الحلقة السابعة والأربعون
تواترت الاتصالات بين الخرطوم ونيويورك تطلب سرعة عودة شقيقتي سلمى وزوجها ريمون أو شنكل بالمفهوم القديم .. ولكن لماذا هذا الإلحاح من جانب المستر ريتشارد ؟! .. الإجابة بسيطة يا حربي .. قال لي شنكل ونحن في طريقنا للمطار .. لقد تعود علينا وتعودنا عليه ولابد أن طفلتنا الصغيرة ( هديل ) قد أوحشته .. تعرف يا حربي .. المستر ريتشارد ده ممكن يدخل الإسلام بقليل من الجهد معه .. سلوكياته وتصرفاته والقيم التي يؤمن بها تجعله أقرب للإسلام .. وكم أتمنى أن يتم ذلك على يدي .. سلمى ذرفت دموع المطر وهي تودع أمي وشقيقتي .. لم تكن مرتاحة لفراقنا .. لقد قالت لي عيناها ذلك .. سلمى لم تخلق للغربة والعيش بعيداً عن أحضان أمي .. إنها رقيقة كالانسام .. وتبكي حين أنسى تحيتها وأنا أغادر البيت .. تشيعني نظراتها الحنونة .. وهي أول من يهرع لفتح الباب لي عندما أطرقه بايقاعات أحب الاغاني عندها .. لا تزال تكفكف دموعها وقد جلست بالمقعد الخلفي بعربتي التاكسي التي لا تعمل في نقل الركاب .. مع قلة الذين يؤشرون لي طالبين أخذهم في مشوار .. لقد ضاقت الأوضاع وأصبح التواصل عبر التاكسي ترفآ لا يجوز .. يكفي أن تندس وسط الاجساد المحشوة داخل الباصات وأنت تتنفس الغبار والدخان لتصل إلى المكان الذي تقصده .. سوف نفتقدكم بشدة يا شنكل ويا سلمى .. وكم أود ان تحضروا معنا نتيجة الانتخابات .. لقد سمعت أنها ستذاع تباعاً ابتداءاً من نشرة الساعة الثالثة ظهر اليوم .. سلمى تصحح هذه المعلومة .. من قال لك ذلك .. ؟! ولماذا لم تخبرينني . ؟. لقد فهمت أن المؤتمر الصحفي لوزير الداخلية سيبدأ السابعة مساءً .. لا يا عزيزي الفاضل .. تم تقديم موعد بث النتائج .. يا الله !! .. اشعر بتوتر شديد وهل النتيجة تهمك لهذه الدرجة يا زعيم ؟!.. لا والله يا شنكل .. أخشى من حالة الاحباط التي ستصيب القاعدة العريضة التي رشحتني والتي بنت آمالاً عراضاً على فوزي وتبني قضاياهم الأكثر إلحاحاً داخل قبة البرلمان إن لم أوفق وأخشي أيضآ أن أخذل سحر .. ستفوز بإذن الله .. ها قد وصلنا المطار وأمامنا ثلاثة ساعات قبل الإقلاع .. أقترح أن ندلف إلى كافتيريا المطار ونتابع جانباً من المؤتمر الصحفي من على الشاشة الفضية بدلاً من الراديو .. هذا إقتراح وجيه وأود شراء عصير ( جوافة ) لي ولإبنتي قبل مغادرة السودان .. سلمى تدعم اقتراح زوجها .. تعرف يا حربي .. عصير الجوافة ده ما موجود في أي مكان بخلاف السودان .. حاجة كده زي النيل والجروف والغنا الحلو .. حاجة زي الحبوبات الحنينات وضجة السيرة والدلوكة ولمة الأهل في الاعراس ( والطهور ) .. الله يا سلمى !! ماقلت ليك أنت أنسانة رقيقة وحساسة ما عاوزة تصدقيني .. شنكل وهو يداعب زوجته .. والآن .. أظنني بحاجة إلى فنجان قهوة .. أعصابك يا زعيم .. ومن ثم بدأ المؤتمر الصحفي .. واسهب الوزير في تفاصيل لا تعنينا في شيء .. الدائرة رقم ( 32 ) مهنيين الفائز صالح عويضة و .. ( يوي يوي يوي .. ) زغرودة أطلقتها بعفوية شقيقتي سلمى أطارت النعاس من عيون الحاضرين الذين أتعبتهم المواقيت المؤجلة لوصول الطائرات .. مبروك يا زعيم .. ألف مبروك .. شنكل وقد أخذني بالاحضان .. سحر أين أجد سحر ..؟ هي تعلم أنني سأذهب للمطار لتوصيل سلمى وزوجها .. أين وكيف القاك يا رائعتي العزيزة .. يا أميرة إحساسي واشواقي .. يا كل آمالي وأحلامي .. أين أنت يا سحر ؟! .. كنا قد اتفقنا على حضور المؤتمر الصحفي معاً عند السابعة ولكن هذا هذا التقديم المفاجئ أربك برامجنا جميعاً .. ستأتي .. انا واثق من أنها لن تصبر على هكذا انجاز .. انها من دبرته وخططت له وانفقت الوقت والجهد والمال في سبيل تحقيقه .. هاهي .. هاهي قادمة ألم أقل لكم .. لقد توجهت إلى المطار بمجرد ان علمت بأن موعد اذاعة النتائج قد تقدم .. مبروك يا صالح .. مبروك .. مبروك .. قالت ذلك وهي تمسك كلتا يدي بيديها وتحرك رأسها يمنة ويسرة وخصلات شعرها تدوران معها من النشوة والسعادة ومسحة من الارتياح العميق تلون قسماتها الحلوة .. وأكثر من دمعة تغادر عينيها لتستقر في زوايا فمها النديان ..
وكيف الوصول إليك يا سحر وانت مثل عنقود من التمر في قمة نخله .. والمشوار إليك محفوف بالاشواك والعقبات .. اتريد أن تحقق كل أحلامك في اسبوع واحد يا صالح ؟ .. فها انت وقد اديت القسم كنائب مستقل تتطلع نحو كرسي الوزارة بعد ان دخلت كل الاحزاب في كتل برلمانية متصارعة .. سرعان ما نسي الجميع ناخبيهم وتركزت انظارهم نحو المناصب .. وانت معهم يا صالح .. لا يا عزيزتي .. انا فقط احتاج كرسي الوزارة لسبب بسيط هو اثبات الذات .. لن يقتنع والد سحر بكوني نائبآ برلمانيآ وفي الأسرة أكثر من وزير وسفير ونائب أنا محتاج لأن أكون وزيراً حتى أدعم موقف سحر امام شقيقها ووالدها .. ومن ثمّ تحقيق طموحات من منحوني ثقتهم واوصلوني هذا الموقع الذي لم أكن احلم به في يوم من الأيام .. اذن سنذهب أنا وخال سحر المحامي إسحق.. لابد من المواجهة واليوم .. مبروك الفوز في الانتخابات يا صالح .. قالها والدها بصدر رحب وكذلك فعلت والدتها .. اما شقيقها (عصام ) فقد ظل ساكناً واجماً وهو يتشاغل بصحيفة ما بيده .. أما الاستاذ إسحق فقد قال لهم بعد مقدمة طويلة والاخ صالح معكم هذه الامسية ليخطب يد ابنتكم الاستاذة سحر .. هنا وقف شقيقها وهو يغلي كالمرجل وكانه قرأ في عيوننا الغرض من هذه الزيارة التي لم نقم بها إليهم منذ تقاعد والدها ومغادرته لموقعه بالمصلحة .. سيتزوج سحر اختي ؟ ! .. عاوزنا نزوج سحر ل .. سواق ابوها .. كمل يا ابن اختي العزيز .. لكن السيد صالح لم يعد سواقاً .. هو الآن نائب برلماني ومرشح للوزارة .. كان سواق عند ابوك وهذا ليس عيباً في حد ذاته لكن الأخ الاستاذ صالح اجتهد واقنع الناس بروحه الوثابة ونبل اخلاقه بترشيحه للبرلمان والوقوف إلى جانبه حتى الفوز بالانتخابات .. على العموم سحر مخطوبة لإبن عمي السفير عمر .. وانت يا خال بتعرف ده كويس .. القنصل العام عمر في كندا منذ اربع سنوات .. واذا كان والده يطمح في تزويج ابنه من سحر .. فإن سعادة السفير لم يقل ذلك صراحة .. وهكذا دار حوار متوتر بينهما وقد لزمت الصمت وكذلك فعل والده وامه .. وفي تلك اللحظات الرهيبة شعرت وكانما سحر توشك ان تضيع مني ربما وإلى الأبد .. لكنها هبطت علينا فجاة بكامل أناقتها وكأنها على موعد ما .. أهلاُ سيد صالح .. أهلاً خالي .. خير أن شاء الله .. مالكم واقفين .. في حاجة ؟! .. نعم يا سحر والدتها وقد تحدثت أخيراً والحمد لله جيتي في الوقت المناسب .. الاستاذ صالح طالب ايدك على سنة الله ورسوله .. ويطلب ايدها كيف وهي مخطوبة للسفير عمر .. ما تتكلمي يا سحر .. هنا انسحبت سحر عائدة إلى غرفتها وهي تنادي على خالها وشقيقها .. وتناهى إلى اسماعنا صوتها وهي توجه كلامها إلى شقيقها .. اسمع يا ( عصام ) انا صابرة عليك وبحترمك لأنك أخوي الكبير والوحيد .. قبل كده تزوجت المهندس طلال .. صديقك الحميم .. لأني كنت صغيرة في السن ولا أفهم أي شيء عن الناس والحياة .. قبلت به زوجاً عشان خاطرك فماذا كانت النتيجة .. طلقني بالثلاثة ولم يمض على زواجنا عام واحد نزولاً على رغبة والدته وشقيقاته ولأنه كان انساناً صعيفاً ومخموراً وغائباً عن الوعي طول الليل والنهار لم يدافع عن بيته .. وانا لن اسمح لك بتكرار ما حدث مرة أخرى .. والسفير عمر لعلمك تزوج من كندية وعنده منها طفلان .. انا سأتزوج من السيد صالح إذا رضيت أم أبيت .. لن تتزوجينه ولن يدخل هذا البيت حياً طالما كنت انا على قيد الحياة .. ولن اسمح لك بتلطيخ سمعة العائلة بزواجك من انسان جاهل لا أصل له ولا فصل وكان شغال عندنا سواق .. لا فائدة من الحديث معك .. ارجوك يا خال قل لوالدي ووالدتي بأنني اوافق على الزواج من صالح .. وهبط علينا الاثنان وبقيت سحر بغرفتها وهي في حالة توتر شديد ولعلها رات في تصرف شقيقها بوادر عاصفة لا تبشر بالخير .