الحلقة الأخيرة

وبذل الأطباء جهودآ مضنية لإنقاذ الأم ومن ثمّ طفلتها ولعلهم نجحوا في ذلك أو هكذا بدا لي .. لقد خرجت علينا ( السستر ) وهي تحمل طفلة حلوة الملامح وهي تردد ( مبروك عليكم بتكم .. والله عسل بس ).. وسحر كيف حال سحر ؟!!.. أدعوا لها يا سعادة الوزير .. كلكم أدعوا لها .. لقد كانت ولادة طبيعية ولكن ليتها كانت قيصريه .. لقد تعبت المسكينه .. والله عمري ما شفت أم بتولد بالصعوبه دي .. لكن ربنا موجود .. ونعم بالله .. إذن هذا ما يفسر تأخر الطاقم الطبي الذي يقوده إخصائي كبير معروف بقدراته الطبية الفائقة وبعلمه الغزير .. وعندما أتذكر تلك اللحظات القاسية وما سبقها من تجهيزات المولود المرتقب .. أموت ألف مرة من الحسرة والحزن .. كانت تريدها بنتآ وكنت لا أبالي بنتآ أو ولدآ المهم أن تضع سحر بخير .. لقد حذرني الطبيب الألماني من الحمل وخطورته بالنسبة لحياتها .. وكنت كثيرآ ما ألمّح لها بذلك .. ولكنها سعت للحمل وتحمل تبعاته من أجل سعادتنا معآ .. ( عاوزنا نكبر ونعجز ولا أي حاجه قدامنا .. معليش يا صالح مره واحده بس أحاول والبريدو الله كلو خير ..) أيتها الشجاعة الودودة البشوشة يا سحر .. وخرج إلينا الطبيب المشرف علي العملية وهو يفرد كلتا يديه .. ( البقيه في حياتم ..الفاتحه ..الفاتحه ..الفاااااااتحه ..إنا لله وإنا إليه راجعون .)
إنتهت أيام المأتم وأنا أكاد لا أصدق ما يحدث أمامي .. لقد رحلت سحر كنسمة صيف مسافرة عبرت سماء حياتي علي غير انتظار .. وكم هو جميل أن تترك لي قطعة منها ومني هي الصغيرة سحر .. ( مش إنت أبونا الإتنين ؟! ) .. طبعآ يا غاليتي الغائبة الحاضره .. وتشاء الأقدار أن تضع نادية شقيقتي قبل سحر بحوالي أسبوع فأرضعت طفلتنا مع رضيعها وهذا ما أقنع والدة سحر بأن تكون حفيدتها تحت رعاية والدتي وشقيقتي ولكنها أصرت علي أن تنتقل للعيش في شقة ابنتها .. وأضافت بأنها لن تغادر الشقة إلا للقبر لتتنسم رائحة وأنفاس المرحومه .. وكان لها ما أرادت فلم تكد تمضي بضعة أسابيع حتي صحونا ذات صباح علي صراخ شقيقتي نادية وهي تطلب منا طلب الإسعاف لنقل جدة سحر للمستشفي بيد أنها رحلت حتي قبل الوصول للمستشفي وكان موسمآ بحق لرحيل أعز الناس لديّ فقد رحلت والدتي أيضاً بعد ذلك بشهر تقريباً .. ومضيت في أداء واجباتي وأنا أعض جراحاتي ورويداً رويداً عوضتني الصغيرة سحر عن الذين رحلوا وباتت كل شيء في حياتي .. ويبدو أن أكثر من صديق يتعاطف معي .. فهاهي مها زميلتي السابقة بالمصلحة تأتي لتعزي في فقدي الجلل مع زوجها وهي تحمل طفلآ صغيرآ علي كتفها وهي تردد ( والله يا سيد حربي رسلنا العفش مع أخوي بتكس وطوالي من المطار لبيتكم .. لقد قرأنا الخبر بالصحف وأول ما خطر علي بالي ونحن نتأهب للإجازة أن أضم طفلتك إلي طفلي وأرضعهما معآ .. كتر خيرك يا مها .. هكذا أنت ووالدك الأستاذ وكل ناس بيتكم .. كرم وأصاله .. مافي عوجه والحمد لله علي كل حال .. ناديه أختي قايمه بالواجب وأكثر .. وأنا سعيد بعودتك مع زوجك وأتمني لكم إقامه طيبه مع الأهل .. ولا بد أنكم مشتاقين للبلد وناسو .)
أرسلت في طلب الأستاذ اسحاق لتسوية تركة زوجتي الراحلة سحر والمتمثلة في الشقة والعربة ومستحقاتها بشركة الطيران .. ونقل لي خبرآ ضاعف من معاناتي .. فقد سجلت سحر قبل وفاتها الشقة باسمي علي أن تؤول العربة لشقيقها والمكافأة لوالدتها .. سجلتها بإسمي .. كيف ومتي حدث ذلك ..؟ إنها حتي لم تلّمح لي ولو تلميحآ بشيء كهذا .. وجمعت رموز أسرتها ونقلت لهم إستعدادي للتنازل علي الفور عن الشقة إذا كانت هذه هي رغبتهم ولكن شقيقها ( عصام ) أصرّ إصرارآ شديدآ علي أن تلك هي رغبة المرحومة ويجب أن تحترم وبدوري طلبت من الأستاذ نادر إعادة تسجيلها باسم طفلتنا سحر وسأكون بالطبع الوصي عليها حتي تشب عن الطوق .
صحوت ذاك الصباح الباكر علي صوت مدير حسابات ( مؤسسة شنكل الخيرية) والتي تحولت لتصبح إحدي كبريات شركات البناء والتشييد ليقول لي في اضطراب واضح أنه ذهب لمنزل صهري السيد المدير العام عصام وعلم من الخادمة أنه لم يعد للمنزل منذ يوم أمس وأنها حين دخلت إلي غرفة نومه لاحظت أن حقيبتين من حقائبه ليستا فوق سطح خزانة الملابس وقد تركتهما هناك قبل يوم واحد .. وأضافت أنه غادر دون أن يشعر به أحد وقد تناول غداءه علي عجل وكان يبدو مضطربآ .. سألت عليه عند أقاربه الذين أعرفهم وكان الرد في كل مرة أنهم لا يعلمون عنه شيئآ .. توجهت إلي مكاتب المؤسسة ودعوت لاجتماع عاجل لمدراء الإدارة لا سيما الإدارة المالية وعلمت منهم أن (عصام ) قد وجه بتحويل مبلغ ضخم لأحد فروع ذلك البنك الأوروبي المشهور بسويسرا لشراء كميات ضخمة من الأسمنت والحديد لصالح المشاريع المعلنة بواسطة المؤسسة في الأحياء الجديدة لسكان الحي العشوائي وتقول كل المؤشرات بأن مبالغ كبيرة جداً قد جري اختلاسها بواسطته .. لقد اغتنم فرصة انشغالي بوفاة سحر وما تبع ذلك من تداعيات وقام بتهريب كل ما استطاع الوصول إليه من موارد المؤسسة .. فوجهت علي الفور بفتح بلاغ في مواجهته بالإحتيال وخيانة الأمانة وكلفت خاله الأستاذ إسحق المحامي بمتابعة استرداد الأموال المختلسة وتقصي مكان تواجده وطلبه عبر البوليس الجنائي الدولي ( الإنتربول ) .

تلقفت الصحف النبأ العجيب وهاج الناس وماجوا بالأحياء الموعودة بالماء والكهرباء والمسجد وهم يرون آمالهم في جني ثمار تلك المشروعات تذهب أدراج الرياح وسيروا موكبآ ضخمآ مطالبين محاسبة المسئولين عن سرقة تلك الأموال وبدت بعض الأقلام تستغل مساحات ما يعرف صحفيآ ب ( أسرار ما وراء الأخبار ) .. و( أحاديث في المدينة ) .. في التعريض بسمعتي همزاً وغمزاً .. وفي خضم تلك الأجواء المحبطة أطلت في سماء حياتي الدكتوره أميره .. كنت قد أخذت طفلتي لإحدي المستشفيات الحكومية لأخذ الجرعة الأولي من الأمصال الواقية من أمراض الطفولة لأقف وجهآ لوجه أمام قامتها الباسقة .. سألتني وأين السيدة حرمكم ولماذا لم تحضر مع طفلتها ولكنها قرأت الإجابة في نظرات عينيّ ولعلّها خمنت بأننا قد انفصلنا بالطلاق .. وعندما أخبرتها بحقيقة ما جري .. تأسفت لما حدث واعتذرت بأنها كانت مشغولة بالتحضير لدرجة الماجستير في الطب وزادت بأن والدها ووالدتها لا علم لهما بوفاة زوجتي .. إنتهينا من أخذ الجرعة ودعتني علي فنجان قهوة بمكتبها وهنالك قام أكثر من سؤال بيننا .. ثم ماذا بعد يا دكتوره أميره ؟!.. كان حواراً صامتاً لا أملك له جواباً وكنت محتاجآ لأية إشارة أو إيماءة بما يمكن أن تتطور إليه الأمور بيننا .. وعاودتني في دقائق معدودة أشجان الماضي وأحلام الأمس الضائع .. ومضت أكثر من ساعة ونحن نلف وندور حول جوهر الموضوع دون أن يجرؤ أحدنا علي الدخول فيه مباشرة وعندما سألتها بأن تنصحني من ناحية طبية وتربوية حول التصرف الملائم إزاء طفولة سحر .. أجابتني بأن الأمر يحتاج إلي وقفة ما.. ثم وفي خفر شديد .. وربما أم جديدة لطفلتك الرائعة إذ لا جدوي من المربيات في مثل هذه السن وتزداد المشكلة تعقيداً في ظل وفاة الجدات والأجداد من كلا الطرفين مع فقدان الأم الحقيقية .. لذلك تحتاج الصغيرة سحر لمن يعوضها عن حنان أمها .. قلت لها أليس في ذهنك شخص ما يقبل بأن يضحي من أجلي ومن أجل طفلتي ؟! ويقبل بي زوجاً ؟! .. التزمت الصمت الرهيب ولم تجبني وظل بصرها مشدوداً إلي الأرض حتي وهي تزفني نحو الباب . كان لا بد من تغيير حقيقي في محيط حياتي التي تتأرجح صعودآ وهبوطآ تكاد أن تتحطم وقد وجدت ذلك المخرج في الدكتوره أميره .. ورحب والدها بفكرة زواجنا ترحيبآ حاراً وأنا أزورهم مع شقيقتي ناديه واتفقنا علي أن تتم مراسم العرس في أضيق نطاق ممكن .. وبينما الطائرة تحلق في أجواء الخرطوم باتجاه القاهرة كنت أحتضن كفها ونحن في مقاعد ركاب الدرجة الأولي وكأنني غريق يلتمس النجاة فوق قطعة طافية فوق الزبد .
كنت مستعداً ونحن نعود من شهر العسل لكل الإحتمالات .. وقد تناهت إلي أسماعي تلك الضجة غير المسبوقة التي أثارتها الصحف صراحة في غيابي .. ومن ثمّ انتقلت الأسئلة إلي داخل مجلس الوزراء وفي أروقة البرلمان .. ناقشت الأمر مع أميره فشجعتني علي الإستقالة وأكّدت لي أنها عندما قبلتني زوجآ لم تكن تولي منصبي أية أهمية ومن الأفضل لي مواجهة القضية بوضوح وسفور بل وبشجاعة خارج العباءة الرسمية .. إذ أنها تؤمن ببراءتي .. ويبقي الأمل معلقاً بالعثور مجدداً علي المتهم الحقيقي .. وأن الله سبحانه وتعالي سيظهر الحقيقة في النهاية .
وبالفعل تقدمت بالإستقالة من جميع مناصبي كوزير وكنائب في البرلمان وكعضو في النقابة العامة للعاملين بالدولة وكتلة النواب المستقلين ولم يكد المحققون يستيقنون من اسقاط الحصانة عني حتي حرروا أمراً بالقبض علي وإيداعي السجن .. ومرة أخري يتصدي المحامي إسحق للدفاع عني وثمّنت بعض الأقلام الشريفة بالصحف غاليآ استقالتي وطالبت بمحاكمتي محاكمة عادلة ومنصفه تتناسب والموقف النبيل الذي اتخذته .. ودار جدل قانوني كثيف عندما وصل (شنكل ) من نيويورك وشهد بأن الأموال المختلسة تخصه وأنه هو من تبرع بها وهاهو ذا يتنازل عنها ويطالب بإطلاق سراحي واسقاط جميع التهم عني .. ولم تكن تلك الشهادة كافية لإخراجي من السجن فقد تطوع أكثر من ( منظّر) ليقول أن المال قد أضحي مالاً عاماً بمجرد دخوله إلي بنك السودان وتخصيصه لمشاريع خدمية معينه وأنه قد ذاب في أموال أخري محلية وأجنبية وصارت جزءاً من الأصول الثابتة والمنقولة للمؤسسة .. ولكن أعود لأقول .. بأنني لست نادمآ علي كل الظروف التي مرت بي فقد عشقت سحر حتي البكاء وظفرت بها زوجآ حنونآ وأمآ لطفلتي وظفرت بالدكتورة أميرة رفيقة الصبا والطفولة والجارة العزيزة بالحي العشوائي وحاولت أن أخدم وطني بإخلاص ونزاهة .. فماذا تبقي إذن لكي أندم عليه ؟!!.

إنتهت والحمد لله