غصون الحنين



وَمَالَتْ غُصُونُ الحَنِينِ عَلَيَّا
وَكُنتُ اتَّخَذْتُ مِنَ الذِّكْرَيَاتِ وَمِنْهَا وَمِنِّي
مَكَانًا قَصِيَّا
أُقَلِّبُ طَرْفَ المَشَاعِرِ نَجْوَى إِذَا مَا خَلَوتُ
وَطَرْفِي تَلَبَّدَ
لا رِيحَ تُجْرِي السَّحَابَ فَيَهمِي
وَلا رُوحَ تَذْوِي فَتَقضِي عَلَيَّا

- وَقَالَتْ غُصُونُ الحَنِينِ:
سَمِعْتُ بَلابِلَ شَوقِكَ غَنَّتْ
فَهَيَّا إِلَيَّا
أَمَا زِلْتَ ذَاكَ المُكَابِر حُزْنًا؟
تَعَالَ إِلَيَّا
أَمَا زِلْتَ تَلْبِسُ تَاجَ الوَقَارِ وَتَنْجُو حَيِيَّا؟
تَعَالَ إِلَيَّا
وَكُفَّ عَنِ المَوتِ حَيَّا
وَقُلْ لِي عَنِ الشَّوقِ مَا قَالَ يَحْيَى
وَقَالَ خَمِيسُ
كَأَنِّي الجَلِيسُ وَأَنْتَ الأَنِيسُ
لَقَدْ كُنْتَ دَومًا بِأَمرِي حَفِيَّا

- أَنَا يَا غُصُونُ المُضَمَّخُ شَوقًا
أَنَا المُتَجَذِّرُ فِي الأَرْضِ عِرْقًا
وَلَكِنْ دَعِينِي
فَإِنَّ سَفِينِي سَيُبْحِرُ شَرْقًا
وَيَقْطَعُ حَتَّى المَفَاوِزَ مِنْ غَيرِ مَاءٍ وَلا كَهْربَاءِ
سَيَكفِي المَشُوقَ شِرَاعُ الأَمَانِي
وَبَعْضُ فُتَاتٍ مِنَ العُمْرِ يَبقَى
وَيَطوِي جَنَاحَ المَسَافَةِ طَيَّا

- عَرِفْتُ فَرَاشَةَ قَلْبِكَ تَهْفُو لِنُورِ صَبَاحٍ
فَفِيمَ احْتِرَاقُكُمَا بِالأَسَى بُكْرَةً وَعَشِيَّا؟؟
وَدَمْعَكَ عِنْدَ مَعَانِي الوَفَاءِ قَرِيبًا
وَيَغدُو إِذَا مَا شَكَوتُ عَصِيَّا؟

- أَنَا الجَبَلُ المُسْتَقِرُّ عَلَى قَابِ شَّوكِ مِنَ الوَرْدِ
ظَهْرِي مِنَ الصَّخْرِ صَلْدٌ
وَقَلْبِي مِنَ الصَّهْرِ بُرْكَانُ شَوقٍ وَوَجْدُ
فَإِنْ ثَارَ مَزَّقَ مِنِّي الحَنَايَا
وَبِتُّ شَظَايَا
وَكُلُّ البَرَايَا تَرَانِي قَوِيَّا
وَلا يُدْرِكُونَ بِأَنِّي كَكُلِّ الزُّهُورِ
وَكُلِّ الطُّيُورِ
أَمُوتُ وَأَحْيَا
وَأَضْعفُ حِينًا وَأَنْزفُ حِينًا
وَلَكِنَّ عَزْمِي يُحَلِّقُ فِيَّا
لِذَا سَأَكُونُ بِرَغْمِ الخُطُوبِ سَوِيًّا قَوِيَّا

هُنَا عِشْتُ عُمْرِي غَرِيبًا
وَكُنْتُ هنُاَكَ وَلَمْ أَلْقَ رِيَّا
تَجَنَّى الطَّرِيقُ
وَعَزَّ الرَّفِيقُ
وَكَانَ السَّحَابُ بِبَرْقٍ وَرَعْدٍ يُعَلِّلُ بِيدَ الأَمَانِي
فَمَا كُنْتُ أَحصُدُ إِلا دَوِيَّا
وَمَا أَمْطَرَتْ مُنْذُ كُنْتُ صَبِيَّا
وَكُنتُ إَذَا ذَبُلَتْ يَاسَمِينَةُ صَبرِي
وَرَفْرَفَ ذَبْحًا مِنَ الغَدْرِ طَيرِي
أُلَمْلِمُ مَا قَدْ تَبَقَّى وَأَمْضِي
وَأَنفُخُ فِيهَا مِنَ الحِلْمِ نَبْضِي
وَأُغْضِي
وَألقَى العَوَارِضَ طَلْقَ المُحَيَّا

وَهَا أَنَذَا اليَومَ أَمْضِي غَرِيبًا
أَعُدُّ الخُطَى وَقَدِ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيبَا
وَقَدْ وَهَنَ العَظْمُ مِنِّي
وَمَا زِلتُ غَيبَا
فَعُشْبُ رَبِيعِي رَعَتْهُ الليَالِي
وَذِئْبُ خَرِيفِى يُطَارِدُ كَبْشِي
وَيَعوِي مِنَ الغَيظِ إِنْ نِلْتُ شَيَّا
وَهَا هِيَ عَينُ النِّهايَةِ تَرْمقُ دَهْرِيَ شَزْرًا
وَتَنْسُجُ ثَوبَ البِلَى بِيَدَيَّا
وَمَا زَلْتُ أَحْمِلُ قَلبِي عَلَى رَاحَتَيَّا

- أَرَاكَ تَفِرُّ مِنَ البَوحِ
حَتَّى كَأَنَّكَ تَهْرُبُ مِنِّي إِلَيَّا
أَلَيسَ لِقَلْبِ الغَرِيبِ وَجِيبٌ
يُغَرِّدُ بِالشَّوقِ لَحْنًا شَجِيَّا؟

- وَهَلْ مِنْ سَبِيلٍ لِنِسيَانِ أَرْضٍ
سَكَنْتُ سِوَاهَا وَتَسْكُنُ فِيَّا؟
وَهَلْ مِنْ سَبِيلٍ لإنْكَارِ شَوْقٍ
هُوَ النَّاسِكُ البَرُّ فِي خَافِقَيَّا؟
إِذَا جَدَّ يَحْرُثُ صَمْتِي جَنَانِي
وَشَدَّ التَّذَكُّرُ سَرْجَ لِسَانِي
وَاَرْخَى عَنَانِي
أَذَابَ الصُّخُورَ حَنِينًا
وَأَجْرَى الحَدِيثَ عَلَى مُقْلَتَيَّا
وَأَذْوِي خَلِيَّا
وَمِنْ حِصْرِمِ البَينِ أَعْصِرُ نَفْسِي
وَأَشْرَبُ كَأْسِي
تُنَادِمُنِي ذِكْرَيَاتِ الطُّفُولَةِ خَمْرَ أَنِينِ
وَشَكْوَى حَنِينِ
وَدَمْعَةُ بُؤْسِ
وَتَضْحَكُ حِينًا فَأَبْكِي عَلَيَّا

أَحِنُّ إِلَى الأَرْضِ وَالأَهْلِ وَالصَحْبِ
فَالشَّوقُ أَزْهَرْ
أَحِنُّ إِلَى البَّحْرِ عِنْدَ الغُرُوبِ
وَكُلِّ حَدِيثٍ مَعِ المَوجِ ثَرْثَرْ
أَحِنُّ إِلَى قَبْرِ أُمِّي
وَأَطْمَعُ أَنْ تَسْتَرِيحَ بِضَمِّي
لأُدْفَنَ فِي حضْنِهَا حِينَ أُقْبَرْ
أَحِنُّ إِلَى غَزَّةِ العِزِّ
لَكِنْ أَحِنُّ إِلَى القُدْسِ أَكْثَرْ
وَأَكْثَرْ
فَمَا زَالَ عِندِي رَجَاءٌ
وَمَا زَالَ عِنْدِي لِرَبِّي دُعَاءٌ
وَمَا كُنْتُ يَومًا بِهَذَا الدُّعَاءِ شَقِيَّا

هُنَا العَيشُ رَغْدُ
كَذَلِكَ لِلعَقْلِ يَبْدُو
فِرَاشٌ وَثِيرٌ
وَمَالٌ وَفِيرُ
وَبَيتٌ جَمِيلٌ
وَظِلٌّ ظَلِيلُ
وَمَاءٌ زُلالٌ
وَإِنْ هَبَّ فِيهَا النَّسِيمُ عَليلا يَهُبَّ نَقِيَّا
وَلَكِنَّ ذَلِكَ فِي القَلْبِ بَرْدٌ
صَقِيعٌ يُجَمِّدُ مَا كَانَ مِنْهَا لَدَيَّا
فَلا الأَرْضُ أَرْضِي لأَنْبُتَ فِيهَا
وَلا الفَصْلُ فَصْلِي لِيُزْهِرَ فَرْعِي
وَيَنْضجَ عُنْقُودُ كَرْمِي جَنِيَّا
فَجَذْرِي تَأَصَّلَ نَخْلا هُنَاكْ
وَزَيتُونَةً لا تَضِنُّ بِزَيتٍ
لِتُسْرِجَ قِنْدِيلَ حُبٍّ وَصَبْرٍ
وَلَمْ تَخْشَ يَومًا مُجُونَ الهَلاكْ
تَرَى أَصْلَهَا فِي الثَّرَى
لَكِنِ الفَرْعُ فَوقَ الثُّرَيَّا

هُنَالِكَ حَيثُ المَشَاعِرُ دِفْءٌ
وَحَيثُ الحَصِيرُ يَصِيرُ حَرِيرًا
مَتَى نِمْتُ بَينَ عِيَالِي رَضِيَّا
وَحَيثُ أَبِي فِي المَسَاءِ يُرَدِّدُ صَوتَ الأَذَانِ
وَنَأْكُلُ مِنْ خُبزِ أُمِّي طَعَامًا شَهِيَّا
وَلَهْفَةُ جَارِي إِذَا غِبْتُ عَنْهُ
وَهَمُّ أَخِي إِذْ أُفَكِّرُ فِيهِ مَلِيَّا

أَقُولُ لِمَنْ بَاعَنِي وَهْوَ بَخْسُ
سَيُكْشَفُ لِصٌ وتُقْطَفُ شَمْسُ
وَتَبكِي الخِيَانَةُ مَوتَ بَنِيهَا
وَتَضْحَكُ قُدْسُ
وَيَسْجُدُ لِلهِ بِالشُّكْرِ أَقْصَى
وَتَحْتَ ظِلالِ الهُدَى يَتَفَيَّا

أَقُولُ
لِمَنْ ظَنَّ أَنَّ الرُّجُوعَ مُحَالُ
سَنَرْجعُ حَتْمًا
وَيَهْدَأَ بَالُ
نَعُودُ كَمَا عَادَ مُوسَى
سَنَرجِعُ حِينَ نَهُزُّ إِلَينَا بِجِذْعِ الشَّهَادَةِ
حِينَ مَخَاضِ
تُسَاقِطْ عَلَينَا السُّرُورَ جَنِيَّا
وَيَنْزِلُ عِيسَى
سَنَرجِعُ حِينَ نَلُوذُ بِمِحْرَابِ حَقٍّ
وَرَايَةِ سَبْقٍ
وَدَعْوَةِ صِدْقٍ
وَيَحْيَى سَيُولَدُ يَا زَكَرِيَّا

أُحِبُّكِ يَا قِبْلَةً يَا بِلادِي
وَبِتِّ كَأَنَّكِ مَائِي وَزَادِي
وَدَارُ مَعَادِي
وَعَمَّا قَرِيبٍ أَشُدُّ الرِّحَالَ إِلَيكِ
كَطَائِرِ أَيكِ
وَأَحْمِلُ طَيفِي
عَلَى حَدِّ سَيفِ
لأَدْفَعَ عَنْكِ بِكَفِّي وَحَرْفِي
وَأَنْسجُ مِنْ وَجْنَتَيكِ الحِكَايَاتِ
بَعْضَ وَصَايَا لأَيَّامِ صَيفِ
فَلا تُنْكِرِينِي
أَلَيسَ الحَبِيبَةُ تَسْقِي المُحِبَّ وَلَو بَعْضَ رَشْفِ؟؟
لِمَاذَا جَحَدْتِ حُضُورَكِ فِيَّا؟؟
لِمَاذَا قَبِلْتِ الخَصِيَّ وَصِيَّا؟؟
وَكَيفَ دَعَوتِ إِلَى مَهْرَجَانِكِ يَا قُدْسُ كُلَّ العَصَافِيرِ
لَكِنْ نَسِيتِ الفَتَى الأَلْمَعِيَّا
أَنَا شَاعِرُ القُدْسِ
شَاعِرُ قَومٍ يَظَلُّ المُعَنَّى
سَقَاكِ قَصَائِدَ مِنْ كُلِّ مَبْنَى وَمَعْنَى
وَعِشْقَكِ غَنَّى
وَمِنْهُ البَيَانُ شَدَا عَبْقَرِيَّا
وَحَدَّثَ عَنْكِ نَوَارِسَ بَحْرٍ
وَحَارِسَ حَقْلٍ
وَجِيلا سَيَمْضِي وَجِيلا سَيَأْتِي
لِسَانًا فَصِيحًا ، دَمًا عَرَبِيَّا

لِمَاذَا جَحَدْتِ حُضُورَكِ فِيَّا؟؟
لِمَاذَا تُصِرُّ العُرُوبَةُ فِيكِ
بِأَنَّ البُّطُوَلَةَ حَقٌّ لِمَيتِ
وَأَنَّ الثَّنَاءَ سِقَاءُ القُبُورِ
حَرَامٌ عَلَى كُلِّ حَيٍّ بِبَيتِ
وَإِنِّي عَلَى الأَرضِ مَا زِلْتُ أَمْشِي
وَإِنْ كَانَ فِي صَدِّ قَلْبِكِ نَعْشِي
فَكَيفَ يَصِيرُ القَرِيبُ قَصِيَّا؟
وَكَيفَ يَصِيرُ الرَّشِيدُ غَوِيَّا؟
وَكَيفَ جَفَوتِ الحَبِيبَ الوَفِيَّا؟
دَعِينِي أَمُوتُ عَلَى رَاحَتَيكِ
يَدِي فِي يَدَيكِ
وَقَلْبِي مِنَ العِشْقِ يَهْوِي إِلَيكِ
وَيَومَ أَمُوتُ سَأُبْعَثُ حَيَّا