ما كنت يوماً ممن يحب المعارضات أو يميل لها ، وما فعلتها قبل اليوم إلا مرة حين عارضت نونية ابن زيدون بإلحاح ممن نحب ونقدر وبشروطهم. واليوم أعود معارضاً للمرة الثانية بناء على طلب ملح من أحبة نقدرهم ونحترمهم ولا نطيق لطلبهم رداً وهي معارضة لا أحسبها إلا الأخيرة .
أعود هنا بوعدين قطعتهما ، وعد شكر ووعد شعر. أما وعد الشكر فهو اجتهاد الحرف شعراً أن يوفي بعض ما أفاض به علينا من الود أهل عهد. وأما وعد الشعر فهو هذه القصيدة المعارضة لأعظم شعراء العربية في أجمل قصائده تلك القصيدة التي اختار الكثير من الأحبة أن أعارضها ومنذ سنين. أرجو أن أكون عند حسن الظن ، وإلا فاعذروا قصور مجتهد.

إِنِّي أَمَرْتُكَ فَاصْدَعْ أَيُّهَا القَلَمُ
أَنَا الكَلامُ وَغَيرِي فِي الوُجُودِ فَمُ
أُكْتُبْ وَسَطِّرْ وَفَجِّرْ كُلَّ قَافِيَةٍ
وَابْذُلْ مِنَ الحَرْفِ مَا لا تَبْذُلُ الدِّيَمُ
أُكْتُبْ فَإِنَّ المَصَابِيحَ التِي ائْتَلَقَتْ
عَلَى الزَّمَانِ سَتَخْبُو ثُمَّ تَحْتَدِمُ
وَتَبْزُغُ الشَّمْسُ فِي كَانُونَ سَاطِعَةً
تُذِيبُ صَخْرَ الذِي بِالصَّيفِ يَعْتَصِمُ
إِنِّي أَنَا الغَيثُ فِي عَصْرِ الجَفَافِ وَفِي
جَدْبِ المَوَاسِمِ إِنِّي الخَصْبُ وَالأَجَمُ
لِي فِي دُجَى الرَّأْيِ قِنْدِيلٌ وَلِي لُغَتِي
وَلِي عَلَى الحَرْفِ إِكْلِيلٌ وَلِي حُلُمُ
قِيثَارَتِي مِنْ هَدِيلِ الرُّوحِ قَدْ عَزَفَتْ
نَجْوَى الفُؤَادِ الذِي بِالقَسْوَةِ اتَّهَمُوا
وَرحْلَتِي فِي بُرُوجِ الشَّوْقِ مَا فَتِئَتْ
فِي غُرْبَة الدَّرْبِ مِعْرَاجًا لِمَا بَجَمُوا
مَا زِلْتُ أَدْفَعُ عَنْ دَهْرِي وَيَدْفَعُنِي
حَتَّى التَقَيْتُكَ وَالأَيَّامُ تَلْتَطِمُ
يَا مَنْ دَعَانِي إِلَيكَ الرِّفْقُ فَازْدَلَفَتْ
مِنِّي المَشَاعِرُ مَا لا يُنْصِفُ الكَلِمُ
أَتَيْتُكَ اليَوْمَ أَقْوَى حَرْفُ نَاظِمِهِ
فَكَانَ مِنْكَ إِلَيكَ الحَرْفُ يَنْتَظِمُ
أَتَيتُ أَلْتَزِمُ الإِنْسَانَ فِي رَجُلٍ
وَإِنَّ مِثْلَكَ فِي الحَالَينِ يُلْتَزَمُ
إِنْ قَامَ يَعْذِلُ حُبِّي بَعْضُ مَنْ جَهِلُوا
فَلَيْتَهُمْ لِمَعَانِي الحُبِّ قَدْ فَهِمُوا
وَلَيْتَهُمْ بِوَفَاءِ العَهْدِ قَدْ عَمِلُوا
وَلَيْتَهُمْ بِعَظِيمِ القَدْرِ قَدْ عَلِمُوا
وَكَيْفَ لا أَصْحَبُ المَحْمُودَ فِي خُلُقٍ
مَنْ لا تُذَمُّ لَهُ كَفٌّ وَلا قَدَمُ
هَذِي يَمِينِي بِصِدْقِ العَهْدِ أَبْسُطُهَا
فَابْسُطْ يَمِينَكَ لا هَانَتْ بِكَ الذِّمَمُ
يَا كَاتِبًا أَثْمَلَتْ رُوحِي يَرَاعَتُهُ
وَهَيَّجَتْنِي مَعَانٍ دَأْبُهَا القِمَمُ
بَعْضُ الحُرُوفِ عَنِ الكُتَّابِ قَدْ جَمَحَتْ
وَحَرْفُكَ الخَيْلُ فِي أَشْدَاقِهَا اللُجُمُ
أَوْرَدْتَهَا مِنْ نَقَاءِ النَّفْسِ مَوْرِدَهَا
فُكُلُّ حَرْفٍ بِصَافِي الوُدِّ يَبْتَسِمُ
كَأَنَّ وَجْهَكَ وَالآفَاقُ جَافِيَةٌ
بَدْرُ المَكَارِمِ قَدْ خَرَّتْ لَهُ الظُلَمُ
فَمَا يَزَالُ مِنَ الإِحْسَاسِ بَاقِيَةٌ
أَنْ كَانَ سَمْتُكَ بِالإِحْسَانِ يَتَّسِمُ
يَا مَنْ يُحَدِّثُّ عَنْ فَضْلِي وَيَذْكُرُنِي
بِمَا تَنُوءُ بِهِ عَنْ حَمْلِهِ الأُمَمُ
لَمْ يَشْفِ لِي فِي الوَرَى رِيقًا عَلَى ظَمَأٍ
مِثْلُ الوَفَاءِ ، وَأَنْتَ الكَوْثَرُ الشَّبِمُ
مَتَى رَأَيْتُ وَفَاءَ المَرْءِ صَاحِبَهُ
فَقَدْ رَأَيْتَ دُمُوعَ العَيْنِ تَنْسَجِمُ
وَإِنْ تَنَكَّرَ أَقْوَامٌ لِعَهْدِهُمُ
فَلا يَسُؤْكَ عَلَى فُرْقَاهُمُ نَدَمُ
وَدَعْ أَسَاكَ عَلَى آَثَارِ مَنْ غَدَرُوا
فَالجُرْحُ يَنْزِفُ حِيْنًا ثُمَّ يَلْتَئِمُ
كَمْ كُنْتُ أَعْذُرُ مَنْ جَافَى وَأَحْفَظُهُ
وَكُنْتُ أَجْزَعُ إِنْ أَوْدَى بِهِ أَلَمُ
فَهَمَّ بِي وَعُيُونُ الكِبِرِ شَاخِصَةٌ
وَذَمّ بِي وَلِسَانُ الحِقْدِ يَنْتَقِمُ
وَكُلَّمَا زَادَ نُصْحِي زَادَ مَعْصِيَةً
وَكُلَّمَا عَادَ عَفْوِي عَادَهُ السَّقَمُ
تَعِفُّ نَفْسِي عَنِ الإِسْفَافِ تَكْرِمَةً
فَمَا تَرُدُّ عَلَى فُحْشٍ وَتَحْتَشِمُ
وَلَيْسَ أَقْتَلُ لِلنَّفْسِ الحَقُودَةِ مِنْ
حِلْمِ الكَرِيمِ عَلَيْهَا حَينَ تَضْطَرِمُ
خَابَتْ ظُنُونُ رِفَاقٍ ضَيَّعُوا وَسَعَوا
فِي شَرِّهِمْ وَهَفَتْ أَحْلامُهُمْ وَعَمُوا
بِئْسَ الأَمَانِيُّ مَا مَنَّوا بِهِ خَتَلا
وَشَاهَ وَجْهُ هَوَاهُمْ بِالذِي وَهَمُوا
وَمَا دَرَوا أَنَّ فَضْلِي سَوفَ يُعْجِزُهُمْ
مُكَذَّبِينَ بِمَا فِي زَعْمِهِمْ زَعَمُوا
سَيَعْلَمُ الدَّهْرُ أَيَّ الأَكْرَمِينَ أَنَا
وَيَعْلَمُ الدَّهْرُ أَيَّ الأَمْكَرِينَ هُمُ
أَنَا الذِي أَفْهَمَ الجَوْزَاءَ مَنْطِقَهُ
وَأَلْهَمَ الطَّيْرَ كَيْفَ الشَّدْوُ وَالنَّغَمُ
لا زِلْتُ أُفْصِحُ عَنْ دَأْبِي وَعَنْ أَدَبِي
بِالفِكْرِ وَالشِّعْرِ ذَا عَيْنٌ وَذَاكَ فَمُ
وَإِنْ جَنَيْتُ قُطُوفَ الحَرْفِ عَالِيَةً
أَحْنَى البَيَانُ جَبِيْنًا وَانْحَنَى القَلَمُ
العَزْمُ وَالحَزْمُ وَالإِقْدَامُ مِلْكُ يَدِي
وَالعِلْمُ وَالحِلْمُ وَالإِكْرَامُ وَالقِيَمُ
وَالشَّمْسُ تَعْرِفُ أَنِّي نِدُّهَا أَلَقًا
وَتَعْرِفُ الأَرْضُ أَنِّي النَّجْمُ وَالعَلَمُ
إِنْ لَمْ يَبِنْ لَهُمُ قَدْرِي فَلا عَجَبٌ
لا يَرْفَعُ القَدْرَ مَنْ لا تَرْفَعُ الشِّيَمُ
وَلَيْسَ يُنْصِفُ مَنْ يَعْشُو إِلَى غَرَضٍ
وَلَيْسَ يَحْصُفُ مَنْ فِي قَلْبِهِ صَمَمُ
أَسْرَجْتُ مِنْ صَهَوَاتِ العِزِّ رَاحِلَتِي
وَسِرْتُ أَبْحَثُ حَتَّى ابْيَضَّتِ اللِمَمُ
نَادَيْتُ قَوْمِي فَلَبَّى كُلُّ ذِي أَرَبٍ
مِنَ الكِرَامِ وَأَقْعَى الحَاقِدُ القَزَمُ
نُقِيمُ دَوْلَةَ إِنْسَانٍ دَعَائِمُهَا
الجِدُّ وَالمَجْدُ وَالأخْلاقُ وَالكَرَمُ
بِوَاحَةٍ لِلكِرَامِ الصِّيدِ مَنْهَجُهَا
فَالجُودُ يَبْذُلُ وَالعَلْيَاءُ تَسْتَهِمُ
تَبْلُو العَزَائِمُ أَقْدَارَ الرِّجَالِ بِهَا
فَكُلُّ قَدْرٍ إِلَى الإِنْجَازَ يَحْتَكِمُ
وَقَالَ قَوْمٌ: هُمُ الأَشْرَارُ فَارْتَحِلُوا
وَقَالَ قَوْمٌ: هُمُ الأَبْرَارُ فَالْتَزِمُوا
وَمَا عَلَى السَّادَةِ الأَحْرَارِ إِنْ خَبُثَتْ
بَعْضُ النُّفُوسِ وَفِيهَا أَنْتَنَ الوَخَمُ
لِئِنْ سَقَانِي الوَرَى غِسْلِينَ مَا مَكَرُوا
فَإِنَّ كَوْثَرَ صَفْحِي سَائِغٌ لَهُمُ
وَلَسْتُ أَنْكُثُ صِدْقَ العَهْدِ إِنْ نَكَثُوا
وَلَسْتُ أَصْرِمُ حَبْلَ الوُدِّ إِنْ صَرَمُوا
وَإِنْ تَجَهَّمَ أَحْبَابِي فَلَسْتُ لَهُمْ
إِلا كَيُوسُفَ لِلإِخْوَانِ إِذْ ظَلَمُوا
وَكُلَّمَا آنَسُوا فِي القَلْبِ حُظْوَتَهُمْ
قَالُوا: الذِي بَيْنَنَا مَاءٌ وَقُلْتُ: دَمُ
إِنِّي لأَطْلُبُ للدُّنْيَا وَتَطْلبُنِي
وَأُكُرِمُ العُذْرَ لِلبَاغِي ويَتَّهِمُ
كَأَنَّنِي إِذْ حَبَانِي مِنْ نُبُوءَتِهِ
وَحْيُ البَيَانِ تَجَنَّى الخَصْمُ وَالحَكَمُ
مَاذَا ابْتِعَاثُ فَرَاشَاتِ المُنَى رُسُلا
إِنْ كَانَ رَبَّ الهَوَى للأُمَّةِ السَّأَمُ
وَمَا احْتِرَاثُ أَزَاهِيرِ النُّهَى وَعَلَى
وَجْهِ الحَقِيقَةِ وَجْدُ الحَقِّ يَرْتَسِمُ
لا تَحْسَبَنَّ الطُّيُورَ الصَّادِحَاتِ عَلَى
سُوقِ السَّنابِلِ تُغْنِي وَهْيَ تَغْتَنِمُ
يَجْرِي القَضَاءُ بِمَا نَهْوَى فَإِنْ كَدُرَتْ
عَيْنُ الزَّمَانِ أَتَى المُغْتَرُّ مَا يَصِمُ
وَالعَاقِلُ الحُرُّ لا يَغْشَى الأَذَى حَرَضًا
إِنَّ اللُيُوثَ لَهَا مِنْ أَمْرِهَا شَمَمُ
مَنْ ظَنَّ أَنَّ بِنَاءَ المَجْدِ فِي دَعَةٍ
بِالأُمْنِيَاتِ ، سَيُبْنَى ثُمَّ يَنْهَدِمُ
وَمَنْ تَتَبَّعَ أَسْبَابَ العُلا وَمَضَى
فَسَوْفَ تَتْبَعُهُ السَّادَاتُ وَالخَدَمُ
هَذَا شُعُورِي يَصُوغُ الدُّرُّ أَحْرُفَهُ
شِعْرًا يَبُزُّ الذِي فِي الأَعْيُنِ الهَرَمُ
فَكَانَ أَنْصَعَ نِبْرَاسٍ لِمَنْ نَثَرُوا
وَكَانَ أَسْطَعَ مِقْيَاسٍ لِمَنْ نَظَمُوا
وَسَوْفَ يَذْكُرُ شِعْرِي الفَذَّ جَاحِدُهُ
وَسَوْفَ يَشْكُرُ فِكْرِي الجِنُّ وَالنَّسَمُ