من "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" لابن هشام
***

3 - الجملة الثالثة التفسيرية، وهي الفضلة الكاشفة لحقيقة ما تليه. وسأذكر لها أمثلة توضحها:
أحدها: (وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم) فجملة الاستفهام مفسرة للنجوى، وهل هنا للنفي. ويجوز أن تكون بدلا منها إن قلنا: إن ما فيه معنى القول يعمل في الجمل، وهو قول الكوفيين، وأن تكون معمولة لقول محذوف وهو حال مثل (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم).
الثاني: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون)- فخلقه وما بعده تفسير لمثل آدم لا باعتبار ما يعطيه ظاهر لفظ الجملة من كونه قدر جسدا من طين ثم كون، بل باعتبار المعنى أي إن شأن عيسى كشأن آدم في الخروج عن مستمر العادة وهو التولد بين أبوين.
والثالث: (هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله)- فجملة "تؤمنون" تفسير للتجارة، وقيل: مستأنفة معناها الطلب أي آمنوا بدليل يغفر بالجزم كقولهم: اتقى الله امرؤ فعل خيرا يثب عليه، أي ليتق الله وليفعل يثب. وعلى الأول فالجزم في جواب الاستفهام تنزيلا للسبب وهو الدلالة منزلة المسبب وهو الامتثال.
الرابع: (ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا). وجوز أبو البقاء كونها حالية على إضمار قد والحال لا تأتي من المضاف إليه في مثل هذا.
الخامس: (حتى إذا جاؤوك يجادلونك يقول الذين كفروا)- إن قدرت إذا غير شرطية فجملة القول تفسير ليجادلونك، وإلا فهي جواب إذا وعليهما فيجادلونك حال.

تنبيه
المفسرة ثلاثة أقسام: مجردة من حرف التفسير كما في الأمثلة السابقة، ومقرونة بأي كقوله:
746 - (وترمينني بالطرف أي أنت مذنب ...)
ومقرونة بأن نحو (فأوحينا إليه أن اصنع الفلك). وقولك كتبت إليه أن افعل إن لم تقدر الباء قبل أن.
السادس: (ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه)- فجملة "ليسجننه" قيل: هي مفسرة للضمير في بدا الراجع إلى البداء المفهوم منه، والتحقيق أنها جواب لقسم مقدر، وأن المفسر مجموع الجملتين. ولا يمنع من ذلك كون القسم إنشاء؛ لأن المفسر هنا إنما هو المعنى المتحصل من الجواب وهو خبري لا إنشائي، وذلك المعنى هو سجنه عليه الصلاة والسلام، فهذا هو البداء الذي بدا لهم.
ثم اعلم أنه لا يمتنع كون الجملة الإنشائية مفسرة بنفسها، ويقع ذلك في موضعين:
أحدهما: أن يكون المفسر إنشاء أيضا نحو أحسن إلى زيد أعطه ألف دينار.
والثاني: أن يكون مفردا مؤديا معنى جملة نحو (وأسروا النجوى الذين ظلموا) الآية.
وإنما قلنا فيما مضى إن الاستفهام مراد به النفي تفسيرا لما اقتضاه المعنى وأوجبته الصناعة؛ لأجل الاستثناء المفرغ، لا أن التفسير أوجب ذلك. ونظيره "بلغني عن زيد كلام والله لأفعلن كذا".
ويجوز أن يكون (ليسجننه) جوابا لبدا؛ لأن أفعال القلوب لإفادتها التحقيق تجاب بما يجاب به القسم.
قال:
747 - (ولقد علمت لتأتين منيتي ...)
وقال الكوفيون: الجملة فاعل. ثم قال هشام وثعلب وجماعة: يجوز ذلك في كل جملة نحو "يعجبني تقوم". وقال الفراء وجماعة: جوازه مشروط بكون المسند إليها قلبيا، وباقترانها بأداة معلقة نحو "ظهر لي أقام زيد" و"علم هل قعد عمرو".
وفيه نظر؛ لأن أداة التعليق بأن تكون مانعة أشبه من أن تكون مجوزة، وكيف تعلق الفعل عما هو منه كالجزء.
وبعد، فعندي أن المسألة صحيحة ولكن مع الاستفهام خاصة دون سائر المعلقات، وعلى أن الإسناد إلى مضاف محذوف لا إلى الجملة الأخرى؛ ألا ترى أن المعنى "ظهر لي جواب أقام زيد"، أي جواب قول القائل ذلك. وكذلك في "علم أقعد عمرو"، وذلك لا بد من تقديره دفعا للتناقض؛ إذ ظهور الشيء والعلم به منافيان للاستفهام المقتضي للجهل به.
فإن قلت: ليس هذا مما تصح فيه الإضافة إلى الجمل- قلت: قد مضى عن قريب أن الجملة التي يراد بها اللفظ يحكم لها بحكم المفردات.
السابع: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض). زعم ابن عصفور أن البصريين يقدرون نائب الفاعل في قيل ضمير المصدر، وجملة النهي مفسرة لذلك الضمير. وقيل: الظرف نائب عن الفاعل، فالجملة في محل نصب. ويرد بأنه لا تتم الفائدة بالظرف وبعدمه في (وإذا قيل إن وعد الله حق)، والصواب أن النائب الجملة؛ لأنها كانت قبل حذف الفاعل منصوبة بالقول فكيف انقلبت مفسرة، والمفعول به متعين للنيابة.
وقولهم: الجملة لا تكون فاعلا ولا نائبا عنه- جوابه أن التي يراد بها لفظها يحكم لها بحكم المفردات، ولهذا تقع مبتدأ نحو "لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة"، وفي المثل "زعموا مطية الكذب". ومن هنا لم يحتج الخبر إلى ربط في نحو "قولي لا إله إلا الله" كما لا يحتاج إليه الخبر المفرد الجامد.
الثامن: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم)
؛ لأن وعد يتعدى لاثنين وليس الثاني هنا (لهم مغفرة)؛ لأن ثاني مفعولي كسا لا يكون جملة بل هو محذوف والجملة مفسرة له، وتقديره خيرا عظيما أو الجنة. وعلى الثاني فوجه التفسير إقامة السبب مقام المسبب؛ إذ الجنة مسببة عن استقرار الغفران والأجر.
وقولي في الضابط: الفضلة- احترزت به عن الجملة المفسرة لضمير الشأن؛ فإنها كاشفة لحقيقة المعنى المراد به ولها موضع بالإجماع؛ لأنها خبر في الحال أو في الأصل.
وعن الجملة المفسرة في باب الاشتغال في نحو "زيدا ضربته" فقد قيل: إنها تكون ذات محل كما سيأتي، وهذا القيد أهملوه ولا بد منه.

مسألة
قولنا: إن الجملة المفسرة لا محل لها- خالف فيه الشلوبين، فزعم أنها بحسب ما تفسره فهي في نحو "زيدا ضربته" لا محل لها، وفي نحو (إنا كل شيء خلقناه بقدر) ونحو "زيد الخبز يأكله" بنصب الخبز- في محل رفع؛ ولهذا يظهر الرفع إذا قلت: آكله.
وقال:
748 - (فمن نحن نؤمنه يبت وهو آمن ...)
فظهر الجزم وكأن الجملة المفسرة عنده عطف بيان أو بدل، ولم يثبت الجمهور وقوع البيان والبدل جملة، وقد بينت أن جملة الاشتغال ليست من الجمل التي تسمى في الاصطلاح جملة مفسرة وإن حصل فيها تفسير، ولم يثبت جواز حذف المعطوف عليه عطف البيان، واختلف في المبدل منه.
وفي البغداديات لأبي علي أن الجزم في ذلك بأداة شرط مقدرة فإنه قال ما ملخصه: إن الفعل المحذوف والفعل المذكور في نحو قوله:
749 - (لا تجزعي إن منفسا أهلكته ...)
مجزومان في التقدير، وإن انجزام الثاني ليس على البدلية؛ إذ لم يثبت حذف المبدل منه بل على تكرير "إن" أي إن أهلكت منفسا إن أهلكته. وساغ إضمار "إن" وإن لم يجز إضمار لام الأمر إلا ضرورة؛ لاتساعهم فيها بدليل إيلائهم إياها الاسم، ولأن تقدمها مقو للدلالة عليها؛ ولهذا أجاز سيبويه "بمن تمرر أمرر" ومنع "من تضرب أنزل"؛ لعدم دليل على المحذوف وهو "عليه" حتى تقول: عليه.
وقال فيمن قال: مررت برجل صالح إن لا صالح فطالح بالخفض: إنه أسهل من إضمار رب بعد الواو، ورب شيء يكون ضعيفا ثم يحسن للضرورة كما في "ضرب غلامه زيدا" فإنه ضعيف جدا وحسن في نحو "ضربوني وضربت قومك". واستغني بجواب الأولى عن جواب الثانية كما استغني في نحو "أزيدا ظننته قائما" بثاني مفعولي ظننت المذكورة عن ثاني مفعولي ظننت المقدرة.