غلبت العبرة الخطيب وهو يتحدث عن مآسي أسر تشتت بها السبل في نواحي الفلوجة المحاصرة. وتجاوبت جماهير المصلين بصيحات الغضب والتهليل والتكبير وترقرقت عيون وفاضت شؤون.
بدأ توافد المصلين على مسجد أم القرى غربي بغداد من لحظات طلوع الشمس الأولى، وضاقت جنبات المصلى وباحاته والطرق المؤدية إليه بالمصلين في مشهد ينم عن قوة التجاوب معها.
وترقب الجميع من سنة وشيعة حضروا الجمعة الموحدة، الخطبة التي باتت البيان السياسي الحر الوحيد الخالي من التحفظ في بيان أوضاع جماهير الأنبار وبغداد من مقاومين ومتعاطفين.
وارتقى المنبر الأمين العام لهيئة علماء المسلمين الشيخ الدكتور حارث الضاري فأنصتت الجموع تعبدا وترقبا. وعلى قدر أهل العزم جاءت خطبة الرجل فتجاوب الناس بالتكبير والتهليل واختلطت المشاعر والأصوات.
وتوجه الضاري إلى مجلس الحكم فسفه اعتماد "يوم احتلال بغداد يوم عيد, إنه يوم حزن وألم شديد، وتبا لهم على سكوتهم على الجرائم التي ارتكبت بحق الشعب العراقي، وإنهم لا يمثلون إرادة الشعب العراقي وإنهم يمثلون إرادة الاحتلال فإنهم يتبعون إرادته".
ولم يكتف الرجل باستنكار جعل يوم التاسع من إبريل/نيسان عيدا، بل دعا للعصيان المدني على مدى يومين قابلين للتمديد ثالثا، وحرم الاتجار مع التحالف الأنغلوأميركي وقال إن "معركة الفلوجة هي معركة التاريخ ومعركة العراق وأحبابكم في الفلوجة يقاتلون وهم يرحبون بالموت والشهادة". وختم بالدعاء "اللهم عليك بأميركا وبريطانيا ومن والاهم اللهم عليك بالكفر والكافرين والشرك والمشركين اللهم أعن المقاومين المجاهدين عن دينهم وبلادهم".
معلم ورمز
على الطريق السريع الرابط بين الحدود الأردنية والعراق تشاهد لافتة تشير إلى موقع يسمى خان ضاري في المنطقة الواقعة بين الفلوجة وأبو غريب غرب بغداد.
وتسأل سائق السيارة عن دلالة التسمية فيجيبك بثقة إنه مقام آل ضاري زعماء عشيرة الزوبع المنحدرين من قبيلة شمر المنتشرة عبر الجزيرة العربية والشام والعراق.
يحمل الرجل إرث مقاومة تسلسل إليه من جده لأبيه، فهو ابن سليمان بن الشيخ ضاري الحمود أحد أهم قادة ثورة العشرين، الذي قطع مع رجاله خط الإمداد عبر الفرات للقوات البريطانية وأوقعها تحت الحصار وتولى تمويل الثورة بالرجال والسلاح والمؤونة.
وانتقم الإنجليز من الرجل وقبيلته فاعتقلوا رجالها وضايقوها في معايشها وعندما صدر العفو عن رجال ثورة الـ1920 عام 1927 استثني الجد الذي توفي لاحقا في المعتقل عام 1928 وكانت جنازته يوما مشهودا في تاريخ العراق.
ويتكرر المشهد اليوم فيرفع الحفيد عقيرته ضد الاحتلال وينتقم الاحتلال منه في قصف عشيرته في مختلف المناطق وفي طائفته السنية وفي قومه العرب وفي وطنه بتدمير ما لم يدمر منه حتى الآن.
يعتبر حارث أبرز رموز السنة العرب اليوم، وقد ملأ الفراغ مستفيدا من تاريخ أسرته ومن مكانته العلمية بوصفه أحد علماء الحديث والتفسير والفقه.
وتأسست هيئة علماء المسلمين بعد أسبوع من سقوط بغداد، وعاء عاما انضوى تحته علماء السنة وربط علاقات وطيدة برموز الشيعة وحفل نشاطه تعميرا للمساجد وتوعية بمخاطر استهداف الوطن قيما وأرضا ووحدة، فجسدت المرجعية الشرعية للسنة ولعبت الدور السياسي والثقافي والاجتماعي في مختلف مناطق ما اصطلح على تسميته بالمثلث السني.
ولم تختلط على الرجل والهيئة إستراتيجيات التوجه ولا تكتيكات المرحلة، فأكد على المقاومة حقا مشروعا وواجبا لا ينتظر الفتوى، وشارك في العمل السياسي رفدا للجهود الأخرى ودرءا لمفاسد الانعزال عن ساحة أراد الاحتلال من أول يوم تهميش القطاع الذي تمثله الهيئة والرجل.
ويدفع الرجل عن السنة الاتهام بمعارضة الانتخابات ويتمسك بالانتخاب بعيدا عن الاحتلال مدركا أن ظلال حرابه تصنع الحدث لا أصوات الشعب المكلوم، ويرد صفة الأقلية عن السنة فهم أغلبية لا تقل حسب تقديره عن 60%، معتبرا الحديث عن غالبية شيعية بالعراق "دعاية ادعوها وسكتنا عن مجاراتها لأسباب وطنية".