيقة ؟ ..لا أطلب شياً فليتركوني وشأني ..وكيف ذلك يا امتثال ؟ ..هذا حقك وقد ظلمك جلال عندما كذب عليك ..تكفيني حريتي ومرارة التجربة التي عشتها وبرغم مرارتها ستكون تجربة مفيدة لي في الحياة ..لكن هذا لا يجوز .. إذن تصرف أنت بالإنابة عني ..ألست جاري وزميلي في الجامعة و..و..أخي ؟! ..طبعاً ..طبعاً وهل يساورك شك في هذا ؟ ..إذن انطلق علي بركة الله ..أتمني ألاّ أخذلك ..أنت لا تخذل أحد ..أنا من يخذل أقرب الناس إليه باستمرار وأولهم أنت يا قصي ..سامحني ..أرجوك سامحني يا قصي ..أنا آسفه وأعتذر عن كل المعاناة التي سببتها لك ..لم أمنحك التقدير الذي تستحقه ولم أعرفك علي حقيقتك إلا بعد أن تهورت وتزوجت من الدكتور جلال ..لا عليك يا امتثال دعي كل شيء للمقادير وإن شاء الله يحصل كل خير ..فقط أريدك أن تستعيدي صفاء ذهنك لتعودي كما عرفتك وحفظتك ..البنت الشقية التي توترني وتفقدني صوابي .. ولن تضيع مني هذهالمرة مهما كانت الظروف ..بالجد يا قصي ؟ ..طبعاً .زاشعر بالرغم من كل شيء بأنك ستكونين لي في نهاية المطاف بإذن الواحد الأحد ..لقد أخجلتني قصي .. كفاك تُرهات ....ولدي باب منزلهم قالت لي وهي تودعني ..أنا آسفه يا قصي ..بالجد آسفه ..وإلي متي سنظل نعيش (فوبيا) الأسف هذه يا شجيرة صحرائي الوارفة الظلال وكل كيمياء التفاعل والتناوش قد عادت لتبحر في عروقي من جديد ؟!!!

    * * *
    باشرت إجراءات استعادة تعويض امتثال والذي تحدد لاحقاً بمبلغ خمسين ألف دولار خصماً علي حساب السيدة ( هيلين ) ببنك باركليز فرع لندن وقد ساعدنا السيد هاشم مندوب المنظمة لما لديه من خبرات في هذا المجال .. طلبت منه أن يوضح لنا الخطوات الواجب اتخاذها عندما حضر لنا ومعه الدعم الشهري وبعد مضي حوالي ثلاثة أسابيع وصل المبلغ وعلي الفور وردته امتثال في حسابها ودعتنا بهذه المناسبة لنذهب كلنا ونتعشي في الفندق الكبير علي حسابها .. تحركنا في حافلة صغيرة ..والدتهاوشقيقتاها انتصار ونوال وشقيقتي رقية وزوجها كمال وطفلتهما ( مي ) وأمي وأنا .. تحلقنا حول المائدة المستطيلة التي رصت فوقها أنواعاً مدهشة من الطعام ..أكلنا ودردشنا وتبادلنا النكات والقفشات وتعمدت امتثال أن تجلس بقربي ..لكن ما أحزنني أنها كانت طوال تلك الأمسية تحدثني عن مشاريعها التجارية بعد هذا الدعم السخي الذي هبط عليها من السماء ولم تمنحني ولو حيزاً صغيراً لأقول لها .. يبدو أنني ..أنني ماذا ؟ ..أنا نفسي لا أفهم هذا الخليط من المشاعر الذي يعتريني تجاهها .. هل هو الجرح القديم وقد عاد لينزف من جديد ؟.. هل هو إحساس حقيقي بالحب الذي لم تنطفيء جذوته أبداً برغم أنها قد تخبو وتشتعل في كثير من الأحيان ..يا إليهي ساعدني لأفهم نفسي وشعوري تجاه امتثال حتي أدخلها في تجربة مريرة جديدة وأدخل نفسي كذلك ..عدنا لمنازلنا وشكرناها بحرارة علي تلك الدعوة الرائعة التي أعادت تماسكنا كأهل وجيران وبيننا الغالية المترفة ( مي كمال ) .
    وكما توقعت .. هاهي امتثال تنخرط في عدد من المشاريع الجديدة وتسافر إلي الخارج ولا تلبث أن تعود لتسافر مرة أخري .. انتبهت لنفسي وتذكرت شركة التهامي التي أسقطتها من ذاكرتي عندما علمت أن الرجل خارج البلاد ..لكنني صممت أن أحاول مرة أخري .. إرتديت أجمل ما لديّ من ثياب وأخرجت بطاقته من المصحف الصغير الأخضر..مصحف المرحوم والدي والذي أحتفظ به كذكري غالية ومنبع تفاؤل ..أعدت المصحف لخزانة ملابسي بعد أن قبلته تبركاً وأملاً في أن أوفق هذه المرة فقد سئمت المكوث بالمنزل بدون عمل باستثناء تلك الأنشطة المحدودة في سوق المواشي مع ابن عمي المعتصم بالله ..دخلت علي السكرتيرة التي لم تسمح لي بالدخول وقالت لي عليّ أن أرتب لك موعداً أستاذ قصي مع السيد التهامي لأنه سيذهب بعد دقائق لاجتماع هام بالغرفة التجارية .. أترك لي رقم هاتف وانصرف حتي استدعيك ..كتبت لها الرقم ومددت يدي به إليها وفي هذه اللحظة أطل السيد التهامي وهو يتهيأ للمغادرة .. رفعت راسي لأقول له السلام عليكم ..فجاوبني بشيء من المرح والود أخافا السكرتيرة ..مش إنت بتاع المظاهرات ؟ ..اتفضل أدخل.. ثم من فضلك يا هناء إتصلي بالغرفة واطلبي منهم تأجيل الاجتماع لمدة نصف ساعه فقدط ..جلسنا علي الأريكة الفخمة بمكتبه .. ولم يجلس علي مكتبه بل جلس قريباً مني ..كان حنوناً وعطوفاً كما رأيته في زحمة المظاهرة ولم أنس قط أنه أخذني إلي كتفه لأبكي من شدة ألمي من زواج امتثال في ذلك اليوم المشئوم ..والآن كيف اساعدك ؟ ..بصراحه أنا أكملت الجامعة كلية الآداب تخصص لغة إنجليزية وترجمه وأبحث عن عمل لأتمكن من إعالة والدتي ..هذا ما كنا نبحث عنه بالضبط .. أنا لا أفهم كثيراً في اللغة الإنجليزية والشركات التي أتعامل معها كثيراً ما ترسل لي مناديبها هنا في الخرطوم فأضّطر لإحضار مترجم .. ومهنة المترجم تتطلب الثقة والدقة والأمانة من الأشخاص المتحاورين ..أليس كذلك ؟ ..طبعاً ..طبعاً .. ُيخيل لي أنك الشخص المناسب لهذه الوظيفة .. ثم نهض وقرع جرساً كان علي درج مكتبه .. حضرت سكرتيرته هناء فأمرها باستدعاء مدير قسم ( البيرسونيل ) علي وجه السرعة ..جاء الرجل علي عجل وهو يردد ..أمرك سيد تهامي ..أمرك سيد تهامي ..خذ الأستاذ قصي وأكمل له إجراءت التعيين بالشركة كمترجم وكن سخياً معه في المرتب وخصصوا له عربه ..ثم هل لديك رخصة قياده سارية المفعول ؟ ..نعم ..نعم ..فقد ساعدني إبن عمي المعتصم بالله علي تعلم القيادة واستخراج الرخصة ..حسناً أراك في
    آخر اليوم.

  3. #23
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2010
    المشاركات : 1,149
    المواضيع : 174
    الردود : 1149
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي

    الحلقة الثالثة عشرة
    وسرعان ما توطدت العلاقة بيني وبين سكرتيرة المدير هناء ..جاءت مع والدتها وإخوتها من ( جوبا) بعد أن تدهورت الأوضاع هناك قبيل توقيع اتفاقية السلام ..كان والدها تاجراً مرموقاً بالاستوائية وعاش سني شبابه كلها بالجنوب يتنقل من مدينة إلي مدينة ..وأخيراً استقر به المقام بمدينة جوبا وتزوج من سيدة جنوبية من قبيلة الزاندي وكانت هناء أكبر اشقائها وقد تلقت تعليماً جيداً ..بيد أنها أخذت من والدها لونها الأسمر الغامق ومن والدتها تضاريس قوامها وهي تميل إلي التحدث بعربي ( جوبا) الشيء الذي جعلها محبوبة لدي جميع الموظفين ..وبعد وفاة والدها ووالدتها باعت كل ماكان لديهم من أملاك وعادت تبحث عن جذورها بشرق النيل .. وكانت رحلة صعبة وقاسية فقد كاد أن يفقد والدها كل صلة له بعائلته الأم نتيجة لبعد المسافة وصعوبة التواصل في ذلك الزمان البعيد .. بيد أن الجد المتعطش لأخبار ولده الغائب منذ نيف وأربعين عاماً وجد في أحفاده وحفيداته رائحة إبنه الغالي الذي ما غادر مخيلته قط ..وكانت هناء صورة طبق الأصل منه .. أخذها إليه وضمها بقوة وقبلهم جميعاً الواحد تلو الآخر ..كان ميسور الحال ولديه تجارة رائجة بالسوق العربي ومع تقدمه في السن اصبح خارج إطار المناخ الاستثماري الجديد فساءت أوضاعه المالية وانسحب من السوق بما تبقي لديه من مال وأودعه إحدي البنوك يسحب منه متي ما يشاء .. ولم يخذله أبناؤه الآخرين الذين تلقوا تعليماً مميزاً وتقلدوا مناصب هامة في الدولة ..كانت فرحتهم بأطفال أخيهم عارمة وتسابق كل واحد منهم لضمهم إليه لكن الجد المستوحش بعد رحيل رفيقة عمره وصباه وجد فيهم السلوي والفرح .. فعادت الحياة تدب في أوصاله من جديد .. ضم ما لديه علي ما أحضروه معهم من مال واشتري لهم منزلاً لا يبعد كثيراً عن منزل العائلة وانتقل للعيش معهم إلي أن لاقي ربه وهو غرير العين مرتاح البال ..يااه يا هناء ..لقد استغربت لغتك العربية المكسرة لدي أول لقاء لنا وأنت تخبرينني بأن السيد التهامي خارج السودان ( سيد تهامي مسا كايرو .. بعدين هو مال بجي بعد إيد ..) .. ساعتها قلت يا لهذه البنت الغريبة .. ربما تكون قد عاشت كل حياتها بالجنوب ..( موسٍ كدا يا كي ) ..ياهو كدي قلت لها وأنا أحاول تقليد عربي ( جوبا ) .
    لم يضيع السيد التهامي وقتاً لتجهيزي لوظيفتي الجديدة فوجه الإدارة بأن تنظم لي فترة تدريبية وزيارات لكل الأقسام حتي أتعرف علي أنشطة الشركة وطريقة إدارتها ولم أكن أراه كثيراً في تلك الآونة وبعد مضي شهر تقريباً طلب مني أن أحضر جواز سفري لأننا سنسافر إلي لندن ..لندن لندن ؟! ..سألته وقد أذهلتني المفاجأه ..أيوه لندن لندن ..لكنني لا أملك جواز سفر وإنما مجرد جنسيه ..لا بأس سلمها مع عدد من الصور الفوتغرافية لقسم العلاقات العامة ولا تقلق بشأن هذا الموضوع..لندن عديل ؟!! ..والدتي ورقية وزوجها كمال يسألون في تعجب ..أيوه ..رحلة عمل ..فاكرني ماشي أتفسح ..لا ..لكن يا وليدي بخاف عليك من ركوب الطيارات ..والدتي المرهفة وقد انخرطت في البكاء كعادتها ..لا يا أمي لن يحصل إي شيء بإذنه تعالي فقط أدعو لي بالعودة بسلام وبالتوفيق ..عافيه منك دنيا وآخره ..يا ربي ترجع بالسلامة .

    لم أكن سيئاً في ترجمة أول اجتماع للسيد التهامي مع رئيس إحدي المؤسسات التجارية بلندن وقد عقد الإجتماع في أجواء رائعة بأحد الفنادق علي هامش عشاء عمل ..لكنني وبعد الاجتماع الأول والثاني صرت أتحدث الإنجليزية بطلاقة أدهشت الخواجات ..وكان كل واحد منهم يسألني ..أين تعلمت اللغة الإنجليزية ..ليتني أستطيع التحدث باللغة العربية بنصف مهاراتك في لغتنا .. وكان السيد التهامي يعقب قائلاً .. لقد تخرج من الجامعة ويحمل درجة البكالاريوس في اللغة الإنجليزية والترجمة ..أوو .. رائع .. لابد أن نظام التعليم الجامعي عندكم لا يضاهي ..وفي عطلة نهاية السبوع استأذنت السيد التهامي في الذهاب إلي أكسفورد لزيارة زميلتي في الجامعة علياء ..فقد اشتقت لهل ولأيام الجامعة وستكون مقاجأة لها وهي لن تصور بأن الفقير إلي الله قصي سيزور انجلترا ولا حتي في الأحلام ..نقدني سيد تهامي مبلغاًً لا بأس به وهو يقول قد تحتاج شراء بعض الهدايا ..فالناس هنا مولوعون بتقديم الهدايا وقلّ أن يزورك شخص لا يحمل في يده بعض الأزهار والحلوي .
    تأملت الريف الإنجليزي من نافذة القطار السريع المتوجه من لندن لأكسفورد وقد تحولت الأرض الممتدة حتي حافة الأفق إلي بساط أخضر ..والبيوت ذات الأسقف الحمراء تناثرت في ثنايا الخضرة الفاغمة مثل ورود ندية ..غادرت القطار وتوجهت صوب الجامعة لأكتشف أنني في ردهات مدينة ضخمة وعالم من الحيوية لم أر له مثيلاً من قبل يتقاطع في جميع الاتجاهات ..اصابني نوع من الدوار وأنا أتحول من مكان إلي آخر أعبر الميادين الفسيحة وأصعد فوق الجسورالمعكوفة والمصنوعة من المواد المحلية فوق منظومة من القنوات الصغيرة ..وأخيراً وبعد أن فقدت الأمل في العثور عليها وقررت العودة لألحق بقطار الثانية ظهراً ..وجدت نفسي أمامها وجهاً لوجه وعلي بعد خطوات فقط وهي تجلس بجوار شاب ذو ملامح مغربية وقد أسندت راسها علي كتفه وهو يمسد شعرها ويدغدغ كفيها .. تجمدت الدماء في عروقي وبت غير قادر علي التقدم خطوة إلي الأمام أو إلي الوراء .. قررت الانسحاب وبسرعة قبل أن تراني ولكنني وقبل أن أبدأ في التحرك التقت أعيننا للمحة عابره ..انتزعت نفسها من بين أحضانه ورأتني وأنا أركض مبتعداً عن المكان باتجاه محطة السكة حديد .. ركضت خلفي ولعلها خمنت بأنني من يركض وعند التفاتتي نحو الخلف في زاوية من المبني الرئيسي للجامعة تأكدت لها شكوكها فصرخت ورائي وهي تهتف ( قصي ..توقف ..أرجوك توقف ) ..لكنني واصلت الركض باتجاه محطة السكة حديد وكان رفيقها يحاول اللحاق بها أيضاً .. انفلت منها حذاؤها وخمارها فواصلت الركض وهي حافية ..( قصي أرجوك يا قصي ..بالله عليك لا تهرب ) .. ومع وصولي للمحطة كانت القاطرة تتهادي نحو الموقع المخصص لوقوفها وبسرعة دخلت القطار وأنا أصطدم بأول شخص كان يهم بالنزول..وما أن وطأت قدماها رصيف المحطة حتي بدأ القطار في التحرك وئيداً وئيداً وكأنه يعاندني .. جلست بقرب النافذة لأجدها أمام وجهي مباشرة عبر الزجاج المبلل بالمطر ..كانت تبكي وهي تضرب النافذة بقوة وحركات شفاهها تقول لي لا تذهب يا قصي أرجوك لا تذهب .. زادت سرعة القطار فتوقفت لتجلس القرفصاء وهي تضع كلتا يديها في وجهها .. في الك اللحظة لحق بها رفيقها وساعدها علي النهوض وفي أول إنحناءة للقطار علي القضيب لمحتها وهي تستند علي كتفه وتلتفت لآخر مرة نحو القطار وهي تلوح لي تلويحة الوداع .

  4. #24
    الصورة الرمزية كريمة سعيد أديبة
    تاريخ التسجيل : Nov 2009
    المشاركات : 1,435
    المواضيع : 34
    الردود : 1435
    المعدل اليومي : 0.27

    افتراضي

    أستاذي الجليل
    لحروفك نكهة خاصة
    تتوغل في المجتمع وتشرّح فئاته بمقدرة عالية جدا ....
    ولأن نصوصك تمنحني دائما الفائدة مقترنة بالمتعة فأنا أحرص على متابعتها بشوق وشغف
    دمت مورقا ومتألقا
    تقديري الكبير

  5. #25
    الصورة الرمزية اماني محمد ذيب قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : Jul 2010
    الدولة : الاردن
    العمر : 36
    المشاركات : 95
    المواضيع : 6
    الردود : 95
    المعدل اليومي : 0.02

    افتراضي

    لك اسلوب مميز
    اريد ان اعترف لك ان اول
    ما شدني هنا...
    على الرغم من كثرة الابداع في هذه الواحة
    هي رواياتك الراااااااااااائعة
    استاذي المبدع
    اتابع بشوق ... احيانا احاول تخمين الحلقة التالية
    ولكن في كل مرة اتفاجأ بالحلقة .. التي تكون عكس توقعاتي
    سيدي
    ان مثل هذه الروايات تجذب الشباب
    اريد ان اطلب منك طلب ... ممكن؟؟
    ارجوا ان يزيد التركيز على الجانب الديني
    الذي يمكن ان تغرسه مثل هذه الروايات في شبابنا :-)
    ودمت متميزاا
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  6. #26
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2010
    المشاركات : 1,149
    المواضيع : 174
    الردود : 1149
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي

    بناتي العزيزات كريمه وأماني ..من هنا من السودان الملثم بالرزاز والمطر هذه الساعة وبمثل نداوة صباحاته المفرحة أبعث بتحاياي وللقيم الدينية بالطبع في قلبي مساحات بحجم الكون وما فائدة الأدب إذا لم يكن هدفه التنشئة الدينية والتربية وتمليكه المثل السائدة في المجتمع للشباب ..لذلك أحرص علي ترديد عبارات مثل ( الحمد لله ويا ما أنت كريم يا رب ...ألخ .. وأربأ بأبطال رواياتي الانزلاق في مهاوي الانحلال الخلقي والتفسخ ..لكن دعونا نعترف بأن فنون الرواية تقعد بنا عن الوعظ المباشر وتمنحنا الفرصة في غرس ما نريد من أخلاق فاضلة عبر مآلات الأحداث بصورة لا تفوت علي فطنة القاريء ..سعدت بكما وأتمني أن أراكم شموساً فس سماء وطننا العربي ومنارات سامقة بإذنه تعالي .

  7. #27
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2010
    المشاركات : 1,149
    المواضيع : 174
    الردود : 1149
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي

    الحلقة الرابعة عشرة
    هل أنا ظالم أم مظلوم ؟ ..ظللت أطرح هذا السؤال علي نفسي طيلة الرحلة حتي لندن ..هل كان عليّ التوقف لأستمع علي الأقل لتبريراتها لذلك الموقف الرهيب الذي صفعني بقسوة وذبح كل تلك الأشواق التي عبرت بها المتوسط لأطفيء لهيبها لدي أقدام علياء ..ولكن .. تأتي الرياح بما لا تشنهي السفن كما يقولون ..لكّم كان صادقاً ذاك الذي أطلق تلك المقولة ..بيد أن العودة لأحضان الوطن والوالدة خففت عليّ الكثير من هول ذاك اللقاء المبتسر مع علياء ..قرعت الباب عند الثانية صباحاً وأنا أحمل حقيبة تنوء بالهدايا .. ملابس وكتب وعطور .. وفي التفاتة وفاء وتقدير أرسلت زجاجة عطر لامتثال مع رقية وزوجها شكرتني عليها بنفسها وهي تُهنئني بسلامة الوصول ..أما لماذا أرسلت لها تلك الزجاجة وعلي أي أساس ؟! ..حقيقة لا أدري .. أليست بنت الجيران وشقيقها زوج لشقيقتي .. ثم ماذا أيضاً ؟ .. أنت دائما تحقق معي يا قلبي وكأنك شرطي ..أليس بوسعي أن أتصرف كما أشاء دون إبداء أي أسباب ؟ ..علي رسلك ..علي رسلك يا فتيً ..أنت وشأنك .
    كيف كانت ال ( جيرني ) تبع مستر تهامي ؟ ..هناء تسأل وقد أحضرت لها أيضاً زجاجة عطر فاخره ..شكراً لأنت ..العفو ..هل حضر السيد التهامي ( نوت يت ) ساعه تاني كمان .. دي مواعيد بتاع همن ..أوكي سأكون بمكتبي وأرجو إخطاري بمجرد وصوله .. أوكي .
    راجعت التقرير الذي عكفت علي إعداده طوال يوم أمس عن رحلة لندن وطبعته بنفسي ..هائل ..هائل يا قصي ..أنت تتقدم في العمل بسرعه ..برافو عليك .. لكنني أريدك في خدمة صغيرة إذا كان وقتك يسمح بالعمل خارج الدوام الرسمي .. أنت تأمر سيد تهامي ..طيب ..أنت تعلم أن العام الدراسي قد أوشك علي الأنتهاء ..وابنتاي فاطمة الزهراء وأم كلثوم تحتاجان بعض المراجعة في اللغة الإنجليزية لا سيما فاطمة فهي ستجلس بعد شهر تقريباً لأمتحانات الشهاده السودانية وشقيتهقا في السنة الثانية ..أنت تعرف بيتنا .. بالطبع أعرف .. أعرف .. إذن نتوقع قدومك عند السادسة مساء ..وهو كذلك .
    كانت سعادتي لا توصف بهذا التكليف لأتمكن من رد ولو بعض جمائل السيد تهامي التي طوق بها عنقي فقد منحني وظيفة وعربه وزيارة للندن والسفر للخارج لأول مرة في حياتي ..قرعت الباب ففتحت لي الخادمة وعندما أخبرتها بأنني هنا بناءً علي طلب السيد تهامي لأذاكر مع البنات ..رحبت بي ترحيباً حاراً وسمعت صوت أنثوي ينادي ..منو ده يا ( هويت ) ؟ ..ده الأستاذ ..ولم تتأخر كثيراً لتقف أمامي بقامتها الباسقة وتفتحها الغير معقول .. أهلاً أنا فاطمة .. وأنا أم كلثوم ..أيكم أكثر جاهزية للحصة ؟ .. أنا .. أنا .. هتفتا بصوت واحد .. طيب خليك مع أم كلثوم وسأصنع لك كوباً من الشاي ..هل السيد التهامي موجود بالمنزل ؟ ..لا ..ذهب لحضور مراسم عقد قران ابنة أحد اصدقائه .. سأعود حالاً ..يا للهول .. من أين لفاطمة كل تلك الوضاءة والنضارة والسحر .؟!
    مضي الوقت سريعاً وقد راجعت مع كل واحدة منهما ثلاثة أبواب ولم اشعر بالتعب وعند التاسعة مساءً حضر السيد التهامي ووجدنا لا نزال نراجع ..أهلاً قصي .. هل كنت تعمل طوال الوقت ..؟! في الواقع بابا ..نحن من استبقيناه ..لأننا بصراحة فهمنا منه دروسنا أكثر من معلم المادة ..لا هذا يكفي .. قوموا وجهزوا لنا شيئاً نأكله .. تناولت معهم العشاء كعائلة واحدة وعدت لمنزلي لأسهر طوال الليل أتقلب في فراشي وأنا أحتضن طيف فاطمة .

    * * *

    أخذتني مشغولياتي المتصاعدة عن موضوع صديقي وزميلي ( أدروب )..إذ لم أسمع عنه شيئاً منذ أن أخذه ذووه لعلاجه علي الطريقة البلدية في كسلا فقد كان عليّ السفر إلي بورتسودان للتنسيق مع هيئة الموانيء البحرية وسلطات الجمارك حول بعض الحاويات التي تحمل أجهزة الكترونية شديدة الحساسية استوردتها الشركة وعوضاً عن السفر بالطائرة استأذنت السيد التهامي في أن استغل السيارة فوافق علي الفور .. أعدت لي الوالدة بعض الزاد ..وسطلاً من الماء البارد والقهوة والشاي اكتشفت لاحقاً بانني لم أكن بحاجة لها لكثرة المقاهي والمطاعم علي جانبي الطريق ..وكانت الطبيعة قد تزينت بالخضرة والهدوء والسكينة وامتدت الحقول الخضراء حتي حافة الأفق .. ومع اقترابي من كسلا التي لم أرها من قبل هالتني تضاريسها الغريبة وكأنها في أمريكا اللاتينية وليس في السودان .. قمم الجبل الملساء والحدائق المترفة وقد نامت علي جانبي القاش وطيبة أهل المدينة ..لم يأخذ مني البحث عن منزلهم كثيراً فقد أخذت تفاصيل المكان من أهله عندما حضروا لأخذه وكان الناس رائعون ومجاملون فكلما اسال أحدهم يشرح لي الاتجاه وأحياناً يرسمه فوق صفحة الأديم .. اعتراني شعور غامض وتوتر شديد خشية أن يكون ( أدروب ) غائباً عن الوعي وذاهلاً عن كل ما حوله .. أخذتني امه بالأحضان والفرحة لا تسعها بقدومي وهي تردد ..كنت أعرف أنكم لن تتخلوا عن زميلكم ..كنت أعرف ..وجدته جالساً فوق كرسي تحت شجيرة مانجو وارفة الظلال وهو ينظر نحو البعيد البعيد .. قالت لي أمه وأنا أتقدم نحوه ..ياهو تراه بالحاله دي ..لم يتغير أي شيء ..وقلت لنفسي لماذا لا أفاجئه بعنف عسي ولعل أن تفك المفاجأة عقدة لسانه .. صرخت باعلي ما استطيع ( أدروووب ..مش ممكن ) .. التفت مذعوراً وقد ايقظته صرختي المدوية تلك .. نهض واقفاً وأرتجف وجهه ..وثارت الدماء في عروقه ..أمتقع لونه واهتزت كل أعضاء جسمه ثم ويا للمفاجأة السارة ..أخذني في حضنه وهو يتمتم (..قصي أخوي ..قصي أخوي ..) ..طفرت الدموع من عينيّ وكذلك أمه فانضمت إلينا تحتضننا معاً ..وما أنفك أدروب يردد ( قصي أخوي ..قصي أخوي ) ومعها هذه المرة ..مي ماتت يا قصي ..مي ماتت ..قلت له بالله عليك يا ( أدروب ) الرسول الكريم تحت التراب ..قل إنا لله وإنا إليه راجعون ..إنا لله وإنا إليه راجعون .. قالها بصوت متهدج من شدة التأثر.
    أمضيت معهم ليلتين لم أفارقه فيهما لحظة وهُرعت نحو السوق واشتريت خروفاً وقمنا بذبحه ( كرامة وسلامه ) كما نقول .. سألني عن كل فرد في المجموعة وقد استعاد ذاكرته تماماً وتناهي الخبر لأفراد اسرته الذين حضروا فرادي وجماعات للتهنئة بخروجه من عزلته ..كان ضعيفاً وواهناً واشبه بالهيكل العظمي ..خرجنا لوحدنا في نزهة في طرقات كسلا بعربتني .. ذهبنا للسواقي الجنوبية ووراء جبل التاكا..وطلبت من والدته أن تجهزه لي بما يلزم بعد أن دسست في يدها مبلغاً من المال ..يا ولدي جيتك لينا دي والله بالدنيا ..تراه أخوك طاب ..لا يا والده لا بد من أخذه إلي الخرطوم لمعالجة هذا الهزال ..لن أتأخر في بورسودان وسأعود إن شاء الله باسرع ما استطيع ..وبالفعل لخصت مهمتي في يوم ونصف وعرجت عليه وأخذته وعدنا معاً للخرطوم وفي الطريق لم اضغط عليه وتركته يعود لطبيعته في تمهل شديد خشية أن ينتكس ثانية ..وبعد وصولنا ذهبنا به إلي اختصاصي في الأمراض النفسية وآخر في الباطنية ومعاً عملا علي علاجه من أنيميا حادة ليتجاوز وضعه النفسي والجسدي السابق ويعود كما كان ( الأدروب ) المرح الذي أحببناه وعلي الفور وجدنا له وظيفة بالشركة بعد موافقة السيد التهامي لتعود رفقتنا من جديد لتالقها القديم .
    *

  8. #28
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2010
    المشاركات : 1,149
    المواضيع : 174
    الردود : 1149
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي

    الحلقة الخامسة عشرة

    كم يحلو لي الحديث مع هناء ..فلا تطلبني للسيد التهامي إلا وتستبقيني في دردشة خفيفة لدقائق قبل أن تقول لي تعال المدير ( عايزتك إنتا ) ..وقد أجده مشغولاً يهاتف شخصاً ما أو يوقع علي بعض الأوراق لأحد رؤساء الإدارات ..فأغتنم هذه الفرصة لأتناول كوباً من القهوة أو الشاي معها وهي ما تنفك تطلق تعليقاتها المرحة حول موظفي وموظفات الشركة وذات يوم وبينما أنا أجلس بجوارها دلفت إلي المكتب فاطمة الزهراء وشقيقتها وهما يتراكضان كطفلتين صغيرتبن ويرسلان الضحكات يمنة ويساراً وعبارة ( سبقتك في الطلوع من الأسانسير) تسبقهما نحونا ....توقفتا هنيهة وقد عادتا للهدوء عندما صافحتني وجوههما الحلوة التي تنضح طفولة .. اتفضلوا ..مالكم واقفين ..هناء تدعوهما . وشقاوة ... أستاذ قصي .. للجلوس .. كيفك .. أهلاً هناء ..بابا موجود ؟! ..أيوه موجود بس أستاذ قصي يدخل في الأول بعدين تدخلوا ..معليش هناء خليهم يدخلوا قبلي أنا بنتظر ..خرج المدير المالي فدخلتا وهما تتصايحان بابا ..بابا .. نتيجة الإختبار النهائي ممتازه .. شايف .. خاصة في الإنجليزي ..كنا قريبان أنا وهناء من الباب الذي تركتاه مفتوحاً والله يا بابا ( الأسبوتنق ) بتاع أستاذ قصي كلو ضرب وبنفس الكلمات ..) هناء غادرت مقعدها وأغلقت الباب وهي تهمهم ..بنات دي مزعجات خلاص ..وفهمت من تلميحاتها أنها لا تحبهما ..ثم ..هناء ..الأستاذ قصي لسه معاك ؟ ..أيوه أستاذ قصي بالله عليك يا إبني توصل فاطمة وأم كلثوم البيت لأنو السائق مريض إذا كان ما عندك مانع ؟ ..علي الرحب والسعة أستاذ .. يلا يا شباب ..تحركنا وشعور رائع يغمرني والسيد التهامي يكلفني من بين كل الموظفين بتوصيل بناته للمنزل .. وما معني ذلك يا بطل ..معناه أنه يثق بي ..معناه أنه يعتبرني كواحد من أفراد الأسرة ..معناه ..خلاص ..خلاص فهمنا .. وفي الطريق عرجت علي مكان للأيس كريم فاشتريت لهما بعضاً منه وعرجت أيضاً علي إحدي المكتبات واشتريت لهم عدد من المجلات ( جيب لينا يا أستاذ مجلة ماجد والعربي وريدر دايجست ) ..ولدي وصولهما للمنزل لم أجد سوي الخادمة وتساءلت بيني وبين نفسي ..تري أين أمهما ؟ ..وهل تعيش مع الأستاذ تهامي بهذا المنزل الفخم أم تعيش في مكان آخر ..كانتا سعيدتين للغاية لا سيما وأنا من سيوصلهما للمدرسة وأعيدهما إعتباراً من الغد كتوجيهات والدهما حتي ظهور النتائج .

    هذا التقارب الجديد بين أدروب وهناء أراحني وقد بدأ صديقي اللدود يتعافي من محنته ويُقبل علي الحياة من جديد وكم كان مفرحا اسلوبهما في السلام كل صباح ..هي تحييه بلهجة الهدندوة ..( دبايوااا ..إيتنننينا) أدروب..وهو يرد عليها ..(كودوال أريييت) هناء ..وبالمثل يخفق قلبي بشدة كلما أعيد فاطمة وأم كلثوم لمنزلهما ..وأعد الساعات والدقائق التي تجمعني بهما مرة أخري بل لقد حسبتهما بالفعل .. أتركهما عند الثالثة ظهراً وأعود لأخذهما السابعة صباحاً ..يعني 16 ساعة وبكدا يكونوا تسعمائة وستين دقيقه ..وصارت فاطمة بنت السيد رئيس مجلس الإدارة كل أحلامي وآمالي .. وفي غمرة إنشغالي بها نسيت امتثال أو هكذا خُيل إليّ ..وذات صباح صدمني خبر بالصحيفة يقول أن الشركة التي تخصها قد عجزت عن سداد قرض كبير لأحد البنوك ..ويعرض الإعلان بعض ممتلكات الشركة للبيع في مزاد علني ..أسرعت إليها علي الفور بمكتبها ووجدت معها عدداً من الأشخاص هم أركان حرب شركتها ومعهما كمال زوج شقيقتي رقية وشقيقها بالطبع ..استقبلتني بحرارة لا توصف وأعلنت للحضور فض الإجتماع ..كانت متألقة بالرغم من حالة الإحباط التي تلون قسمات وجهها المُترف ..ما الموضوع يا امتثال ؟ ..مصيبه يا قصي .. كارثة ..تعرضنا لعملية نصب واحتيال كبيرة والسبب هو نسيبك العزيز شقيقي كمال.. الذي صار في الأيام الأخيرة يتلاعب بأموال الشركة كما يحلو له .. ودعني أبوح لك بسر لكن رجاءاً لا تخبر رقية ..فقد وقع في شباك فتاة خطيرة وذكية ومستهترة ..أغرته بجمالها واجتذبته لطاولة قمار بإحدي المنازل المشبوهة وعرفّته علي عدد من الأجانب لديهم شركة وهمية ..وعند هذه النقطة لم تتمالك نفسها فانخرطت في بكاء شديد .. لقد تهدم كل الذي بنيته بتعبي وعرق جبيني يا قصي بسبب شقيقي كمال ونزواته المملة تلك ..إهدائي يا امتثال ..إهدائي يا حبيبتي ..هنا رفعت وجهها المبلل بالدموع من بين ثنايا كفيها وحدقت في وجهي ..هل قلت حبيبتك ؟!! أنا حبيبتك يا قصي بعد كل الذي فعلته بك ؟ ..طبعاً ..حبيبتي أمس واليوم وغداً وإلي آخر العمر ..آهٍ قصي ..أنت تجاملني لا ريب وتحاول رفع معنوياتي ..أشكرك في جميع الأحوال ..قلت لها سأطلب من السيد التهامي مساعدتكم ..هنا انتفضت كمن لدغته حية ..لا يا قصي .مستحيل أقبل مساعده من أحد ..سأواجه مصيري في الشركة وحدي ولو أدي ذلك إلي إعلان افلاسها والخروج من السوق ..وبالفعل هذا ما حصل .. فبعد حوالي أسبوع من لقائنا ذاك أعلنت الشركة إفلاسها وطُلب من الدائنين مقابلة المحامي المكلف بتصفية الشركة .

    * * *
    لقد قالوا لك منذ البداية يا قصي أن كمال هذا عربيد وسكير ومقامر .. لكنك لم تأخذ الأمر علي محمل الجد ..وقلت في نفسك عسي ولعلّ يتحسن في المستقبل بعد الزواج .. وكانت شقيقتي رقية آخر من يعلم بما يدور حولها .. فقد كان يتذرع بشتي الأعذار وهو يزور تلك السيدة المشبوهة ويقامر .. بل لقد ذهب به العشق لأن يشتري لها ولوالدتها تذاكر سفر للقاهرة للعلاج وتكفل بجميع نفقات الإقامة والعلاج بدون علم شقيقته امتثال .. وكان لا بد من إخطار رقية بحقيقة زوجها وعليها هي أن تعالج الموقف وفق ما يمليه عليه ضميرها ووضعها لا سيما وقد ُرزقت منه بطفلة في عامها الأول ..ويبدو أن رقية لم تضيع وقتاً فقد حولت حياته إلي جحيم لا يطاق فانغمس أكثر فأكثر في شرب الخمر والسهر خارج المنزل ولم يعد يقامر كما في السابق بعد أن لفظه رفقاؤه أولئك ..ولماذا يسمحون له باللعب معهم وقد علموا بحقيقة إفلاسه ..وذات مساء وأنا أنام في باحة منزلنا ونسمات صيفية رائعة تداعب وجهي تناهت إلي سمعي أصوات استغاثة من الجانب المقابل للشارع وكأنها تقول ( ألحقني يا قصي !! ) .. هل يكون هذا صوت شقيقتي رقية ؟ ..ارتديت ملابسي علي عجل وهُرعت نحو منزل امتثال حيث يقيم كمال ورقية .. قرعت الباب بعنف شديد ففتحت لي الباب إنتصار كبري شقيقاته وقد بدا عليها الانزعاج الشديد ..ألحق يا قصي كمال أخوي عاوز يقتل رقية ..كانت غرفة نومهما مغلقةً وقد وقفت والدته وامتثال واعتدال بملابس النوم فقط وهن يطلبن منه في إلحاح شديد أن يفتح الباب .. لم أتواني في اقتحام الباب بكل ما أُوتيت من قوة لأفاجأ بكمال وهو يحمل سكيناً بيده ورقية تركض هنا وهناك وهي تقذفه في وجهه بكل ما يقع علي يدها من أثاث وكتب وأجهزة كهربائية وزجاجات عطر ..أرمي هذه السكين فوراً يا كمال وإلا سأقتلك فاهم ؟!! ..حالت والدته وامتثال بيني وبينه واختبأت رقية وراء ظهري وهي ترتجف من شدة الذعر ..أخذت والدته منه السكين وهي تردد ..إهدأ يا كمال ..الله يرضي عليك تهدأ يا ولدي ..ملعون أبوكي يا رقية يا وجه النحس يا فقُر يا تافهة يا حقيرة .. احترم نفسك يا تافه يا سكير يا مجرم .. إحترم نفسك وحافظ علي ألفاظك ..صرخت في وجهه وقد وصلت إلي درجة من الإنفعال جدُ رهيبة ..ثم ..اسمع يا قصي .. اختط طلقانه بالتلاته .. طلقلنه بالتلاته ..سامع ؟! .. يلا أطلع بره من هنا ..ثم ارتمي علي السرير وهو ينشج كالأطفال ..مقبوله منك يا كمال ..والحمد لله إنها جات منك ..ما تصدقوا يا ولدي ..كمال سكران ما واعي بالبقول فيهو دا ..يا خاله كمال ولدك طلق رقية وبالتلاته وكلنا شاهدين علي الكلام ده ..وبرضو إنتو أهلنا وجيرانا مهما حصل من كمال ..رقية تشبثت برقبتي وهي تردد .. أخرجني من هنا يا قصي .. أرجوك أخرحني من هنا ..يا أخوانا أخذوا الشيطان وحلو مشاكلكم بالهداوه ..إمتثال وهي تحاول ترميم الموقف دون جدوي ..حملت رقية رضيعتها التي كانت تغط في نوم عميق ولدي الباب طلبت مني إمتثال التزام الهدوء ..عليك الله ما تعمل اي حاجه وبكره نتقابل ونشوف البحصل ده شنو ..وفي صباح اليوم التالي حضرت إلينا وبرفقتها والدتها وشقيتاها انتصار واعتدال ومعهم بالطبع كمال ..إعتذر بشدة عما حصل منه من تصرفات ليلة البارحة ووعد بعدم تكرارها إن عادت إليه رقية ..قلت لهم أنا أتفهم مشاعركم النبيلة وأنتم دائماً هكذا نعم الأهل ونعم الصحبة ..لكن القرار بيد رقية .. ساسألها وأعدكم إن هي وافقت ستعود برفقتكم في الحال ..دخلت علي رقية وكانت قد استيقظت للتو من نومها وشرحت لها طلب عائلة زوجها كمال وأنهم موجودون في الخارج .. قالت لي إنها لن ترجع له مهما حصل وإذا كان قد تشكك في الطلاق بدعوي الخمر سأذهب إلي المحكمة واشرح لها ما حصل وقد أفتح بلاغ ضده في البوليس .. كيف سأطمئن إلي شخص كان علي وشك أن يذبحني ..كيف يا قصي ؟! .. رجعت لهم وقلت لهم إن رقية تحترم رغبتكم ..لكن كمال شرع في قتلها وهي لن تكون مطمئنة معه .. ومن حقه أن يزور ابنته في أي وقت يشاء أو يأخذها معه ..لكنها لا تحل له كزوجة بعد ما طلقها بالثلاثة .. إلا إذا ما تزوجها طرف ثالث وطلقها.. ساعتها ستفكر بالموضوع

    أيام عصيبة عشناها بعد طلاق رقية ..فقد أدمن كمال إزعاجنا صباح مساء بحجة أنه يريد أن يطمئن علي ( مي ) الصغيرة ..وأحياناً يصر علي أخذها معه وهنا تثور ثائرة شقيقتي رقية وترفض رفضاً قاطعاً منحه إياها ليأخذها معه ولا تدري إلي أين ..بس البقاله القريبه دي أشتري ليها حلاوه .. وتحت إلحاحه الشديد تعطيها له علي مضض وتظل مصلوبة أمام الباب تراقبهما من علي البعد إلي يعيدها لها وبالمثل ترسل والدته في طلبها وكذلك امتثال وشقيقاتها ..لقد صارت طفلة لطيفة بلثغتها وراءاتها المثقلة بالتأتأة والجمال ..لذلك أحببناها نحن وأحبتها عماتها ..وكنت في كل مرة يأخذها أبوها أو تأخذها عماتها أتعمد رؤية امتثال لأوصيها عليها .. ولاحظت هي أن خطتي مكشوفة عي الآخر لأنني في الواقع لا زلت أحن لها وأشتاق لرؤيتها .. وقد أعاد لها هذا الاهتمام المفاجيء توازنها فعادت من جديد لتعني بمظهرها وتمنحني لحظات عارمة من السعادة والانتشاء .. يحدث كل ذلك بالرغم من وجود الرائعة فاطمة الزهراء ..وهاهو العام ينصرم وتظهر النتائج وتُقبل بالجامعة بدرجة جيد جداً ..وكان الأستاذ التهامي يغتنم كل فرصة يأتي فيها ذكر فاطمة ليذكرني بأن هذا النجاح الذي تحقق يعود لي من بعد الله سبحانه وتعالي .. سهرت الليالي الطوال أراجع معها كل دروسها وفي كل المواد وليس اللغة الإنجليزية فقط ..وقد أثار قبولها بالجامعة خوفي واضطرابي ..إذ أنني خشيت تحولها عني والاهتمام بأحد طلبة الجامعة مع كثرة الطلاب الوسيمين والمهووسين بالجمال .. وما أن تُقبل بعض الطالبات الجميلات بالسنة الأولي حتي يظهر لهن أكثر من طالبٍ خطيرٍ ..ومتمرس ٍ ..فينصب حولهن شباكه الجهنمية تلك .. ومع كل البراءة وضعف التجربة في الحياة تجد الواحدة منهن قد استسلمت لسطوته وجبروته باستثناء الطالبات اللواتي حددن لأنفسهن هدفاً معيناً في الحياة قبل دخولهن الجامعة هو التحصيل الجامعي فقط لا أكثر ..وها أنت تنهي عن شيء قد فعلته ..ألم تمارس كل صنوف التذاكي والشيطنة للفت إهتمام معظمهن ومنهن بالطبع علياء .. أرسلت لك خطاباً بالبريد المستعجل وأنت يا أيها الباهت الممل تقسم بينك وبين نفسك بأن لا تفضه وتقرأه وتركته قابعاً في خزانة ملابسك دون أن تجرؤ علي فتحه ..لعلك تخاف أن تقنعك بأن ما شاهدته من موقف لا يعكس الواقع المعنوي كما تصورت وقد تكون لحظة توقف وإغفاءة علي كتف صديق لا أكثر في مجتمع يتقبل مثل هذه الإشارات..أنت جبان بيد أنك لا تعترف ..ولماذا أعود مرة أخري إلي عذابات علياء وعندي فاطمة الزهراء ومعها حبيبة عمري امتثال وفي أي الحديقتين بنيت أعشاشي لن أندم ..أكيد ؟ ..أكيد طبعاً .

  9. #29
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2010
    المشاركات : 1,149
    المواضيع : 174
    الردود : 1149
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي

    الحلقة قبل الأخيرة ودخلت رقية ليلة طلاقها بهذا الباب ليغادرنا المعتصم بالله بالباب الآخر ..قال لي ليس من العدل أن أبقي تحت سقف واحد مع رقية مع كل الظروف المحيطة بكلينا ..أنت تعلم يا قصي أنني خطبتها من قبل ورفضتني ..وقد يكون في تواجدي قربها عامل ضغط جديد يفاقم معاناتها ..لكنها في النهاية أختك وابنة عمك ..بالتأكيد .. لكن علينا أن نتصرف وفق الأصول المرعية وتقاليد المجتمع وقيمه الفاضلة ..أنت تعطيني محاضرة يا أبن عمي سرعان ما صرت مثقف خرطومي يا أيها القروي المسكبن .. دار بيننا هذا النقاش ونحن نتوجه بعربته ومعنا أدروب الذي راح في ثبات عميق بمجرد مغادرتنا للخرطوم .. فنحن في طريقنا لحضور مراسم عقد قران عصام ود الأبيض علي ست الحسن والجمال( نسرين ) الواحه كما يسميها هو .. كانت الرحلة رائعة في ذلك الطقس الخريفي المبكر فقد هطلت الأمطار ونحن لا نزال في منتصف مارس ..طيب والحل يا ابن العم ..نحن نريدك معنا وفي الوقت ذاته ليس من سبيل لرقية شقيقتي سوي بيت العائلة ولهذا خلقت .. تغادر الفتاة منزل الأسرة مثل عصفورة خضراء ممتلئة بالزهو والكبرياء وعندما تُطلق تعود إلي كنف العائلة مهيضة الجناح .. الحل ببساطة أن نتزوج أنا ورقية ..ماذا ؟ ..ماذا ؟!!! ..هل أنت جاد يا ..نعم بالطبع وهل مثل هذه الأمور تقبل المزاح ..لقد انتظرت حتي تمضي اشهر العدة ولأعطي رقية الوقت الكافي لالتقاط أنفاسها وبطبيعة الحال هي حرة في رفضي للمرة الثانية ورجاءاً ..رجاءاً يا قصي لا تضغط عليها ودعها تقرر في حرية تامه .
    وإتأخرتوا كده ليه ؟ ..اتفضل معتصم ..حمداً لله علي سلامتكم ..والله إيدينا في قلوبنا منذ أن غادرتما ...والدتي وقد انضمت إلي رقية ..الحمد لله يا حاجه ..يلا .. عن إذنكم أوصل أدروب ( الميز) وأمشي الفندق ..وتمشي الفندق كيف يا المعتصم يا ولدي ..؟ ..مع السلامه .. تصبحوا علي خير .. دبايوا ..ثم من فضلك يا رقية أريدك في كلمتين ..ما رأيك رأيك في المعتصم بالله .. أخونا وابن عمنا ؟! ..المعتصم ؟!! ..قالتها في رعبٍ واضح ..أيوه المعتصم ده ..لماذا انزعجت هكذا ؟ ..لا أبداً ..لكن سؤالك غريب ..يا ستي ما غريب إلا الشيطان .. بصراحه وبالعربي الفصيح المعتصم طالب إيدك .. ؟ ..تاني يا قصي .. تاني المعتصم وبعد كل الحصل مني معاه ومع وجود ( مي ) ؟ ..مي ما مشكله وهو قد تعهد بأن يرعاها وكأنها ابنته ..أها .. لحظة صمت وشرود أناخت رحلها فوقنا ..ممكن تديني فرصه أفكر ؟ .. بس حتي الصبح ..ممكن طبعا
    ..ليه لا

    من قال إن ( الصمت رضا ) ؟ لكم هو صادق ..فقد تجمدت شقيقتي رقية تماما وانعقد لسانها وأنا اسالها للمرة الثانية إن كانت تقبل بالمعتصم بالله زوجاً لها ..اشاحت بوجهها في حياء وهي تبتسم ابتسامة عريضة غابت طويلاً منذ زواجها بشقيق امتثال ..إذن علي بركة الله .. شرحنا الموضوع للحاجة وطلبنا منها التكتم الشديد علي الأمر علي الأقل في المرحلة الأولي حتي نسكمل استعداداتنا للعرس وعقد القران في المسجد ليعرف القاصي والداني بأن شقيقتي قد تزوجت للمرة الثانية من ابن عمها ..وبالطبع أخطرت السيد التهامي الذي كان سعيداً بهذا العرس وقد منحني مبلغاً كبيراً من المال وكباردة تقدير ووفاء طلبت منه أن يكون وكيل شقيقتي في كتب الكتاب وقلت له إن هذا الطلب يعني الكثير بالنسبة لي وللاسرة .. أفعل يا قصي بإذن الله أفعل ..وربنا يتمم علي خير ..وكعادتنا في مثل هذه الحالة وعندما تتزوج البنت للمرة الثانية يكون العرس محدوداً وفي نطاق العائلة والجيران ..وفي ليلة الخميس ومراسم عقد القران ستكون بعد صلاة الجمعة ..توجهت إلي منزل أسرة امتثال وشرحت لهم الموضوع وكانت ثمة تكهنات قد ثارت هنا وهناك بأنني أنا من سأتزوج وراحوا يرشحون لي أكثر من صبية جميلة بالحي ..استقبلت النبأ بفرحة طاغية وكانت تبدو مرهقة ومتعبة .. ما بك يا امتثال هل تشعرين بشيء ؟ ..لا ابداً لكنني كنت أعاني مؤخراً من الأرق الشديد ولا أنام جيداً .. ( هل يكون ذلك بسببي .. بسببك ؟! ..ومن أنت لتسهر امتثال الليالي بسببك ..ألا تلاحظ بأنك صرت مغروراً أكثر من اللازم لا سيما بعد أن مُنحت عربة جديدة وتقدمت في السلم الوظيفي بالشركة لتصبح مدير ( البيرسونيل) ..وإنت مالك يا ضمير المتكلم الخائب ).. وطلبت منهم بشكل خاص إخفاء الأمر علي كمال حتي تمضي المناسبة بخير وبعد ذلك من حقه أن يعرف بأن مطلقته وأم طفلته قد تزوجت .. أنت دائماً تراعي الأصول يا ابن الأصول يا إبني قصي ..والله ما عرفنا منك إلا كل خير وخلق حسن .. قالت لي ذلك ونظراتها نحو عينيّ امتثال وكأنها تريد أن تقول إياك أعني فاسمعي يا جاره ..وكان لحضور السيد التهامي لعقد القران وقعه الرهيب في نفسي ووالدتي وكذلك رقية والمعتصم .. ترجل من عربته المرسيدس الفاخرة وفتح له السائق الباب ليترجل .. وعندما سأله المأزون هل تقبل بزواج موكلتك من موكلي المعتصم بالله ...ثم أقبل ..ورُفعت الأكف بالدعاء الجهير اللهم اجعله زواجاً موفقاً ..آمين .. ومع خيوط الفجر الأولي غادرتنا رقية مع المعتصم بعربته ومعهما بالطبع مي الصغيرة لقضاء شهر العسل بكسلا ..وكنت أنا الوحيد الذي يعرف وجهتما تحسباً لمفاجآت كمال ..وبكل سذاجة وغباء حضر لنا صباح اليوم التالي ورائحة الخمر تنبعث من فمه ..وقال لي مبروك يا قصي .. تغلبك بالمال وتغلبها بالعيال .. سوري ..أقصد .. الله يبارك فيك يا كمال .. لكن رقية شقيقتي هي من تزوجت ولست أنا ..رقيه !!..رقيه !!!.. ومي .. اين مي ..مي وين ؟ .. إهدأ يا كمال .. مي طفلة صغيرة ولم تُفطم بعد وتحتاج لأن تكون مع والدتها لترضعها ..هل فهمت ؟ ..لا .. لن أقبل ..أريد مي حالاً وإلا سأدمر هذا البيت بمن فيه وبما فيه .. أعقل يا كمال .. وأكثر من شخص يتدخل لتهدئته .. إعقل يا إبني كلها كذا يوم وتعود رقية مع طفلتك ..هل ستكون أنت أحرص علي الأطفال من الأمهات ..هذا الكلام لن يقنعني ..ومن ثّم اقتحم منزلنا وصار يقذف بكل شيء يقع بيده ويحطم الأواني ويمزق الأغطية وقد تحول إلي ثورٍ هائج لا سبيل للسيطرة عليه .. حضرت والدته وشقيقته امتثال علي عجل وعملتا علي تهدئته فانخرط في البكاء بصوت عالٍ كالأطفال .. أخذتاه بمساعدة الجيران إلي داخل المنزل وأحكمتا إغلاق الباب ..وفي ثاني يوم حضرت لي امتثال لتقول لي إن كمال رفض الأكل والشراب منذ نهار الأمس وأن حالته الصحية تسوء ساعة بساعه .. أخذناه للمستشفي وكان واهناً وشاحباً وبالرغم من ذلك نزع المحاليل الوريدية من يده ودخل في حالة رهيبة من الهستريا والصراخ .. طلبت مني امتثال أن أفعل شيئاً وأحضر له( مي ) مع كل ما يسببه ذلك من إزعاج لرقية وزوجها ..قلت لها لكن رقية والمعتصم في كسلا ..إبقي أنت هنا إلي جانبه وسأعرج فوراً علي المطار وإن وجدت طائرة متوجهة إلي هناك أعدك بانني سأسافر فوراً وإلا فإنني مضطراً للسفر بالباصات .. إفعل ذلك .. أرجوك قصي .. أتوسل إليك .. حياة كمال في خطر ..
    لملمت اشيائي وبعض النقود وأخذت عربة أجرة لأفاجأ بأن طائرة كسلا قد غادرت في الصباح الباكر فتوجهت نحو محطة الباصات وأخذت أول عربة متوجهة لكسلا وفي الطريق إلي هنالك دعوت الله في سري بأن يوفقني في العودة سريعاً بالصغيرة ( مي ) قبل أن يحدث شيء لا سمح الله لوالدها كمال .. ماذا ؟ .. هل جُن هذا الرجل ؟! .. المعتصم بالله وقد أغضبه تصرف كمال .. أما رقية فقد استسلمت وقالت لنا أنتما من يقرر .. وأنا سأقبل ..ودخلنا في نقاشات مطولة طوال تلك الليلة ..وأخيراً استقر بنا الراي علي مغادرة كسلا والعودة ثلاثتنا بعربة المعتصم لإنقاذ الرجل .. ومع وصولنا عند الثانية ظهراً توجهنا مباشرة نحو المستشفي لنجد امتثال ووالدتها بانتظارنا علي أحّر من الجمر .. سألناهما كيف حاله الآن ؟ ..والله مستقرة ..ولا جديد وقد أعطوه الكثير من المهدئات التي لا تلبث أن تزول ليعود للهستيريا من جديد ..هذا بالطبع لأن جسده متخم بالمواد المسكرة .. قلت ذلك في سري .. لا أدري كيف اشكرك يا قصي .. تسافر إلي كسلا وتعود في أقل من أربعة وعشرين ساعة وأنت يا رقية يؤسفني أننا قطعنا لكما إجازتكما .. هذا واجبنا يا امتثال وفي النهاية كمال هو أبو ( مي ) وسلامته تهمنا جميعاً .. دخلنا غرفة الإنعاش ومكثنا طويلاً بانتظار أن يفيق من رقاده .. وبالفعل أفاق ليجد ( مي ) إلي جواره .. حاول أن يقول شيئاً ولكنه عجز عن النطق .. وضعتها برفق علي صدره فضمها إليه وكانت هي نائمة في تلك اللحظة وبعد حوالي ربع ساعة تقريباً تراخت قبضته لتتدحرج مي إلي جواره ..أخذت رقية مي وهي تشهق من شدة الخوف واستدعينا الطبيب المناوب علي عجل .. طلب منا مغادرة الغرفة علي الفور ..ووضع علي فمه ( كمامة الأكسجين ) ..خرجنا كلنا وجلسنا أمام الغرفة وقد أخذ منا التعب كل مأخذ جراء الرحلة القاسية من كسلا حتسي الخرطوم وبعد ساعة من الزمن ودخل أكثر من طبيب وخرج والدقائق تمر بطيئة وقاسية وقبيل الغروب بقليل خرج علينا الطبيب ليقول لنا ..البقية في حياتكم ..إنهارت أمه ودخلت شقيته في نوبة بكاء عارمة ..وعدنا للمنزل بالجثمان لنواريه الثري في موكب مهيب حضره أهله والجيران .. وحرصت طيلة أيام المأتم علي البقاء بينهم لا أغادر المكان لحظة وأنهض لدي حضور كل واحد من المعزين لأتلقي العزاء .. وقد حضر لنا السيد التهامي والزملاء بالشركة .. ووجد موقفي هذا صداه الطيب في نفس امتثال ووالدتها وبقية أفراد أسرتها .

    * * *

  10. #30
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2010
    المشاركات : 1,149
    المواضيع : 174
    الردود : 1149
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي

    الحلقة الأخيرة وكل عام والجميع بخير وأخيراً اكتملت إجراءات محاكمة قاتل ( مي ) وانتهت جميع مراحل التقاضي والاستئنافات وقد حاول محامي المتهم عبثاً إيهام المحكمة بأن القاتل مختل عقلياً فجاء القرار النهائي بإعدامه شنقاً حتي الموت وتأّيد الحكم وتم تحديد موعد التنفيذ .. لذلك عاد سراج شقيق مي من الجنوب لحضور تنفيذ الحكم وقد حرص بمجرد وصوله علي زيارتنا ومعه والدته لتقديم العزاء في وفاة والد الصغيرة ( مي ) وكذلك زيارة شقيقتي رقية وزوجها المعتصم لرؤيتها ..رافقتهما حتي منزلهما الذي لا يبعد كثيراً عن منزلنا ..كانت لحظات مفعمة بالدفء والحنان ..والإحساس الجامح والمشحون بشتي الانفعالات ..أخذت والدته الصغيرة مي إلي حضنها تضمها إليها في شوق ومحبة وتقبّلها بين عينيها وتشمها وهي تردد ( إزيك يا مي .. يا ست البنات ..الراسيات الريقات .. ربنايكبرك ويخليك لينا يا رب يا قادر يا مريد ..) ولم تتمالك أعصابها فبكت بحرقة ونحن نحاول مواساتها ..لم لا ومجرد ذكر مي يحرك مشاعرها ويبكيها فكيف بها وهي تحتضن الطفلة التي أخذت اسم الراحلة الغالية (مي)
    وفي خضم هذه المتغيرات المتلاحقة عاد خالي من أمريكا بعد غياب امتد لعشرين سنة بالتمام والكمال .. جاء وبصحبته زوجته ريم التي تعيش مع أسرتها في المهجر ومعهم طفلتهما (دعاء ) ..وكان أول شيء سأل عنه ونحن نستقبله بالمطار هو أثاث منزله .. ( العفش كيف ؟ ..إن شا الله بتكونوا قاعدين تراقبوه )..وصممت ألاّ أذهب معهم لمعاينة الغرفة لأنني متأكد بأن من سيكلف بإزالة أطنان الغبار والحشرات تلك هو أنا ولا أحد سواي ..لذلك لم يكن بوسعه إلا أن يتكدس هو وزوجته وطفلته معنا .. لكن رقية وزوجها المعتصم بالله أنقذا الموقف بدعوتهما لنا أنا ووالدتي لننتقل للعيش معهما لا سيما والمنزل واسع وبه العديد من الغرف .. رحبت بالفكرة ترحيباً حاراً وعملنا أنا وهي علي إقناع الوالدة التي لا تزال تعيش في الماضي ورائحة الجدة التي توفيت قبل أربعين عاما ً ..وأخيراً وجدنا أنفسنا نعيش كأسرة واحدة بعد التشتت والضياع الذي عانيناه ..قلت لنفسي هذه فرصة مواتية لأتقدم لخطبة فاطمة الزهراء من والدها السيد التهامي .. عرضت عليها الموضوع وقد أعلم حماستها الشديدة وانفعالها بدخول الجامعة وطمأنتها بأن زواجنا لن يؤثر علي استراريتها بالجامعة بل علي العكس من ذلك لأنني حينها سأكون بجوارها طول الوقت أراجع معها دروسها .. لكنني يجب أن أعترف بأنني خشيت إن هي دخلتن الجامعة دون أن أرتبط بها من المؤكد بأنني سأفقدها وإلي الأبد ..وقلت لنفسي لا تكن أنانياً ودعها تحقق أحلامها وانتظرها حتي التخرج .. لا .. لا يا صديقي ..لقد عشت أجواء الحياة الجامعية وفاطمة لا شك ستلفت أنظار الطلاب القدامي بسحرها وجمالها الفائق وهؤلاء الطلاب لديهم اساليبهم الخاصة في استمالة الطالبات (البرالمه) ..فما أن يحدد الواحد منهم هدفه حتي يبدأ في نصب شباكه العنبوتية حولها .. وكثيرات منهن يافعات مترعات بالطفولة وضعف التجربة في الحياة فلا يفرقن بين المكر والدهاء وصفاء النفوس .. عدا طبعاً القلة التي جاءت للجامعة وقد رسمت طريقها سلفاً وبدقة متناهية ..الإطلاع ثم الإطلاع ولا شيء غير ذلك ..هكذا إذن .. أراك تنهي عن اشياء تفننت في فعلها وتفوقت فيها علي ( إبليس ذات نفسو ) .. فإن كانت شباكهم عنكبوتية فإن شباكك جهنمية تحرق الأخضر واليابس والدليل علي ذلك تشرنقك حول علياء وامتثال والآن فاطمة الزهراء .
    طرحت الموضوع علي أمي ففرحت فرحاً غامراً وطرب أدروب لهذه الأنباء وقال لي صديقي سراج .. ده الكلام الصاح .. أيوا خليك جسور ومقدام .. وافقت فاطمة علي طلبي وأخبرتني أن الأمر يتطلب إخراجاً جيداً لعلمها بطبيعة والدها المتزمتة نوعاً ما .. تحضرون بدون موعد بنية التعرف وللتحية والمجاملة ومن ثمّ

    تضعونه أمام الأمر الواقع ؟! ..فاطمة تسأل وقد اتسعت عيناها الواسعتين أصلاً ..والله فكره هائلة يا قصي ..لكن إياك أن تخبره بأنك فاتحتني في الموضوع لأنه سيقتلني دون شك .
    قرعنا الجرس الخارجي فأخذنا الخفير إلي باب الفيلا الفخمة وطلب منا الإنتظار لحظة حتي يُعلم السيد التهامي بقدومنا .. وكنت أنا ووالدتي ورقية وزوجها المعتصم بالله وخالي القادم من أمريكا والذي لم يفتحح الله عليه من هدايا يحضرها معه لي من أمريكا سوي ( تي شيرت ) ضيق وقبيح مررته لأدروب الذي مرره بدوره للمراسلة ..وكان هنالك أيضاً سراج وأدروب .. استغرب حضورنا في تلك الساعة وبدون سابق موعد وبهذا العدد الكبير ..اتفضلوا .. أهلاً بيكم ..شرفتو .. كان مضطرباً واحواله ليست علي بعضها كما يقولون وكأنه اشتّم رائحة المؤامرة التي حكناها انا وفاطمة ..وعبثاً حاولت أم كلثوم استدرجها لمعرفة الأمر لكنها تكتمت عليه .. الجاتوه الكتير دده كلو لمنو ؟..عشرين علبة عصير وماكنتوش يا فاطمه .. ده كتيرشديد ؟.. لأنني سأحتفل بدخولي للجامعة ..أليس من حقي الابتهاج ودعوة صديقاتي ولو مرة واحدة في هذا البيت ؟ ..
    لم حيدث أن رأيته مرعوباً وخائفاً منذ التحاقي بالعمل معه بالشركة ..عرّفته علي خالي القادم من أمريكا صاحب العفش الذي قضت عليه الأرضة وكذلك برقية أختي وزوجها المعتصم بالله وصديقي سراج .. أما أدروب فهو يعرفه من علي البعد .
    إبتدر الحديث إبن عمي المعتصم وتكلم مطولاً عن العلاقات الإنسانية وسنة التعارف بين القبائل والجماعات واستشهد بقدرٍ لا باس به من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة ..وصولاً إلي طلب يد ابنتكم صاحبة الصون والعفاف فاطمة الزهراء لإبننا قصي العمدة ..فغر فاه وسال العرق غزيراً علي وجهه برغم برودة الصالون الأنيق ..ابتلع ريقه وصار يردد .. في الواقع أنتم فاجأتموني بطلبكم هذا وقصي شاب ممتاز لكنني مضطر لرفض طلبه هذا وأتمني له التوفيق مع فتاة أخري وأسرة غير أسرتي ..هنا ساد الجميع وجوم رهيب قطعته أصوات ارتطام آنية منزلية وقد تهشمت .. أكواب وزجاجات عصير وحلوي تناثرت حتي وصلت تحت أقدامناحيث نجلس ..ذلك لأن فاطمة الزهراء كانت تقف قريبة وبانتظار أن يوافق والدها علي خطبتها لتقدم لنا الحلوي والشربات وعوضاً عن ذلك سقطت الأشياء من يدها وهرولت نحو غرفتها تدفن نفسها في الوسادة وتنشج بصوت مسموع .. لحقت بها أختها لتهدئتها .. أما أنا فقد شعرت بدوار رهيب ورغبة في التقيؤ واضطراباً لم اشهد له مثيلاً من قبل ..أحست والدتي بالمهانة والإذلال وأدركت بأننا ما كان أن نتطلع لهولاء الأثرياء ونحن بهذه الحالة من الفقر المدقع .. نهض خالي وهو يقول .. تشرفنا بمعرفتك سيد التهامي وعموماً الزواج قسمه ونصيب .. كذلك نهضت والدتي في تثاقل واضح ونظرت إليّ وكأنها تود أن تقول لي .. أحرجتنا وقللت قيمتنا .. ولم تكن شقيقتي رقية وزوجها بأفضل حال منا.. أما أدروب لوسراجافقد حاولا تخفيف مصابي وأمطراني بتعليقاتهما المرحة التي لم تجد صدًي في نفسي .. تماسك يا قصي .. في ستين ألف داهية .. ربنا ما كتّر غير البنات .. طيب مع السلامه ..ثمّ .. مهلاً .. مهلاً .. توقفوا .. لماذا لا تسألونني عن اسباب رفضي لقصي زوجاً لأبنتي ؟ .. ولماذا نسألك ..يا .. ( بوث ) .. ؟ همست في وجهه ..جلسنا من جديد تحت إلحاحه لنعرف ما الموضوع إن كان لديه أصلاً موضوع .. ثم أرسل في طلب فاطمة ورقية لتحضرا.. عادت وبقايا دموع علقت برموشها الطويلة وهي تكافح لتجفيفها .. أقعدن يا بنات .. فاطمه يا بتي الأستاذ قصي طلبك للزواج وأنا رفضت طلبه لكن قبل أن يغادر ومن أتي معه .. أردت شرح السبب الذي دفعني لذلك الرفض .. لكن قبل ذلك سأحكي لكم حكايه واقعية مائة بالمأئه حصلت قبل حوالي عشرين سنه تقريباً .. نعم .. كان هنالك شخص يعيش مع أفراد عائلته المكونة من زوجته وإبنه وابنته في وئام وسلام .. وفجأة مرض مرضاً شديداً عجز الأطباء .عن شفائه منه بل وحتي سبر أغواره .وفي عصر أحد الأيام مات الرجل أو خُيل لأهله ذلك .. كفنوه وحنطوه وحملوه إلي المقابر ودفنوه ثم وقبل أن يعودوا إلي بيوتهم نزلت أمطار غزيرة لم تشهدها المنطقة من قبل .وسال الوادي القريب من المقابر وأخذ معه كل شيء أمامه ..وتناثرن جثث الأموات بعد أن شلح السيل نصفها ..رقدت جثة صاحبنا في الهواء الطلق تنتظر من يعيدها لقبرها ..لكنه فوجيء بالحياة تدب في جسده من جديد ويبدو أنه لم يمت أصلاً وقد راح فقط في غيبوبة عميقة ..كافح بشدة برغم التعب لإخراج جسده من كفنه وأخيراً غادره وهو مغطيً تماماً بالوحل والطين .. لكنه أدرك بحكته فيما لو أنه عاد لذويه باتلك الهيئة فإنهم لا شك سيظنونه قد بُعث من جديد في شكل ( بعاتي أو سحار ) وفق الثقافة السائدة بالمنطقة .. فلجأ إلي مغارة قريبة وبعد حلول الظلام تسلل عائداً إلي بيته وأيقظ زوجته التي شعرت بالخوف الشديد وطلبت منه أن يعود إلي قبره حتي لا يجلب لها ولأطفاله العار .. طلب منها أن تعطيه ملابس نظيفة وبعض النقود وأوراق تتعلق بتسجيل العقارات .. وعندما وصل السيد التهامي لهذه النقطة شهقت والدتي وأُغمي عليها وسقطت من الكرسي الذي كانت تجلس عليه بلا حراك .. أما أنا فقد استعدت شريط أحداث تلك الليلة الرهيبة التي ظلت عالقة بذاكرتي فهرعت نحوه أضمه إلي ّ وأقّبل يديه ووجهه وأنا أهتف .. ابي العمدة .. أبي الغالي .. أبي الحبيب ..ضمني بقوة إليه وقد طفرت الدموع من عينيه تخضب لحيته الكثة وهو يردد ( قصي يا إبني الحبيب ..سامحني يا بُني ..أرجوك سامحني ..) ..أُصيب الجميع بصدمة شديدة وظلت فاطمه وأم كلثوم ترددان .. أبوك أبوي يا قصي ؟! ..العمده ..؟!!! عمدة منو..؟!!! ..يا أخوانا جيبوا عطور أو اي حاجه نصّحي بيها أختي .. خالي وقد نفد صبره ومن شدة إشفاقه علي شقيقته ..ركضت أم كلثوم نحو غرفتها وعادت بزجاجة عطر وبعض الماء نضحها خالي علي وجهها فعادت شيئاً فشيئاً إلي وعيها وهي تهمهم ..أشهد أن لا إله إلا الله .. محمداً رسول الله ..وبصعوبة شديدة نهضت وتوجهت نحوه وجلست لدي قدميه تحاول تقبيلهما وهي تردد .. سامحني يا عمده ..أنا ظلمتك وظلمت أولادي معاي ..استغفر الله العظيم يا أم قصي .. قومي علي حيلك .. كان ذلك قدرنا وقد قدر الله وما شاء فعل ..الآن يا جماعه عرفتوا ليه أنا رافض زواج فاطمة الزهراء من قصي .. لأنها ببساطة شديدة أخته ولا تحل له كزوجه .. بابا .. إنت حاصل لمخك حاجه ..بابي إتكلن معاي .. فاطمةوهي تحاصره بالأسئلة في وقت لم أزل فيه متشبث برقبته .. نعم يا بنتي .. قصي يكون أخوك والقصه السمعتوها دي عني أنا بالتحديد .. كانت رقية طفلة صغيره في عامها الثاني وقصي في عامه الرابع عندما غادرت الحلة وظللت أتابع مسيرهما عن كثب وقصة الأخ هاشم مندوب المنظمة كانت عبارة عن تمويه لأوصل لكم عبره المصاريف التي تحتاجونها ولا توجد منظمة ولا يحزنون .. ويبدو أنه كان مستيقظاً وخائفاً لذلك تذكر ما حدث .. نعم أبي .زكنت متابعاً لما يدور حولي وأذكر أنك ضممت رقية ومررت يدك في ثنايا شعرك وأنت تقول لأمي ..ما أوصيك علي الأولاد أو شيء من هذا القبيل ..ساد المكان جو من الانفعالات والقُبلات والضحك والبكاء في وقت واحد فطلبت من فاطمة وأم كلثوم أن نخرج معاً إل الحديقة نستنشق بعض الهواء الطلق ولنحررأنفسنا من هذه المفاجأة الرهيبة .. قصي أخوي .. قصي أخوي ..يااااه ..أنا فرحانه .. فرحانه يا قصي وعايزه أطير من الفرح .. معني كدا حترحلوا إنت وأمك من بكره عشان تعيشوا معانا .. مش ؟ ..أم كلثوم تسأل في براءة تحسد عليها ..طبعاً يا كلثم .. طبعاً .. وأمك ؟ ..أين أمك يا فاطمة ؟ ..لحظة صمت .. ثم .. أمي .. أمي ..تعيش إنت .. ماتت قبل خمسة أعوام ..أنا آسف يا فاطمه لم أكن أعرف ..ربنا يرحمها ويغفر ليها .. تعرف يا قصي لو كانت عايشه ما كانت حتزعل من الحصل ده .. بل بالعكس كانت حتفرح فرح شديد لأنها كانت دائماً تقول لينا ..يا ريت لو ولدت ليكم أخو يا بنات ..وهسع إنت أخونا ومعانا ..لكن يا قصي لماذا لم تتعرف علي بابا لما اشتغلت في الشركه ؟! .. أولاً كنت صغير جداً عندما غادرنا وقد ضاعت ملامحه من ذاكرتي بالإضافه إلي أنه كان حليق الذقن ولم يكن بهذه اللحية الكثيفة التي تغطي وجهه الوسيم باستثناء الفم والأنف والعينين .. والآن اسمعن يا بنات من الآن ولاحقاً تسمعن كلام أخوكن الكبير .. واضح ؟ .. حاضر استاذ .

    ***

    إنتهت بحمد لله

صفحة 3 من 4 الأولىالأولى 1234 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. تركيب آخر ......رأي آخر
    بواسطة محمد محمد أبو كشك في المنتدى النَّقْدُ الأَدَبِي وَالدِّرَاسَاتُ النَّقْدِيَّةُ
    مشاركات: 11
    آخر مشاركة: 31-05-2015, 07:28 PM
  2. قراءة لرواية ( آخر صفحة في كتاب الألم ) ..
    بواسطة عبدالغني خلف الله في المنتدى النَّقْدُ الأَدَبِي وَالدِّرَاسَاتُ النَّقْدِيَّةُ
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 26-06-2010, 04:29 PM
  3. طلاب آخر زمن، لأ ونظار آخر زمن!
    بواسطة ماجدة ماجد صبّاح في المنتدى أَدَبُ العَامِيَّة العَرَبِيَّةِ
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 12-10-2007, 09:28 PM
  4. ما هو آخر كتاب قرأته ؟؟
    بواسطة محمد عصام في المنتدى الاسْترَاحَةُ
    مشاركات: 28
    آخر مشاركة: 03-03-2006, 10:47 AM