التذوق بين النقد الأدبي و الأحاسيس القصديرية ..!
محمد الشحات محمد
* إذا كان التذوّق حقاًّ لكل إنسان ، فالنقد ذاته يفتح أفق المتذوق ، و يزيد من قدرته على التقييم و التقويم ، و من هنا يأتي دور الأديب إذا تمكن من الإلمام بتقاليد الفن الأدبي الذي يكتب به ، و بمصطلحاته و أشكاله ، و تفريعاته ، فإنه يُصبح الأقدر من أي ناقد على قراءة النصوص قراءة نقدية ، و هل أفضل من المبدع الذي يُمارس الإبداع وَ لدَية مَلكة النقد؟ .
و قد تتعدّد اتجاهات النقد ، و مناهجه و مدارسه ، و حتى تختلف النظريات و التعاريف و المصطلحات ، و قد يتم تناول النصوص بأكثر من منهج نقدي أو اتجاه قديماً كان أو حديثاً ، و قد تختلف الأشكال الفنية للعمل الأدبي ، والتي يتم فيها صياغة المضامين و صهْرها ، و بلْورة العلاقات ، و قد .. ، و قد ، و لكن يظلُّ الأدب هو الوسيط بين العلم و الإنسان ، و أساس إسعاد البشرية ،
* و إذا كان "منهج النقد الإبداعي" لا يُنكر المناهج القديمة بروعة التحليل ، و التركيز على دلالات المعاني و ايحاءات اللفظ ، و علاقات التشابك فى القصيدة باعتبار أن اللغة لها معان متعددة قد تصل إلى حد التناقص ، و أن الألفاظ لها تأثير فى النفس ، فإنه –أي النقد الإبداعي- لم يغفل أن تكون قراءة الأدب برؤية مستقبلية بصفته فن يتعامل مع جوهر الإنسان ، و يمنح أفكاره جسداً حياًّ متجدّداً يخرج بها عن نطاق العصر إلى الخلود الإنساني ، و قد تتغير القراءات -و هذا مطلوب جداًّ للنصوص الكبيرة- و ربما تتغير الأحاسيس ، و لكن تظل القدرة على استيعاب و تفسير ما يدور دون تجاهل وجدان الإنسان و روحه من أهم القيم التي لا تنفصل عن الأشكال و المضامين حتى بعد توصيلها لجمهور القراء
* و إذا كان الأدب يرتبط بالنقد و الحياة ، فإن حياة الأدب العربي تكون أفضل كلّما ابتعد عنها أدعياء النقد ، و رجالات الدعاية الزائفة ، و أؤكّد أنه بالنقد الإبداعي تكتمل الرسالة الأدبية و الفكرية للتواصل مع التيارات المختلفة من خلال خلفية خصبة و رمزية دقيقة تكمن في عمق المعاني و الاتساق الفكري و الجمال المتجدّد بإيقاعات اللغة و صوتياتها و الحماس الإنساني للوحدة العضوية التي تتجاوز حدود الزمان و المكان .. ،
و من ناحيةٍ أخرى لايُمكن فصل النص عن صاحبه ، و خصوصاً إذا تناولناه بمنهج لا يجهل دور الذائقة الأدبية ،ويعرض ما يكفي لإشباع هذه الذائقة من خلال عرض ما له صلة بالنص و صاحبه مثل ظروف الولادة و الأبعاد و المرامي و الأساليب ، و .. ، و عندئذٍ ستكون القراءة لهذا النص تحليلية تفسيرية علمية ، و من هنا يمكن للقراءة النقدية أن تنطلق ، و تُبنى عليها كذلك عدة قراءات نقدية أُخرى ، ورغم تعدِّد الرؤى/القراءت ، فإنها ستلتقى جميعاً في نقطة التماس مع جوهر النص ..،
وبعيداً عن التحدّب و التقعر
و للنقد الإبداعي أثره الذي لا نُنْكره في تفسير الحديث الشريف "إن من البيان لَسِحْرا"
و بدخول النصوص الكبيرة في دائرة "النقد الإبداعي" تصل ردود الأفعال إلى توحيد مسارَها في اتجاهٍ يستنطقُ الصمتَ القابع الجاثم و المتمدّد في مساحة الفكر .. لترسم كلّ دوائر الصراع ، و متاهاته ، و ميكانيزماته في إطار دائرة وحيدة ، و بتشكيلة جديدة تمدُّ جسور الصلح في بحر متناقضات الحياة ..
و بقدْر مجموعة الجماليات في القصيدة العربية، و بكل العلاقات التشكيلية في النص يستطيع الناقد تمكين أكبر عدد من المثقفين من أن يحسنوا العلم بأصول الحضارة الإنسانية ،
و إذا كانت قراءة النص تبدأُ من العنوان ، فإن مدخل الناقد للنص برهانٌ على شمولية المعرفة و الثقافة ، أو العكس ، و كذلك فإن زوايا رؤيته تؤكد إدراك البناء الحقيقي لتطور العملية الإبداعية من عدمه ،
و سوف يدفعنا الحديث عن الناقد إلى محاولة الوعي الفاعل من خلال دراسات تحليلية متأنية لجماليات النصوص ، و مِراس ، و دُربة على مناهج نقدية شتى .. مع الأخذ في الاعتبار أنّ الناقد ليس فردَ أمن سلطوي ، إنما يكون رأيه المتعمق في النصّ ناجماً عن مُحاولة الإضافة لجماليات النص ، و فتح بعض مغاليقه ، و كاشفاً لرموزه ، و بلورتها في ضوء تطور العصور و الدراية بعالمية الأحداث ، و ماهية الثوابت العقدية و التاريخية ،
* و بعيداً عن الأهواء و التصيد يعمل الناقد على إظهار الأسباب التي أسّس عليها رأيه/قراءته النقدية
فالناقد الأدبي يستطيع رسم الخط الفاصل بين موضوعية المضمون التقليدية و الإضافة التي أضافها الأديب من خلال عمله الأدبي ، و تجديداته ، و ما ابتكره الأديب أو تفرد به ، على أن يكون برهان الناقد هنا هو تحديد الشائع و ملامح الاتصال/الانفصال مع الأصالة ، و ذلك بتفسير الجانب الجمالي للأفكار/التراكيب/الأساليب/الصور/الأشكال/العلاقات التشابكية و الإشكاليات/الوحدة الناتجة عن التأثيرات المختلفة ، و بشرط تنحية كلّ آراء الناقد و أفكاره السابقة لقراءته نص من النصوص ..
* و بالتالي فإن الناقد الأدبي الحقيقي يستطيع –بتلمذته على أيدي نقاد سابقين ، و مِراسة و حفظه لكثير من النصوص و قراءاتها المتنوعة ، و مرونته التي تجعله يتقبل الأنماط الجديدة عليه ، و قبوله النصح و انفتاحه على الثقافات العالمية و حوار الآخر- يستطيع التعرف على طاقات الأدوات الفنية ، و اتجاهات تفوقها أو قصورها ، و تحديد ما إذا كان العمل الأدبي الذي يقرؤه مستوحياً من عمل آخر أم لا ، و له أن يُقارن مُقارنة تخصّصية تحليلية كذلك بين كاتبين/نصين أو أكثر بنفس اللغة أو بلغات مختلفة ،
* و لا يقتصر دور الناقد على فهم أفكار و مضامين العمل الأدبي ، وقياس مدى حرفنة كاتب العمل في التزامه بمعايير الفن الكتابي الذي كتب من خلاله نصّه ، و نسبة الإخفاقات أو الشطحات .. ، و إنما لابدّ قبل كل ذلك من تذوق الناقد كمتلقي للعمل الأدبي كوحدة متكاملة ، و قدْرته على استيعاب أكبر مساحة مُمكنة من هذا العمل كقاسم مشترك بينه و بين مؤلف النص حتى يتسنى للناقد إعادة إرسالها لمخاطبة القارئ ، و مساعدة الأديب في وضع يده على ما يحتاجه جمهور الأدب الأصيل ، و أماَّ أدعياء النقد الذين لا يعرفون عن النقد سوى عدة مصطلحات ، و يستخدمونها في غير محلّها ، و قد لا يعرفون من أين تبدأ الجملة ، و كيف تنتهي ، فضلاً عن عدم تفريقهم بين ألف الوصل و همزة القطع ، و إنما قاموا على الزيف كأي دخيلٍ ، فهم أخطر على الأدب من مُدّعي الأدب لأنهم يتيحون الفرصة لزيادة المدعين من الأدباء ، و مِن ثمّ التخبّط و عدم فرز الغثِّ من الثمين ، و اختلاط الحابل بالنابل مِماَّ يجعل المبدع الحقيقي –في ظل مَنْ يسمّون أنفسهم نقاداً- يحس بالغربة و الضياع ،
إذنْ .. فلقد أصبح على كلّ مبدع الإلمام قدْر المستطاع بمعايير النقد و تفريعاته باستمرارية القراءة و زيادة موسوعية المعرفة ، و شمولية الثقافة ، و الاستعانة بالمراجع و أمهات الكتب ، و مواكبة مستجدات الأحداث و الكتابات ، و لا يغفل أبداً أنه من المُمكن جداًّ أن يتحول المتذوق إلى ناقد بمعنى الكلمة ، كما يُمكن أن يكون للأديب علامة فارقة في عالم النقد الأدبي إذا تمكّن من مواجهة الأدعياء في زمن الأحاسيس القصديرية .. ، فهلْ من مُدّكر؟!