في ربيع عام 1948م وقبل 63 عاماً خرج عمي جميل ممتشقاً سلاحه الى معركة قاقون الشهيرة ولم يعد حتى اليوم ، كل تلك السنين هي ملحمة انتظار وألم وبلا توقف ، أمضى جدي أسعد وجدتي الثانية عائشة بقية عمريهما وهما ينتظران ويندبان ولم يعد الحبيب .... فرحلا بغصة مفعمة بالمر ألواناً دون أن تتحقق الأماني والأحلام .
أذكر أن جدي كان يبكي صامتاً وجدتي كانت تنوح بين الفينة والأخرى فكنا نبكي لنواحها ، كان عمي وحيدها وله ستة شقيقات التحقن بأزواجهن في القرى المجاورة في عتيل وعلار وصيدا وداخل الخط الأخضر أما عمتي الكبرى جميلة فقد كانت اسما على مسمى تزوجت في القرية فكنا نشعر بالفرح الغامر وهي مقبلة نحونا بقدها الممشوق بسّامة الثغر وضّاحة المحيّا ، كانت تنهّل دموعها سريعاً لمجرد أن يذكر أحدهم اسم عمي جميل .
أصبحت حكاية عمي جميل على كل لسان واشتهرت بين الناس وتحدثت بها الركبان فكان الناس يسردونها في الأمسيات لأبنائهم وزوّار القرية ونُسجت حولها الكثير من الحواشي والخواطر فتناولها الرواة والمحدثون والقصّاص وكانت جدتي (عائشة الجزرية) طيب الله ثراها تنقّب عن أخبار المقاتلين آنذاك والشهداء والسجناء وكثيراً ما كان يأتي أحدهم ليخبرها بأنه شاهد جميل في سجن كذا أو في بلد كذا أومخيم ما ؟!
فكانت هذه الأخبار تنزل على قلبها كالبلسم الشافي أو الماء البارد على الظمأ فيغمرها الفرح وتُمنّي نفسها بلقاء قريب مع الحبيب ولكن سرعان ما كانت تتبدّد تلك المشاعر لتعود ثانية الى دائرة الخوف والتأمل والرجاء وهكذا مضى قطار العمر دون أن تتمكن جدتي من الوصول الى مرافئ الأحبة وخمائل الروح ؟!
كان عمي جميل خاطباً لفتاة قبل أحداث النكبة وقد تحدّد ميعاد الزفاف ولما طال الغياب وانقطع الأمل تزوجت من رجل آخر وأنجبت أولاداً وبناتاً فكنا عندما نقابلها نقول هذه خطيبة عمي جميل ، عندما أزور إحدى عماتي تتحدث كثيرا عن جميل وتبكي وعندما تروي خبرا سرعان ما تقول لو كان جميل ، ولو عاد جميل ، ولو بقي جميل ....... وهكذا ، فكنا نغرق بالأسى وتبكي قلوبنا كثيراً ؟!
عندما نحط في محطة النكبة من كل عام نتذكر عمي جميل فتصرخ أعماقنا وتعزف قلوبنا لحن الراحلين
تبكي مهجتي لأحبتي الذين ارتحلوا عنا ولم يلتفتوا الى الوراء – أحياءً وأمواتاً- فضياع الأحبة كضياع الوطن فعندما تشتاق قلوبنا لأحبتنا الراحلين تشرع أرواحنا ترجّع أنشودة الحنين .
في يوم النكبة من كل عام يرتحل عمي الى المعركة من جديد ولا يعود ونبدأ حكاية الانتظار الطويل ثانية فتقوم جدتي عائشة من قبرها لتبكي المقاتل الجميل من جديد ، فتحمّر عيوننا وتتورد وجناتنا ونعود للتحديق في عين الأفق الهارب نحو المدى وتصرخ قلوبنا ، غداً يسافر عمي نحو الوطن ويغرق هناك في شواطئ الخلود والصهيل .... حيفا ويافا والجليل ؟!
غداً نعيد كل أسئلة الأمس متى يعود عمي ؟!
مع تقادم الأيام صرنا نعلّم أبنائنا كيف يجيبون عن الأسئلة الصعبة ، سيعود عمي جميل عندما يعود الوطن ، وعندما نعود الى الديار والى البساتين هناك خلف خط الهدنة سنكون على موعد العمر مع عمي ..... نترنح بلا توقف على حبال ذاكرتنا ..... ودائماً يغمرنا شعور طاغٍ بالخوف من السقوط وحتى هذا الأوان لم ننجح في الاقتراب من مهاجع الروح وكوامن الشجن ، لنعلم أين يرقد عمي بل أين يثوي في رقوده الأخير ؟! لأن قلوبنا لا تنام .... إن الذكرى السنوية لرحيل عمي نحو الجنة الخضراء تمنحنا حضوراً جديداً في معادلة الصمود على أرضنا ، لا نستطيع تقليب صفحات الذكرى دون التشبث بحكاية عمي والوطن (حكاية النكبة) .
أما معزوفة العذوبة والعذاب فستبقى تصدح وبلا انقطاع في باحة الروح فنرجّع معها شواطئ الخلود - هناك في الوطن السليب – والسهول التي تتمطى على خاصرة الشرق من مرج بن عامر حتى الأنفاس الدافئة في خليل الرحمن :
سنرجع يوماً الى حيّنا ونغرق في دافئات المُنى