الحلقة الثامنة والثلاثون
اعتقدت للوهلة الاولى ان الموضوع تمثيل في تمثيل كما يقولون .. ولكن صديقي (كافو) أدمن زيارة العم صباحي .. لم يصدق ان شخصاً ما ينظر إليه بوصفه ابنه .. ويبدو ان العامل النفسي يطغي على المسألة برمتها .. كان يحمل السندوتشات ويستأذن مني لأخذها لوالده بالمصلحة (والده) .. يقولها من اعماق ذاته .. وكان العم صباحي سعيد بهذا الاهتمام المفاجئ .. لقد وجد اخيراً من يعطف عليه ويؤانسه في وحدته .. كانا يمضيان اوقاتاً رائعة مع بعضهما البعض وكنت اشاركهما جلساتهما تلك كلما سنحت لي الفرصة .. فالعم صباحي يعزف (الربابة) بشكل مؤثر .. يحتلب الانغمام المفعمة بالشجن ويغني بصوته الضخم ( انتلي أوو اتنلي .. تملالي ..ما تملالي .. لعلها (رطانة) الهوسة أو شئ من هذا القبيل .. وكانت دندناته تطير بعيداً توشح النجيمات الساطعات في كبد السماء .. ومعها تطير اشواقه إلى ذاك السفح البعيد .. إلى الزوجة والبنيات والصبيان الذين قتلوا على ايدي الجنود .. أشواق إلى عوالم لن تعود .. وعندما يتعب من الغناء يرتاح قليلاً وتبدأ الحكايات .. حكايات توقفت في حدود الذاكرة المجهدة عند ثلاثة أو اربعة مواقف يعيدها على مسامعنا في كل مرة .. كنت أهوى في شبابي صيد الفيلة .. وكنا نذهب ونحن نحمل اسلحتنا لصيدها والرعب يملأ قلوبنا .. ومن ثم ننصب شراكنا ونقوم بالحفر عميقاً في باطن الارض ثم نضع فوقها كومة من القش لنضلل الفيلة .. وكنا نكسب مالاً وفيراً من الاتجار بسن الفيل إلى ان جاء ذلك اليوم .. ابتعدت قليلاً عن رفاقي .. و اذا بي وجهاً لوجه أمام أسد غاضب .. وقفت وأنا ارتجف من الخوف .. وتخيلت في تلك اللحظة بقايا لحمي وعظامي وهي تتساقط من بين فكيه .. لكن الأسد كان يفتح فمه ويزأر دون أن يتحرك ولو خطوة واحده باتجاهي .. واتتني حفنة من الشجاعة فحاولت أن استنتج الحكمة من تردد ذاك الأسد في مهاجمتي وهو يعلم أنني لا احمل سوى عصاي لا أكثر .. قلت لنفسي .. لماذا لا تتقدم نحوه أنت يا صباحي لترى ردة فعله .. وهذا ما فعلته .. الأسد يفتح فمه ويزأر بشيء من الغضب وربما الألم .. الألم ؟!.. نعم الألم .. ترى ما به .. هيا خطوة أخرى يا صباحي .. وصدق حدسي فقد لمحت لدى اقترابي أكثر وأكثر منه عظمة كبيرة نصفها في فمه والنصف الآخر داخل حلقه .. إذن هيا يا صباحي .. ومسحت على رأسه قبل أن ادخل يدي داخل فمه وأقتلع العظمة بعد عدة محاولات .. رميت بها بعيداً وأنا لا زلت متخوفآ من خطوته القادمة ولشدة دهشتي إقترب الأسد مني يتمسح بجسمي ويرقّص ذنبه .. والتفت لأجد اللبوة وعدة اشبال صغار وقد قدموا على إثر صياح والدهم .. تراجعت قليلاً نحو الوراء وانا أعلم كم خطيرة هي اللبوة في الغابة.. ولكن الاسد قفز باتجاههم محذراً وزأر فيهم لينصرفوا .. وكان أن تبعني حتى حدود الغابة وقفل عائداً وهو يلتفت نحوي بين الفينة والفينة ويرقّص ذيله علامة الشكر والعرفان .
انفتح الجيران علينا بعد مضي وقت قصير سادته الشكوك والاوهام حول هوية القادمين الجدد للحي .. واصبح كل فرد منا محل ترحيب وتقدير .. شقيقتي نادية الممرضة القديرة والتي هي الآن رئيسة عنبر وخضعت لدورة متقدمة من التوليد تنتقل كالفراشة من دار إلى دار .. تطعن حقن الانسولين لمرضى السكر وتقيس ضغط الدم وتقدم الاسعافات الاولية لضحايا الحوادث المنزلية الصغيرة واحياناً تتوسط لدى الطبيب المختص لايجاد سرير بالعنابر المكتظة بالمرضى .. الجميع يبادلها الحب والاعزاز .. أما الست الوالدة .. فقد باشرت من جديد العمل في صناعة الخبز البلدي .. بالرغم من تحسن احوالنا المادية فأنت تشاهد عند الظهيرة طابوراً من الصبية والصبيان يدخلون ويغادرون المنزل وهم يحملون احتياجاتهم من الخبز الطيب الذي تصنعه إمرأة هي الطيبة بعينها .. أما كافولة فقد باع دكان الاسبيرات بعد أن وضعت الشرطة عينها عليه وسرعان ما تراصت امام منزلنا ارتال من العربات ( التعبانة ) .. عربات أهل الحي بعد أن اكتسب شهرة كبيرة لبراعته في صيانة العربات .. وكان عندما تستعصى عليه بعض المشكلات الميكانيكية يلجأ إليّ طالباً النصح والمشورة .. فأخرج بملابسي العادية واشير عليه بما يجب فعله لاسيما بالنسبة للموديلات الجديدة .. وكانت الحيرة ترتسم علي وجوه اصحاب العربات وهم يتابعون نصائحي وفعاليتها ويستغربون لكوني سائق تاكسي ليس إلا وهم طبعاً لا يعلمون شيئاً عن وضعي الجديد كرئيس نقابة بالمصلحة وعضو النقابة الأم بالوزارة ..