بسم الله الرحمن الرحيم
تمزق .... رواية جديدةعبدالغني خلف اللهالحلقة الأولي
إسمى عبد الوهاب ... واختصاراً ( وهبة ) موظف عام , وأهوى كتابة الشعر والخواطر وأعجب بلفظة ( تمزق ) لذلك كثيراً ماتجدنى أرددها بمناسبة وبدون مناسبة , لكن هذه الموظفة المشاغبة ( غادة ) تريد أن تلصق بى هذا الأسم .. إذ دخلت مكتبنا ذات مرة وأنا منهمك فى ترتيب ( الكابينت ) ويبدو أنها لم ترنى , فسألت ( فوزية ) زميلتى فى المكتب بسخرية واضحة : أين الأستاذ تمزق ؟توجهت إليها بوجه جهم وقلت لها : نعم .. أى خدمة ؟ يبدو أنها فوجئت بوجودى .. لذلك تراجعت إلى الوراء وفى ارتباك شديد حاولت أن تدارى أحساسها بالحرج , همست فى رقة متناهية : ولا حاجة , فقط كنا نريد أن ندعوك لرحلة الزملاء بمناسبة زواج ( آمال ) حتى تتحفنا بروائعك الشعرية .
تأملتها بعمق وكأننى أراجع أجندتى ليوم الجمعة .. وفى الواقع كنت أشرب من ذلك الألق المنداح من وجهها الطفل .. الحيرة والأرتباك يتناوبان على محياها الجميل , وأنا أعب حتى الثمالة من جمالها الأخاذ وسيطر جو من التوتر على المكتب وهمهمت ( فوزية ) بكلمات غير مفهومة عندما لاحظت أننى أحدق بلا هواده .. , آها .. قلت شنو ؟ .. تعثرت الحروف فوق شفاهها موافق .. موافق .. طيب غداً نعطيك التفاصيل من أين ومتى يكون التحرك .. ( فوزية ) امتعضت من هذا الموقف , ولاحظت أنها لم تدع للرحلة , منعها أدبها الجم وطبعها المهذب ابداء أى نوع من الأعتراض , دائماً
منكبة على ملفاتها تعمل فى صمت , وعندما تدعونى تقول لى هذا الملف يخصك يا أستاذ ( عبد الوهاب ) .. استاذ ؟ ولا حتى يا أستاذ وهبة يا فوزية ونحن زملاء فى هذا المكتب لما يقارب العام .. ساكنة انت سكون البحر العميق وعميقة عمق القصائد المسكونة بالشجن , وفى دواخلك أسرار كثيرة لابد لى من استجلاء مكنوناتها . من منا لا يتألم يافوزية ..؟ تجيش النفس بالآمال ولكن هنالك بصفة مستمرة الرقم المفقود فى معادلة الحياة .. وبرغم كل التحوطات يغيب ذلك الشئ فتنهار العملية الحسابية برمتها . ( كمال ) يقتحم المكتب وضحكته المدوية تسبقه إلينا .. هكذا ( كمال ) يضحك بصوت عال , ويتحدث بصوت عالٍ , وأذا ما سمعته يتجادل مع زميل أو زميلة تحسب أنهما يتشاجران ..
- هل سمعتما بالنبأ الخطير ؟
هتفنا بصوت واحد : حصل شنو ؟
- سعادة المدير العام ..
- مالو ؟
- أُحيل للصالح العام
- المدير ؟
- نعم السيد مصطفى أحيل للتقاعد وتم تعيين السيد عثمان خلفاً له .. ( ترى كيف سيكون حالك ياغادة ) وبدون أن أشعر سألته فى بلاهه
- وغادة ؟!!
- مالها غادة يا وهبة إنها مجرد سكرتيرة , يذهب مدير , يحضر مدير آخر ..
غادة مجرد سكرتيرة وبس ..
لكن السيد مصطفى مدير وأى مدير , من النوع الذى نقول عنه ( إنسان دوغرى زى الخيط( , لا يعرف اللف والدوران وعلى أكتافه قامت هذه المصلحة , طبعها بطابعه الخاص , إنسان عجيب دقة فى المواعيد رهيبة , يعنى تستطيع أن تقول أنه من النوع ( السيستماتك ) .. وغادة هى الموظفة المفضلة عنده .. يعاملها معاملة خاصة ولا يبتسم إلا فى وجهها , ويغمرها بالهدايا كلما عاد من رحلاته خارج القطر , ُهرعنا إلى مكتب المدير ووجدنا أن الفوضى قد عمت أرجاء المصلحة ولغظ كثير يدور هنا وهناك , ووجدنا ( غادة ) وهى منكفئة على درج مكتبها تبكى , أخذتها الحاجة ( بتول ) كبيرة ( المراسلات ) بحنو وادخلتها إلى الجزء الداخلى من المكتب , وحرمتنا من تلك اللحظات النادرة , الألم يلون ذاك الوجه الرائع وبقايا الدموع تكاد تطفر من رموشها الطويلة , أجل كل شئ فيك يتمزق ياغادة وكأن رحيل السيد مصطفى يعنى بالنسبة لك نهاية الكون ..
أنحشرنا وكنا ثلة من الموظفين والموظفات والعمال فى باص المصلحة بإتجاه منزل السيد مصطفى لنقول له .. نقول له ماذا ؟ نقول أو لا نقول الأمر لا يخصك فأنت لست أقدم موظف .
أصابتنى الحيرة والأندهاش وأنا أدلف إلى قاعة الجلوس الأنيقة , حيث أخذت المقاعد الفخمة موقعها المتميز , وهنااك سريران من النيكل وملاءات نظيفة ,و توجد أسرّة أخرى فى البهو الداخلى لا حصر لها , وأنت طول عمرك تحلم بسرير واحد نظيف يخصك وحدك , وكلما تحدد موقفك من سرير واحد وتتعود عليه يأتى الأهل من البلد فاذا أنت نائماً على الأرض تلتحف الوسائد , هل تنكر أنك عشت طفولتك وأنت تنام على أى شئ , فقط تبدل الحال عندما تم ختانك حينها تعطفت عليك أمك ( ببرش ) أنيق إلا أنها عادت وطوته بعد أيام , عندما أنتهى أمد الختان الرائع , هل تذكر سرقة مفاتيح البيوت والأحذية وقد نام أهل القرية بعمق وهم يتدثرون بالنسيم العليل فى الصيف الحار وقد أخذ التعب منهم كل مأخذ , وذلك بدعوى ( العادة ) فلا يلبثوا أن يستعيدوا أشياءهم بعد دفع ملاليم قلائل .. نعم نسرق وفى الساعات الأولى من الصباح ولا أحد يتضجر أو يقذفنا بحجر .. وفى الحقيقة لم تكن سرقة من أجل السرقة إذ لا يوجد لصوص أصلاً ..
تلقانا السيد مصطفى بوجه طلق المحيا وهو يردد إتفضلوا يا أبنائى إتفضلوا .. وأخذ كبير الكتبة زمام الموقف وتحدث إنابة عنا ... وكان التأثر واضحاً على السيد ( مصطفى ) ..
- حقيقة يا أبنائى أنا شاكر ومقدر لكم هذه الزيارة بالرغم أنها جاءت أثناء ساعات العمل الرسمية ( تانى ساعات العمل الرسمية ) ولكن نقول أن هذا ظرفاً استثنائياً والواحد بعد ثلاثين سنة خدمة دفع خلالها ضريبة الوطن لم يكن هنالك داع للأستمرار وأهو البركة فيكم أنتو.. وهنا أكتسب وجهه نوع من التجهم , لعله كان يتطلع إلى الوزارة , من يدرى ؟ , وشعرت بالخوف منه كعادتى .. كل شئ ولا يطلبنى المدير .. هل تذكر ياوهبه عندما عاد من إحدى المؤتمرات وطلب منك ترتيب أوراق المؤتمر , هل تذكر تلك المفاجأة غير المتوقعة , صورة بحجم ( البوستال ) لشابة مغربية فى غاية الجمال وقد كتبت على ظهر الصورة بخط اليد ( من علياء للسيد مصطفى لعله يتذكر الايام الحلوة التى امضاها معنا بكازبلانكا) أيام حلوة ؟ .. كيف وأين ؟ تلك الجميلة ذات العينيين الواسعتين والشعر المسدل على كتفيها وتلك الأبتسامة الرقيقة التى أخذت موقعها فى ثقة على خارطة الفم الرقيق .. ما الشئ الذى جمع بينهما ومتى ... التجهم صنواً للروعة .. ترى أين ذهب بها فى ( كازبلانكا ) هذه .. لابد أنه أخذها إلى مطعم خلوى وحدثها عن .. عن ماذا يمكن أن يحدثها ؟.. أظنه حدثها عن النيل وعن التماسيح التى تتهادى فى شوارع الخرطوم .. لابد أن هؤلاء القوم يعيشون بشخصيتين , تجد الواحد منهم كالليث الهصور وهو داخل السودان الإ أنه عندما ينفلت خارج الحدود يتغير ويصبح شخصية أخرى .. المهم أكلنا الحلوى الفاخرة وشربنا العصير وودعنا السيد مصطفى حتى الباب وهو يوصينا على المبادئ والرسميات ومستقبل المصلحة ..
* * * *