التكاملية في كتابة التاريخ ..
بهجت عبدالغني الرشيد
في كتابة التاريخ عودنا المؤرخون أن ينفرد كل واحد منهم بنفسه لكتابة التاريخ ، وتكاد تكون هذه هي الطريقة الكلاسيكية في مجال الكتابة ، والحقيقة أنها طريقة قد ألفناها فترة طويلة من الزمن .. ولكن من يضمن لنا أن تكفل هذه الطريقة تغطية أبعاد التاريخ من جهاته الأربع ، ومن ثم تعطينا صورة واضحة متكاملة ـ إلى حد ما ـ لما حدث هناك في أعماق التاريخ .
فالمؤرخ إنسان .. يتأثر بثقافته وتربيته وبيئته أثناء الكتابة ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فالمؤرخ وإن كان عالماً في التاريخ فهو ليس كذلك في مجالات أخرى كعلم النفس أو الاقتصاد أو الاجتماع أو السياسة .. الخ ، وبالتالي فإن المؤرخ الفرد لن يستطيع أن يغطي المساحة الكلية ، نعم .. إنه سينجح في نقل الأحداث والمواقف والشخصيات ، لكنه لن يتمكن وحده من الإلمام بالأبعاد السياسية والاقتصادية والنفسية والاجتماعية لتلك الأحداث والمواقف ، وكل هذه الأبعاد مما لا شك فيه جزء لا يتجزأ من تاريخ الإنسان .
ويبقى السؤال المطروح : كيف نكتب التاريخ مع ضمان أكبر قدر من التكاملية في أبعاده المختلفة ؟
أعتقد أن كتابة التاريخ لا تحتاج إلى مؤرخ واحد أو اثنين أو ثلاثة ، بل تحتاج إلى مؤسسة متكاملة ، تضم أصحاب الاختصاصات المختلفة ، علماء في الفقه والحديث والسيرة والتاريخ والأدب والاجتماع والنفس والسياسة والاقتصاد .. إلخ .. وهذا أمر منطقي إذا عرفنا أن التاريخ هو هذا الكم الهائل المتراكم مما سبق من العلوم .
إن المؤسساتية في كتابة التاريخ ستكشف لنا كل الأبعاد للحدث والظاهرة التاريخية ، وتبصرنا بكل الزوايا لها .
فلا يمكن ـ مثلاً ـ ونحن نكتب التاريخ أن نفصل بين نفسية الشخصية والبيئة التي نشأت فيها وطبائع قومها وعاداتها عن المواقف التي تتولد عنها ، فسلوك الإنسان يتأثر ـ كما أثبت علم النفس ـ بالوراثة والبيئة ، وحتى لا يقع هذا الفصل نحتاج إلى علماء النفس إلى جانب المؤرخ .
ونحتاج إلى علماء السياسة في المؤسسة لدراسة الحالات السياسية ، ومتابعة مؤشر الصعود والهبوط في الواقع السياسي ، ومدى الانعطافات والإحباطات ومدى حدّتها التي مُنيَ بها التاريخ .
ونحتاج إلى علماء الاجتماع في دراسة الحالات الاجتماعية بين الناس في الفترات التاريخية والتغييرات التي حصلت في العلاقات بين الأفراد والجماعات ، وإلا ما الذي يجعل الإمام علي ( رضي الله عنه ) يقول للذي سأله عن الحياة الآمنة في زمن أبي بكر وعمر ، وحالة الفوضى والفتن في زمن الكلام ، فيجيبه : لأن أصحاب أبي بكر وعمر كانوا أمثالي ، ولأن أصحابي أنت وأمثالك . مما يدل على حدة التغير الذي حصل في أخلاق الناس وعلاقاتهم مع بعضهم البعض .
ونحتاج إلى الفقيه الذي يقوم بميزان الأعمال والأقوال في ضوء الكتاب والسنة والمعطيات والإجتهادات الفقهية .
ونحتاج إلى علماء الحديث ، وخاصة إلى علم ( مصطلح الحديث ) و ( الجرح والتعديل ) لفرز الروايات الصحيحة عن الكاذبة وذلك بالنظر إلى سلسلة الرواة الذين نقلوا إلينا الأحداث التاريخية ، وهذا الأمر في غاية من الأهمية لا بد للمؤرخ ، بل لا بد لدارس التاريخ أن لا يتجاوزه إلا بمحصلة كافية تعينه على توخي الروايات الصحيحة وتبنيها وتفادي الروايات الموضوعة والمدسوسة ودحضها .
أما العزف على وتر السياسة في عرض التاريخ ، والتركيز على ما حدث من خلافات سياسية ، وكذلك التركيز على الحروب والمعارك ، وخاصة تلك التي حدثت بين المسلمين ، حتى ليكاد يكون التاريخ من خلال هذا العرض كومة من هذه المواقف السياسية والحربية فقط ، دون الإلتفات إلى ما عداهما من أعمدة التاريخ التي يقوم عليها ، هذا العزف خطير جداً ، يخدر العقول والضمائر ، ويميت القلوب والأرواح ، وينتج أجيالاً تخجل من النظر في تاريخها وحضارتها .
إذن نحتاج إلى كافة التخصصات في كتابة التاريخ لتغطية المساحة كلها ، والوقوف على أبعاد الحدث والظاهرة والشخصية التاريخية ، ومن ثم فان الطريقة التقليدية التي تعودنا عليها ليست ـ كما أظن ـ الطريقة المثلى في كتابة التاريخ ، بل لا بد من جهد مؤسسي يتبنى هذا الأمر الذي يضعنا أمام الصورة الصحيحة لما جرى في الماضي ، وبالتالي سيمكننا أن نستمد من حضارتنا في عملية البناء المنشودة كل ما ينفعنا ، دون الضياع في زخم الروايات الضعيفة والموضوعة ، ودون الانتصار الأعمى للرأي والمذهب ..
وهذا القول لا ينفي الجهود الفردية التي تبذل من قبل طلاب الماجستير والدكتوراه والمؤرخين ، ولكن هؤلاء أيضاً يجب أن يرجعوا إلى أهل الاختصاصات الأخرى للاستفادة من معلوماتهم وخبراتهم ، لإيجاد التكاملية ـ إلى حد ما ـ في كتابة التاريخ ومن ثم تقديمه للأجيال صافياً نقياً .
ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ
* نشرت هذه المقالة في جريدة ( ومضات جامعية ) وهي جريدة أسبوعية ثقافية تصدر عن جامعة الموصل ، العدد 79 الخميس 24 شعبان 1431 هـ / 5 آب 2010 م ، الصفحة 9 .