متاهة
وعيت على نفسي وأنا سائر في درب مجهول، واكتشفت بأنني سرت مدة طويلة بلا هدف، والآن أقف هنا بين الحلم والحقيقة، المكان فضاء ممتد إلى ما لا نهاية، لا شمال ولا جنوب، لا شرق ولا غرب؛ يحيط بي الصمت، أرفع عيني إلى السماء فأكتشفني بلا سماء ولا أرض لي، من أنا؟؟؟ أجهل مصيري وأجهل موقعي وأجهل مآلي، أعيد بصري إلى الأسفل، ترى كيف استطعت الوقوف على هذا الفراغ كل هذا الوقت؟؟
لا لون سوى الرمادي الغامق السائر إلى السواد، فمن أنا؟
لا ماضي لي وحاضري مبهم لا ينبئ بأي مستقبل، لا طريق يلوح أمامي، أي طريق والوجود جامد مختزل في لحظة غامضة بلا آفاق ولا حدود؟ وجودي كله يتقلب بين منجل السؤال وسيف التعجب !
أفرك عينيّ جيدا، أوهم نفسي بأنني فقدت البصر ولكن مطرقة العقل تدق ذهني... تأبى إلا أن تنغص علي رغبتي في الهروب كما تعودت دائما، فقد كنت بصيرا ومع ذلك أدمنت الهروب من كل شيء لأستحق لقب " بطل"، والآن أتمنى لو كنت أعشى لأبرر هذا التعلق في شرنقة وجدتني فيها بدون وعي فلم أستطع تحديد بدايتها، ويبدو أنني لن أقدر على تصور نهاية قريبة لها.
من أنا؟ وما سر هذا العلوق هنا؟ وما الحكمة من ذلك؟
لا جدوى من التساؤل عمن أنا؟ فكل ما يحيطني ينهاني عن هذا السؤال ويحثني على العودة إلى البداية لأفهم ماهيتي.
توقف الزمن، وأحرقت وسائل سفري واستسلمت لوضعي وأنا أحاول الجلوس فإذا بي أعجز عن التحكم في جسدي المتشنج، تخشبت وفقدت السيطرة على أطرافي ولا أزال عالقا هنا، وهذه " الهنا" مبهم لا يحده زمن ولا يحتويه مكان.
في زاوية سحيقة من ذاكرتي بصيص نور يلمع بين الغفلة والإدراك، بين الغفوة واليقظة، ومنجل " من أنا" حاد يمزق مداركي، ويقتحم مدارج دماغي فيزيدها عتمة ويحجب عنها تلك الومضة البعيدة البعيدة في ذلك المكان القصي من إدراكي.
عيني لا ترف وجفني لا يطبق وفمي بلا لسان وسمعي لا يلتقط أدنى هسيس وسيف التعجب يغرز نصله في فؤادي فيدخل القرّ إلى ذاتي ويتناسل ألما.. لا دماء تسيل من جسدي فمن أنا؟ وما هذا الفضاء الممتد أمامي.
أحث عقلي على التذكر، فلا خلاص لي إن لم أعرف ذاتي، فجأة تشق مطرقة رأسي وتنفتح نافذة صغيرة جدا أمام عيني فأرى صورتي تتحرك، تتباهى، تدوس كائنات حية بلا ملامح، يتسمر نظري على النافذة فأراني مختالا محتالا ضاحكا ملء فمي.. تنفتح نافذة أخرى، أحدق فيها فأرى طفلا باكيا سرعان ما تنقلب حاله فيصبح وجهه بلا تعبير، يتأملني دون أن يزيح بصره عني، ومن ورائه مرآة دائرية تعكس طفلا يشبهه رث الثياب شاحب اللون حافي القدمين، والسماء ماطرة والأرض مائرة والطفل يرتعد وأسنانه تصطك...
عجبا أذني تلتقط الأصوات الآن، أحاول التحرك ولكني مازلت متخشبا فقط حواسي بل بعض حواسي تعمل، أرى رجلا في كامل أبهته يمر من أمام الطفل، فتمتد يد صغيرة مرتعشة تجذب الرجل من معطفه في حركة توسل فإذا بيد فولاذية تخرج من تلابيب الرجل وتستقر على خد الطفل الصغير فيرتطم بالأرض، تزداد قوة المطر ويزمجر الرعد وتمور الأرض، والرجل - دون التفاتة إلى الطفل الغارق في الطين والماء- يضغط آلة سوداء بطرف بنصر يده اليمنى فتغمز له الضفدعة العملاقة بعينيها الواسعتين الحمراوين، يجمع المظلة بحركة آلية بعدما انفتح له ذراع الضفدعة يستقر فيها متنعما في أحضانها الدافئة محاولا التخلص من سائل لزج أحمر يلطخ يمناه.
ينقل الرجل المتخشب نظره إلى الطفل فلا يرى سوى كتلة حمراء في حركة انسيابية متلاحقة يرد بصره إلى النافذة الأخرى فيرى قلبا بلاستيكيا ويتعجب من لونه الأسود وبدون قصد يجد عينيه متسمرتين على طريق مائية امتزج لونها بالأحمر والأصفر منبعها ذلك الطفل ومصبها مجهولا.
راعه منظر الطفل فنقل بصره إلى نافذة أخرى فرأى جدارية باهتة الألوان لعفراء تمشط شعرها بلا مبالاة وكأنها دمية آلية مبرمجة على تلك الحركة الروتينية.
أنات طفل جريح تضغط سمعه، ومعاناة امرأة صامتة تغزو بصره وصقيع يجرح ملمسه، فمن هو وما علاقته بي؟ ولماذا تتحرك النوافذ ويتجمد هو / أنا؟
نوافذ كثيرة يقاوم النظر إليها: ليتني أعمى وأصم، ليتني بدون أية حاسة أخرى، ليتني جماد، ليتني ما كنت ولم أكن.
يحدق مرغما في الجدارية فيشاهد وراءها حديقة زهراء غناء وفيها فتاة جميلة تنضح بشرا وتتدفق حياة تسير والفراشات تلاحق خطوها، يرى نفسه ذئبا يتربص بها يطأ عرش نحل فيلتف نحوه فيصبح كلبا ذليلا يعوي من شدة اللدغ، يرد الطرف إلى النافذة الأخرى لبرهة ثم يحدق في نفسه خلف الجدارية فيجد نفسه ثعلبا ثم غرابا ينفلت من عرش النحل ويحلق ناعقا..
أحاول أن أغمض عيني سدى فأعود إلى الحديقة الغناء فأجد شبيهي معتكفا على بابها تائبا، وفي الأخير يطير على جواد أبيض والفتاة المتدفقة حياة رديفته، إنه محتال مختال. والآن أنا بدون أنا، أنا بلا تاريخ ولا جذور، ولا فروع لي، بماذا أتشبث لأعرفني، والمقتحمات كلها تزيدني جهلا بنفسي، أشرطة كثيرة تقتحم ذاكرتي المتألمة من هول الصور، يبدأ الجواد بالهبوط ترتطم الفتاة المتدفقة حياة بالجليد فيضحك شبيهي ملء فيه، الجواد الأبيض ذو الجناحين صار بغلا أسود وشبيهي غير متفاجئ يستمر في الضحك ملء فيه.
تتألم الفتاة تحاول النهوض وترتطم بالجليد، تحاول النهوض ولكن شبيهي الذي ما عاد يشبهني يلمسها بأصابع سرعان ما تتحول إلى مخالب آلية حادة تشوه ملامحها، تحاول النهوض وتسقط في الجليد، وشبيهي الذي ما عاد يشبهني يلفها بذارعيه الأخطبوط ويشتتها، تحاول النهوض وذلك النكرة يلسعها بلسانه الأفعوان، شبيهي يضحك ملء فيه، وأنا بلا إحساس أراقب انفتاح النوافذ، عقلي يقاوم يصارع من أجل انغلاقها.
شبيهي الذي بلا ملامح أدخل يديه في صدر الفتاة انتزع قلبها الساخن الأحمر دعسه برجليه وهو يضحك ملء فيه دائما، والفتاة تحاول النهوض، تحاول استرداد قلبها، يمتصها الأخطبوط ، يصلب قلبها على السيخ ويشعل تحته النار فيتوقف تدفق الحياة على وجه الفتاة رويدا رويدا، وتصبح مجرد جدارية تزين جدران ذلك القصر البارد برودة الموت، من هو ذالك الشبيه؟ لغز آخر ينضاف إلى لغز أنا؟ والفتاة لا تشعر بحزن أو فرح، ولا تحس بدفء أو برد، ولا تعرف الألم أو الأمل... تجهل مصيرها وإن كانت حياتها قد نضبت أم لا تزال تنبض. وذلك اللغز بدون ملل وكلل مستمر في نهش جسدها البض.
الشلال الأحمر المتدفق من الطفل لا يزال يجري تحت رجلي ولا يجرفني، وتتزاحم الخيوط على ذاكرتي، ويتناسل الأطفال أشباهه ويتناسل أشباهي- الذين لا يشبهونني- الضاحكون ملء أفواههم، الراقصون على جراح الغرباء، وتتناسل شبيهات الفتاة ويتناسل أشباه اللغز الذي يشبهني ولا يشبهني... ويستمر انفتاح النوافذ وتتماهى صور شيوخ وأطفال ونساء امتص شبيهي دماءهم وأكل لحومهم النيئة، ازدادت المقتحمات توغلا وازداد ضحك شبيهي ملء فيه تلذذا، ازداد الأنين وتحول إلى دوي يضغط سمعي يجرح قلبي والمناظر تدمي عيني وعقلي يقاوم كي لا يرى ذلك الهول، وفجأة ينفجر الجليد وأنا واقف في نقطة مجهولة متخشب في مكاني..
الحركة في دوران وأنا مازلت متخشبا مسمّرا في مكاني، حدقت إلى البياض الذي يغشى الرمادي من أمامي، حركة متسارعة نحوي، أحدق فأرى كائنات لولبية بيضاء تقتحمني ضاحكة، جاءت من كل الاتجاهات وأنا لا مفر لي منها، تنزل من فوق وتصعد من تحت، وتأتي بأشكال هندسية مختلفة دائريا وأفقيا وعموديا باختلاف ميلانها وتوازيها والتقائها، تتلاحم داخلي، إنها تجتاح جسدي اجتياحا، وتطحن خلايايا طحنا، مشمئز أنا من لزوجتها وانسيابها فوق بدني، لم يعد اللغز يشغلني فأنا اللغز وهو أنا؟ كلانا محتال مختال، لدينا وجوه عديدة وأقنعة أكثر، كلانا مسخ بلا ملامح أمام مرآة نفسه، كلانا نهش لحم القريب والغريب، كلانا عض ظهر الصديق والشقيق. كلانا كان يتحول حسب الفصول والأمكنة. كلانا يجهل مصيره ولا يعرف مآله.
ما عاد منجل السؤال جارحا بنفس الحدة، اختفى سيف التعجب أمام ضربات مطرقة العقل، لا جدوى من البحث عن أنا، ولا فائدة من معرفة اللغز.
كل ما يشغلني بعدما عادت لي حرية الحركة هو البحث عن منفذ للهروب من هذه الكائنات التي تأكل جسدي.
صعقني ضوء قوي وأنا أفكر في الهروب فعدت لنفسي لأجدني مرة أخرى بارعا في فن الهروب، أغمضت عيني بين الحلم والحقيقة وأنا أفكر في قتل ذلك اللغز وأفقت وأنا أتحسس قلبي الميت لأنعشه ربما أجد فيه خلاصي.