القيمة والشيمة

لعلني رأيت أن أبدأ أول موضوعات هذا الكتاب بتعريف محدد للقيمة وللشيمة وإظهار الفرق بينهما لما لذلك من أهمية قصوى في تحديد مفاهيم التناول الفلسفي والبعد الأخلاقي والتقدير الإنساني لما هو آت. إن في تحديد المسميات وتوضيح الدلالات أثراَ كبيراَ ودور أكبر في الوصول إلى المعاني المتجردة حكماً المتحرية إنصافاً وإثراءً.

أما القيمة لغة فهي القدر والثمن ، وأما اصطلاحاً فهي كنه الشيء وقوامه ، وهي المعنى لكل ما هو ذو قدر لا يصل به إلى العدم. القيمة هي الدلالة على مؤشر يرتقي ولا ينحدر إلى الحضيض دون أن يفقدها مسماها ومعناها. وتقاس القيم بهذا المؤشر ارتفاعاً وهبوطاً رأسياً فدأبها إما رفيعة ، وإما وضيعة ، وربها إما رفيع وإما وضيع. وقد ترتقي القيمة دون حد إلى غير أمد حتى تكون مطلقة يختص بها الخالق العظيم.

وأما الشيمة فهي الطبيعة والسجية ، هي الخلق الذي يكتسبه المرء مع الأيام ، والطبع التي يعتاده بين الأنام. هي توصيف لحالة وتوظيف لدور قد يكون للقيمة دور فيها وقد لا يكون. وتقاس الشيم بمقياس رأسي وأفقي ، نسبي لا يصل إلى إطلاقه بحال ، فتكون الشيم إما نفيسة وإما خسيسة تبعاً لمجموع ما حوت تلك الشيم من قيم ومقياس رفعة تلك القيم.

القيمة غاية نسعى إليها في كل قول وفعل رقياً نحو الأومق والأوثق والأسمق ، والشيمة هي وسيلة الوصول إليها نسرجها بالترفع ، ونسوسها بالحلم ، ونعتليها بالتواضع. القيم إذاً هالات ننظر إليها في مدارات عالية ، نمد أجنحة العزم محلقين بها نحو الحلم بالبلوغ والتعالي عن الولوغ. والشيم عيون تحدق فينا ترقب منا الكلمة والحركة ، وتقيم التصرف ، وتقوم التطرف ، كي ترسم لنا الصورة التي ترانا منها العيون ويحكم علينا بها الآخرون. القيم هي المقياس الذي نحتكم إليه في المضاهاة بين القدر والقدرة ، والسمو والضعة ، والرشد والسفاهة. أما الشيم فهي ما يحتكم إلينا في المساواة بين الظاهر والباطن ، والمجاراة بين الأقوال والأفعال.

ومن خلال ما سبق يمكن للمتأمل أن يدرك أن القيم لا تدل إلا على معاني الخير ولا تعبر إلا عن مراتب الفضيلة ، ولا تكون القيمة إلا بقيمة ، ولا يمكن لها أن تضمحل إلا بفنائها وانسلاخها عن معناها. وهي معنى قائم بذاته لا يعتمد على تعليل أو تعديل أو تعبيل ، لا يهدى بل يهدى إليه ، ولا يعرى بل يعرى عنه. وأما الشيم فهي كما أسلفنا توصيف لحالة الفرد في تطبيقه للقيم في تصرفاته ومدى موائمة هذا لذاك. وعليه فالشيم قد تنعت بخير أو بشر ، ويمكنها أن تتأرجح بندولاً بسلبٍ أو بإيجابٍ وفق الحالة وتبع الحال. فالقيم إذاً مبادئ ثابتة لا تساوم ، والشيم هي حالات متقلبة في إطارها.

لكم رأيت من خلط كبير بين القيم والشيم عند العامة والخاصة على حد سواء مما نتج عنه غالباً اعوجاج في الطبائع وارتجاج في الأحكام ، ولكم كان التأثير خاطئاً والتقدير مخطئاً بما أورثه الإغراض حيناً والجهل أحيانا. ومن البدهي أن يحسن المرء إدراك معاني المسميات ، والتمكن من وسائل الفهم الألمعي للمعطيات لكي يصل إلى آفاق المعرفة الممتدة دون قيود قصور أو فروض فتور.

إن هذه المفاهيم التي تناولناها مقاربة ومقارنة بين القيم والشيم ستلعب دوراً رائداً في تقديم البراهين ، وتقييم الاستنتاجات المنبثقة من التناول لأحوال النفس البشرية وشيمها ، وستكون مرتكزاً للحكم أو التعليل خلا بعض حالات لا يكون فيها مثل هذا الأمر منطبقاً.

تحياتي