أحدث المشاركات
صفحة 1 من 8 12345678 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 71

الموضوع: رحلة في قاع المدينة ..رواية .

  1. #1
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2010
    المشاركات : 1,149
    المواضيع : 174
    الردود : 1149
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي رحلة في قاع المدينة ..رواية .

    بسم الله الرحمن الرحيم
    رحلة فى قاع المدينة – رواية .
    عبدالغني خلف الله
    الحلقة الأولي
    أحياناً تضعك الظروف في موقف لا تحسد عليه وأحياناً تضعك في موقف تحسد عليه وفي أحايين كثيرة لا تضعك في أي موقف .. بل تجرفك معها كقطعة طافية فوق الزبد .. تتقاذفك الأنواء وتبحر بك نحو المجهول .
    ولو أن الأمور تسير علي وتيرة واحدة لأمكن التعامل معها بنمط سلوكي ثابت .. لكنها تتقلب مثل طقس هذا البلد .. وهأنا بعد كل هذه السنين الطويلة التي شكلت حياتي بكل تقلباتها الموجعة والمفرحة أحاول أن أفهم نفسي ولماذا كان عليها أن تمضي بهذا الطريق دون غيره .. وهل كان من الممكن تفادي ما حدث هنا أو هناك أم أنها سخرية الأقدار طوفت بي من هذه الناحية إلي تلك وما بينهما أكثر من صدفة خرجت من جنون الوقت لتضحكني أو لتبكيني ..ولماذا كل هذا اللف والدوران يا هذا ؟.. إسمي حربي ..صالح عويضه عبد النور الملقب ب(حربي ) .. لماذا لا تدخل مباشرة إلي صلب الموضوع يا حربي فتريحنا وتريح نفسك .. حسناً .. سأفعل .. فقط دعني أعود بذاكرتي إلي الوراء ..لا ليس قليلاً ..بل كثيراً .. فالمسألة أكبر من مجرد حكاية نلهو بها قليلاً ثم ينتهي الموضوع ..أريد أن أحاكم كل الذين زوروا ظلماً وعدواناً تاريخي ..غيروا من طبيعتي .. ذبحوا في دواخلي البراءة .. وأسبغوا عليّ الألقاب والصفات .. فتارة أنا البطل والمنقذ وتارة الخائن وربما المحتال والمنافق .. لم أكن بحاجة إلي كل هذه التعقيدات .. فقد كنت أعيش حياتي البسيطة بمنزلنا الكائن بالحي الجنوبي من المدينة في قلب الأحياء العشوائية .. منزل بسيط من (الجالوص) وشيء من الكرتون والمواد المحلية .. ومعي والدتي الحاجه حواء زجاج .. هكذا ينادونها في الحي بإعتبار أنها أحسن صانعة للخبز البلدي اللامع مثل الزجاج .. ولم يكن لي أخ بل مجموعة من البنات ..وأنا كبير العائلة كما يقولون .. (ناديه) وتعمل ممرضة بالمستشفي العمومي .. و(سلمي ) وتساعد أمي في إعداد الخبز وأحياناً تصنع الفلافل وتسلق البيض وتبيعهما في المساء أمام دكان الحاج رضوان ..وكان في وجودها بهذه الزاوية السبب في دخولي حراسة الشرطة أكثر من مرة بدعوي الإزعاج العام وتسبيب الأذي البسيط ..وكانت الأمور تنتهي بجلدنا عشرين جلده أمام المحكمة الأهلية .. فقد لاحظ غيري ولاحظت أنا أيضاً أن (سلمي ) شقيقتى هي الأكثر جمالاً في الحي والأحياء المجاورة حتي منطقة (جبل الأولياء ) جنوب الخرطوم .. كانت تُعني بمظهرها رغم فقرنا.. ترتدي أحسن الثياب المعروضة بسوق ( الحرامية ) كل ثلاثاء .. وكان أكثر من صعلوك يستفزّها ويتحرش بها فتقتحم علينا البيت وهي تبكي .. فتثور الدماء في عروقي فأذهب وأبطش بهم ..فقد كنت كأي صبي ميكانيكي مفتول العضلات حتي وأنا في تلك السن المبكرة من عمري .. لذلك لقبوني ب ( حربي ) .. أما شقيقتي الثالثة نسمه .. فهي (تعبانه ..هلكانه ) .. عنوان لجميع أمراض المناطق الحارة وربما المستعصية أيضاً .. لا تكاد تتعافي من مرضها حتي تقع مجدداً .. مشكلة عانيت منها وعانت منهاشقيقتي ( نادية ) أكثر فأكثر .. تأخذها معها للمستشفي حيث تعمل وتحضر لها أطناناً من الأدوية .. والنتيجة .. لا شيء .
    لكن الحياة تمضي بدون مشاكل ولا تخلو من المسرات ..فقد كان الجيران منفتحين علي الحياة بصورة غريبة .. يعبون منها عباً وكأنهم سيموتون غداً .. يعيشون ليومهم وغداً في علم الغيب .. فلن تكون الحال بأسوأ مما تركوها خلفهم في تلك البلاد البعيدة والتي هجروها بسبب الحروب والجفاف وتلك قصة أخري .. حياة تبحث عن الفرح .. تقتنصه كلما وجدت إلي ذلك سبيلاً .. مثل ماذا يا حربي ..؟ كنا نخرج كل عطلة في رحلة إلي الحدائق العامة .. نجهز ما تيسر من الطعام ونستأجر سيارة عم (عبدو الفولاني ) .. وعبدو هذا بدأ بعربة نقل صغيرة تجرها الخيول تلتها أخري وثالثة حتي وصل إلي ما وصل إليه .. سيارة نصف عمر كثيرة الأعطال وكانت حين تتعطل يُنادي عليّ من فوق السور فألبي طلبه بسرعة البرق .. تعلمون لماذا ؟ ..لأن بالداخل صغري بناته ( أميره ) .. تحلف عندما تراها بأنها القمر ليلة إكتماله .. (شنكل) القادم الجديد للحي والذي اختارني من دون الصبية لأكون رفيقه وكاتم اسراره ..همس في أذني ذات يوم وقال لي ( البنت دي يا حربي خطيره ..والله المانقو ذاتو ) وأضاف في غيرة واضحة (ظاهر عليها الجو بتاعك ..) أجبته وأنا محرج ..أبداً والله دي بنت الجيران يا (شنكل )..بنت طيبة ومؤدبة .. كانت تحضر لي (الشربات) وأنا أعمل بهمة ونشاط مستخدماً كل مهاراتي الميكانيكية لصيانة سيارتهم .. وهي تخصني بنظرات يلفها الحياء والخفر.. وإذ ما أحاول أن أقول لها شيئاً أتذكر كم هو شاسع البون بيننا .. فهي طالبة وأنا صبي ميكانيكي .. ولكننا حين نصل إلي الحدائق تسمعني كلاماً يسري كالكهرباء في عروقي وتشتري لي ( آيس كريم ) .. مثل ماذا يا حربي ؟ أشياء لا أفهمها .. تقول ليك .. تقول ليك كلام ( الغنا ) وكنت اعتذر عن الإنضمام لكل رحلة لا تضم (أميرة ) .. وفي مرحلة من المراحل صرت أنتظر لحظة خروجها من منزلهم لتركب في الحافله التي تقلها للمدرسة لأقول لها صباح الخير.. شنكل قال لي تشجع وقل لها ما يجول في ضميرك ولا تخش الرفض .. ( صنف البنات المتعلمات ديل ما زي الجدات .. يعشقن الكلام النظيف ) .. وهي فيما يبدو مقتنعة بي وإلا لماذا تسمعني في كل مناسبة ذلك الكلام اللذيذ .. الحاج رضوان ( سيد الدكان ) .. قال في وجود أمي .. هذا الولد ممتاز يا حواء وينتظره مستقبل باهر ..وأخذت كلامه علي أنه مجرد مجاملة لأمي التي تحرص كل الحرص علي تسديد ديونها في أول كل شهر .. وهذا بالطبع ما يسعد عمنا ( رضوان)..

  2. #2
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2010
    المشاركات : 1,149
    المواضيع : 174
    الردود : 1149
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي

    الحلقة الثانية
    ( شنكل) ياسرني بشخصيته القويه ..عيناه الزرقاوان توحيان لي بأن هذا الشاب ينطوي علي أسرار كثيرة وبالرغم من أنه يعتبر أحد أبناء الحي فإن لون بشرته وعينيه تقولان الكثير .. وكثيراً ما تساءل الحاج رضوان في حيرة ونفاد صبر .. ( الولد المثل الخواجات ده جاء من وين ..؟) .. وهو نفسه قال لي أنه يعاني من تفاصيل وجهه معاناة شديدة ولو أنه يشعر في بعض الأحيان بأنها أفادته في مواقف كثيرة وقد أضحكته كذلك..
    آه من تلك الأيام .. النوم في الحصير والسقف المثقوب الذي لا يحتمل الرذاذ ناهيك عن المطر ..هل تسمي عيشة كهذه (أيام) يا أستاذ .. ولو .. كان لها طعمها الخاص وكان الجميع بجواري .. فرحل من رحل ومات من مات وتزوجت من تزوجت .. والله أبيع بقية عمري لمن يعيدني ويعيد لي تلك الأيام .
    أواظب علي العمل بالورشه ..ورشة ( الأوسطي سلمان الفاضي ).. هكذا ينادونه في المنطقه .. (سلمان الفاضي) وهو لكذلك .. فبالرغم من طيبته وضحكته المجلجلة إلا أنه فضولي .. يريد أن يعرف كل كبيرة وصغيرة عن السيارة والزبون .. لا سيما تلك التي تكون طرفاً في حوادث الحركة .. وكنت لا أحب سماع تلك التفاصيل .. ( تخيل ..اللحم لقطوه حته حته من جوه السيارة ..و ) ..وعندما يصل الراوي إلي هذه النقطة أغادر الورشة إلي بائعة الشاي ( نانا الحبشيه ) وأنا في غاية الإحباط .. أبحر في سمرتها وأرتاح .. تناولني الشاي بيدها والبهجة بعينيها وتدندن لي وحدي ( الماز بجي تاني ..الماز بجي تاني ).. وكنت أذوب من الطرب فأرقص بجنون ولا أتوقف إلا عندما تختتم الأغنية و تضحك من أعماقها ضحكتها التي تحاكي سقوط المطر فوق سطح من الصفيح بحي( الكرتون) .. لماذا أتذكر كل هذا الآن وأنا جاثم داخل هذه الزنزانه ..؟ لماذا ..؟ إنها أصول اللعبة السياسية يا معلم .. يوم لك ويوم عليك .. وهل سأنسي ؟ ليتني أستطيع ..أم أنني سأظل حبيس زنزانتي وذكرياتي إلي الأبد .. وقد نسيني كل من أحببتهم وأحبوني أو هكذا أتصور .. إلا ( شنكل ) .. رفيق الصبا والشباب .. الشخص الذي حولني إلي لص في بداية حياتي دون أن أدري .. فقد كان يصور لي السرقات الصغيرة علي أنها نوع من المغامرة المثيرة .. بدأنا بسرقة (طاسات ) الإطارات .. كل ما نحتاجه لإتمام السرقة (مفك ) صغير لا أكثر .. نتجول أيام الجمع بين أزقة وشوارع الإمتداد الجديد حيث تراصت عشرات العربات .. وكانت حصيلتنا في أول غارة لا تصدق .. ثلاث وعشرون قطعة حملناها داخل أكياس من جوالات السكر الفارغة .. وفي ثاني يوم حضر لي (شنكل) بالورشة وأعطاني نصيبي .. كان مبلغاً خرافياً لم أحلم به من قبل .. ذلك لأن المعلم سلمان الفاضي لا يكاد يمنحني أكثر من ثمن وجبة الإفطار وتذكرة الباص .. وعدت إلي منزلنا آخر اليوم كأي موظف أحمل بيميني (كيساً) من الفاكهة وبشمالي ( كيساً) من الخضروات وحفنة من الأرغفه .. توجست والدتي من الموضوع برمته وأخضعتني لإستجواب رهيب ..( القروش دي جبتهن من وين يا وليد ؟ .. من شغلي يما .. شغل بجيب قروش قدر ده ؟ .. هوي يا وليد أمسك الدرب عديل .. أبوك الرقيب عويضه عبد النور خدم في الجيش لغاية ما مات في الجنوب .. عمرو ما أكل حرام ..)
    ولا أنكر أنني ندمت ندماً شديداً علي ما فعلته وخاصمت ( شنكل ) أسبوعآ كاملاً .. أتهرب من مواعيده بحجة مرض (نسمه ) التي تدهورت حالتها بشكل مريع و( نادية ) شقيقتي الممرضة قالت إن الطبيب قرر لها أدوية غالية الثمن لكنها ستساعد في شفائها إن شاء الله ..ذهبت إلي الورشة في ثاني يوم وفي ذهني طلب سلفية من المعلم سلمان .. بيد أنه ردني بجفاء .. فكانت السرقة الثانية مع شنكل .. وهذه المرة إطار ورافعه.. وتنازل لي شنكل عن نصيبه وحلت عقدة الروشته وصممت بعدها أن لا ألج هذا المجال أبداً وقد كان .
    واجهت المعلم بشروطي في الإستمرار معه .. أولاً نصف العمولة لأي سيارة أقوم بصيانتها إضافة إلي وجبة إفطار أو أغادر الورشة .. وكانت أكبر مفاجآت حياتي عندما وافق وكلفني بمناقشة الزبائن علي الأجر وأخذ نصيبي مقدماً .. كانت فرحتي عظيمة ذلك الصباح ولم يمض بعض الوقت حتي توقفت عربة أنيقة وترجلت منها فتاة في ريعان الصبا والجمال وقد أحدثت زيارتها للمنطقة الصناعية فوضي لا مثيل لها .. أولاً لأن رؤية فتاة تقود سيارة ليس بالأمر المعتاد ولكونها جميلة وآسره ..طلب مني المعلم أن أعاين عربة الأستاذه .. سحر ..إسمي سحر وأعمل مضيفة جوية .. وأنت .. فاجأتني بتقديم نفسها وأنا أرفع غطاء الماكينة لدرجة أنني نسيت إسمي لبعض الوقت .. ها .. معاي أنا .. أيوه طبعاً .. لم أسمعك جيداً ؟ ..قلت لك إسمي سحر وأنا مضيفه .. السيارة هذه تخصني .. أريد منك معاينة الماكينه .. تشوف السخانه دي من أيه .. حاضر يا ست ..إنتي بس إتفضلي أجلسي جنب المعلم وأنا حأقوم بالواجب ..لم يصدق المعلم سلمان الفاضي أن كل تلك الوسامة تجلس بجانب مكتبه في مقعد هو بالأساس مقعد سيارة تحت الصيانة وأنها ستمكث بعض الوقت .. فنادي علي (نانا الحبشية ) وطلب منها قدحين من الشاي ومن ثمّ عاد ليمارس هوايته في الثرثرة وهو الذي أصّر علي بائعة الشاي أن تبيع من أمام ورشته حتي يتسني له محادثة كل من جاء يطلب كوباً من الشاي .. لم يكن بالعربة خلل كبير ..ذلك لأن ( طرمبة ) الماء لا تعمل وتحتاج إلي قطعة غيار جديده .. ناولتي حزمة من المال وطلبت مني أن أشتري قطعة الغيار وأعيد لها الباقي .. ولم تحدثني نفسي الأمارة بالسوء بأن أختلس بعض المال المتبقي وهو كثير فأعدته لها بالكامل .. ربما لأن الإحساس بالحيوية والإمتلاء الذي أحدثته زيارتها لنا كان أكبر من أن أدنسه بكسب مادي رخيص .. نظرت في عينيّ لحظة ودست في يدي بضعة جنيهات ك( بقشيش ) .. وعكفت علي العربة أعمل فيها بهمة ونشاط وأنا أختلس النظر إلي جمالها كلما وجدت إلي ذلك سبيلاً .. وسارت الأمور بسلام وطلبت منها أن ننطلق لتجربة العربة التي صارت تعمل بصورة جيدة ..أعادتني للورشة بعد أن دفعت الحساب وشكرتني بحرارة ولم تنس أن تسألني للمرة الثانية عن إسمي .. صالح .. وملقب بحربي ..حربي ؟! ..أيوه حربي ..أنا حأناديك بس صالح .. ممكن ؟ .. ممكن طبعاً .. مع السلامه .. مع السلامه .

  3. #3
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2010
    المشاركات : 1,149
    المواضيع : 174
    الردود : 1149
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي

    الحلقة الثالثة
    عدت إلي منزلنا مشغول البال مشوش الفكر .. وبرغم الجنيهات التي إستقرت في جيبي جراء صيانة عربة المضيفة (سحر) إلا أن صورتها تملأ كياني .. ناولت شقيقتي سلمي بعض الحاجيات وسلمت بقية المبلغ لوالدتي .. سألتني سلمي ..هل أعد لك شيئاً لتأكله .. قلت لها لا أريد .. أنا تعبان وأود أن أنام بعض الوقت .. لحقت بي سلمي وقد قرأت شيئاً ما في عينيّ .. حاولت أن تستدرجني في الكلام .. ما بك يا حربي .. سمعت بخطوبة جارتنا ولّه الحكايه أيه ؟ أميره إتخطبت .. صرخت وأنا أقف علي أرجلي وكأن بي مساً من الجنون .. غادرت المنزل علي الفورفتلقفني (شنكل ) لدي الباب واقترح عليّ أن نتمشي قليلاً ووجدته وقد أخذني تجاه منطقة المقابر .. حاول أن يطيب خاطري ببعض الكلمات دون جدوي .. كنت أعلم أن شيئاً كهذا سيحدث وبأنني لن أكون العريس بأية حال .. فوالدها الحاج ( عبدو الفولاني) رجل طماع وأناني وسيفكر في بيع أميره لا تزويجها .. ولكنني لم أتوقع أن تسير الأمور بهذه السرعة مطلقاً .. فأميرة لا تزال بالسنة الثانية بالثانوي العالي وهي ذكية وطموحة ..فلماذا لا يدعها تكمل تعليمها ؟ لماذا ؟ .. دع الأمور لله وهاك يا صاحبي هذه ..ما هذا يا شنكل ؟ .. سجاره حشيش ؟) ..لا لا يا (شنكل) أعفيني من هذه المصائب (..مصائب أيه ؟ لقد صرت رجلاً يا صديقي أم أنك لا تزال طفلاً صغيراً ؟ ..لا يا شنكل ما تفعله ليس صحيحاً والحشيش بدمر الشباب الكلام ده سمعتو في الراديو ..عليك الله ما تدخن حشيش .زوتعال أجلس بالناحية دي عشان الهواء يشيل السم الهاري ده بعيد مني ..مشكلة أيه البتخليك تضيع نفسك ..؟ أرسل شنكل آهة طويلة أردفها بزفرة حارة لفحت وجهي بلهيبها وهو يهمهم .. ما جربته يا حربي لا يمكن أن يخطر ببالك .. حياتي قبل أن أجيء إلي هنا كانت جحيماً لا يطاق .. فأنا نتاج زواج غير شرعي .. حملت بي أمي سفاحاً وقذفت بي إلي صندوق لحفظ النفايات .. أيوه ( ود حرام ) ..أليس هذا ما تود قوله يا حربي ..العفو يا (شنكل) ..(وإنت كان بإيدك أيه ؟ ) ..أشكرك يا صديقي .. لقد وضعت بالقرب مني نصف قطعة معدنية من فئة العشرة دنانير .. لعلها لا تزال تأمل في إستعادتك .. بعد سبعة عشرة عاماً يا حربي .. لا أريدها وإن ظهرت سيكون حسابها معي عسيراً .. كان يتوجب عليها إسقاطي أو تحمل مسئولية إنجابي سفاحاً .. إمرأه ضعيفه ..إمرأه دنيئه .. لعل الظروف التي كانت حولها أقوي منها .. لا تدافع عنها ..ظروف أقوي من الأمومه ..أية ظروف هذه ..ترميني هكذا دون رحمة ولا تخاف عليّ من البرد والجوع والكلاب الضالة .. كيف تفكر يا غبي ؟.. أنا آسف ..آسف جداً ..المهم وجدني إبن حلال بين الحياة والموت وسلمني للسلطة والتي بدورها سلمتني لمنزل اللقطاء .. وبقيت هناك خمس سنوات والأسئلة الحائرة تزلزل كياني الصغير والمسئولة تعطيني أجوبة ساذجه .. فتارة أنا إبن الرعد وأمي السحابة وأخري إبن الشمس وأمي القمر .. وكبرت وكبر معي آخرون ..احبهم وأقربهم إلي قلبي طفل يطلقون عليه إسم (كافوله ) في نفس سني تقريباً ..وذات مساء لفته الظلمة وهوج الرياح هربنا من النزل وذبنا في قاع المدينة .. كان (كافوله) يحرص علي قطعة من القماش توضع تحت ذقن الطفل وثلاث (بزازات ) وجدها المصلون داخل السلة التي كانت تحتويه ومعها رسالة من أم مجهولة توصيهم خيرأ برضيعها .. وقد ملئت الزجاجات الثلاث بالحليب .. وقد روي أول من غادر المسجد بعد أداء صلاة الفجر أن اللبن كان دافئاً لدرجة أنهم تشككوا في منازل الجيران .. لذلك حرص علي قطعة القماش تلك ومن إسمها أخذ إسمه .. تصور شخصاً كل نسبه قطعة من القماش وثلاث زجاجات حليب .
    . وفي قاع المدينة تلقفتنا عصابة من الصبية يكبروننا سناً فعلت بنا العجائب .. لقد إستغلونا بشكل بشع .. توزعونا مثل قطيع من الخراف ولم يراعوا فينا إلاً ولا ذمة .. ناس ما بتخاف من الله .. وأسرف شنكل في وصف مأساته داخل المجاري بالسوق .. ينام بين شذاذ الآفاق ويرتدي أسوأ الثياب .. ولو علم أن والدته ( جوليا ) تسهر الليالي بالسنين الطوال في ( نيويورك ) البعيدة بإنتظار عودتها للخرطوم لتبحث عنه من جديد وتأخذه إلي حضنها وتضمه إلي شقيقته ( لوسيانا ) المولودة لها من أب أمريكي .. لو علم كم تتعذب بعيداً عنه ربما التمس لها العذر ولكن .. ماذا قلت يا (شنكل) .. تأكلون بقايا الموائد بالمطابخ وتلحسون أوراق المكسرات المنسية في القمامه بعد أن تهشوا عنها النمل .. معقول الكلام ده يا شنكل ؟! ..(وحياة خوتك الما منها أي فائده ) ..
    لم أعد بقادر علي تتبع الحكاية فقد أحسست ثقلاً شديداً في أجفاني وأن رجليّ بالكاد تحملانني إذ أن بعضاً من غيوم لفافات الحشيش التي دخنها ( شنكل ) قد طالتني بطريقة أو بأخري .. فطلبت منه أن يكمل لي القصة في وقت آخر واستندت علي كتفه لأصل بصعوبة إلي باب منزلنا .
    نأيت بنفسي عن الوقوف كل صباح لتحية أميرة وهي تخطو نحو باص المدرسه .. ويبدو أنها انزعجت من تهربي منها لما يقارب الأسبوع فاقتحمت منزلنا قبيل الغروب وقد تعللت بأنها تود الإطمئنان علي شقيقتي (نسمه) فكانت المواجهة بيننا .. إغتنمت فرصة مغادرة شقيقتي (سلمي) لتعد لها كوباً من الليمون لأقول لها في إنكسار شديد مبروك الخطوبه ..(خطوبة من ولمن ؟ ..) وقد ردت عليّ بغلظة واضحة ..خطوبتك طبعاً .. ضحكت ضحكة هي مزيج من الضحك والرفض والبكاء .. ورانت لحظة صمت قاتله .. ثم .. هل تسمي الحاج رضوان سيد الدكان خطيباً ..الحاج ..؟!! ..نعم قابل أبي وخطبني عروسة له تؤنسه ما تبقي من عمره لأقضي أنا ما تبقي من عمري بلا أنيس .. وسكب في وجه أبي الوعود البراقة .. سأشتري لها منزلاً وأسجله بإسمها وأسجل لها الطاحونة والطابونة ..وطبعاً لم يصدق والدي النعمة التي هبطت عليه من السماء فوافق علي الفور وناداني ليبارك لي في حضوره الخطوبة ..إنتفض كمن لسعه ثعبان وانهال علي بعبارات الإطراء .. فقد الرجل وقاره وانكسر أمامي مثل غّر مراهق ..قلت لهما في حزم شديد لا يقبل التأويل .. أنا أريد أن أكمل تعليمي حتي الجامعة ولا أريد الزواج .. لملم الرجل بقية كرامته المجروحة إن كان لديه أصلاً كرامه وخرج .. أنا أحبك أنت يا حربي .. أحبك حباً ملك علي حواسي ولا بد أن تكون شيئاً ليقبلك والدي .. إلي متي ستكون صبي ميكانيكي ؟!.. إن حبنا يكبر يا حربي فلماذا لا تكبر معه .. وصرت أردد أنا ؟! .. فتقاطعني بمزيد من التحريض .. سافر ياخي إغترب أعمل حاجه وإلا سوف أهرب معك إلي آخر الدنيا فنتزوج بالقانون .. قالت هذا والإنفعال الشديد أفقدها أعصابها فبكت .. بكت بكاءاً مراً .. دنوت منها أخفف نهنهاتها .. وصرت أمد يدي نحو شعرها متردداً خائفاً ولست واثقاً إن كنت في عالم الحقيقة أم في عالم الأحلام .. وتشجعت فوضعت يدي في كتفها وأنا أردد عبارات لا أفهمها فانفلتت نحو باب الغرفة لتصطدم بسلمي المتعجلة كعادتها .. فتطايرت الأواني يمنة ويسرة وهي تردد أنا آسفه يا جماعه أنا آسفه يا جماعه .

  4. #4
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2010
    المشاركات : 1,149
    المواضيع : 174
    الردود : 1149
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي

    الحلقة الرابعة
    كانت( جوليا ) تعد الساعات والأيام والشهور بإنتظار لحظة عودتها للسودان لأكثر من سبب بعد غياب إمتد لأكثر من عشرة أعوام قضتها بمدينة نيويورك بأمريكا .. ولم تكن هجرتها إلي ذلك البلد عن رغبة حقيقية في الهجرة بعد الأحداث العاصفة التي زلزلت كيانها وقلبت أوضاعها رأساً علي عقب .. كانت تعيش كغيرها من الفتيات أحلام الدخول للجامعة والحصول علي وظيفة محترمة ومن ثمّ الزواج وتكوين أسرة تلفها السعادة والهناء .. ولكن أحلامها ذهبت أدراج الرياح .. فإن كان بالنسبة للجامعة فقد حققت هدفها وأكملت دراستها بنجاح .. وإن كان علي صعيد الوظيفة فقد إلتحقت بوظيفة محترمة بإحدي المنظمات الإغاثية .. وقد كان معها بالمنظمة ( وجدي ) إبن الجيران وفارس أحلامها منذ أن كانت صبية صغيرة بالمرحلة الثانوية .. بادلته حباً بحب وكانت تكثر من زيارة شقيقته (ماريا) بسبب أو بدون سبب لتكون قريبة منه .. وقد إستغل وجدي هذا الضعف الأنثوي الكامن في أعماقها أبشع إستغلال .. فكان يختلي بها بمكتبه بالإدارة (اللوجستية) ويمتهن جسدها دون شفقة ولا وازع من خلق أو ضمير ويحقق عبرها نزواته الفجة والآثمة وهي بالكاد تقاوم عربدته إلا عندما تشعر أن الأمور تسير بإتجاه يتناقض وطبيعتها وتربيتها فتوقفه عند حده . . كانت تعزي نفسها عقب كل محاولة بأن وجدي سيتزوجها دون أدني شك وقد أعلن ذلك صراحة لأسرتها وأسرته وصار يأخذها في مشاويرطويلة بإعتبارها خطيبته وزوجة المستقبل .. ولكن تلك الشخصية المعقدة كانت تخفي تحت إهابها ذئبآ بشرياً لا يرحم .. ومن ثمّ كان ما كان ووقعت الكارثة الكبري .. وعندما تبينت جوليا أن وجدي قد غدر بها وأنه يتهرب من لقائها أخبرت بذلك زميلتها ورفيقة صباها (هند) وساءت الأوضاع بشدة عندما اكتشفت أنها حامل بعيد سفره إلي روما منقولاً لفرع المنظمة هناك .. رجته أن لا يسافر وأن يكمل مراسم العرس حتي لا يعرضها وأسرتها للفضيحة وبكت أمامه بدموع كالمطر .. وبدا لبعض الوقت وكأنه يقوم بالتجهيز للزفاف فاطمأن قلبها بعض الشيء إلي أن فوجئت ذات صباح بأنه قد سافر بالفعل .. ركضت نحو منزلهم لتقرأ في عينيّ شقيقته مظاهر الرثاء والسخرية بل والتشفّي .. لماذا هذه المعاملة اللاإنسانية يا هذه ؟ أين حق الجيرة والزمالة بكل مراحل الدراسة منذ الإبتدائي ..؟ تستاهل جوليا كل ما جري لها .. هذه المتغطرسة المغروره .. لماذا هي دائماً ومنذ أن كنا مجرد تلميذات الأوفر حظاً في كل شيء .. إجتذبت إهتمام شباب الحي وترتدي أحدث الثياب والمصاغ الذهبية وهي الأكثر تألقاً وظهوراً في جميع المناسبات .. تركب عربة جديده تحمل شعار منظمة الأمم المتحده وعندما ندعوها لتناول كوب من الشاي تتعلل بالمشغولية (عندي ترجمه .. عندي مؤتمر هام .. إعداد الميزانية يأخذ كل وقتي) .. لا تبحث عن الحجج والذرائع لتفادينا .. هكذا إذن .. أنت تغارين منها ولا ريب .. أغار من محبطه إسمها جوليا ..لا يا سيدي .. أنت لا تعرفني دون شك ..وعادت جوليا أدراجها تجرجر أذيال الخيبة والندم ولم تتمالك أعصابها المرهقة المفاجأة فدخلت في حالة من الهستريا أقرب للجنون .. بذلت جوليا جهوداً مضنية حتي لا تظهر عليها آثار الحمل وقد عزت أعراضه للملاريا .. كان المستر رتشارد المدير الأقليمي للمنظمة يراقب جوليا عن كثب ويتابع تلك الخطوات العنكبوتية التي يقوم بها وجدي ودوافعه الدنيئة فعمل علي نقله إلي روما دون أن يشعره بذلك .. مرت الشهور سراعآ وساعة الصفر تقترب يوماً بعد يوم .. حثتها نفسها أكثر من مرة بالإنتحار ولكنها كانت تصرف تلك الرغبة عنها من أجل طفلها القادم .. وعندما شعر المستر رتشارد بأن موقفها قد بدأ يزداد سوءاً أرسلها في مامورية بإحدي الدول المجاورة حتي يتسني لها ترتيب أوضاعها ومن ثم مداراة الفضيحة التي توشك أن تحل بها .. وفعلاً سافرت إلي هناك ووضعت طفلها وتركته بإحدي دور الحضانة وعادت للخرطوم .. وكان ما كان من أمر تخلصها منه بتلك القسوة التي لم تتعود عليها بعد أن عادت به سراً للخرطوم .. بيد أن هذا الأمر عاد عليها فيما بعد بإحاسيس ثقيلة جثمت فوق صدرها ليل نهار إلي أن أقدم المستر ريتشارد في لحظة صفاء نادرة جمعته بها في حفل عشاء بمناسبة رأس السنة علي الإفصاح عمّا يعتمل في جوانحه ..وكيف أنه معجب بها منذ أول يوم إلتحقت فيه بالمنظمة وكيف أنه كان يراقب ما يحدث بينهما بحياد وإخلاص شديدين دون أن يعطي لنفسه الحق في التدخل بشئونها الخاصه .. you don’t know what you have done to me.. قال لها بالإنجليزية بعد أن عجز في الإفصاح عن مشاعره بالعربية المكسرة وزاد علي ذلك بأن إقترح عليها نقلها لرئاسة المنظمة بنيويورك ليلحق بها ويتزوجها مسدلاً بذلك الستار علي أقسي فترات عمرها .. ولكن صورة طفلها لم تبارح خيالها في يوم من الأيام بالرغم من وجود ( لوسيانا ) طفلتها الوحيدة في حياتها .. كان يضغط عليها بإطلالته الملائكية وضحكته الآسرة ووجهه الصبوح .. لذلك عمدت إلي أخذ مئات الصور الفوتغرافية له قبل التخلي عنه وعاينت جسده الصغيرالأنيق شبراً شبراً لتتأكد من أية علامة تقودها إليه فيما بعد ووجدت ضالتها في ذلك الوشم العريض أسفل كتفه الأيمن .. ثم بادرت بشق تلك القطعة المعدنية من فئة العشرة دنانير إلي نصفين ودست نصفاً بين ثنايا قميصه واحتفظت بالآخر داخل خزانة ملابسها . عدت من الورشة وأنا بمعنويات عالية وكأنني امتلكت الدنيا بما فيها ومن فيها فقد زارتنا بالورشة المضيفة سحر لإجراء بعض الصيانة بعربتها .. كنت وقتها مستلقياً تحت عربة حكومية أراجع بعض النتوءات التي حدثت هنا وهناك بعد تعرضها لحادث مروري في طريقها من وادمدني للخرطوم .. عندما غمرني صوت هامس .. أوسطي حربي ..أوسطي حربي .. لم أتبين صوتها للوهلة الأولي ولكن قدماها وحذاؤها اللامع ذكراني من تكون .. سحبت نفسي من تحت العربة بعد أن اصطدمت بألف شيء قبل أن أقف علي رجليّ .. أستاذه سحر ؟! .. مش معقول ؟! ..( شنو المش معقول يا غبي .. لعلك توهمت أنها بنت الجيران أو واحدة من الأهل ..) هكذا قال لي ضميري موبخآ .. تغيرت لهجتي وصورة الفرح الذي احتواني إلي لهجة هادئة .. مرحب يا أستاذه .. أيّ خدمه ..؟ .. يعني ما نسيت إسمي ؟ ..همست في وجهي وابتسامة ملائكية تتوزع علي شفتيها وعينيها وتضاريس قدّها الصبي ..لا ما نسيت معقول أنسي يا أستاذه سحر ( هو شنو الما معقول ومعقول دي يا شاب ؟! أظنك قايلها دفعتك في الجامعه ) .. هكذا عقب ضميري .. ولا أدري لماذا يضيق عليّ وهو جزء مني .. أليس بوسعنا أن نتآخي مع هولاء الناس الرائقين النظيفين ولو للحظات ؟ .. وهنا تذكرت طبقة التراب الكثيفة التي تربعت فوق ( الأبرول) وفي مؤخرة رأسي .. وعندما فتحت باب العربة لتريني الإشارة الضوئية بال( طبلون ) والتي تشير بوضوح إلي أن ( الماقنيتا ) لا تعمل .. ترددت برهة في الجلوس خلف المقود وبدأت في نفض التراب عن ظهري فإذا بها تساعدني في ذلك .. لامستني أصابعها الرقيقة التي طرقت ظهري وقلبي طرقات رقيقة وكادت أن ترسلني إلي غرفة الإنعاش .. شجعتني علي الدخول وهي تقول لي لا تهتم .. غدا موعد صيانتها الأسبوعية .. (علي فكرة )لماذا لا تحضر لنا بالبيت غدآ وهو يوم جمعه ولا أظن الورشة تعمل يوم الجمعة لمراجعة الماكينة وتبديل الزيت والغسيل هذا طبعآ إذا لم يكن لديك مانع .. أعرف إنك أوسطي كبير والغسيل لا يليق بك ولكنني سأدفع لشخص آخر في كل الأحوال فلماذا لا تستفيد أنت من المبلغ .. ها قلت شنو ..؟ أقول شنو يا .. يا أستاذه سحر .. (بلاش) من الألقاب يا حربي ..أنا مضيفه ولست معلمه .. ناديني باسمي فقط .. وهكذا صنت لها العطل وأخذت منها عنوانها وأخذت هي روحي وضميري ومصيري .. لقد أخذت كل شيء .. كل شيء وغادرت والفرح الطفولي الغامر يلون كل إيماءة .. كل حركة من حركاتها ..انطلقت بالعربة تاركة لنا الغبار والدهشة والأشواق .. نعم عدت وأنا أترنح كالسكاري من فرط سعادتي .. توجهت مباشرة نحو أمي أسألها .. من أنا ومن أكون وكيف كبرت وترعرعت ولماذا لم نكن هنالك بذلك الحي الراقي قرب سحر وأسرتها .. اسندت كتفي علي صدرها وبدأت أنشج بالبكاء كطفل صغير .. كنت متعباً وحائراً وقلقاً وخائفاً من الغد ومن سحر .. من روعتها ونعومتها وهيبتها .. فهل يجوز لي مجرد التفكير بها علاوة علي حبها وعشقها .. أرسلتت أمي تنهيدة عميقة خرجت من بين حنايا صدرها .. آه يا ولدي لو تعلم ما قاسيناه وكابدناه من أوجاع .. كنت أعمل في الوادي حين ولدتك .. أجلستك فوق الأعشاب وكأنني دجاجة تفقس بيضها في الهواء الطلق .. لملمت بقاياك وصراخك يزلزل كياني وكأنني سأفقدك في منعطفات تلك البرية .. صرخت باعلي صوتي علّ أحداً ما يسمع ندائي فيحملنا إلي بيتنا أعلي السفح ولكن لا أحد .. جاوب الصدي صراخي وهتافي ولكن لا أحد .. حملتك وأنا أستحم بالدم والألم أسقط ثم أنهض .. اسقط ثم أنهض .. حتي وصلت مشارف القرية حيث تلقفني خالك وصرخ باعلي صوته ( عووك ..هوي يا ناس ..حوه إخيتي ولدت ليها ولد ) ..وعاشت القرية أياما وليالي ترقص تحت ضوء القمر فرحاً بمقدمك .. فقد ولدتك بعد أن مضي علي زواجي من أبيك سبع سنين بالتمام والكمال .. وعندما سمع بالخبر وكان وقتها في الجنوب يعمل في الجيش ..أخذ إذناً وعاد للبلد وبالرغم من معارضة أهلي أصرّ أبوك علي أن نذهب معه حيث يعمل .. ومن ثمّ بدأت رحلتنا الغريبة والفريدة مع التجوال والحركة المستمرة من بلد إلي بلد ومن نقطة إلي نقطه .. وكنت عندما يشتد أوار القتال بين المتمردين وجيش الحكومة أحملك علي عجل وآخذك للمسجد ..وأغطيك بآيات الله أدعوه .. وأدعو الرسول ومن بعدهم أولياء الله الصالحين أقول ( يا الله تحفظ لي وليدي صالح .. يا الله إن أنا مت وليدي يعيش ويكبر ويبقالي ظابط متل الظباط رفقا أبوه ..) .. وظللنا علي هذا المنوال ..هي تحكي الحكايات المشوقة عن أناس وأماكن وحروب وقتلي .. وكانت تقلد صوت الأسلحة وكأنها خبير في المتفجرات ( الإنرجيا تعوي متل الجرو .. والمورتر يسوي يييي دو .. والبرين تتاتت تتا تت ..) ..حدثتني عن ظروف مرت بهم ومصاعب لا تخطر علي بال ..واختتمت مرافعتها بقولها ( الحرب قبيحه يا وليدي ..الله لا يضوقك ليها ) . الحلقة الرابعة

  5. #5
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    الدولة : على أرض العروبة
    المشاركات : 34,923
    المواضيع : 293
    الردود : 34923
    المعدل اليومي : 6.71

    افتراضي

    تم التعديل الذي طلبته أيها الأب الكريم
    ****

    متابعون طبعا لنصك الرائع وباهتمام

    دمت مبدعا
    تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

  6. #6
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2010
    المشاركات : 1,149
    المواضيع : 174
    الردود : 1149
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي الحلقة الخامسة

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ربيحة الرفاعي مشاهدة المشاركة
    تم التعديل الذي طلبته أيها الأب الكريم
    ****

    متابعون طبعا لنصك الرائع وباهتمام

    دمت مبدعا

    شكراً لك يا ابنتي وعبرك أهدي الحلقة الخامسة مع كل الود :الحلقة الخامسة زارني شنكل بالورشه ولم يكن بيدي شيء يذكر ..مجرد (بوليتين ) إنتهيت من إستبداله واستأذنت من المعلم (سلمان الفاضي) ومن ثمّ توجهنا نحو (نانا الحبشيه ) .. ولدي جلوسنا همس شنكل في أذني ( ديشك يا حربي ..دي ما منقة كسلا عديل .. إسمها نانا وهي صاحبتنا .. أها تشرب شنو ؟ قول لي تاكل شنو ؟ أخوك ما أكل من أمبارح .. طيب نمشي المطبخ .. ومالك( مدبرس ) كده ؟ .. والله يا حربي ما قادر أشتغل .. الطبليه ما جايبه حاجه بعد ما إكتشفت الشرطه بأني ببيع حشيش .. تبيع حشيش يا شنكل ؟ .. حرام عليك ياخي ما لقيت حاجه تاكل منها عيش غير المخدرات ؟ .. صدق أنا تاني يوم لجلوسنا معاً بالمقابر ما جيت الشغل .. وفضلت كذا يوم ما قادر أفك أو أربط حاجه .. لالا مش حشيش حشيش .. وزنات خفيفه يعني تمشي الحال .. بالمناسبه عندي صاحب عزيز عليّ نفسو يتعرف عليك .. يظهر أن ليلة القدر نزلت عليك .. حأسيبك أعمل كذا مشوار وأمر عليك بعد الشغل ).. لم أكن مرتاحآ لهذه الدعوة وقد صدق حدسي .. فقد أخذني شنكل إلي الطرف الغربي من المدينه فوصلناه بعد حلول الظلام .. طرق الباب طرقاً خفيفاً وتبادل مع شخص بالداخل عبارات تشبه( الشفره ) مثل (المنفله في العربيه ) .. وعبارات أخري لم أستوعبها .. فتحت لنا الباب صبية مليحة قدمها لي علي أنها الآنسة ( بطه ).. وفي غرفة معزولة بالمنزل دخلنا لنجد رجلآ في الخمسينيات من العمر .. المعلم ( الكيك ) .. الأوسطي حربي .. نهض الرجل في تثاقل واضح ويبدو أنه واقع تحت تأثير ما .. وسلم علينا بحرارة ..عادت ( بطه ) بزجاجة من الخمر وثلاثة أكواب وصبت منها لثلاثتنا وهمست في وجهي .. شرفتنا .. شرف الله قدرك .. جاوبتها هامساً وأنا لست متأكداً تمامآ بأنها فهمت ما أعني .. تجرعت الكأس الأولي لأجد شيئاً مر المذاق سري كالنار في حلقي .. ( عرقي بلح أصلي ) .. وكانت تلك هي المرة الثانية التي أتذوق فيها الخمر .. هذا إذا كانت ( المريسة ) تقارن بهذه (الصودا الكاويه ) .. ودخل الرجل في الموضوع مباشرة .. بصراحه يا حربي .. هنالك إخوة لنا يحضرون لنا العربات المسروقة ونقوم بتفكيكها إلي إسبيرات وبيعها ولدينا ثلاثة شبان يعملون معنا ونحتاج إلي رابع .. وقد حدثني (شنكل) عنك حديثاً طيباً .. فكر في الموضوع جيداً فإما أن تقبل وإما أن تحفظ أسرارنا .. لأن الخيانة في مثل هذه المواضيع جزاؤها الذبح .. قال ذلك وقام بتمثيل الذبح وفمه يصدر صوتآ كصوت السكين .. ولا أطيل عليك ..ثم .. (بطه ..بت يا بطه .. خدي الأستاذ وكملوا سهرتكم براكم ..) . قادتني(بطه) إلي غرفة مجاوره وصبت لي المزيد من الخمر .. سألتها في سفور واضح .. لماذا أنت هنا ولديك كل هذا القدر من الجمال .. ترددت في الإجابة علي سؤالي ولكنها عادت لتقول لي .. أنا هنا غريبة الأهل واللسان .. كنا نعيش في أطراف الجنوب أنا ووالدي ووالدتي وثلاثة إخوه لم يتجاوز أكبرهم السادسة من العمر .. وفي ذلك الصباح المشئوم ذهبت إلي الحقل لإحضار بعض الحطب بصحبة والدتي وعندما عدت وجدت الثوار قد ذبحو أهلي .. ذبحوهم كلهم .. أوثقوهم بالحبال وذبحوهم .. سالت الدموع من عينيها الواسعتين وهي تواصل قصتها .. علمت منها ان الثوار لم يتركوا لها شيئاً .. نهبوا الأبقار وحتي العنزات الصغيرات .. وجوالات الذره التي حصدوها حديثاً وقامت بدفن أهلها دون مساعدة من أحد .. دفنتهم في (المطمورة) التي حفرها والدها بيديه ليحفظ فيها مئونة العام من الحبوب .. طيبت خاطرها ونقدتها بعض المال ووعدتها بأن ألتمس لها مهنة تحافظ بها علي شرفها.. وتعول بها نفسها . صحونا من النوم علي صوت ( مايكرفون ) محمولاً علي عربة حكومية وهو يردد ( أيها المواطن ..أيتها المواطنه ..سارع لإستلام وملء الإستمارة للحصول علي قطعة أرض بالمدينة الجديده ) ..قلت لشنكل ده معناه شنو ؟ ..معناه يا صاحبي ..الإزاله ..الإزاله ؟! ..الإزاله دي وين ؟ لا بل قل هي (شنو ..) . هُرع الناس إلي (الجزارة ) .. حيث تقف العربة وبداخلها أحد المسئولين وإثنان من رجال الشرطة .. وأدرك السكان بفطرتهم التي جبلوا عليها منذ أن وطئت أقدامهم العاصمة أن ورأء الأكمة ما وراءها .. فقد علمتهم التجارب المريرة التي عاشوها منذ العام 84 عام الجفاف الذي شردهم من قراهم وأتي بهم إلي هنا في أكبر عملية نزوح شهدتها البلاد .. تعلموا علي أنهم ما أن يوطدوا أنفسهم علي العيش في هذا المكان أو ذاك حتي يأتي من يحول بينهم وبين الإستقرار النفسي .. آه من هذا الزمن .. همس الحاج رضوان في صاحبه عبدو الفولاني .. لو أغمض عينيّ وأجد نفسي قد عدت إلي بلدي .. إلي الوادي الممتد إلي ما لا نهاية .. إلي السفوح الخضراء تلعب فوق رمالها الغزلان .. إلي (الفولة ) المترامية الأطراف نشرب منها وتشرب إبلنا فلا نشعر بالظمأ .. وإلي (البنيات والصفقه والجراري والحمبي ..) رقصاتنا الشعبية ..عبدو قال له من كان يصدق بأننا سنغادر أوطاننا وقد كنا فيها الكل في الكل لُينظر إلينا هنا علي أننا غرباء ويسموننا ( النازحين ) ..النازحين ..؟ .. وما معني هذه الكلمه بالعربي الفصيح يا عبدو .. ( حالتك دي نازح ليك سبعه سنين وما عارف كلمة نازح معناها شنو ؟ .. كدي وريني إنت معناها يا أبو العريف ..؟ .. تردد عبدو برهة ثم ضرب كفآ بكف وهمهم بكلام غير مفهوم .. البعض سأل الموظف عن رسوم الأورنيك فقال لهم عشرة آلاف جنية ..كم ؟!!.. عشرات الأصوات صرخت بصوت واحد .. الموظف شرح لهم ميزات القطع الجديدة ..خدمات مياه وكهرباء ومدارس وتخطيط سليم .. وليس مثل هذا التكدس الذي تعيشون فيه .. هذا الكلام سمعناه أكثر من مرة ومع كل منطقة جديده ننقل إليها .. (رجعونا بلدنا ..عندكم شنو غير إزعاج .. إزعاج ودخاخين عربات ومواتر وأكياس نايلون كتلت الأغنام .. رجعونا للهواء الطلق بتاعنا .. لريحة الدعاش والمطر .. ونبني كيف ومن وين بعد ما نرحل ؟!!.. الواحد فينا يا الله وآمين بني ليهو غرفة من المواد المحلية كلفتو الملايين .. يا حاج ده ما شغلي .. وكتين ما شغلك ..جايي تعمل شنو ؟ )..وما هي لحظات حتي علت الأصوات الغاضبة والمستنكرة وهاج الناس وماجوا وقذفوا العربة بالحجارة وفجأة وجدت نفسي أساعد الشرطة في تهدئة الموقف وصرخت في الناس .. يا اخوانا من فضلكم الهدوء .. الشغب ما بحل ليكم مشكله ..أجمعوا توقيعات ونمشي نقابل المسئولين .. ويبدو أن مداخلتي تلك أنتجت هدوءاً واستحساناً من الجميع.. واغتنمت هذه الفرصة فأحدثت ثقباً بالحائط البشري الذي تحلق حول العربة والمسئول فانطلق لا يلوي علي شيء .. ومنذ ذلك اليوم أضيف لي لقب جديد هو ( الزعيم حربي ) .. ولكن يا زعيم من أين لك فكرة التوقيعات هذه ؟! .. (كان مره سمعت المعلم سلمان الفاضي جاب الكلام ده لناس الورش عشان ما يقفلوا الورش الخاصهة بهم .) .******* أشتاق بطة ..أشتاق ضحكتها ..أشتاق لثغتها.. براءتها.. عنفوانها وصباها .. شنكل قال لي ساخراً .. هل تحب عاهره ؟ ..لا ليست عاهرة وإنما ضحيه يا شنكل .. ضحية المجاعة والسياسة والحروب .. لو أن الأمور يخطط لها بصورة جيدة لكانت (بطه) الآن عائدة من حقل أشجار الهشاب وقد حصدت كمية لا باس بها من الصمغ العربي وهي تهش أمامها أغنامها عزيزة مكرمة بين أهل القبيلة .. لو أن الأمور يخطط لها بصورة جيدة لما كان هنالك تصحر ونهب مسلح وتردٍ في الخدمات .. وهل تتزوجها ما دمت تحبها لهذه الدرجة ؟ .. نعم سأفعل وسأنفض عن كاهلها كل صنوف المهانة والمذلة والإستغلال من قبل صاحبكم ( الكيك ) وغيره ..ستعود نقية صافية وبريئة قبل أن تأتي إلي هنا .. كلامك هذا يا حربي يذكرني صديقي ( كافوله) ..هو أيضآ إلتقي صبية تعمل كبائعة متجولة .. ضمها إليه وتزوجها ..وعندما طلبت منه أن تساعده في المعيشة بأن تبيع الشاي صرخ في وجها .. شاي لا .. !! هنا تذكر أن شقيقة حربي هي أيضآ تبيع الشاي فأردف قائلاً كانت تريد أن تبيع الشاي في موقف العربات السفرية .. لو كان أمام بقاله كما هو الحال بالنسبة لسلمي أختك لكان ذلك مقبولاً أنت تعلم أكثر مني مستوي الفوضي هناك .. وقد زرتهم أكثر من مرة ولاحظت التغيير الرهيب الذي أحدثه الزواج في سلوكها بيد أنها ما لبثت أن ملّت العزلة داخل المنزل وهي التي تعودت علي الضحك وتجاذب أطراف الحديث مع كل من هب ودب .. فدبت بينهما الخلافات وانتهي الأمر بالطلاق .. أما أنا فلن أدع أي إمرأة تدخل رأسي أبداً حتي ولو كانت( برجيت باردون) .. إذا كانت أمي قد خانتني فماذا أتوقع من الأخريات ..؟! ودي قابلتها وين يا شنكل ؟ ..قابلتها ؟ ..أنا أقابل ( برجيت باردون ؟ ) .. دي ممثله في (سينما جنوب .) يا وهم .

  7. #7
    الصورة الرمزية آمال المصري عضو الإدارة العليا
    أمينة سر الإدارة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Jul 2008
    الدولة : Egypt
    المشاركات : 23,786
    المواضيع : 392
    الردود : 23786
    المعدل اليومي : 4.13

    افتراضي

    مازلت متابعة سيدي الفاضل لحلقات الرواية
    وماإن دخلت اليوم هنا حتى أبيت الخروج إلا بتمام القراءة
    ممتعة حقا
    تقديري الكبير

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  8. #8
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2010
    المشاركات : 1,149
    المواضيع : 174
    الردود : 1149
    المعدل اليومي : 0.23

    افتراضي الحلقة السادسة

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة رنيم مصطفى مشاهدة المشاركة
    مازلت متابعة سيدي الفاضل لحلقات الرواية
    وماإن دخلت اليوم هنا حتى أبيت الخروج إلا بتمام القراءة
    ممتعة حقا
    تقديري الكبير
    أشكرك يا ابنتي الغالية رنيم وأنا أرفع الحلقة السادسة عبر هذه المساحة أتطلع لقيامك والغبنة ربيحة بتنسيق الحلقات لتكون علي نسق واحد وأن اسمع رأيكم بصراحة شديدة لأنفادي فرض عمل غيرمرغوب فيه بواسطة هذا المنتدي العملاق وسلمتمن كل سوء: الحلقة السادسة انفلت صوت من ( المايكرفون ) داخل الطائرة معلنآ الوصول إلي مشارف الخرطوم طالبآ من الركاب الامتناع عن التدخين وربط الأحزمة .. ولكن (جوليا ) شردت بنظراتها تقرا البيوت والأشجار من ذلك العلو الشاهق تحاول فك طلاسم معالمها المتغيرة بعد كل هذه السنين .. نبهتها المضيفة لربط حزامها وحزام ابنتها ففعلت وهي لا تحول نظراتها عبر النافذة نحو الخرطوم الرائعة .. نحو ثري الوطن الجميل .. إييه .. لكمّ انتظرت هذه اللحظات .. أيام وأسابيع وشهور .. بل وسنوات وهي تعد الثواني والساعات بانتظار العودة إلي أحضان الخرطوم والناس والأشياء والأهل وقبل كل هؤلاء طفلها المفقود .. طفلها الذي يفترض إن كان علي قيد الحياة قد صار رجلآ .. إنها تتذكر قدميه الصغيرتين وابتسامته الملائكية وهي تدسه داخل ذلك الصندوق الصغير بعد أن قبلّته وضمته إلي صدرها مليون مرة دون أن ترتوي .. وهرولت بعيدآ تغادر المكان ولكنها ما أن تبتعد قليلآ حتي تعود أدراجها لتقبّله من جديد .. ولم تغادر إلا بعد أن ألحّت عليها صديقتها ( هند) وأكدت لها بأنها قد وضعت كل الإحتياطات الضرورية لضمان سلامته .. كانت لحظات قاسية ظلت تؤرقها وتوقظها من نومها مذعورة في جنح الليالي الباردة هنالك بنيويورك .. كوابيس لا تعلم متي وكيف تنتهي وزوجها الرائع رتشارد يهديء من روعها في كل مرة وينهض ليحضر لها بعض الماء لتشرب ومن ثمّ يأخذها إليه يمسّد شعرها حتي تنام .. انتهت إجراءات الجوازات والجمارك وخرجت لتجد كل أفراد أسرتها بانتظارها خارج المطار وداخل الصاله وهم يهتفون ( جوليا مرحبا ) ..وأخذوها بالأحضان .. أحضان الوالد والوالدة والشقيقات .. الخالات والعمات ..وحتي أسرة وجدي كانت هناك .. إنها حقوق الجيرة والعشيرة والرهط والأصدقاء .. سلمت عليهم تحت دهشة الصغيرة ( لوسيانا ) التي لم تتعود في أمريكا علي مثل هذا الطقس الدافيء وتلك العواطف المشبوبة .. كانت مرهقة ومتعبة من رحلة استمرت لأكثر من سبع وعشرين ساعة من الطيران المتواصل والانتظار الطويل بالمطارات .. (أمستردام والقاهرة ) وأخيرآ آن لها أن تلقي عصا الترحال وترتاح ولكن لحين .. ففي جعبتها الكثير من الهموم وما ينتظرها من مفاجآت تصيبها باليأس والإحباط ..وقد توشحها بالبهجة والأفراح وأخيرآ أسندت ( جوليا ) راسها إلي الوسادة بعد يوم حافل إستقبلت فيه العديد من أفراد أسرتها وأصدقائها .. كانت مثقلة بالانفعالات والشجن وبذلت كل ما بوسعها لكي تكون طبيعية وأن تتصرف كما يتصرف أي عائد بعد غربة للوطن .. ولكنها برغم ذلك فشلت في مداراة الأحاسيس التي تعتورها جراء تلهفها علي البحث عن وحيدها ومن ثمّ ضمه إليها وتعويضه سنوات الحرمان واليتم اللذين لا بد أن يكون قد عاني منهما .. حاولت أن تنام ولكن أسئلة الصغيرة ( لوسيانا) المبهورة بكل شيء حولها إنهمرت عليها كالمطر ..( مامي هل رأيت ذلك الحيوان الغريب الذي كان يركب عليه ذلك الرجل الذي سكب اللبن لجدتي .. وتقصد طبعآ الحمار ..هل سمعته كيف يبكي ؟ .. ومامي لماذا لا توجد لدي جدتي أكواب كافية لشرب الماء ؟ ولعلها قد لاحظت أن الجميع يشرب بكوب واحد وضعوه فوق ( سيرمس الماء البارد ) .. ومامي التواليت ليس نظيفآ بما يكفي .. أسئله عن كل شيء وطبعآ لا ردود جافة وإنما محاولة صبورة لتفسير ما يمكن تفسيره من أمور تبعث علي إندهاش الصغيرة ( لوسيانا ).. وهكذا ما أن أسفر الصبح حتي عهدت لجدتها وأبناء شقيقتها الإهتمام بابنتها وانطلقت بأسرع ما تستطيع للمنظمة حتي تلتقي صديقتها وزميلتها ( هند ) من جديد وكانت قد التقتها بالمطار علي عجالة .. بدا لبقية الموظفين وكأن السيدة جوليا أو مسز رتشارد كما ينادونها بالمنظمة .. بدا للوهلة الأولي وكأنها تتلقي تقارير رسمية عن سير الأداء بالمنظمة .. ولكن الأسئلة التي طرحتها علي ( هند ) تنصب كلها عن رحلة وحيدها مع الحياة منذ أن أودعته المجهول في ذاك الصباح الباكر . طمأنتها صديقتها بأنها قد تتبعت تحركاته عن كثب بالرغم من كل المخاطر المحيطة بموضوع كهذا .. إذ كيف تفسر اهتمامها به لو انكشف أمرها .. فالأرجح أن الجميع سيعتقد بأنها أمه الحقيقية وقد تجر إلي أقسام الشرطة بتهمة الإهمال في رعاية طفل رضيع وتدخل السجن .. لقد أخذوه في بادىء الأمر إلي المستشفي لبضعة أيام ثم وبعد أن اطمئنوا علي صحته .. سلموه إلي ملجأ اللقطاء .. وقد استطاعت هي ومن خلال ترأسها لإحدي الجمعيات الخيرية من توسيع دائرة أنشطة تلك الجمعية والتي تعني أصلآ بالمرضي من الأطفال الفقراء .. لتشمل الأطفال اللقطاء لا سيما في أيام الأعياد .. كن يحملن الحلوي والملابس والنقود ويمضين صباح العيد مع أولئك التعساء .. وكان طفل صديقتها مميزآ من دون بقية الأطفال .. كان طفلآ رائعآ وجميلآ وموفور الصحة وعلي قدر عال من الحيوية والجمال .. لذلك انهالت طلبات ضمه علي الملجأ من أسر كثيرة محرومة من الأطفال .. فكانت هند توعز لمديرة الملجأ بالتريث إذ ربما يظهر أحد ذويه . التقطت له الكثير من الصور لوحده ومع رفقائه الصغار ودأبت علي زيارة الملجأ مع عضوات الجمعية علي مدي أعوام إلي أن فوجئت في إحدي المرات بنبأ هروبه مع زميل له وبرغم الجهود المضنية التي بذلتها الشرطة في البحث عنه إلا أنها لم تعثر له علي أثر .. لكن ما أدهشهم فيما بعد مداومة رفيقه الذي هرب معه علي زيارة الملجأ فجأة وبعد عدد من السنوات مع إطلالة كل عيد وقد كانت ( هند ) وقتها قد تزوجت من زميل لها بالمنظمة ونقلا ليعملا في إحدي العواصم الإفريقية إلي أن عادا قبل أشهر .. شعرت (جوليا) وكأن الحظ يعاندها وبكت بحرقة داخل المكتب وهي تعض بنان الندم .. وعلي كل حال سيذهبان معآ للملجأ لتقصي آخر المعلومات المتوفرة لدي سلطاته. تعانقت ( هند ) ومديرة الملجأ التي ظلت تقوم بمهامها في رعاية هؤلاء الأطفال وغيرهم إلي أن وخط الشيب شعر رأسها .. سألتها مازحة ألا تتزوجين يا صديقتي ..؟ قالت لها إنما نتزوج لننجب وأنا أم لكل هؤلاء الحلوين .. ليتني أجد الصحة والوقت لأعتني بهم .. وبعد أن تبادلا عبارات المجاملة المعتادة عرّفتها علي زميلتها القادمة من نيويورك وأخبرتها أنها بصدد تقديم دعم سخي لجمعيتهم الخيرية وعندما علمت بأن مساعدة الملجأ تدخل ضمن أنشطة الجمعية أصّرت علي زيارته وأنها وبعد إطلاعها علي ألبوم الصور الذي يوثق لزيارات الجمعية كل عيد لفت انتباهها طفل وسيم دائم الإبتسام شديد الشبه بطفل لها توفي في حادث حركة بأمريكا .. فقررت ضمه إليها وأخذه معها لعلّه يعوضها عن طفلها المتوفي .. ومقابل ذلك تتعهد بتقديم دعم سنوي للملجأ يكفي مقابلة كل الإلتزامات الصحية والمعيشية .. طلبت منهم إعطاء بيانات عن ذلك الطفل فعرضتا عليها صورته .. فأخبرتهم المديرة بتفاصيل هربه وعبرت لهما عن أسفها لذلك .. وفي الوقت ذاته أعطتهما بصيصآ من الأمل في العثور عليه .. ذلك أن الطفل الذي هرب معه لا يزال يواظب علي زيارة الملجأ كل عيد وأنهم يجهلون عنوانه ولا يعلمون أين يقيم .. وهو بلا ريب سيدلهما علي مكان وجوده . عادت لمنزلهم لتجد الفوضي ضاربة بأطنابها فيه.. إذ علمت أمها من ابن شقيقتها أنهم ضيّعوا الصغيرة ( لوسيانا) في زحمة زوار الحديقة وأنهم يواصلون البحث عنها ..جن جنون ( جوليا ) وأظلمت الدنيا أمام عينيها فهرعت نحو عربتها تسابق الريح نحو حديقة (المقرن) وأمام المدخل لمحوا ( لوسيانا) وأبناء أختها وهم يهمّون بمغادرة الحديقة ..احتضنت صغيرتها وهي تبكي وتردد الحمد لله ..الحمد لله ..همست الصغيرة في وجه أمها ( مامي أنا آسفه ..أقسم لك بأنني أخبرتهم بأنني سأتمشى قليلآ علي أطراف النيل وأعود لأنضم إليهم .. وها قد عدت ..) ..والدتهم وبختهم علي الإزعاج الذي سببوه لجوليا ولم يمض علي وجودها بالخرطوم يوم واحد .. قالوا لها هي تتحدث بانجليزية غير مفهومة ولم نفهم تمامآ ما قالته لنا .. عاد الجميع للمنزل ونقلت جوليا لزوجها عبر الهاتف خلاصة ما توصلت إليه فيما يخص البحث عن ابنها وأن عليها الإنتظار بضعة أسابيع أخري حتي العيد القادم .. فاقترح عليها مواصلة رحلتها إلي ( روما ) والقيام بمراجعة ميزانية فرع المنظمة هنالك قبل أن تعود مجددآ للخرطوم .

  9. #9
    الصورة الرمزية نهرمحمدالعبدالمحسن قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : Sep 2010
    المشاركات : 45
    المواضيع : 0
    الردود : 45
    المعدل اليومي : 0.01
    من مواضيعي

      افتراضي

      انها لرواية عظيمة بعظمة راويها
      نتمني لك كل التوفيق والسداد

      ونترقب كل جديد

    • #10
      الصورة الرمزية آمال المصري عضو الإدارة العليا
      أمينة سر الإدارة
      أديبة

      تاريخ التسجيل : Jul 2008
      الدولة : Egypt
      المشاركات : 23,786
      المواضيع : 392
      الردود : 23786
      المعدل اليومي : 4.13

      افتراضي

      رائعة حقا رغم أنني لست من هواة النصوص الطويلة
      إلا أن الأحداث والاسلوب والشخصيات أثارت فضولي للمتابعة بنهم شديد
      مازلت متابعة بإعجاب
      تقديري سيدي الفاضل


    صفحة 1 من 8 12345678 الأخيرةالأخيرة

    المواضيع المتشابهه

    1. قراءة لرواية ( قاع المدينة ) للكاتب عبدالغني خلف الله
      بواسطة عبدالغني خلف الله في المنتدى أَنْشِطَةُ وَإِصْدَارَاتُ الأَعْضَاءِ
      مشاركات: 13
      آخر مشاركة: 25-06-2010, 07:56 PM
    2. رسالة من قاع الدست !
      بواسطة خليل انشاصي في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
      مشاركات: 25
      آخر مشاركة: 11-09-2008, 04:52 PM
    3. قصيدة: رسالة من قاع الدستِ .للشاعر د. خليل انشاصي .
      بواسطة خليل انشاصي في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
      مشاركات: 5
      آخر مشاركة: 03-09-2008, 01:27 PM
    4. ْ{ فِي رِحَابِ .. المَدِينَةِ المُنَوَّرَة }
      بواسطة عبدالملك الخديدي في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
      مشاركات: 24
      آخر مشاركة: 21-02-2007, 07:27 AM
    5. أسئلة في قاع البحر
      بواسطة بن عمر غاني في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
      مشاركات: 12
      آخر مشاركة: 29-06-2004, 04:50 PM