الحلقة الثالثة
عزيزي أيها الرجل الغريب ..بالأمس كنت طفلة صغيرة لاهيةً أنشر الفرح والتوهج براءاتى ولثغتى المحببة وفى ذات يوم قالت لى أمى ..لا تتجولى متبرجة هكذا يا( أميمة ) ..ألم تلاحظى بأنك ما عدت طفلة يا ابنتى ..إنك كنزنا الوحيد وشجيرتنا الخضراء ..بهجة هذه الدار .. ومذ ذاك اليوم لم أعد أغادر المنزل بالصورة التى كنت أفعل .. حتى صديقاتى لا ألتقيهن إلا لماماً وكنت أقضى معظم الوقت أقرأ الشعر وأختلس سماع الموسيقى من مذياع صغير محاولة أن ألج دنيا المشاعر الغامضة تلك .. دنيا العشق التى صنعتها الأغانى وصنعتها من أوهامى وأخيلتى ..والنغم المموسق .. جيشان الوجد والبوح المنمق يبحرون بى بعيداً بعيداً فاشعر وكأن إنسان ما يخرج من المذياع آخذاً بكفى مشيعاً أجواء الدفء والجمال فى حنايا قلبى .. وكان كل شئ غامضاً ومعذباً ..آه من ذلك الصوت المبحوح صوت المغنى المنساب الذى يزيد من توترى وضياعى ..ويمضى الليل مداعباً ومؤنساً والنجوم الصغيرة تشير لى وتوشوشنى بلذيذ الكلام .. والعبير الفواح تحت أذنى وبكفى يداعبنى ليهلَّ طيفك من خلف غيمة مسافرة يدغدغ أوهامى وأشواقى ويثير سكون البراكين الساكنة فى دمى ..والآن وقد صرت حقيقة وليس وهماً ..حقيقة من من لحم ودم ونبض فوار ..نعم حبيبى .. يا سمائى وحقل تفتحى وأغاريدي ..كنت أتمرغ فى ذلك الصباح تحت أغطيتى ورزار المطر ينقر زجاج نافذتى وموسيقى صباحية ناعمة تتهادى من مكان ما ..وكان المطر يبعث فىّ إحساساً بالخدر اللذيذ ..وبين الفينة والفينة تصفر الريح وهى تسافر فى الفضاء الفسيح بلا كلل أو ملل ومن بعيد عانقتنى أصوات مختلطة فى تناسق عجيب ..منها صياح بقرتين حلوبتين بالمنزل المجاور لنا .. ذلك النداء المحبب بين الأم ووليدتها الموثقة بإحدى الغرف ..لعلّه الرزاز يمنع صاحب البقرة من النهوض لحلبها ومن ثمّ إتاحة الفرصة للقاء متعجل تمتص فيه شفاه عطشى ثدياً معطاءً لأم حُبلى بالدفء والحنان ..حركت جسدى إتقاءً لبرودة التيار وأرسلت تنهيدةً عميقةً هى مزيج من الحزن واللاشيئية .. وقلت لنفسى ..صباح جميل ويوم جديد كالأمس وما سبقه من أيام وشهور ..فماذا أتوقع ؟ ..لا شئ ..لا شيء ..تجملت بالفريضة وسألت الله فى سري أن يجعل هواجسى ذاك الصباح خيراً .. وأشرقت الشمس دفعة واحدة فاندفع الضوء إلى الداخل وكأنه شخص مطارد رغم ما أفاءه من إشراق ..وتسلل النعاس إلى جفونى مرة أخرى لكننى تحاملت على نفسي ..نهضت من مخدعى وطوّحت بذراعىّ خلف رأسى وأعدت ربطة شعرى ومن ثمّ وقفت أتأمل الكون ..أيقظنى منظر الجدران الطينية المجلودة بدموع المطر والمياه لا تزال تتدفق من أسطح المنازل متخذة طريقها عبر الفوهات الصغيرة المحفورة بالأسوار إلى باحة النهر ..وعبر الباب سمعت صوت أمى تسألنى إن كنت قد استيقظت لأنضم لأفراد الأسرة الذين تحلقوا حول أوانى الشاى وبينما كنت استمتع بحمامى الصباحى هالنى التغير الذي حدث فى بنية جسمى فارتديت ملابسى على عجل وأنا أرتعد من شدة الخوف .. وتذكرت حينها ما قالته لى أمى .. وفى ثنايا الغرفة الكبيرة إنتظم الكل وهم يتبادلون التعليقات المرحة وانهمكت أمى فى توزيع أكواب الشاي والفطائر .. سألنى أبى وهو لا يزال يداعب حبات مسبحته .. إن كنت مستعدة للذهاب معه للسوق الخيرى ..لم أصدق دعوته تلك وهو الذي لم يعتد الالتفات لمثل هذه الأشياء .. ولا الغياب مطلقاً عن المصنع الذي يمتلكه مناصفة مع والد صديقتى وزميلتى بالمدرسة ( هدى ) ..سألته وأنا أقضم قطعة من الخبز .. وماذا يعرضون يا أبى ؟ .. أخبرنى أن الأستاذ بشير أستاذ الفنون بثانوية البنين يعرض لوحاته بدعوة من جمعية أصدقاء المرضى ..وبالطبع وافقت ..فلن أكسب شيئاً ببقائي فى المنزل ..وفى الطريق إلى المعرض خالجنى شعور غريب لا أدرى كنهه وتحول قلبى إلى كرة صغيرة تضرب بعنف جدران صدرى وعندما دخلت متأخرة بضعة خطوات عن أبى أحسست بما يشبه الدوار .. وراعتنى العيون الكثيرة التى انصبت علىّ دون رحمة .. فتقدمت ممسكة بذراع والدى ومن على البعد ترائي لى شخصك هلامياً كطيف مجهول .. هتفت فى سرى يا إلهى ..يا إلهى .. وقلت لنفسى أنظرى يا (أميمة ) إلى ذلك الشخص النحيل صاحب العينين القلقتين القابع بآخر الصالة .. وجه مكدود وقوام ممشوق .. يدان سالفتان وبشرة نظيفة ..شهق شيء ما فى داخلى عندما استقرت عيناك بوجهى لا تبرحه وشعرت بمناداة الجذور عبر الشفاه المضطربة ولم استطع بعد ذلك معاودة النظر إاليك .. اختفت الملامح النبيلة من عيونى وتراكضت الموسيقى بدمى .. ومرة أخرى وأنا بغرفتى رأيت نفسى خضراء متألقة .. رحيبة كالأرض ..سامقة كنخلة وسابحة كالأراجيح ..وظللت أحدق بالساعات الطوال فى سقف الغرفة أحلم باللقاء وبمشاوير كثيرة من السعادة وربما العذاب وخيبات الأمل والضياع إن لم أرك ثانية إلى أن أطلت صديقتى هدى لتوقظنى من تأملاتى تلك فحكيت لها ما رايت وبثثتها مخاوفى وظنونى .. فاقترحت علىّ أن نذهب معاً لزيارة المعرض حيث التقينا مجدداً .