بسم الله الرحمـن الرحيـم
الرسالـة الثالثـة
إليكَ ياقمرَ الأحزان،
هاقد عدتَ أخيراً..
كنتُ أعلم أنك لن تتأخّر عليّ، فالمرافئُ هجَرَها المطر، والحدائقُ رتّبَها الصمت، والورودُ خاصمتْ رحيقهَا، حتى اليمامُ حلّق بعيداً عني لأنني تأخرتُ في الكتابة إليه، ولغاتُ الحزن أنشبتْ رماحَها في صدري، وحدها النجمةُ الأولى كانت تنتظرني بالشاطئِ المكتحـلِ بك، وهي تحرسني مني ومن دموعٍ ألقت بمرساتها هنا، ونحن نوزّعُ الثمارَ التي جنيناها من الشمس على أحبابنا وقصائدنا.
أعرفُ أنني أكتبُ لكَ بمدادٍ آخر، لم تزرْهُ قطرةُ ماء ولم تدغدغه حبة رمل مبتلّـة، ولكنه البوحُ لحارسِ القلوب، حطّ على أفناني الليلةَ رقراقاً مُرَّ المذاق..
أيها القمرُ العائد بعدَ غياب، يامنْ تزرعُ الضوءَ أشجاراً وألحاناً، يامنْ تهدي قناديـلَ قلبكَ للتائهين، وتقف بشارعِ الخوفِ تحرسُ المارّينَ من قطّاعِ الفـرح، ياأنيسَ الساهرين ونديمَهم، ياحبيبَ العاشقينَ وجليسَهم، خذني إلى أرضكَ، علّني أغسل وجهَ الصمت وأمحو من ذاكرتي تفاصيلَ الوجع، لكنني لاأعرفُ متى أخطو وكيف، وأنا مكبّلةٌ بسجومٍ حرّى وبعالمٍ لايربطني به غيرُ الغيـابِ ولغة لاأتقنها.
أسمعك، أنصتُ إليك وأنتَ تخبرني عن النور الذي ينبتُ بأرضك كل صباح..أسمعك وأنصت إليك وأنتَ تسألني السفر معك، لقد جمعتُ حقيبتي وسقيتُ الأزهارَ التي تطوّقُ جيدَ شرفتي، وغطيّتُ يمامتي البيضاء بأهدابي كي لايسرقها البكاء، وهاأنذي على أهبة الاستعداد لمغادرة البلاد، سآخذ معي أوراقي وقلمي، ووردةَ البنفسج التي نقشنا عهدَ الوفاءِ معاً، سآخذ معي زمني الجميل وأندلساً أزهرتْ بين كفّيّ، سآخذ لوحةَ أمّي كي لايقرَبَها الحنين، سآخذ سجلَّ الجرح الذي كنتُ أوقّعُ فيه كل صباح، مكرهـةً ،أثبتُ حضوري وحضورَ الذكريات، سآخذه لأغسله بضوئكَ فقدْ يغتسل من ذاكرته هو الآخر، وقدْ يصبح قلبي بعد ذلكَ وطناً للورد.
أكتبُ إليكَ وقد صنعتْ لي المسافاتُ قافلةَ سفري، وتأهّب الحمام الزاجلُ لحملِ رسالتي إليكَ، لأنّ المكان لم يعد يعشقُ ملامحي، وقد ضيّعتُ مراكبَ العودة..وحالَماَ أصلُ إليك سنبحث عن أحلامنـا وعن أحـلامِ جيلٍ بأكملـه، اختُطِفَتْ وبحَّ هديلُهـا.
لكنْ، دعني أولاً أرافق يمامتي إلى أرضها، فقد وعدتُها ووعدتُ قبيلَتَها بزيارةٍ قصيرة، نناقش فيها قسوةَ عالمنـا وجراحَه، ثمّ أكون بعد ذلكَ طوعَ بنانـك.
اعذرني، قد توقّف مدادي الليلة..وابتلَّ خطابي إليكَ بـك..انتظرني، سأعود إليكَ لأكتب لكَ خطابي الرابع، حينَ يطرقُ نافذتي جرحٌ أو ذكرى تعِبت من الرقاد، فاختارت جفنيّ عشّاً لها..أو حين يدغدغني حلمٌ صغيرٌ يشبهك، أو حين تزورني بسمةٌ لاأعرف شكلها الآخر..
سأظلّ أدافع عنكَ حتى وإن غدرتْ بي الأحزان مرة أخرى، وسأظلُّ أفخرُ أنــكَ..تهمتي الأولـى..والأخيــرة..
وسأنتـظرك..
المتّهمَـةُ بـك..
أسماء حرمة الله
في : 11/12/2005