الإعلان عن انسحاب آخر دفعة من القوات القتالية الأمريكية لم يخل هو أيضا من الإثارة والتشويق، تماما مثلما كان الغزو قبل أكثر من سبع سنوات عندما تسلطت الأضواء الإعلامية على صحراء الكويت وسمائها ومياه الخليج وهي تعج بالقوات الغازية، ولكن عندما بدأ الانسحاب المزعوم، فجر الخميس، عبر نفس معابر الغزو والتخريب لم تفلح آلة التضليل في إقناعنا بأن احتلال العراق انتهى، بينما بقي في بلاد الرافدين أكثر من خمسين ألف جندي وأكثر من 80 ألف مرتزق أمريكي مدفوعي الأجر يعملون في العراق ويعرفون باسم المتعاقدين الأمنيين، وهذه قوة تكفي لاحتلال الشرق الأوسط كله وليس العراق وحده.
عربات أمريكية قليلة عادت إلى الكويت، قاعدة الاحتلال الخلفية، لكن وسائل الإعلام الأمريكية لم تترك الحدث يمر هادئا بل صورته على أنه إنجاز وأن آخر فرقة قتالية قد غادرت بلاد الرافدين بعدما سلمت "السيادة" للعراقيين، كما حرصت وسائل الإعلام الأمريكية على تصوير الانسحاب على أنه جاء مفاجئا، قبل المهلة المحددة سلفا نهاية الشهر الجاري مثلما كان الوعد الذي قطعه الرئيس أوباما بعدما تولى رئاسة البيت الأبيض خليفة لمدمر العراق جورج بوش.
فكرة أن انسحاب القوات القتالية الأمريكية من العراق يعني أن الجريمة قد انتهت لا يجب أن تنطلي على أحد، فالاحتلال يتمدد بطرق أخرى، ويكفي أن رقم 50 ألف جندي وعشرات الألوف من المرتزقة، فضلا عن الجواسيس، ليسوا "ملائكة رحمة" هناك بل هم قوات قتالية وربما هم من أسوأ القوات القتالية في الجيش الأمريكي.
قبل أيام ذكرت أوساط أمريكية أن واشنطن ستركز خلال المرحلة الجديدة على تكثيف الجهد الدبلوماسي من خلال إغراق بغداد بجيوش من المستشارين السياسيين للقادة "العراقيين" الذين ولدوا من رحم الاحتلال وترعرعوا في تربته، هؤلاء "القادة" سيكون إلى جانبهم من هنا فصاعدا جنود أمريكيون بلباس مدني يصدرون لهم الأوامر بشكل مباشر، إضافة إلى المستشارين والمرتزقة الذين يجتاحون كل الدوائر في العراق.
ولم يكن مفارقة أن يتزامن الإعلان عن انسحاب القوات "القتالية" مع تسلم سفير أمريكي جديد مهامه في بغداد ليدير أكبر سفارة في العالم، وفق عقلية جديدة، وبمراعاة تطورات كثيرة ستكون حاسمة سواء كان ذلك على النطاق العراقي أوالإقليمي، والمصادر الأمريكية ذاتها لم تخف هذه الحقيقة، إذ أكدت أن السفير جيمس جيفري يتولى مهامه في فترة حساسة، ستكون لها تداعيات وخيمة في هذا البلد مع استمرار التناحر على سلطة فاقدة للسيادة وغير قادرة على إدارة أي ملف منفردة.
منذ أن بدأ التطبيل الأمريكي لسحب القوات وإبقاء عشرات الألوف في قواعد آمنة وتعقد الأزمة السياسية في المنطقة الخضراء، عاد الوضع الأمني إلى التدهور وبدأ العراقيون الأبرياء يسقطون بالعشرات يوميا فضلا عن تفشي أساليب الترويع والترهيب التي تمارسها ميليشيات تابعة لهذا الحزب أوذاك بما يؤشر على أن العراقيين سينتظرون أياما عصيبة أخرى ربما أسوأ مما مضى، بعدما قررت القوات الأمريكية أن تنسحب وتترك الساحة للذئاب الطائفية كي تنهش جسد العراق.
قبل أيام ناشد نائب رئيس الوزراء العراقي السابق السيد طارق عزيز، المأسور عند قوات الاحتلال منذ 2003، الولايات المتحدة عدم ترك العراق للذئاب والميليشيات لتذبحه وتعبث به، وطالبها بتحمل مسؤولياتها القانونية، باعتبارها قوة احتلال بموجب القانون الدولي.
كلام السيد عزيز كان مفاجئا لكثيرين، ولا سيما أنه رجل يذهب ضحية هذا الاحتلال وعملائه، وربما يعدم بسبب الحقد الطائفي الأعمى الذي يستبد ببغداد، وهو عندما طالب ببقاء الجنود الأمريكيين، طالب بقوات مسؤولة أمام القانون الدولي والضمير الانساني لتحمي ما تبقى من العراقيين، بعدما أصبحت الميليشيات المتعددة المذاهب والمرجعيات تشحذ سكاكينها لجولة جديدة من سفك الدماء.
التقارير الأمريكية والغربية وحتى العربية المنافقة لا يجب أن تؤتمن، لأنها كاذبة وتحاول نشر صورة مغلوطة عن واقع العراق، فهذا البلد مازال خاضعا للاحتلال ولم يسترجع أي قدر من سيادته، وما نراه من صور خادعة عن "مسؤولين عراقيين" يروحون ويجيئون، وعن قوات أمنية وعسكرية وحديث عن حكومة وانتخابات وغيرها من الترهات الأخرى، ليس إلا ديكورا فارغا، أما الواقع فعكس ذلك تماما، ويكفي التذكير في هذا المقام بما قاله رئيس أركان الجيش الجديد الكردي بابكر زيباري، حين قال إن الجيش الجديد الذي يقوده لا يكون جاهزا لأداء مهامه إلا عام 2020.
إن ما تكسر وخرب في العراق صعب أن يجبر ويعود بعد سبع سنوات، فالقوات الأمريكية عندما احتلت بغداد لم تكتف بالاحتلال، بل فككت دولة قائمة ونسفت أجهزة ودواوين وإدارات بناها العراقيون جيلا بعد جيل ولم تكن ملكا للرئيس الشهيد صدام حسين، وبالحسابات المنطقية فإن ما أنفق على بنائه قرون وعقود من الزمن لا يعود بهذه السرعة اللهم إلا لتضليل الناس والاستمرار في نهج الكذب الذي نعرف متى بدأ ولا أحد بمقدوره أن يعرف الآن متى سينتهي ومتى ستظهر الحقيقة واضحة وجلية.
العرب