بسم الله الرحمن الرحيم


تجزئة بلاد المسلمين تمكين للأعداء

وهي للمسلمين شقاء وبلاء

إن المسلمين يشغل بالهم اليوم، ما هم فيه من واقع سيئ، ويقفز إلى رؤوسهم دائماً همّ التفكير بمشاكلهم، وأمل الشفاء منها، تماماً كالمريض الذي يفكر بمرضه وبكيفية العلاج. ومن الأمراض التي تفرض نفسها عليهم ويتألمون منها هو مرض التجزئة التي تنعكس عليهم آلاماً متعددة:

فالدولة الإسلامية التي كانت مترامية الأطراف، ولا حدود بينها ولا قيود، مزّقت إلى نيف وخمسين دولة، وإذا أضيف إليها الجمهوريات الإسلامية جنوب روسيا كأوزبيكستان وكازاخستان وقيرغيزستان والشيشان... فإنها أصبحت تقارب الستين دولة، تفصل بينها الحدود، وتفرض فيها القيود، ويمنع المسلم من دخولها إلاّ بإذن، ويعتبر فيها أجنبياً... لقد أصبح غريباً في أرضه.

وقسّمت مقدرات الدولة الإسلامية التي كانت مقدرات دولة أولى في العالم وما زالت، فصار البترول في الخليج مثلاً يتنعّم به قلّة من المسلمين بينما حُرم منه الآخرون الذين عليهم أن يشتروه مثلهم مثل أي غريب، وصارت المياه التي تنبع في تركيا محرمة على المسلمين في سوريا أو العراق، وتتصرف بها تركيا على اعتبار أنها مياه تركيّة...

وغاب حكم الإسلام عن المسلمين الذي يجعل دولتهم واحدة وبلادهم واحدة وأمتهم واحدة، وحلت محله أحكام الكفر فعملت على أن تكون الدولة دولاً والبلد بلاداً والأمة أمماً وأن يتحول الولاء للإسلام ولاءً للقطر بل لجزء من القطر شماله أو جنوبه وفصيلته أو عشيرته. كل ذلك جر على الأمة الويلات وأفقدها دورها في قيادة العالم وأصبحت مشاكلها تتفاقم استفحالاً وتزداد اشتعالاً.

ثم عُطِّل الجهاد وهانت الأمة على الأعداء حتى أصبح يهود مَن ضُرِبَتْ عليهم الذلة والمسكنة وباؤوا بغضب من الله، يضربون بلاد المسلمين يمنةً ويسرةً، فيدمرون في فلسطين، ويغيرون في لبنان ويقصفون قواعد لسوريا، يصنعون ذلك وفوق ذلك دون أن يقف في وجههم أي حاكم من الحكام الكثر في بلاد المسلمين، بل كان هؤلاء الحكام منهمكين في ثلاث زوايا: في مقاعد المتفرجين على مشاهد الغطرسة الدموية ليهود التي تسفك فيها دماء المسلمين وتنتهك مقدساتهم، أو في ذهاب وإياب للوساطة بين الجزار والضحية كأن ما يحدث هو في بلاد الواق واق وليس اعتداءً واغتصاباً لبلاد المسلمين، أو يكونون في زاوية مظلمة ثالثة يلتقون مع الأعداء في رسم الخطط وحبك المؤامرات لتسليم بلاد المسلمين لأعدائهم والاعتراف باغتصابهم.

هكذا عطلت أحكام الإسلام وجزئت بلادهم وتقطعت أوصال دولتهم إلى دويلات ونصب الغرب على كل دويلة حاكماً موالياً له يؤمّن مصلحته وينفذ سياسته، فزادوا التجزئة تجزئة والفرقة فرقة، وصارت لكل منهم قضية وغابت قضايا المسلمين الواحدة.

وبناءً على نصب الغرب للحكام الموالين له في كل دولة، عمل هذا الغرب، بمختلف دوله، على استغلال مقدرات المسلمين التي تفرّقت مع تفرّق دولهم، فأوقعت هذه الدول في ديون وفوائد، وصارت حتى أغنى هذه الدول مدينة لهم بمئات المليارات من الدولارات، وقضت على كل إمكانية للمسلمين في التنمية، وجعلت بلاد المسلمين مرهونة لهم...

إن الغرب كانت له المصلحة الأولى في تجزئة الدولة الإسلامية، وإقصاء الشريعة الإسلامية عن الحكم، وتوزيع المسلمين على ما يقارب الستين دولة بدل أن يكونوا مجتمعين يشكلون ربع سكان العالم تقريباً، وتقسيم مقدرات الأمة واستغلالها ونهبها تحت مسمّيات مختلفة مشرّعة بشريعة الغاب التي يسمّيها القانون الدولي.

إن هذه التجزئة هي تجزئة الدولة الإسلامية إلى دويلات وليست تجزئة الشعوب الإسلامية. فالمسلمون ما زالت تجمعهم أفكار الإسلام، وما زالت توحدهم مشاعرهم الإسلامية، وما زالت قضاياهم التي يلتقون عليها هي قضايا إسلامية. إلا أنَّ الحكام ركزوا على التجزئة وجعلوها من ثوابتهم فكانت مشاكلها كبيرة على المسلمين وآثارها بالغة الخطورة عليهم. لقد أصبح من جرائها أن كل مشكلة تنشأ في كل دويلة يَعُدُّها الحكام خاصة بهده الدويلة وليست مشكلة المسلمين جميعاً. فقضية فلسطين صارت مشكلة الفلسطينيين ومشكلة الشيشان مشكلة الشيشانيين، وكشمير مشكلة الكشميريين، والبوسنة مشكلة البوسنيين... وصارت الدويلة التي لم تنشأ عندها المشكلة لا تعد القضية قضيتها... أما موقف الشعوب الإسلامية فقد كان مختلفاً.

إن كل دويلة صارت لها مصالحها الخاصة غير القائمة على الإسلام، فمشكلة الشيشان عَدّها كثير من هذه الدويلات مشكلة داخلية روسية، وبقيت دويلات تمدّ الصرب بالبترول بينما كانوا يذبحون المسلمين في البوسنة، وما يحدث لمسلمي العراق من قبل أميركا وبريطانيا ينفطر له قلب المسلمين جميعاً بينما موقف الحكام مختلف كثيراً. ومشكلة فلسطين التي تُعَدّ مشكلة المسلمين الأولى من بين كل هذه المشاكل، فإن بعض هذه الدويلات أقامت علاقات مع إسرائيل، ودويلات تنتظر ظرفاً أنسب لإقامة علاقات، ودويلات لا تهتم، ودويلات تهتم ولكنها لا تملك الرؤية الشرعية والحل الشرعي. بينما الشعوب الإسلامية نظرتها واحدة وهي نظرة إسلامية، وهي لا تملك القدرة على إغاثة إخوانهم من مسلمي فلسطين لأن حكامهم يمنعونهم من ذلك.

كذلك، كم نشأت من خلافات بين هذه الدويلات على الحدود، وكم نشبت من حروب بينها، وكم وقعت معارك كلامية وإجراءات انتقامية، وقطع علاقات، وإغلاق حدود، كل هذا والمسلمون يلعنون حكامهم مع كل تصرف من هذا النوع، وكل هذا التدابر يمكن أن يُرَدَّ سببه إلى أصل يتبعه أصل. أما الأصل الأول فهو إبعاد الإسلام عن واقع حياة المسلمين، وأما الأصل الثاني فهو التجزئة. ويعالِج كلَّ هذا إقامةُ الدولة الإسلامية التي تقيم الإسلام وتوحد المسلمين.

إن هذه التجزئة التي تعاني منها الأمة الإسلامية جمعاء، وتتطلع إلى التخلص منها، لا يخلصها منها إلا الإسلام. إنه لا يخلصها منها إنشاء أحزاب أو جمعيات قائمة على أساس قومي، ولا الدعوة إلى الوحدة العربية، ولا جامعة الدول العربية، ولا جامعة الدول الإسلامية، مع العلم أن هاتين الجامعتين لم توجدا أصلاً إلا من أجل ضرب فكرة الدولة الإسلامية الواحدة، وتنفيس مطالبة المسلمين بالوحدة على الإسلام، وإن اجتماعات القمم العربية منها أو الإسلامية ينقل فيها زعماء المسلمين المزعومون خلافاتهم ومشاكلهم إلى داخلها لتصبح عنصر تفرّق وتنازع لا عنصر وحدة واجتماع، وبدل أن تعبر هذه القمم بلسان المسلمين وتتحسس آلامهم وتتبنى آمالهم، نراها تجتمع لتنفيذ مخططات الغرب وتمرير مشاريعه على حساب المسلمين.

إن الأمة الإسلامية مُزّقت بعد لحمة، وفُرّقت بعد جمع، وأُضعفت بعد قوة. ولكن هذه الفرقة لم تكن يوماً فرقة بين المسلمين، بل بين حكامهم المفروضين عليهم. وإن عوامل الوحدة في الأمة الإسلامية هي أقوى بكثير من عوامل الفرقة والتجزئة. فإن الأمة الإسلامية، كانت ولا تزال، تجتمع على الإيمان بالله الواحد الأحد، ونبيها واحد، وقرآنها واحد، ودينها واحد، وقبلتها واحدة، وشعائرها واحدة، ولا يجمع كل ذلك ويحققه على أرض الواقع، ويعيد للمسلمين وحدتهم وقوتهم إلاّ إقامة الدولة الإسلامية التي هي أهم مظهر من مظاهر وحدتهم.

إنه، ليس إلا الإسلام، هو الذي يجمع المسلمين ويلم شعثهم ويقضي على تفرقهم ]واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا[. وإن ما يحدث اليوم للمسلمين من مشاكل ناتجة عن التفرقة والتجزئة لا يحلها إلا قيام الدولة الإسلامية.

إن وحدة الأمة الإسلامية فرضها الشرع فرضاً على المسلمين، وجعلها من الأمور المصيرية التي تستحق اتخاذ إجراء الموت أو الحياة تجاهها. فقد روى مسلم عن رسول الله r قوله: «ستكون هنات وهنات، فمن أراد أن يفرّق أمر هذه الأمة فاضربوه بالسيف كائناً من كان». وعن ربط وحدة المسلمين بالحكم بالإسلام قال الرسول r: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما». وعن كون الوحدة تكون قائمة على الإسلام قال تعالى: ]واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا[ وإن أول إعلان أعلنه الرسول r بعد انتقاله إلى المدينة وإقامة دولة الإسلام فيها كانت وثيقة اعتبرت كدستور للدولة الإسلامية وأول ما جاء فيها: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب محمد النبي r بين المؤمنين المسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم، فلحق بهم، وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة من دون الناس». وعند وفاة الرسول r بادر أبو بكر إلى جمع كلمة المسلمين على خليفة واحد يخلف رسول الله لتبقى للدولة الإسلامية وحدتها. فقد نقل الطبري عن سعيد بن زيد قوله عندما سئل: متى بويع أبو بكر؟ قال: «يوم مات رسول الله r، كرهوا أن يبقوا بعض يوم وليسوا في جماعة». وينقل عن سيدنا عمر t قوله الرائع العميق في هذا الموضوع: «إنه لا إسلام إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بأمير، ولا إمارة إلا بطاعة. فمن سوّده قومه على الفقه كان حياةً له ولهم. ومن سوّده قومه على غير فقه كان هلاكاً له ولهم».

نعم إنه لا وحدة بلا خلافة، وإن مشكلة التجزئة ليست في تفرّق المسلمين، بل في تمزّق دولتهم الإسلامية إلى دويلات تحكم بغير ما أنزل الله، وترتبط بأهداف أعداء الأمة. فالمسلمون حقيقة هم غير متفرقين بل هم ممنوعون من الاجتماع. ومثلهم كمثل السجناء الأبرياء وقد فرقهم سجانوهم من الحكام في زنزانات، وسموا كل زنزانة منها باسم دولة، ومنعوا اجتماعهم بقضبان من حديد، ويتعاملون معهم كما يتعامل السجّان مع السجين. وإذا أراد المسلمون أن يخرجوا مما وُضعوا فيه فما عليهم إلا أن يحزموا أمرهم ويأخذوا دورهم ويعملوا لإقامة دولة الإسلام في حياتهم ليعودوا كما كانوا ]خير أمة أخرجت للناس[.