( 1 )
دعوني أحدثكم يا إخوتي عن شاب عرفته من زمن.. كان ولا يزال صديقاً لي أثيراً إلى نفسي، أحببت فيه استقامته ونزاهة خلقه ورجاحة عقله رغم أنه لا يزال في مقتبل العمر، لم تغز بعد جحافل الشيب شعره الأسود، ولم ترتسم بعد تجاعيد السنين على محياه، وإذا سألتموني ما اسمه فلن أضنّ عليكم بهذا، لأنني أعتقد أنه سيكون صديق كل واحد منكم، يحبه كما أحببته، ويقدره كما قدرته.
صديقي هذا يدعى "أمير مؤيد العظم" شاب دمشقي، أسمر اللون، أسود العينين عالي المنكبين، لوحتُه شمس سورية التي تطل من سماء دمشق اللازوردية وكأنها زورق ذهبي يبحر في عباب من الزرقة اللامتناهية، في عينيه تصميم وعزم، وفي قسماته شموخ يطاول شموخ قاسيون، ولكن في طباعه دماثة، وفي خلقه حلاوة، دماثة استمدها من بساتين دمشق الغنّاء، وحلاوة أخذها من غوطتها الساحرة وبرداها العذب، يجري فيروي أوصال التربة الظامئة، ويبرد من لهيب الأشجار الخضر الناضرة.
كان أمير هذا زميل الحداثة والصبا، جلسنا معاً على مقاعد الدراسة أطفالاً صغاراً ثم انتقلنا إلى ثانوية "جودة الهاشمي" يافعين ندرس معاً، ونلهو معاً، وطالما رافقتنا صداقتنا في نزهة قصيرة نقوم بها معاً على ضفة نهر بردى نتبادل فيها الأحاديث التي لا تنتهي، ولست أدري اليوم، ماذا كان يجول في عقولنا الصغيرة في تلك الأيام البعيدة وأياً كان ذلك فلا أزال أذكر إلى الآن تلك الأيام وأستروح من ذكراها الراحة والأنس.
كانت التكية السليمانية تواجه مدرستنا على الضفة الثانية من النهر، وكان موعد لقائنا دائماً يوم الجمعة قبيل الصلاة، حيث اعتدنا أن نؤدي صلاة الجمعة في صحن المسجد الخارجي جالسين على البسط الممدودة حول البحيرة الصغيرة في وسطه، مصغين إلى المؤذّن يردد أن لا إله إلا الله، فتتجاوب له جنبات المكان.. متخللاً ذلك خرير نافورة المياه وسط البحيرة الجميلة التي تعكس أشعة الشمس.. وإذا النفس في إلهام سماوي عجيب.
كنا صديقين ساعتها.. وكان صديقنا الثالث هو المسجد الجميل يطل علينا بمئذنته الرشيقتين السامقتين في الفضاء تناجي إحداهما ربها قائلة أشهد أن لا إله إلا الله.. فتجيبها الأخرى وأشهد أن محمداً رسول الله، في ترنيمة أبدية لا تنتهي، أما قبته الجميلة فقد تربعت بين المئذنتين السامقتين وقد تناثرت من حولها القباب الصغيرة الأخرى في هندسة معمارية أخاذة وكأنها أم ترعى أطفالها الصغار في حنان ورعاية.
ومضت السنوات سراعاً، وصلنا بعدها إلى نهاية الدراسة الثانوية، وشاء لي القدر أن أنتسب إلى كلية الآداب، أما هو فقد انتسب إلى كلية الطب وحلمه الكبير أن يصبح أخصائياً شهيراً في أمراض الأنف والأذن والحنجرة، ولست أدري ماذا كانت فلسفته وراء ذلك، ولكني أعرف أن والده رحمه الله قد توفي عقب نزف شديد من حلقه، ولعل ذلك قد ترك انطباعاً عميقاً في نفسه جعله يختار هذا الفرع من الاختصاص الذي ليس هو بالمقصود كثيراً بين جمهور الأطباء.
وخلال دراسته الجامعية.. نضجت شخصية أمير، وكان ظله محبوباً من كل أساتذته ورفاقه، كان أمير ذكي الفؤاد مرهف الحس، طيّب القلب من غير بلاهة، متديناً بطبعه من غير دروشة، لم يحاول إيذاء أحد من الناس، ولكن قلّ من يستطيع أنْ يستغله أو يؤذيه، وكأني به يتمثل قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لست بالخب ولا الخب يخدعني".
كان يحبّ المطالعة والبحث، وأجمل ساعات فراغه هي التي يقضيها في المكتبة الظاهرية في دمشق القديمة يجول ببصره وخاطره في الكتب المنمّقة، يقلب في صفحاتها خواطر الأجداد ونوابض قلوبهم، وربما جرته قدماه في مناسبة أخرى إلى المركز الثقافي الألماني أو الفرنسي اللذين يطلان بشرفاتهما الفخمة على أحداث شوارع العاصمة السورية وأجملها، وهناك كان يقضي الساعات الطوال متابعاً ما كان يجري هناك من مناقشات ومحاضرات، مسروراً حيناً، غاضباً أحياناً أخرى، ولطالما دخل مع رفاقه في مشادات فكرية عنيفة.
لم يُنكر أمير أن على مجتمعنا الإسلامي المعاصر أن يتطور، ولكن في عقله الغضّ الناضج كان هناك فرق كبير بين: هضم وتمثل لحضارة قوم سبقونا ردحاً ليس بالطويل في عمر الزمن، وبين تقليد قردي أعمى وانجذاب انعكاسي ساذج لكل ناعق شرقاً وغرباً، ونادراً ما كان أمير يفقد أعصابه في غمرة النقاش، أو يتعصب لرأيه تعصباً أعمى، ولكنه كان يقارع الحجة بالحجة في منطق هادئ يحسده عليه الكثيرون.
وقضينا في الجامعة وقتاً طويلاً.. وبينما كنت أجول في صحبة المتنبي وديوانه، وأستمع إلى الجاحظ يحدثني عن نجلائه، وإلى المعري يقصّ عليّ أحاديث جنته وجحيمه كان هو يجلس بين مناضد التشريح ومخابر العقاقير والأدوية دارساً متأملاً منبهراً من عظمة الخالق وبديع خلقه.
ودار الزمن دورة، وإذا أنا في حفلة صغيرة جميلة أقامها في بيته يحتفل بتخرجه من كلية الطب، .. الله .. ما أجملها من سويعات هنية تلك التي مرّت كحلم شارد، كانت أمه تغدو وتروح مزهوة بابنها الوحيد التي سهرت لياليها ترعاه، وقضت أيامها تثقفه وتهذبه، ولطالما داعب أجفانها حلم جميل أن تراه أمامها طبيباً شاباً يسرّ قلبها ويملأ ناظريها. ودار الزمان دورة ثانية، وإذ أنا في حفلة خطوبته على ابنة عمه هدى، كان يوماً حاراً من أيام دمشق القائظة، وأقداح البرتقال تدار في فناء بيتهم الذي تظلله عرائش الياسمين، وقد اصطفت الكراسي في وسطه حول فسقية بديعة، زينتها بنقوش زاهية أنامل فنان دمشقي قديم.
كنت أرقب ما يجول بعين ملؤها السعادة والرضى، وإذا بأمير يأتي إليّ ويقول: أتذكر يا محمد عندما حدثتك يوماً عن أمنيتي في أن أصبح طبيباً مختصاً في الأنف والأذن والحنجرة؟.. قلت: نعم. قال: فإني قد عقدت النيّة على السفر إلى بريطانيا للاختصاص إن شاء الله، وقد قبلت في جامعة لندن، وأرجو من الله تعالى أن ييسر لي أمري ويحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي، وأنت تعلم أن حظي من اللغة الإنجليزية ليس بالذي أحسد عليه. ورغم أن ذلك كان صدمة لي وحرماناً من صحبة أمير ولو لسنين من عمر الزمن، لكني تحاملت على نفسي، وكظمت ما في قلبي، وقلت له وبسمة تعلو شفتي سر على بركة الله يا أخي، وليكن طلب المعرفة رائدك، ورضى الله غايتك ومطلبك، وليجعل الله لك من القرآن نوراً، ومن خشية الله خير مراقب وخير نصير ولكن لي أمنية واحدة يا أخي حبذا لو تحققها لي.
- على الرحب والسعة يا أخي.. وما هي؟...
- أن تكتب لي بين الفينة والأخرى ما يجول بفكرك وخاطرك عن تصوراتك وانطباعاتك عن البلاد التي تزورها، والناس الذين تعاشرهم، فإن ذلك مما يسرّ قلبي ويشرح صدري.
ووفّى أمير بوعده...
وكان البريد يحمل إليّ بين الفينة والأخرى رسائل تفيض بالأمل والإيمان، رسائل إنسان مسلم صدمته الحياة في لندن بعنف، ولكنها لم تفقده توازنه، بهرته أنوارها ولكنها لم تعميه عما تخفيه من ظلام.. رسائل إنسان غريب، تفيض بالاستجابة والتحدّي.. والقبول والرفض